“نشرة” الإنسان والتطور
10-2-2008
العدد: 163
… عن الموت والجنون والإبداع
مقدمة
وصلتنى تساؤلات أساسية، وتساؤلات فرعية ضمن بريد الجمعة الماضى يومية 8-2-2008 (حوار/بريد الجمعة)، وقبله، عن مسألة الموت عموما، وعن الأموات الأحياء خصوصا، ثم عن الموت والفصام بشكل أكثر تحديدا، وقد وعدت أن أفرد لها نشرة اليوم.
كثير من التساؤلات تطلب إيضاحات حول تعبير أن “الموت: وعى بين الوعيين”، وربما هذا بعض ما جاء أصلا فى يومية “المصداقية بالاتفاق” 12 -11- 2007″ حيث شرحت كيف أنه وصلنى مؤخرا أن الموت هو نقلة من الوعى الشخصى إلى الوعى الكونى توجها إلى وجه الحق سبحانه وتعالى، وكيف أننى بعد أن وصلنى هذا الاحتمال هدانى صديق (حافظ عزيز) إلى أن مثل هذه الرؤية جاءت فى متون هرمز.
رحت أراجع ما جاء بهذه اليوميات فوجدت أن مسألة الموت تكررت بشكل متواتر فتساءلت: ترى لماذا؟ ورأيت أن أقترح على المتداخلين أن يرجعوا إلى أرشيف اليوميات منذ صدرت، وسوف يجدون عددا كبيرا من اليوميات تدور حول هذا الموضوع بما يعفينا من التكرار.
شعرت أن كثرة هذه التساؤلات وراءها نوع من الحرج الدينى، وهذا جيد ومقبول، وعلينا أن نعيشه ونتحمل مسئوليته.
فنبدأ أولا بـ:
عن اللغة والمنهج وتوظيف الإبداع
من خلال مراجعتى لفرط تساؤل المتداخلين عن قضية الموت، وبالذات كيف أنه وعى بين الوعيين، تصورت أن وراء تلك المسألة نوعا من الحرج الدينى المشروع، وقد تحرجت بدورى أن أرد أو أوضح بما قد يستدرجنى أن أعرى جهلى أكثر، مع أننى فخور به وأشعر أنه له فضل أنه يعيننى على مثل هذه المعرفة معظم الوقت.
أتصور أن تعرفى – وتعرفنا – على مثل هذه القضايا الجوهرية يتم بشكل أرحب من خلال شجاعة المبدعين فى الأدب خاصة، وأيضا من خلال تعرى المجانين الطيبين الفصاميين خاصة،
لا أجد حرجا حين تصلنى هذه الإشراقات من المبدع وهو يتجاوز ما نستطيع، أو من المجنون وهو يعرى ما نخاف منه. الحرج الذى نجده ونحن نقرأ النص الإبداعى الأدبى مثلا، وأيضا ونحن نقرأ النص البشرى وقد تفسخ، هو أقل بكثير من الحرج الذى قد يشلنا ونحن ننظر فى هذه المسائل المحظورة، بمنطق “إثبتْ لى، واثبتْ لك”، مع أن الله سبحانه لم يخلقنا ليحظر علينا أن نسعى إليه بكل ما نملك من كدح واجتهاد، فهو سبحانه لم يعيّن الأوصياء على وعينا، وإنما هو أوصاهم أن يجتهدوا من كل حسب كدحه، وسيثيبهم على ذلك بقدر توفيقهم وأخطائهم أيضا، أليسوا بشرا؟ وهم من حقهم أن يتبرؤوا منا أمام خالقنا إذا نحن عزونا كسلنا العقلى إلى الاستسلام إلى اجتهاداتهم البشرية، أما النص الإلهى فهو النص الإلهى لا يمكن أن يتعارض مع ما خلقه الله لنا من فطرة فى سعى دائب إليه سبحانه.
وأنا أبحث عن ردود بشكل غير مباشر لهذه التساؤلات وجدت أننى فعلتها فى أعمال نقدية كثيرة، لعل أوفاها وأسهلها هو ما جاء فى نقدى لملحمة الحرافيش لنجيب محفوظ خصوصا من (ص 94 إلى ص 110) “قراءات فى نجيب محفوظ”
وحين أردت أن أقدم للقارئ العادى فى صحيفة أسبوعية (الدستور)
هذه الوصلة بين الموت والحياة، وكيف أنها
نقلة غير واضحة المعالم، مع أنها طبيعية وواضحة المعالم،
صغت ذلك كأحد حلقات كنت أقدمها فى الشكل المسمى “القصة المقال“: “عن الموت والفقد والقتل والحياة“ بتاريخ 30-5-2008 هكذا:
-1-
قالت البنت لأمها:
لماذا كل هذا الجزع، أنت مؤمنة يا أمى، وقد استرد الله وديعته.
قالت الأم:
دعينى الآن يا حبيبتى، أنت لا تعرفين معنى الثكل،
قالت البنت:
بل أعرفه، هو أخى وأبى وإبنى وحبيبى أيضا، أنا أخاف عليك، ربما كانت المسألة ليست كما تتصورين، ربما لها وجه آخر،
قالت الأم:
أى وجه وأى آخر وأى تصور؟ إيش عرفك أنت بما أنا فيه! وهل هناك تصور بعد الذى جرى؟؟ لقد صرت أكره اللون الأبيض ورائحة الخشب وشكل التراب!! أنت لا تعرفين ما بى. حين تتزوجين، لا…، حين تحملين،..لا.، .حين يتحرك فى وجدانك شوق غامض أن تجددى الحياة عبر خلاياك، ثم تحتوينه تسعة أشهر، ثم تطلقين سراحه وأنت مترددة لا تصدقين، ثم ترضعينه أو لا ترضعينه، ثم ترينه أمامك رائحا غاديا ليس هو، لكنه هو هو. حين يقتحم عليك حجرتك دون استئذان فتطردينه ليقفز قلبك وراءه يحتصنه حتى بعد أن يغلق الباب معتذرا، حين يتكلم فلا تفهمين ما يقوله لكنك تفهمينه، حين تدعين عليه وقلبك يقول “بعيد الشر”، حين تعيشين كل ذلك، سوف تعرفين ما أنا فيه.
قالت البنت:
يا خبر!! أنا أحبك يا أمى، ..أنا أريد أن أقول لك…، يعنى… ، أصل ..، أقصد أننا صحيح فقدناه، لم يعد قائما بيننا، لكن المسألة ليست كذلك بالضبط….لكن، آسفة،
قالت الأم:
ماذا بك يا ابنتى، أية مسألة، وأى ضبط، ماذا بك؟!!
قالت البنت:
الفقد غير الموت يا أمى، الفقد غياب، لكن، الموت شىء آخر،
قالت الأم:
ماذا تقولين؟
قالت البنت:
آسفة، أعذرينى يا أمى، لم أقصد، آسفة، لاشىء.
– 2 –
قالت البنت لأخيها:
لماذا لم تقل لأمنّا أنك لم تمت، وأن كل الحكاية أنك هناك، ونحن هنا؟
قال أخوها:
هى لن تصدق، ولا حتى أنت، قالت: كيف وأنت تكلمنى الآن كما كنت دائما،
قال:
ليس كما كنت بالضبط، أنا أخشى أن أحكى -حتى لك- فلا تصدقينى،
قالت:
حكِ ولا يهمك، إحك وان شالله ما صدقت:
قال:
لم أتبين فى أول الأمر إن كان سحابا أم ضبابا أم سرابا، كما لم أستطع أن أعرف ماذا ولا كيف صرت: لونا أو هواءً أو حضورا نورانيا محدد المعالم بقدر ما هو غامض، المهم أننى صرت أحتمل تلك الخفة الرائعة بعد أن فقدت الأرض جاذبيتها تسحبنى إليها، اكتشفت بيقين أنه لا يوجد شىء اسمه الموت، رأيت أمى وهى تتألم مفجوعة لفقدى، حاولت أن أناديها لأطمئنها أننى لم أمت، لم تسمع. لمحت بجوارى قطة سوداء، ومر أمامى ثعبان عملاق طيب، نظر إلىّ بحنان مزعج، وطارت حولى أوراق جافة انخلعت من شجرة عجوز، وقبل أن تختفى استطعت أن أقرأ ما سطر عليها، وتبينت أنها عناصر رواية تستغرق ألف ألف عام، وحلق فوقى طائر جميل لم أتبين أنه نورس إلا وأنا أحد جناحيه، وقفز نمر من فوق سور حديقة الحيوان بالجيزة يهتف للحرية، ولم يقبل أى من هؤلاء أن يبلغ أمى أن الفقد غير الموت، وأن الحياة لا تنتهى بالاختفاء.
قالت البنت لأخيها مقاطعة:
كم الساعة الآن؟
قال:
لم تعد عندنا حاجة إلى ساعة،
قالت:
كأنى أسمع أذان الفجر، الغطاء يتسحّب من علىّ، لابد أن أنهض، المعهد!! عن إذنك.
-3-
قالت الأم للبنت:
إذهبى وأيقظى أخاك، اليوم الثلاثاء، ومحاضراته تبدأ فى الثامنة،
قالت البنت:
حاضر، لكن هل أنت متأكدة أنه نائم فى حجرته؟
قالت الأم:
طبعا، أين ينام إن لم يكن فى حجرته؟ فى الشارع؟
قالت البنت:
فما حكاية الموت هذه؟
قالت الأم:
أى موت؟
قالت الفتاة بسرعة:
موت الناس فى العراق وفى فلسطين وفى العبارة، وفى أقسام البوليس.
قالت الأم:
ماذا جرى لك، نحن فى ماذا أم ماذا!! أيقظى أخاك بسرعة، ستفـوته أول محاضرة،
قالت البنت:
طيب والقتلة؟
قالت الأم:
قتلة من؟
قالت البنت:
قتلة الحياة.
قالت الأم:
وهل يستطيع أحد أن يقتل الحياة إلا أن يبدأ بنفسه، وسوف يجد أنه عاجز عن فعل أى شىء، وتستمر الحياة بالرغم من ميتته الغبية، ومحاولاته المجهضة؟
قالت البنت:
يا خبر، ماذا تقولين يا أمى؟ هل أنتِ أنت ؟ كيف قلت كل ذلك؟
قالت:
إيش عرفنى!! هى جاءت هكذا وخلاص.
-4-
قال الشاب لأمه:
لماذا لم توقظينى يا أمى كما طلبت منك أمس؟
قالت أمه:
أختك يا سيدى أدخلتنى فى متاهات وهى تحكى لى أضغاث تخاريفها، بصراحة: أنا خائفة على عقلها.
***
ثم نعرج ثانيا إلى تساؤلات د. أميمة رفعت
صاحبة الفضل فى فتح هذا الملف
يومية 24-1-2008 (الأحياء الأموات)
(1) وماذا عن الموت\” فى\” مرضى الفصام، و لا اقول\” عند\” مرضى الفصام؟ أى عندما يشعر المريض بالموت فى داخله ،ويترجم ما عنده بطرق عدة ، مثلا: مريضة تشعر ان ذراعها ميت، وعند سؤالها و لكنك تحركينه؟ \” أيوه بس هو ميت\” و أحيانا تجيب بترتيب عجيب \” هو إتشل و بعدين ماتوبعدين عفن\”
- أولا قولك تحديدا أنه ” الموت\” فى\” مرضى الفصام، و لا اقول\” عند\” مرضى الفصام” ، ينبهنا تحديدا أننا نتحدث عن شعور الفصامى فى داخله بما يسميه موتا، وليس بالضرورة أنه يتحدث عن الموت الذى نعرفه (الموت الفقد ، أو الموت الدفن..إلخ) أقصد أنه ليس بالضرورة يعنى الموت كما نشيع عنه ويتصوره أغلبنا.
ثم إن المسألة تختلف من مريض لمريض، فواحد يعلن بكلمة الموت عن ما بلغه من داخل داخله عن جمود حركة نموه
وآخر يعلن تناثر واحديته (لم يـعد واحدا)، حتى الشلل،
والمريض الفصامى بالذات يطلع على داخله بشكل أكثر شجاعة ويقينا، لكنه يستعمل لوصفه لغته الخاصة، وعادة ما أكتشف أن كلمة الموت التى يصف بها المريض الفصامى داخله ليست هى هى التى يستعملها فصامى آخر لهدف آخر بمعنى آخر، ولا هى التى نطلقها على الموت الفقد أو حتى الموت الوعى الآخر ..إلخ
فى تصورى أن هذه المريضة تقمصتْ ذراعها ، فأصبحت هى هو، ثم وصفته بالموت، فهى قد أحلت الجزء محل الكل بصدق ذهانى جيد، ثم إنها راحت ترصد ما جرى لها طورا طورا: “إتشل” و”بعدين مات” و”بعدين عفن“، ولعلك يا أميمة تعرفين هذه الأطوار فى تدهور الفصامى:
- حين يعاق عن الفاعلية والمبادأة بشلل الإرادة والتبلد،
- ثم تضمر قدراته جميعا وخاصة المعرفية منها نتيجة عدم الاستعمال وانعدام التواصل،وهو ما يقال عنه أحيانا “الأعراض السلبية”،
- ثم هو يتفسخ فيتخثر (يعفن) ليتناثر ( هذريان هذر هذاءة: موشك السقطة ذو لبٍّ نثِـرْ) .
(2) …. مريضة أخرى فقدت الحدود بين ذاتها و بين الأشياء و الأشخاص حولها ففى\”جوفها\” المكتب، و الحكيمة، و زميلتها فى الغرفة…إلخ و…جثث أقاربها، وجثث المشاهير القدامى من ممثلين وغيرهم ،بل أن بعض هذه الجثث تفرض نفسها عليها كل ليلة لتتمدد بجانبها بالفراش و أحيانا تخاطبها….
ليس من رأيى أن “فقد حدود الذات” هو مكافئ للموت، ولا هو خاص بالفصام، كما فى الحالة الأولى، فمن ناحية هومرتبط بأعراض المرتبة الأولى لشنايدر Schneider’s First Rank Symptoms ، وهى مرحلة باكرة تماما وتشير إلى تكهن prognosis جيد للمآل outcome نسبيا، وقد تحدث فى الاضطرابات الوجدانية، (أنظر بعد) وحينذاك يصبح إدخال العالم الخارجى إلى الداخل وبالعكس دليلا على حركية نشطة (وإن كانت سلبية فى النهاية) أكثر منه دليلا على الموت الجمود (فالتخثر فالعفن)،
أما أن يكون المُدخل جثثا أو مشاهير أو ممرضات أو أشياء، فهذا قد يشير إلى بصيرة المريض أن المعلومات (الموضوعات) سواء أتت من الواقع الداخلى – (الذاكرة – المشاهير) ، أو الخارجى (الممرضات) ، لا تـُتَـمثل metabolized فى واحدية الذات أولا بأول، فتظل ساكنة منفصلة كالجسم الغريب، حتى لو كان ما تصفه المريضة هو جثث، فهى ليست جثث الموتى بالضرورة، لكنها تصلنى عادة على أنها جثث نيازك الموضوعات المنفصلة،
بل إن عندى فرض أكثر جرأة أقترحه كما يلى:
إن هذه المريضة (مثل كثير من الفصاميين) ترى الأحياء العاديين المغتربين جثثا لا تتحرك، وهى إذ ترفض ذلك فتغامر بالحركة ضد هذا التصنيمالعام، دون استعداد أو إعداد، تفقد أبعاد ذاتها، فتروح تستقبلنا – فى أغوارها- نحن كالجثث كما وصفت، ثم إنها تعجز بعد ذلك عن توجيه حركتها إلى إعادة تشكيل ذاتها، بعكس ما هو نحن الذين رفضتهم، تشكيلها فى واحدية جديدة أفضل منا، فتجهض حركيتها إلى الشلل فالموت الجمود فالعفن.
أما إدخالها المشاهير (مع الأحياء) إلى داخلها ثم إسقاطهم بجوارها على السرير فى صورة هلوسات مجسدة ، فربما يؤكد أن البداية هى كما ذكرنا حالا، كانت توجُّـها نحو اختلراق إلى أعلى Break Through ، اقتداءً بالمشاهير، انتهى بها إلى الفشل ..إوالتدهور إلى أسفل Break Down …. إلخ .
(3) لماذا يتكرر موضوع theme الموت دائما عند مريض الفصام؟ ولماذا لايشعر ناحيته بشىء ،لا حزن ولا خوف ولا تمرد…لا شىء. المريضة فى المثال الأخير كانت فى إستسلام تام لمضايقات الموتى، و لم تبد أية مشاعر إلا قرب \”شفائها\”…خوف أولا ثم امتعاض ثم ثورة عليهم….
أظن أن التبلد تجاه مثل هذه التيمات التى تخيفنا نحن الأسوياء ، قد يكون جزءا من تبلد مشاعر الفصامى بصفة عامة، فكما أن الفصامى هو متبلد –عادة- تجاه العالم الخارجى، فهو أيضا قد يكون متبلدا تجاه عالمه الداخلى، الاحتمال الآخر هو أن تكون الألفاظ التى يستعملها الفصامى (مثل لـفظى الموت أو الجثث ..إلخ) تعنى عنده معان أخرى غير التى تعنيها للشخص العادى مثلك ومثلى، وبالتالى فهى لا تخيفه أصلا.
أما أن هذه المريضة قد أصبحت تبدى مشاعر الخوف فالامتعاض عند الشفاء، فهذه مرحلة نعتبرها عادة جيدة، (ألم تصبح مثلنا!!) لكننى لا أخفى عليكِ أننى فى العلاج الجمعى خاصة أرفض الإسراع بالفرحة بمثل هذه النيتجة، وأحاول تأجيل التخلص من هذا العالم الداخلى الذى تحرك خطأ، لعله يجد فرصة ما ليتحرك فى الاتجاه الصحيح، فى نقلة نمو جديدة ما أمكن ذلك،
أما إن لم توجد مثل هذه الفرصة، فالحمد لله على سلامتها على أية حال.
(4) هل يشعر مريض الفصام بجموده فى حين لا يشعر كثيرون ممن \”ليسوا مرضى\” بجمودهم و توقف تطورهم فى الحياة؟ كيف؟ بعيدا عن تسمية الأعراضsymptomatology ، لا أفهم تماما أين يكمن الموت فى الأحياء.
لعلك تقصدين أين يكمن الموت فى العاديين لا الأحياء، ولا حتى الأسوياء.
حين كتبت عن الأحياء الموتى – حتى هنا فى اليومية- كنت أقصد ذلك الاغتراب المتمادى الذى يجمد حركية النمو حتى تغلق دائرته فلا نمارس إلا التكرار فنعيش بالقصور الذاتى، هذا الوجود الكمّى المفتقر إلى كل من المرض والإبداع معا، إبداع الذات أولا وليس أخيرا، هو الذى يجعلنا نطمس الوعى بالموت حاضرا، ونهاية.
أعتقد أن الفصامى قد يلتقط جمودنا هذا أولا، وهو فى محاولته أن يتحرك بعيدا عنه، دون استعداد أو إعداد كما أسلفنا، يفعلها بعشوائية خائبة، مما ينتهى به إلى جمود أبشع مما رفضه، فيرصد هذا المآل السلبى ساكنا جامدا فى داخله، فيسميه موتا ويعلنه،
نقطة أخيرة: أتصور أن البعض قد يتصور أن وصف الفصامى لداخله بهذه الدقة، وإن كان بلغة خاصة، هو نوع من البصيرة النافذة، وأحب أن أن أنبه أن هذا ليس صحيحا تماما، فهى بصيرة نعم، لكنها بصيرة مشلولة، وأحيانا مـُـشلة.
***
ثم نختم ثالثا بما يلى:
كنت أود أن أعرض لمسألة فقد أبعاد الذات، من خلال حالتين ألهمانى قصيدتين، كانت كلتاهما أقرب إلى الاضطراب الوجدانى منهما إلى الفصام، لكن الموضوع طال اليوم، فإلى غد مكتفيا الآن بمقطع من كل قصيدة
أولا: نهاية القصيدة الأولى: (ملهى العرى)
“…. تقتحم كيانى ذرّات الدنيا دون استئذان.
تتكلم منى أحشائى والأعضاءُ وأطيافُ الذات،
تتقاذفنى الكلمات…”
****
ثانيا: مقتطفات من القصيدة الثانية (الريح والأحزان)
ماذا وجدوا فى الداخل بعد تمام الجرد؟
الطفلة تحبو؟
جثةُ أم تتكلم؟
وعصا عمياء؟
ومضارب مكسورة؟
وبقايا علبة سردين مفتوحه
فيها قولٌ مأثورٌ يرجع أصل الإنسان
للسمك المحفوظ بعلبة ليل؟
***
ماذا فى الداخل يستأهل دسّ الأنف؟
رجل عنينٌ يتدلى منه العجز؟
حبل شنق الأخر بالحكم الفوقي؟
آثار الخضره؟
ورياح خماسين الفكرة
وجه متآكلْ؟
وبقايا عين؟
وشطائر مخٍّ وحوايا قلبْ؟