الأهرام: 24 /1/ 1980
فضيلة الدهشة
إذا تلفت حولك لأى نقاش, أو طالعت الوجوه فى أى اجتماع (سياسى أو علمى أو ثقافى أو غيرذلك) فى بلادنا هذه فى عصرنا هذا, فلابد أن يأخذك العجب وأنت تشاهد الثقة المفرطة تغمر الوجوه, أغلب الوجوه, تتـناوب بانتظام مع إبتسامات الاستعلاء وغمزات التهوين مما يقال, يتم كل ذلك فوق أرضية متسعة من درجات مختلفة من عدم الانتباه أو اللامبالاة أو “الفرجة” على وجوه بقية الحضور, وربما تستنتج أن المتناقشين على اختلاف هويتهم, قد أصابهم ما أصاب المتنبى حين غلبه الغرور فقال:
وعلمت حتى لا أسائل واحدا عن علم واحدة لكى أزدادها.
وكأن لسان حال المشاركين يقول: هذا الذى أسمع إما أنى أعرفه من قبل , فهو أصح الصحيح, أو أننى لا أعرفه فهو تافه لا لزوم لمعرفته.
هؤلاء الناس يكادون يصنـفون الكلام على أنه: إما كلام “فارغ” (وهو الجديد الذى لا أسمح له أن يصلنى فيدهشني), أو كلام”مفروغ منه”(وهو القديم الذى لم يعد يدهشني).
لعل فى هذه الظاهرة المتواترة ما ينبهنا إلى ضرورة إعادة النظر فيما حدث فى عقولنا حين كادت تستسلم تماما للمعلومات المصقولة من كل مصدر, حتى أصبحت مخزنا للمعلومات أكثر منها مصنعا للأفكار. لعله ينبه إلى أن أغلبنا يحاور ليدافع عما يعرف, لا ليحاول أن يعرف ما لا يعرف, أغلبنا يقرأ ليؤكد ما سبق له قراءته, لا ليفحص ما تمت كتابته دعوة له للمشاركة بالتلقى الخلاق.
الثقافة ليست موقفا من الحياة فحسب, وإنما هى قدرة على الحياة. تنبع هذه القدرة من الاحتفاظ بأبـواب العقل مفتوحة لكل جديد, مندهشة من كل اختلاف, منصتة لكل رسالة.
لابد أن نبدأ فى إعادة النظر فى موقفنا من طريقة انفتاحنا على المعارف.
إن العقل البشرى هو كيان مندهش بالطبيعة. إن غريزة الدهشة هى أول ما ينشط عند الطفل. إنها إعلان أن جديدا يصل إلى الوعي. بهر الإدراك (=الدهشة) هو أول ما ينشط فى الأطفال. ماذا نفعل بالنشء حتى إذا ما شبوا عن الطوق لا يستطيعون استخدام عقولهم إلا فى “الترجمة الفورية” إلى معجم ساكن يصنف المعلومات حسب الرموز السابقة التجهيز, الثابتة الدلالة.
أخطر الخطر على عقولنا هو أن نتبادل المعلومات من موقع ساكن مستتب بلا حراك خلاق. إن العلم المطلق هو لله وحده سبحانه وتعالى عما يصفون, أما ونحن مازلنا بشرا فلابد من مساحة كبيرة من “الجهل المستكشف”, الذى من خلاله يمكن أن نواصل مرونة تواجدنا متزايدة الاتساع, متمتعين بما أحب أن أسميه هنا “الدهشة الخلاقة”.
إننى أتصور أن هذه الدهشة الخلاقة هى التى يدعوننا ديننا الحنيف أن نمارسها إذ ننظر فى السماء والنجوم ونحن نتأمل فيما خلق وسوى سبحانه وتعالي. إنها ليست دعوة لترجمة ما يطالعنا فى السماء والأرض من آيات إلى معارف علمية مختزلة قد تتغير فى أى وقت, إننى أراها دعوة لللإيمان بالغيب بأن يتفتح إدراكنا ليستقبل-مندهشا-ما لا يعرف, فيؤمن أكثرفأكثر بما يمكن أن يعرف. إنها دعوة لاستمرارتجديد المعارف بشكل لا ينتهي.
أن تدهش حين تقرأ ما يخالف رأيك, فتعيد النظر فيه, وتتصور إمكان صحته. هذه فضيلة.
أن تلتقى بـإنسان مختلف عنك, فتنصت له ويرتفع حاجباك دهشة وتقديرا لبعد المسافة بينكما, لكنك تحترم ما يقول وأنت لم تفهمه كله, فلا ترفض ما لا تفهم . هذه فضيلة.
أن تضع نفسك مكان محدثك , فتتبنى وجهة نظره , وتتصور ما كان يمكن أن تكونه .لو أنك فى موقعه فتفهم أكثر كيف يفكرهكذا, هذه فضائل تشير إلى كرامة العقل البشري.
ياترى كم منا يستطيع أن يلقى بنفسه من جديد فى بحار معرفة لا يعرفها, سواء كان من أهل اليمين أو أهل اليسار؟
ياترى كم منا يستطيع أن يعيد النظر فى حكاية “يحيا الثبات على المبدأ” التى قد تشير ضمنا إلى الجمود أو البلادة أو الرعب الدفين, وليس بالضرورة إلى الاستقرار والاعتزاز بالرأي؟
ياترى كم منا يستطيع ان يفرج عن بعض الذين حبسهم داخل سجن أحكامه المسبقة “لعلهم” أو “لعله”…؟ ولربما التقى الجمعان على خير أرحب؟
إن حيوية أمة من الأمم يمكن أن تقاس بمدى وفرة هذا النوع الجيد من البشر. إنه لا قيمة لما يسمونه الديمقراطية إلا إذا كانت وظيفتها الأولى هى أن تتيح قدرا من الأمن خليقا بأن يسمح للعقل البشرى بالتجول مع العقول الاخري, والتنقل بين الأفكار الأخري, الديمقراطية لا تقتصر وظيفتها على فرض رأى أغلبية لا نعرف كيف جمعها من نال أصواتها.
أود أن أوضح أخيرا أننى لا أفتح بذلك باب “الشك المطلق”, ولكننى أحاول أن أحرك الجمود, وأهز اليقين الزائف, وخاصة إذا كان يقينا يحمل شعارات لم نشارك فى صكها, ولم نراجع مضمونها.
من نافذة فضيلة الدهشة الخلاقة هذه, يمكن أن تهب علينا نسمات المعرفة المتجددة, المحملة بلقاح الحياة الطازجة, وإذا بنا نتمطى متألمين بعد طول التجمد والقرفصة, لنكتشف برودة رخام قبر التلقى السلبى الساكن, فنأبى أن ترقد فيه عقولنا حيث لا يخفف من برودته جمال نقوش الرثاء على أبوابه, ولامعلقات الفخر والهجاء على جدرانه.