نبذة: مدخل التعريف جمال العقل
تقريبا: نقد فيلم “عقل جميل” عن حياة الرياضى جون ناس، ليصل أن جمال العقل هو فى قدرته المبدعة على لم التناثر فى كل جميل جديد، أما كانت الأدوات والأبجدية.
الأهرام : 22-4-2002
غباء القوة وجمال العقــل
نحن أحوج ما نكون هذه الأيام إلى مراجعة قوانين الحياة نفسها، حتى ننحاز إلى ما يبقى ويتطور. الذى يجرى فى فلسطين (بعد أفغانستان، ويوغسلافيا، والعراق)، وعلاقته بما جرى فى نيويورك وواشنطن، وما ينتظر أن يجرى فى طوكيو وبرلين وإسلام أباد ونيودلهي..إلخ، كل ذلك يهدد بقاء البشر كافة، وهو يفتح ملف أساس وجودهم ومشروعية بقائهم. إنها دعوة إلى ترابط الناس رغم أنف الحكومات ورجال المال والسياسة. هى فرصة رائعة أن ندافع عن استمرار الحياة بدءا بمراجعة قوانينها، ونحن نصارع هجمات التدمير والموت.
لمن البقاء فى النهاية؟ ‘أما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث فى الأرض’. علينا أن نبحث- دون إذن منهم- عن حقيقة ما ينفع الناس وليس المسلمين أو الفلسطينيين فحسب. نحن نسعى – بعكس ما يشيعون- أن ننتمى للناس، وأن يكون غاية وجودنا أن ننفع الناس، وبالتالى ننفع أنفسنا إذ ينتصر جميع البشر فى النهاية بلا نهاية (لا يوجد ما يسمى نهاية التاريخ يا عم فوكوياما، فضحت نفسك).
فى مجلة الإنسان والتطور (عدد يولويو 1981) كتبت مقالا بعنوان ‘البقاء للأنفع’ جاء فى مقدمته أن ‘..حكم التاريخ فى نهاية النهاية هو أن البقاء للأنفع، لا للأحذق ولا للمخدوع فى قوته’. كان هذا بصدد التحذير من أبحاث شبه علمية، تروج لأفكار طبية وسياسية مسخرة لخدمة المال (شركات الدواء) والسياسة (التطبيع).
منذ أكثر من نصف قرن (أواخر الأربعينيات) ترسبت فى قاع وعيى جملة من حوار فى فيلم ‘رمال ودماء’، (لعلها على لسان تايرون باور على ما أذكر) تـقول ‘القوى يغلب الضعيف، والذكى يغلب القوي’. ظلت هذه الجملة مغمورة فى وعيى حتى قفزت إلى من جديد وأنا أشاهد الفيلم المعروض حاليا فى القاهرة وغيرها بعنوان ‘عقل جميل’. ففهمت معنى آخر للذكاء الذى يغلب القوة. هو شيء غير مجرد الحذق والألمعية. تساءلت بعد مشاهدة الفيلم : هل آن الأوان ليكون ‘البقاء للأجمل’ ؟ وأن ما ينفع الناس هو ‘الأجمل’؟.
يعرض الفيلم حياة الرياضى العبقرى جون ناش منذ كان طالبا انطوائيا خجولا حساسا غير واثق من أن أحدا يراه أو يريده أو يعتنى برأيه، حتى نال جائزة نوبل (1994) رغم مروره بأزمة مرض خطير تجلت فى خلق أشخاص لا وجود لهم من فرط حاجته أن يـشاف ويقدر، حتى تصور أن له دور خاص فى البنتاجون وما يستتبع ذلك من سرية، ومطاردات، من مخابرات العدو السوفيتي..إلخ. ثم تتفاقم حالته، ثم يتم علاجه حين تتصالح مستويات وجوده (دماغه) مع بعضها البعض. و لا يتم هذا التصالح على حساب مواصلة إبداعاته. إن هذا النوع من ‘التكامل العلاجي’ لا يتم من خلال علاج تقليدي، ولا من خلال الدفاع عن الجنون باعتباره جانبا من جوانب العبقرية، (كما حدث فى فيلم ‘وطار فوق عش الوقواق’) وإنما هو يتم من خلال احترام ما يسمى الجنون، ثم قراءة معناه بمساعدة إنسانة محبة (زوجته) التى استطاعت أن تلتقط جمال عقل هذا العبقرى الجائع إلى الرؤية والرعاية، فراحت تحيط به: بمسئولية حانية، صبورة، ملتزمة، دافئة، مصغية، محترمة، طول الوقت. فتصالحت المثابرة المقننة مع الخيال الشاطح ليتفجر الإبداع الأصيل = الجميل !!
دأبنا أن نفهم أن العقل هو ما يحد من الشطح، ظانين أنه مشتق أساسا من عقل البعير: قيده، مع أن عقل إنما تعني: ‘أدرك الأشياء على حقيقتها(الوسيط). ورغم بساطة الألفاظ، إلا أن الحقيقة العلمية تقول إننا عادة نرى الأشياء (والمبادئ، والآخرين)’كما نريد’ وليس ‘كما هي’. كانت دعوة مولانا السيد أحمد البدوى المفضلة تقول:’اللهم أرنى الأمور كما هي’.
كثيرون ممن تناولوا نقد الفيلم تكلموا عن الروح فى مقابل العقل، وعن الحب الدافئ فى مقابل النجاح الجاف، وعما فهموه خطأ من حوار عابر عن ‘رجيم العقل’ بمعنى الامتناع عن التمادى فى بعض نشاطات العقل المعطـلة، ومنها نشاط التخيل المرضي.
إن كل ذلك يكاد يكون عكس المراد من الجمال بمعنى التآلف بين كل مستويات الدماغ معا، بالتبادل والتصالح فالتكامل. إنه ليس ‘رجيما لعقل واحد، بمعنى حذف ما سواه، بل هو إثراء لهذا العقل بمعنى قبول ما دونه فى تصالح يثرى جميع المستويات.
إن العقل يكون جميلا حين لا يقتصر على الحسابات والمعلومات، ولا على الخيال الممتد، ولا على البراءة قصيرة العمر، ولا على قبول العقل الشاطح حتى المرض. إن العقل يكون جميلا حين يكون كل ذلك معا، مرة أخرى : بالتبادل، فالتناغم، فالتكامل، سواء تم ذلك بين النوم واليقظة، و الحلم واللاحلم،أو بين التحصيل المنظم والخيال، أو حتى بين الجنون والإبداع فى تصالح جدلى أظهره الفيلم = فيتفجر الإبداع، الذى ينفع الناس فيمكث فى الأرض.
أما حين ينفصل العقل المتغطرس المغرور عن باقى مستويات الوجود، وعن كل الناس لصالح فئة باغية دون أصحاب الحق، فإنه يمثل القوة لا العقل.
إن القوة تكون غبية بالضرورة حين تنفصل عن العدل، وعن قانون البقاء للأجمل، مهما تجبرت وطغت أوانتصرت فى معارك القهر والظلم القصيرة الأجل.
أما البقاء فهو للأنفع( لكل الناس) والأجمل (كل العقل).