نشرت فى الدستور
18- 10 – 2006
تعتعة
“..فالأيام غريبة!! والعاقل من يتحرز فى أقواله ..!!”
ينهى صلاح عبد الصبور مسرحيته: ماساة الحلاج بقول القاضى أبى عمر فرحا بحكم العامة بقتل الحلاج:
” والآن..أمضوا، وامشوا فى الأسواق، طوفوا بالساحات وبالخانات،
وقفوا فى منعطفات الطرقات
قولوا ما شهدتْ أعينكم
قد كان حديث الحلاج عن الفقر قناعا يخفى كفره،
لأننى أحب جمال البنا شابا منذ سنة 1946، وأحبك شيخا وأنت تثابر على النقد والرفض، ولأنى لا أريد أن يقال للعامة، “قد كان حديث هذا الرجل عن العدل خرافة”، يقولون ذلك وهم لا يهمهم التدخين، ولا حتى رمضان لكنهم يريدون من ورائه أن ينالوا من بقية آرائك، فلماذا أعطيتهم هذه الفرصة يا عمنا جمال يا بنا هكذا؟
الأرجح عندى أن أمانة هذا الرجل وشجاعته وحماسته – برغم خطئه – هى التى شجعته أن يحرص على أن يصوم المدخن، حتى وهو يدخن، فراح يسحب من تحته حجة أنه إنما يفطر – أكلا وشربا وجنسا – لأنه لا يستطيع أن يكف عن التدخين .
يا سيدى الفاضل، أنا أحترمك وأحترم آراءك الأخرى، وقد ترددت طويلا قبل أن أقول كلمتى هذه إلا فى أواخر أيام رمضان حتى لا أستدرج إلى مسألة لا تحتل أولوية عندى (ولا عندك غالبا). لقد اعتدت يا سيدى مؤخرا أن أتجنب الكتابة أو الرد على أسئلة شباب الصحافة عن الصيام وفوائده، بعد أن يئست من التنبيه إلى سطحية وتفاهة أغلب هذا الذى يغمرنا كل رمضان من فتاوى وتبريرات من الأطباء والمشايخ وهم يروجون للصوم ويسوقونه ويبررونه بتعداد فوائده الصحية: الهضمية والتنفسية والرياضية… الخ، وكأنه ما شرع إلا لتحقيق الرجيم وعلاج ضغط الدم والصداع والأمراض النفسية، وخفقان القلب والسكرى!! الأستاذ جمال البنا أذكى وأعمق من أن يستدرج إلى مثل هذا التسطيح، لكنه استدرح إلى تفصيلة أخرى أثارت تلك الزوبعة التى لم تهمد. أنا لن أشارك فى مناقشة ما إذا كان قد أخطأ أم أصاب، مع أننى مع الرأى الذى يرجح أنه أخطأ، لكن الذى يهمنى هو أنه قال ما قال فى وقت غير مناسب، لجمهور غير مستعد، فى تفصيلة لم تطرح أصلا، وتم ذلك على حساب احتمال تعرض كل آرائه الرائعة الأخرى للتهوين والرفض والشجب والإلغاء.
أنا معه فى أنه ليس من حق كائن من كان أن يحرّم ما أحل الله، وأيضا لا ينبغى أن يكون الضرر وحده هو المبرر للتحريم، لكن وظيفة التحريم عموما وتاريخا شىء آخر:
التحريم الإيجابى المحدود آلية تربوية تنظيمية عريقة حتى قبل الأديان، بغض النظر عما يحرم، وهى عملية تساهم فى تشكيل الوجود البشرى، وتنظيم عملية نمو الإنسان وضبط علاقاته. كل مجتمع فى فترة معينة من تاريخه له محارمه وحدوده، بنص إلهى أو بغيره، شروط وظروف التحريم كثيرة، لا مجال للخوض فيها الآن. صوم رمضان يتجاوز مجرد تحريم هذا، أو الامتناع عن ذاك، أنا أحب هذا الذى حكاه رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم عن ربه من أن لعبادة الصوم وضع خاص عند الله سبحانه “كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لى وإنا أجزى به”، أشعر أن الصوم عهد سرى بين الإنسان وربه، وأنه دعوة لحوار صامت مع الوعى المطلق كدحا إلى وجهه تعالى، وأن ذلك يتطلب الامتناع اختيارا عما لا نستطيع الاستغناء عنه، ومن ثم هو دعوة إلى الإبداع ..إلى آخر ما أخشى أن أستدرج إليه من تفسير أو تأويل، وهو ما نهيت عنه، الصوم أبدا لا يتوقف عند الإجابة على سؤال عما إذا كانت قطرة العين أو لعاب الصديق أو دخان سيجارة تفطر أم لا!! ما هذا؟ حتى أنت يا عمنا جمال.
أخشى ما أخشاه يا عمنا أن ينتهزوها فرصة ليشجبوا كل آرائك عن العدل، والحق، والقلب المفكر، والإنسان البدء، والحرية، وحقوق العاملين الكادحين، ونفى حد الردة، والمقاييس الموضوعية لمصداقية الأحاديث الشريفة، يفعلون ذلك وهم يقولون للعامة: “مش ده إللى حلل السجاير فى رمضان” فيرد العامة “يا خبر اسود ماذا يقول هذا الحمار”، فيقول لهم مسئولو الأمن ومحتكرو حق الإفتاء كما قال قاضى الحلاج: “أنتم حـكِّـْمـتم فحكمتم؟” هذا الجاهل: كل كلامه هكذا “
لماذا يا سيدى؟ لماذا؟
مع كل احترامى وحبى، العامة هم العامة، خصوصا بعد قهر السلطات والإعلام وغسيل الأمخاخ والقلوب معا.
أدعو الله أن يستمر عطاءك، وأن تحسن ضبط الجرعة، وأنت تتخير أولويات المسائل،
“…وعلى كلٍّ، فالأيام غريبة، فالعاقل من يتحرز فى كلماته..إلخ”،
هذه بعض كلمات الواعظ فى مسرحية الحلاج أيضا.
نفع الله بك دائما أبدا بالرغم منك ومنهم.