الدستور
7-10-2009
تعتعة الدستور
… فإن أعطوا منها رضوا، وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون!
أشعر أن مدخل هذه التعتعة بتطبيق مغزى هذ الآية الكريمة هو بمثابة تحصيل حاصل، ذلك أن منطق الآية التى نستشهد بها هو بسيط وبديهى ومفيد بشكل لا يحتاج إلى التذكرة، خاصة فى موضوع معاد مثل موضوع اليونسكو. بصراحة، إن ما دعانى إلى الاستشهاد بها هو استمرار تفسيرات فشل وزيرنا الثقافى الفاضل فى اليونسكو. المفروض يا سادة يا كرام أن تكف الأقلام عن مثل ذلك، أقلام المسئولين والمتنورين بالذات، وأن يخفف سيادته من غضبه المستثار لمجرد أنه خسر شوطا فى لعبة دخلها وهو يعرف قواعدها، ويزعم ناسنا، وحكامنا فى مقدمتهم، ومثقفونا أيضا أنهم ينتمون إليها، بل ويقدسونها، بلا بديل.
من حقنا أن نأسف، أن نحزن، أن نتعلم، لكن ليس من حق أحد لمجرد الخسارة أن يشجب أهم قواعد اللعبة، ليس من حق أحد رضى أن يلعب مباراة فى الشطرنج، أن يتهم خصمه بترقية بيذق إلى فرز (عسكرى إلى وزير،) ويدعى أن هذه الترقية خطأ وغير معقولة لمجرد أنه لم ينتبه إلى أن العسكرى تقدم فى رقعة الشطرنج حتى آخرها واحدة واحدة، ليس من حق المهزوم أن يتمادى، فينكر أو يتنكر لهذه الترقية بدعوى أن عساكره كانت أكثر سلامة وعددا فى أول الدور، والألعن أن يمضى بعد انتهاء الدور “بكش مات” يتهم خصمه بالسرقة أو النقل الخطأ أو تجاوز القواعد. إن ما حدث بعد الخسارة، وما نشر فى كل وسائل الإعلام عندنا، وطبعا نقله إعلام العالم، يبرر للناجحة، ومن وقفوا وراءها أنها الأولى بالمنصب، لماذا نشوه أنفسنا بأنفسنا هكذا؟ هل لو كان سيادة وزيرنا قد نجح، هل كانت السيدة إيرينا بوكوفا سوف تطلق مثل هذه التصريحات وهى التى حصلت على 29 صوتا فى اليوم السابق لأخر تصفية؟، صحيح أنها حصلت على ثمانية أصوات فى اليوم الأول، لكن من قال أن “كش مات” فى الشطرنج هى نتيجة النقلات الأولى؟ الحمد لله أن وزيرنا هنأها بروح رياضية، وأن سيادتها ذكرته بكلمات طيبة، ولكن ما فعله بعد عودته أفسد هذا وذاك، فجاءت تصريحاته مع الحملة التبريرية الدفاعية التوعدية الحالية، تشككنا فى هذه التهنئة، وان “اللى فى القلب فى القلب”، ليس هذا فحسب، بل إن هذه الحملة تفضحنا إذ تعلن أننا لا نعرف قواعد لعبة الديمقراطية أصلا، أنا لا أحب هذه الديمقراطية الأمريكية كما لا أحب الشطرنج ولا أنصح مرضاى بلعبه، لكن ما دمنا قد رضينا أن “نلعب ديقراطية”، فلابد أن نحترم قواعد اللعبة حتى “كش خسِر”،
نرجع مرجوعنا للآية الكريمة: ونورد لها أربعة مشاهد استشهد أصحابها بها بشكل جميل ومفيد
الأول: أحوال الهواة (وبعض المحترفين) من مضاربى البورصة، حين يعتبرون البورصة أفضل استمثار طالما كسبت أسهمهم، ثم إنهم يملأون الدنيا صراخاً وعويلاً إذا ما خسروا، وهات يا اتهامات واحتجاجات، مع أنهم عادة لا يمكن أن يثبتوا أى خروج على قواعد البورصة
المثال الثانى: ما حدث فى انتخابات الجزائر المشهورة، حين كانت الديمقراطية أحسن شىء، فلما فازت جبهة الإنقاذ فى الجولة الأولى، ألغيت الجولة الثانية، وهذا هو ما حدث، أو كاد فى الانتخابات الفلسطينية فمادام أهل الود والتنازلات ينجحون فالديمقراطية أحسن نظام، أما إذا نجحت حماس، فملعون أبو الديمقراطية ومن شارَ بها.
المثال الثالث: جوائز الدولة، إذا أخذتها أنا فهى أعظم حق وصل لأصحابه، ولجانها أشرف موضوعية، وإذا لم أنلها، فهى ثللية، و”كوسة”، ورشوة، وفى أحسن تقدير: لا قيمة لها (زى قلتها)،
وأخيرا، المثال الرابع: هذه الهيجة الإعلامية التى قام بها وزيرنا الفاضل، هجوما، وتهديدا، ووعيدا، واتهامات بالرشوة والتربيطات، مع أن الطبيخ الانتخابى (هذا هو اسمه الرسمى ديمقراطيا: المطبخ)، والاتفاقات تحت المنضدة، والتنقلات المفاجئة، كلها هى من ألف باء قواعد اللعبة التى يعرفها الوزير أكثر من واحد مثل حالاتى ليس ديمقراطيا بالمرة، خاصة وقد أمضى سيادته ردحا من الزمن فى بلاد الفرنجة، فهو يعرف تماما أن هذه الألاعيب والاتفاقات والمناورات التى يعزى إليها خسارته، هى بالضبط، قواعد الديمقراطية عالميا حاليا.
أيها السادة لا مانع أن ترى عيوب الديمقراطية، ومن بينها كل ما سبق، لكن ما دمت قد رضيت أن تتعامل بها، فلتحترم قواعدها النظيفة والقذرة، الظاهرة والخفية
وحتى يتم تحديث هذه الديمقراطية بنظام أنظف وأقوى، دون نكسة ديكتاتورية، بفضل الإبداع والتكنولوجيا، دعونا نحترم ما جرى، حتى يحترموننا، ولنكف عن تشويه أنفسنا بكل هذا الجهل والضجيج.