أخلاق الإبداع ، وإبداع الأخلاق
ثارت أزمة ذات دلالة شاعت باسم “أزمة الروايات الثلاث” ,وهى روايات نشرت بمعونة من الدولة, فى سلسلة من سلاسلها الثقافية, وقيل إنها تجاوزت حدود الأدب!! . الجديد هذه المرة أن الجهات الرسمية (وزارة الثقافة خاصة)هى التى قامت بدور الآمر بالمعروف والنهى عن المنكر,(كما تتصوره). نفس المسئولين الكبار كانوا يقفون الناحية الثانية أيام الأزمة التى سميت “أزمة الوليمة” (نسبة إلى اسم الرواية المشبوهه” وليمة أعشاب البحر”) , وهكذا اختلط الأمر على الناس, فكاد يعجز أغلبهم أن يتبين الصواب من الخطأ, أو الطيب من الخبيث, ناهيك عن تمييز الجميل من القبيح, حدث ذلك نتيجة تبديل الأدوار حتى اختلطت الأمور. لم يعد أحد يعرف من مع من؟ إلى متى؟ ولماذا؟
إن ما يجرى على الساحة الفكرية هكذا هو غاية ما يرجوه عدونا لنا, إن التمادى فى هذا التذبذب, حتى يفقد الناس تقدير الخير من الشر, الحرية من القهر, ثم احتمال ترجيح كفة الأخلاق بمعنى الخوف مما ليس كذلك, وكفة الجاهزة لرشوة الوعى المتخلف, كل ذلك هو انتصار لعدونا يريحه من تحسبه لتهديد حضارى محتمل, المفروض أننا نعد له عدته.
إن ناسا ترتبك عندهم المعاني, وتتأرجح القيم ، إلى هذه الدرجة, هم أهون على عدوهم من أن يعمل حسابهم.
هيجة “الروايات الثلاث” تدور هذه المرة عن الأخلاق واللاأخلاق, وليس عن الحلال والحرام, يتكرر الحديث عن الحياء واللاحياء, وليس عن الإيمان والإلحاد. ومن الذى يديره على الجانبين؟ وزير دأب الناس أن يلحقوا باسمه صفة “الفنان” تكريما أو لمزا. هذا الوزير قد نصب نفسه, أو وجد نفسه منصـبا, لحماية الأخلاق كما يتصورها, أو كما صورها له خوفه أو حساباته. يفعل ذلك من موقع نفس السلطة التى سبق أن عرفت الإبداع والأخلاق والإيمان أيام “أزمة الوليمة” بما يكاد يكون عكس ما تصرح به هذه المرة أيام ” أزمة الروايات الثلاث”. فارتبك الناس.
لا يوجد واحد على أرض هذا الوطن, يرضى أو يحبذ أو يدعو إلى موقف لاأخلاقي. بل إنه لا يوجد إنسان أصلا يمكن أن يتصف بهذه الصفة (صفة إنسان) , دون أن يتحيز لما هو أخلاقي, بل أكثر من ذلك: إنه لا يوجد طاغية طول التاريخ قام بقتل من قتـل, وسحق من سحق, وسبـى من سبي, إلا وهو يرفع راية الأخلاق, حتى الذين يقتلون أطفالنا فى فلسطين الآن, أقنعوا وسائل الإعلام العالمية أنهم إنما يفعلون ذلك تحت عنوان حماية أولاد الفلسطينيين من أهلهـم الذين يدفعون بهم إلى الموت – بلا رحمة- ليستدروا بموتهم عطف الرأى العام العالمي.
إن المسألة الأخلاقية هى من بين الكليات البديهية, التى لا يمكن تعريفها بألفاظ, وخصوصا من قبـل الجالس على مقعد السلطة, وليس معنى ذلك أننى أفتح الباب على مصراعيه لما يسمى نسبية الأخلاق حتى لا نصاب بانفتاح أخلاقى (لا أخلاقى) “سداح مداح”, على نمط الانفتاح الاقتصادى الشهير بهذه الصفة . فما هى تلك الأخلاق التى يدافع عنها الوزير مشكورا, أو مرعوبا, هل هى أخلاق الترهيب والترغيب, أم هى أخلاق الجمال والإبداع.
مع كل الاحترام للوصايا الدينية الأساسية بكل ما تعنى من إيجابيات, وهى الوصايا البادئة بـ “لا” (لا تسرق, لا تزن, لا تقتل..إلخ) لا أحسب أن هذا هو المطلوب ونحن نتعامل مع الإبداع, فهذه النواهى الرائعة هى خاصة بالسلوك العلنى العام, أما الأخلاق التى نقيس بها الإبداع فهو ما يحققه لنا الإبداع من جمال يقربنا من أنفسنا ومن الله, وهى ما يبعثه فينا الإبداع من دهشة تطلق تطلعاتنا إلى التكامل والتعرف على أنفسنا,وعلى الحق سبحانه وتعالي.
إن المقاييس الأخلاقية التى نقيس بها الإبداع ليست بنفس المواصفات التى نقيس بها الأخلاق فى مدرسة رياض الأطفال, ولا هى هى المقاييس التى نقيس بها الأخلاق فى مجال البحث العلمي, ولا هى حتى المقاييس الدينية العامة التى يعتبرها الدين الحق مجرد بداية لأخلاق أعمق حيث “الإنسان على نفسه بصيرة, ولو ألقى معاذيره”. إن القوانين الوضعية تكتفى بحق الناس على الناس, ولكن القوانين الإلهية تتجاوز هذه المسألة, بعد أن تحتويها ,ليظل الإنسان يقظا لحق الله, عليه,له وللناس, طول الوقت.
”أخلاقيات الإبداع”
هل توجد قيم خاصة نقيس بها “أخلاقيات الإبداع”إن صح التعبير؟ نعم كما يلي:
أولا: فى الإبداع تتجلى قيمة الإتقان بعيدا عن الدقة الكمية, وإن لم تتخل عن ذلك. إن الاتقان كقيمة جمالية أخلاقية.هى التى نحكم بها على حبكة العمل, ومعادله الموضوعي, وجديته, ومدى تحقيقه لغايته المعلنة أو المضمرة. إن قيمة الإتقان تدل على صدق معاناة المبدع ومدى الجهد الذى يبذله ليخرج لنا ما يريد, حين يستعمل الأداة المناسبة للهدف المناسب, هو موقف أخلاقى يمثل قيمة راقية إذا ما قورن بضده من الاستسهال والاستعجال, وخدع التلميع, فيما يشبه الإبداع وهو ليس كذلك إذ لا ينتج عنه إلا زيف قصير العمر مهما لمع بريقه.
ثانيا: قيمة “حضور الآخر” لا يوجد إبداع يمارس فى فراغ. كل مبدع يتمثل له متلق بشكل ما في, مستوى ما من وعيه. لكننا نقابل أحيانا بعض أنواع الإبداع التى تتعالى على المتلقي, وما لم يثبت بالنقد والزمن أن هذا المبدع كان يخاطب متلقيا ما, حتى لو لم يوجد بعد, فإن هذا الاستعلاء قد يصل إلى درجة يؤاخد عليها المبدع بشكل أو بآخر.
يكون الإبداع أخلاقيا بقدر ما يكون موضوعيا – بالمعنى السابق- فى خطابه لهذا الآخر مهما كان بعيدا, أو نادرا, أو غريبا. خطاب الآخر فى الإبداع خاصة ليس خطبة وعظ, أو دليل إرشاد, بل إن هذا وذاك يـفقد الإبداع قيمته من حيث عمقه وجماله, وأيضا من حيث افتراضه آخر مسطحا سلبيا, إن خطاب الإبداع يجرى مع مستويات الآخر المتعددة بدرجة من الموضوعية وتعدد القنوات, بحيث يصبح وجود الآخر, بهذا التكثيف وتعدد المستويات, دليلا على حضور “الناس” فى وعى المبدع طول الوقت.
ثالثا: قيمة الحرية: الحرية ليست هى إطلاق الحبل على الغارب, ولا هى باب للتسيب, الحرية هى أرقى مراتب الأخلاق, هى الأمانة التى أبت السماوات والأرض والجبال أن يحملنها وحملها الإنسان, لا يوجد إبداع بلا حرية. ولا توجد أخلاق بلا حرية: هل يمكن أن يكون الإنسان على خلق, إن لم يكن له حق الاختيار بين ما هو أخلاقى وما هو غير أخلاقى؟
يبدو أن المجتمع (مثل السلطة والتاريخ) يمارس نوعا من الإلزام الأخلاقى فى المراحل الأولى من النمو. فى هذه المراحل يمكن أن نصف المجتمع ككل بأنه أخلاقى أوغير ذلك, لكن مع الاستمرار فى النضج, تنتقل المسئولية الأخلاقية تدريجيا للفرد تناسبا مع ما يكتسب من حرية حقيقية تسمح له بمواجهة قيم مجتمعه الخلقية المفروضة, فيعيد النظر فيها, وقد يغامر بتجاوزها إبداعا,لا ليهدمها, ولكن سعيا إلى إضافة تحتويها, لترتقى بها, وتعمق أبعادها.
وكلما زادت فرص الفرد فى الحرية الحقيقية زادت مسئوليته شخصيا فى اختيار موقفه الأخلاقي. سواء فى الإبداع أو التلقي.
إن الذى لا يتلقى من النص المبدع إلا اللفظ الذى تصور أنه إنما وضع ليخدش حياءه الهش, دون كلية النص وجماله المتكامل, هو متلق محدود أو مسكين أو عاجز أو صاحب سلطة لم توفر له الأمان الكافي. إن التلقى مسئولية أخلاقية مثله مثل الإبداع تماما.
إنه وبقدر ما يتمتع الإنسان الناضج بهذا النوع من الحرية يمكن أن يستغنى عن القوانين التى تفرض عليه الأخلاق من خارجه, لا لأنه لا يحترمها, ولكن لأن ما يستبقيه منها اختيارا يصبح طبعا لا تطبعا, طبعا يختلط بلحمه ودمه (ثم بإبداعه منشئا أو متلقيا) حتى لا يعود يحتاج إلى تذكرة من خارجه.
رابعا: قيمة الجمال: إن جوهرالأخلاق هو التوازن الخلاق. الإبداع ليس إلا تعميقا وتوصيلا لمثل ذلك. إن النشاز مهما نشر أو انتشر, هو قبح أخلاقى بشكل أو بآخر.
إبداع الأخلاق
يتكرر تعبير “خدش الحياء العام” فى مثل هذه الأزمات بشكل متواتر, وهو تعبير يحتاج إلى قدر مناسب من المراجعة الخلاقة حتى لا نستسلم له تقليديا بلا إضافة. تعالوا نقف عند كل لفظ من هذا التعبير:
أولا: بالنسبة للفظ “خدش” لا بد أن نعرف ما الذى يخدش ماذا, فالزجاج مثلا لا يخدش الماس, والعكس غير صحيح, لذلك فإن الحياء الذى تخدشه مجرد كلمة لم يعتدها سامعها, هو حياء من نوع هش, نوع لا ينبغى أن يـلجئنا حرصنا على عدم خدشه أن نشوه وعينا أو نزيف جمال إبداعنا.
ثم تعالو إلى كلمة “الحياء” إذ ينبغى أن نميزها ابتداء عن الخجل, وعن الخزي, وعن الجبن, وعن الرقة الزائفة مثلا, بل إن الواجب على من يكتشف أن حياءه هش إلى هذه الدرجة حتى تخدشه كلمة تصف جزءا من جسده, عليه أن يعمل, ونعمل له, على أن يرتقى بنوع حيائه إلى حياء الخوف على الحقيقة, أو حياء الخجل من الغش (الفردى والجماعي, الدراسى والتجارى …إلخ ) أو الحياء من أن يظلم أو يظلم ، أو الحياء من الجهل, أو من التحيز ، أو من ضيق الأفق.
ثم ننتقل إلى الكلمة الثالثة “العام: (الحياء العام). إذا تكلمنا عن الحياء العام فلا بد أن نضع فى الاعتبار تلك التطورات التى حدثت وتحدث فى مجتمعنا والتى تشككنا فى أخلاقية ما أصبح عاما. مثلا نحن نعلم أولادنا الغش الجماعى بطريقة منظمة تحت سمع وبصر رجال التربية الذين يتوهمون أنهم يحاربون الدروس الخصوصية, فى حين تصدر الأوامر للمدارس, بتحسين نتائج الامتحانات بأى طريـقة حتى لو خالفت كل معايير التربية والحياء (العام).
لماذا نقصر كلمة الحياء على ورود هذا اللفظ أو ذاك فى هذه الرواية أو تلك, دون أن نمد الحياء إلى ما نبهنا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يقول: “إذا لم تستح فاصنع ما شئت” إن الحياء الأرقى هو الذى تختلط فيه الأخلاق باللحم والدم حتى يصبح به الآخر جزءا لا يتجزأ من الوعى الخاص.
إن المبدع الجميل يغلبه حياء خلاق فى مواجهة قبح عبارة ما فيقول ما يريد بأقل قدر من الفجاجة دون أن ينتقصد مما يريده شيئا.
إن المبدع الفائق يستطيع أن ينتبه فى حياء يقظ إلى ما يتسحب إلى قلمه من قول أو طريقة مقتبسين من غيره ، وهو إما يطور هذا أو ذاك, وإما يتوقف ليطرق باب تميزه الخاص جدا.
ثم إن حياءه الإيجابى هذا هو الذى يمكنه من أن يعيد صياغة نصه ليوصل به نفس ما يريد بأقل قدر من الفجاجة, دون أن يقلل من عمق الرسالة وصراحتها, وهو بذلك يقدم لنا (يبدع) أشكالا وألوانا من أخلاق جديدة أرقى وأبقي.
هذا أيضا يمكن أن يدرج مع ما نسميه “إبداع أخلاق جديدة”
خلاصة القول
إن ما فعله وزير الثقافة فى أزمة الروايات الثلاث, ورد فعل أغلب المثقفين عليه, قد جعل بعض الهيئات (لا السلطات) الدينية تصفق له داعية ألا يقطع ذنب الأفعى ويتركها, إن كان شهما فليتبع رأسـها الذنبا, فخاف الجميع أن تجتمع السلطة الرسمية على السلطة المحتكـرة لتفسير الدين, فيعاملوننا جميعا باعتبارنا أذنابا تحتاج أن يبادر سيادة الوزير بقطعها خشية أن تنمو لنا أدمغة جديدة .