نشرت فى الدستور
25-1-2006
….. فحتى المحاكاة ليسوا لها !!!
هل نحن نعرف حتى “كيف نقلد”؟ لقد شككت فى ذلك منذ كان عندى خمس عشرة سنة، كنت فى شهادة الثقافة العامة (ثانية ثانوى الآن، 15 سنة) وكتبت شعرا عموديا تافها، تمنيت عرضه على أستاذى محمود محمد شاكر، وكان شاعرا جميلا لمن لا يعرفه إلا محقق تراث، (من أجمل ما قرأت له قصيدة “القوس العذراء” على قصيدة الخماش بن ضرار، فى قوس عامر)، أرسلت له قصيدتى الخائبة بالبريد مع أننى كنت أتردد عليه أكثر من مرة فى الأسبوع ، ربما فعلت ذلك لأننى خجلت أن أناولها له يدا بيد، لم يفاتحنى حتى ظننت أن الرسالة لم تصله، لكننى عدت وتشجعت حتى سألته عنها، فابتسم، ولم يعقب، ففهمت، ومن يومها تبت عن اقتراف الشعر العمودى تقريبا تماما. أثناء كتابتى هذه التعتعة عن خيبتنا البليغة حتى فى التقليد، قفز فى وعيى من هذه القصيدة الخائبة بيتان: “أراهم يحاكون زيفاً وسخفا، ونصباً قديما عليل البصر”، “فـحتى المحاكاة ليسوا لها، مسوخُ قرودٍ بقايا بشرْ”، بعد حوالى ستين عاما توقفت عند البيت الثانى أتساءل: من هم هؤلاء الذين كنت أصفهم، وأتصور أنهم لم يصلوا إلى مرتبة القرود فى التقليد، وأنهم : بقايا بشر”، يا ترى كنت أعنى ناسنا جميعا (الشعب)، كما يفعل أبو يحيى رئيس التحريرالآن حين ينزل على الشعب المصرى سلخا بلا رحمة، حتى أتصور أنه يعنينى شخصيا؟ هل كنت فى هذه السن أوجه الخطاب لحكام سنة 1949 ولهم كل الحق فى المحاكاة دون ادعاء؟ المهم أننى الآن انتبهت وهذا البيت الأخير يعاودنى أن المسألة تنطبق علينا جميعا: ناسا وحكاما، فلنركز على حكامنا تاركين الناس لأبى يحيى داعين أن يخفف جرعته علينا بعد حجه المبرور إن شاء الله.
حكامنا يمسحون كل أخطائهم بنظام ما ، لو تلفتّ حولك لوجدت نفس النظام الذى قالوا إنه السبب قد أثبت نجاحه عند غيرنا، ثم هم يعودون ليمسحوا نفس الخطأ فى نظام آخر، الناحية الثانية، فننظر إلى الناحية الثانية، فإذا بنا نفاجأ أن هذا النظام الذى هو فى الناحية الثانية، قد نجح أيضا، ونحن: أبدا.
أنا أحترم قدرتى على الحقد، و أحاول أن أوظفها لأمر ما، أنا أحقد على الصين حقدا لا مثيل له، وأحقد على دبى بنفس الدرجة، وهما نظامان – على قدر علمى – ضد بعضهما البعض، أتابع الإنجازات محسورا وأنا أغلى، حين اختفت هونج كونج فى عباءة الصين، تحفزتْ دبى وفتحت ذراعيها لرؤوس الأموال وللسياحة، تصور؟ للسياحة، ودرجة حرارة الجو هناك كذا، حتى صنّعت قطبا جليديا للتزحلق فى أعلى سوبرماركت هناك !! ألتفت الناحية الأخرى وأحاول أن أتقمص صاحب المصنع الصينى، والعامل الصينى، الذى ينتج المسابح والجلباب السعودى ، المختلف عن الجلباب الكويتى (لا أعرف أيهما أضيق عند الصدر، لكنهم يعرفون)، وأتساءل: ما هذا النظام الذى جعل هذا العامل، وصاحب المصنع يعملان هكذا؟ ما الذى يجعل معدل التنمية عندهم يقفز متحديا هكذا؟ ما الذى يجعلهم يهددون اقتصاد أوربا وأمريكا عينى عينك, وأتذكر أنه ما زال نظاما شيوعيا فى سنة أولى حقوق إنسان، لكنه عرف كيف يجعل رؤوس الأموال تأتيه واثقة دون تردد. أرجع إلى دبى، وأسأل صديقى الذى لديه مالا لبدا: لماذا جعل المركز الرئيسى لمؤسسته فى دبى؟ لماذا يسجل عماد أديب شركته العملاقة فى أبو ظبى؟ فأسمع ما يفيد عن ضآلة الضرائب، وانضباط المعاملات، وقلة الفساد، هنا وهناك، وأتساءل:
لماذا لا نقلد أيهما ورزقنا على الله؟ إما الصين وإما دبى؟ نقلد أى حل ناجح “كله على بعضه” لننجح مثله؟
فى الإصدار الأول للدستور بتاريخ 28 مايو 1997 كتبت تعتعة بعنوان : “إما مانديلا أو كابيلا”، قلت فيه إما أن نقلد جنوب أفريقيا فيتجنس الفلسطينيون جميعا بالجنسية الإسرائيلية، وهات يا خلفة وقلة تحديد النسل حتى يذوب يهود إسرائيل (فالعالم!!!) فى إنتاج أرحام الفلسطينيات، وإما زحف لا يتوقف مثل زحف كابيلا أثناء الحرب الأهلية فى الكونغو آنذاك.
هى نفس الفكرة:
علينا أن نقلد أى ناجح تقليدا يستوعب نجاحه بما يتفق معنا، فنتجاوزه، بدلا من حكاية الموقف النصف نصف، رقصا على السلم طول الوقت: فى الاقتصاد، والفن، والحرب، والسياسة.
هل نعيد قراءة بيت هذا الصبى الشقى بعد ستين عاما من واقع خيبتنا الحالية وهو يقول:
“فحتى المحاكاُة ليسوا لَهَـا، مسوخُ قرودٍ بقايا بشرْ”