نبذة: تأبين للفارس احمد مظهر، مع إشارة إلى الفرق بين لا فروسية خطف الطائرات وفروسية الاستشهاد…
الأهرام 17-6-2002
فرسان آخر زمن
الفروسية خلق وموقف قبل أن تكون جوادا وفارسا، حين أسمع كلمة فارس تقفز إلى وعيى صورتان من الماضي، وصورة حديثه. يحضرنى أولا فرس امرؤ القيس، “مكر مفر مقبل مدبر معا، كجلمود صخر حطه السيل من عل”. لا أعرف لم تحضرنى مؤخرة هذا الفرس القوى الجميل وقد رفع ذيله قليلا قبل أن ألتفت إلى رفعة رقبته وشموخ هامته، وقبل أن ألحظ فارسه، هل هذا يعودلقوة حضورالصور “معا؟”. أتصوره الفارس لا الفرس، أو كأنه أصبح هو وفارسه وحدة لا يمكن التمييز بينهما. الصورة الأخري، صورة بانورامية ممتدة، هى صورة الفرسان الثلاثة دارتوس، وبروتس، والثالث لا أذكر اسمه، لعله أتوس. فى رائعة ألكسندر ديماس، وقد كانت مقررة علينا فى الثقافة العامة سنة 1949 فى صورتها المبسطة، لا أعرف لم أبتسم حين تمر بى بعض صورهم مع أنى لا أميز الحوار.
أما الصورة الأحدث التى تغمرنى بحنان قوى خصوصا بعد رحيل صاحبها الذى لم يرحل عن وعيى أصلا، هى صورة الفنان المبدع الجميل القدير، أحمد مظهر. علمنى أحمد أن الفروسية خلق وموقف، وأنها إنسانية ومبادرة، وأنها التزام بالآخر واحترام للغير بما فى ذلك العدو . تعلمت كل ذلك منه، وأنا جالس بجواره، أولا مع الحرافيش – حرفوشا احتياطيا سد خانة فى الوقت بدل الضائع- ثم فى زياراتى المتباعدة له بعد أن عكفه عنا المرض.
ثم إنى سمعت بفروسية الراحل ثروت أباظة ممن أثق فى رأيه (شيخى نجيب محفوظ)، كما شهد له بها حتى من اختلف مع أدبه، أو موقفه السياسي.
* * *
اختفت هذه الصور جميعا، خصوصا فى ساحة الصراع الدنئ والحروب القذرة. لم تعد ثمة فرصة لمواجهة فارس لفارس يخرج كل منهما أمام جيشه وينازل من يقبل النزال من جيش عدوه. انتهت هذه الشهامة التى كانت تجعل المبارز يتوقف عن المبارزة حتى يلتقط خصمه سيفه، أو هو الذى يزيحه إليه إذا وقع منه، ثم ينتظر حتى يعتدل خصمه ويستعيد توازنه ليتمكن من الإمساك بسيفه، ثم يواصلان المبارزة. كل هذا اختفى ليحل محله: القتل عن بعد، والتصفية بمدافع الهليوكبتر والصواريخ الموجهة دون محاكمة، وحجز الرهائن. ثم اختلط الأمر على الناس، فراح بعضهم يساوى بين خطف الطائرات وعليها أبرياء ليسوا أطرافا فى الصراع الأصلي، وبين استشهاد أبنائنا وهم يضطرون إلى التضحية بأنفسهم مصطحبين معهم ما تيسر من أبرياء مثلهم.
كنت أراجع مقال أحمد بهاء الدين سنة 1971 لأقارن رفضه خطف الطائرات، مع محاولة بعضنا -بحسن نية – إثناء أبنائنا الشهداء عن مواصلة تحرير أرضهم مضطرين وهم يضحون بأنفسهم، أو على الأقل تأجيل ذلك. عثرت فى أوراقى القديمة على رأى سجلته حينذاك، رفضا للخطف الغادر. لا وجه للمقارنة بين نذالة خاطف يروع أبرياء بعيدين تماما عن أطراف الصراع، وبين اسشهاد بطل يضحى بنفسه مضطرا ومعه بعض من يدفعون ثمن غباء وظلم وقسوة ساستهم ورؤسائهم.
وجدت من المناسب أن أعيد نشر بعض هذه الصورة لتأكيد هذا الفرق بين ادعاء الفروسية بالخطف،أو بالقتل عن بعد أو بالإبادة العشوائية، أو بالسحق بالتكنولوجيا الغاشمة، وبين صورة الاستشهاد الرائع الجارى حاليا.
* * *
[ترتفع ستارة خوف الناس من الحق العاري]
[يتقدم أحد الفرسان من الجيش الأول للخلف، يمسك بشمالـه، مـقود فرس لـعبه، ويلوح بيمينه، بذراع الزمبرك المخلوع:]
“أنا فارس عصر الأزرار، الأقنعة الأسرار، قمرى أخدود ظلام صلب منصهر بارد، ليلاى من الألياف الممطوطه، والزرع قمامه، حوتى يفتح فاه، ألقمه البشر، بقايا سنابل قمع الكلمات، أنا فارس كل الأزمات.”
[يأتى دور الفارس من جيش الأعداء، فيكور كلمات مصقولة، يـطلقها ذاهلة مذهولة]
”أنا سيد كل الأجواء، أرسم قدر الناس بمطواه، وأحول سير الأيام، بالخنجر والألغام. أحتجز امرأة خرساء. تحمل طفلا أعزل، أجعلها تتكلم، أو أخطفه منها حتى تفشى سر الصمت الأبكم.
[يقفز من جيش الأول شخص يدعى المغوار الفهامه] أنا فارس عصرى الحر، أفهمها وهى تمر. [يأخذه الزهو فينطلق يعيد]، “أنا فارس عصرى الحر الثائر، أفهمها وهى تمر بسر الخاطر. أنظم بيتا مكسورا تسكنه الأشباح، أعشق بدني، أفترش امرأتى ذاتي، ألتهم اللذة، شبقا أبدا. أقهر غانية الحانة فى زهو أعجم. تضحك منى إهلاسا، فأضاعف كأسي، أنا سيد أمسي.”
[يأتيه الرد من الرجل الرادار المتمنطق بالذرة والصاروخ الأعـمي].
أنا فارس خطى الساخن، أعددت لهم كل رباط الخيل الماجن. القرش أمان الثورة، والمرأة حاملة الراية تتمايل بشعارات الأحلام الحـرة.
[يخرج من عقص الرأس بعـلم القرصان، ليؤذن فى الناس بقول فصل فى خـلـق الفرسان:].
أنا فارس غدنا الثائر، لا أعرف إلا كيف أناور، أكسبها دون قتال، أعدو فرحا معصوب العينين، نحو الهاوية المتساوى فيها كل الناس: من يملك زرا أو يحمل مطواه، من يطفح شعرا، يقتل طفلا، يهتك عرضا، أو يستغرق فى الإغماء النشوان. أنا فارس كل الأزمان.
والكل يمارس دوره، فى التعجيل بإنهاء المعركة العوره، قبل بدايتها.
[تنسدل ستارة وعى الناس على أفق الرؤيــة].
* * *
ما أبعد كل ذلك عن جمال الشهادة، وبراءة التضحية، وكرامة الراحلين.