الوفد: 6/8/2001
عن الموت، والاكتئاب، والانتحار، والاستشهاد
الدنيا أودة كبيرة للانتظار
فيها ابن آدم زيه زى الحمار
الهم واحد والملل مشترك
ومافيش حمار بيحاول الانتحار
(صلاح جاهين)
… الموت، والناس، والسياسة
حين يستأذن عزيز دون إذن منا، حين يقرر أن يحسم أمر حياته بنفسه، أو حين نتصور ذلك، نجزع، ونفزع، ونبكى، ونصرخ، ويبدو لنا وللناس أننا فى حزن شديد.
هل نحزن حقا أم أننا نحتج عليه أنه فعلها، أنه تركنا؟ أنه تخلّى عنّا؟ حتى الحزن على الموت الطبيعى، يفسره بعض النفسيين وكأننا نقول للراحل: لمَ تركتْنَا؟. “العديد” عندنا فى مصر تقليد قديم، يمكن أن يرجع إلى قدماء المصريين، هو تقليد غير إسلامى، كثير منه يجرى على لسان الأرامل والأطفال وهم يلومون الأب الراحل على تركهم. يقول بعضه (كمثال) :
“ناقَةْ بـِلا جمّال عقلوها،
حُرْمة قليلةْ رجالْ هانـوها”
حضرتْـنى هذه الصورة -للأسف- عند رحيل المرحوم جمال عبد الناصر، كنت منتبها تماما إلى الفرق بين الجمّال (بتشديد الميم) و”جَمَال” (بفتحها دون شدّة)، لكن هذا العديد تردد فى وعيى مع ما وصلنى من تفاعل الناس لموته، كنت قد انتبهت قبل ذلك إلى مثل هذا المعنى عندما بدا وكأنّه يتنحّى (9 يونيو 1967)، فى الحالين تقمّصتُ وعى الناس وهم يولولون احتجاجا كأنهم يقولون: “رايح فين ؟ إنتَ سايبنا لمين”. (شاعت نكتة أيامها بهذا المعنى، لها تكملة لا تليق). قيل فى تفسير جنازته المهولة هذه أنها دليل على عظمته، وكلام كثير من هذا القبيل، بدا لى الأمر غير ذلك، رحمه الله رحمة واسعة.
كانت مصر قد أصبحت “ناقة” تحتاج إلى جمّال يقودها، فلما همّ بالذهاب، ثم لمّا ذهب، وصلنى لسان حال الناس بما بيّنتُ حالا.
الإهانة لحقتنا، وتلحقنا، حين يصير اعتمادنا ومسارنا ومصيرنا مرتبطا برأى فرد واحد، فتصبح حياتنا متوقفة على اجتهاده أو طموحه أو شطحه.
تختلف الدول فيما بينها حضارةً وتخلفا، انضباطاً وانحطاطاً، حسب نظام انتقال السلطة: من حزب إلى حزب، من قائد إلى قائد، بل من ملك إلى ملك (مات الملك، عاش الملك). إن إلحاح الناس حاليا وقلقهم على مسألة “نائب الرئيس”، رغم أنها ليست إلزاما دستوريا، هو فى واقع الأمر إعلان لحاجتهم للاطمئنان لاستقرار مؤسسة الرئاسة خاصة بعد أن علمنا يقينا أن مؤسسة الرئاسة هى الكل فى الكل، وبالتالى علمنا أن تغيير كل ما هو دونها ليس تغييرا بالمعنى الكيفى، وإنما هو إعادة ترتيب أوراق.
كيف نقرأ الموت؟
“الموت حق” قول نكرره فى كل حين، ونزيد فى تكراره عندما نفقد عزيزا أو نواسى صديقا مكلوما، رحم الله،أ.د. هشام محمود عبد المنعم مراد وصبّر والده وأمّه وآله جميعا صبرا جميلا. كان هشام من أجمل طلبتى وأملؤهم حيوية وحبا للحياة. ماذا أقول؟ الموت حق، وتفاعُلنا له يختلف باختلاف نضجنا، واختلاف نوع إيماننا.
ما علاقة ذلك بالسياسة ؟
السياسة تهتم بتفاعُل الناس معا فى اتجاه بذاته. تفاعل الناس لموت زعيم يمكن أن يكون من أهم المؤشرت ذات الدلالة السياسية ودراسة مثل هذا “التفاعل” يمكن أن يكون لها معنى لا نحصل عليه من غيرها. إن مقارنة جنازة عبد الناصر بجنازة السادات تكررت – بسطحية مفرطة – من كارهى السادات خاصة، وصل الأمر إلى ما يشبه الشماتة والمعايرة. كتب رجل فاضل جدا، ووطنى جدا، عرفته جدا حتى كدت أعتبره صديقا (المرحوم فتحى رضوان) كتب فى السادات بعد موته وكأنه يعايره بميتته تلك، اعتبر أن مقتل السادات “هكذا” هو دليل على أنه لم يكن وطنيا، لم يكن محبوبا، ولم يكن شعبيا، عذرت هذا الرجل لأسباب أعرفها. نفس الموقف وصلنى من صحفى رائد جدا، وذكى جدا، وأستاذ جدا، ووثائقى جدا هو الأستاذ هيكل: حين اعتبَرَ هيكل أن للغضب خريفا قاتلا، وأن هذا الغضب قد أصدر حكما بإعدام الخائن أو الخائب. أنا أحب الأول (فتحى رضوان) وأحترم الثانى (حسنين هكيل)، ولكننى لم أملك نفسى من لومهم بشدة وأنا أتذكر كل القادة والزعماء والمصلحين الذين اغتالهم أفراد عموا أو ضلوا ضّــلِـلوا بدءا من عمر بن الخطاب حتى الملك فيصل. لا الموت ولا القتل يثبتان شيئاً فى ذاتهما، لكن أياً منهما قد يكشف أشياء كثيرة.
…ثم عن الانتحار
فى تقديرى أو تفسيرى، أن السادات قد انتحر قبل مقتله ببضع أسابيع أو أكثر قليلا، لاحت لى إرهاصات انتحاره ل بدءا من كارثة سبتمبر اللعين. قبل اغتياله بأيام كنت أتابع موكبه فى العربة المكشوفة فى المنصورة، ثم فى مدينة السلام فى اليوم التالى، وقلت لمن كان حولى، هذا الرجل يسعى إلى نهايته حثيثا، هذا الرجل العظيم لا يريد أن يكمل المسيرة، لم يعد يستطيع، ارتبكت حساباته. هذا أمر طبيعى فهو إنسان قد أُرهِقَ تماما. وأُنكرض تماما، رجّحتُ بعد أن وصلنى قرار انتحاره وأنا أشاهده وهو يلوّح بيده فى العربة المكشوفة فى المنصورة، أنه يعانى من آلام نكران الجميل. وصله رفض كثير ممن كان يتمنى أن يقفوا بجواره، أو أن يقدروا تضحيته. كان يمكنه أن يظل يطنطن بنتائج حرب أكتوبر حتى يموت بطلا من الأشاوس إياها تاركا أرضه محتلة لمن يكافح على موائد المفاوضات، لكنه عملها وضحى بشخصه، يبدو أن التضحية كانت أكبر من تحمله. من فرط ألمه هذا راح يتخبّط فاندفع يعتقل كل من تصوّر أنه أنكر جميله كذا، سواء كان قد أنكر أم لم ينكر، ضم إلى معتقليه كل من اعتقد أنه سيحول دون إكمال مخططه، كنت أتصورّه يضمر إلغاء المعاهدة فى الوقت المناسب (مثلما فعـل النحاس مع معاهدة 1936).
حين رجّح أن هؤلاء الناس لن يدركوا مناورته، وأنهم قد يعيقون خطواته، لمّهم خـلف الأسوار وهو يتصور أنه يسارع بتسهيل مهمته فى تحرير الأرض فوقع فى خطأ الفلاح المصرى الذى يتباهى بحذقه (وخبثه)، فيتمادى حتى ” يجيب لنفسه مصيبة”.
أعرف روعة، وروع هذا النوع من الذكاء المصرى الغريب، أدرك السادات – فى عمق ما من وعيه – أن الحسابات شطحت منه، قال له هذا الداخل “كفى” !! فراح يعرى صدره لمن يعرف ومن لا يعرف وكأنه يستعجل النهاية، العربة مكشوفة هنا وهناك (فى المنصورة ثم مدينة السلام)، ثم هاهو يرفض ارتداء القميص الواقى، وكأنه يدعو أحد أولاده الآبقين أن يفعلها، ففعلها. يومها – بعد الألم الإنسانى والترحّم الواجب- حمدت الله أنه لم ينجُ، أراد الله أن يكرمه حتى لا يتمادى فى أخطاء تمحو إنجازاته جميعها.
يومها فزع العالم لموته أكثر من جزع الشعب المصرى، وقيل فى ذلك ما قيل، وقورنت جنازة بجنازة، وكأنه استفتاء شعبى بأثر رجعى، وفى نفس الوقت كان هناك إجماع دولى بمثابة تصويت عبر العالم. ظـُلـِمَ الرجل حيا وميتا، لكن ظلمه لنفسه كان أكبر. وما اغتالوه وما عاقبوه، هو الذى أُنهِكَ، فأخطأ، فخاف، فقرر داخله أمرا، فأكمل عارى الصدر، وذهب لحتفه، فتحقق. الأرجح أنه لم يدرك ذلك أبدا.
الانتحار ليس أن تزهق روحك اختيارا، الانتحار هو أن تلقى بنفسك إلى التهلكة أنانيةً واستسهالا، لا تضحيةً واستـشهاداً. السادات لم يُقتل لكنّه انتحر، وعبد الحكيم عامر لم ينتحر (لا حقيقةًً، ولا قراراً هلاكيا لكنه قتل، حتى لو كان هو الذى تناول المادة إياها، فليس هو الذى وضعها مكان عقار التنبيه). أما عبد الناصر فقد ترك نفسه للمرض ولمن حوله، فلاعبه الموت حتى أراحه من نفسه وممن حوله.
… و عن الاكتئاب
سعاد حسنى لم تنتحر حين ألقت بنفسها من شاهق (إن كانت قد فعلتها أصلا) لكنها انتحرت حين استسلمتْ. هى لم تستسلم لآلام الظهر (لا يوجد فى لندن ولا فى المريخ علاج لآلام الظهرهذه غير موجود فى مصر) إن هذه الجميلة حافظت على طزاجة طفولتها الغامرة الأنوثة فأسعدتنا بقدر ما أحزننا فراقها، أحببنا سعاد لأنها حبَّـَـبتنا فى أطفالنا بداخلنا، دون تعارض مع حيوية الجسد وترحيبه. هذه الجميلة لا تنتحر هكذا. إنها انتحرت حين استسلمتْ، حين توقفتْ، حين هربت، حين لم تستطع أن تتلقى حب الناس كما هو. أخذت منه ما تصورت أنه يرضى “لحظتها” بغض النظر عمّا كان قبلا أو يأتى بعد. كان لها أخطاؤها – مثل أم كلثوم العظيمة – أخطاء وضعف مثل كل بشر، أخطاء لا يعرفها إلا الأقربون، لكن الناس حين تحب، تغفر، ولا تذكر إلاالعطاء الجميل. وهذا من أطيب الطيب.
كتب كل الناس عن اكتئاب سعاد حسنى، وعن انتحار سعاد حسنى، لم أفهم هذه النغمة وعزفت عن المشاركة فى المعزى إلا مضطرا. وحين كان يلح السائل، كنت أجيب، بوضوح محتج: بأننى لا أعلم عن المرحومة الجميلة أنها انتحرت، ليس عندى أى دليل، كما أننى لا أستطيع الجزم بالذى كانت تعانيه قبل قضاء الله مما أصرَّ كل الناس على تسميته اكتئابا، هكذا، بالعافية!!!. كان السائل يتعجّب من تحفظى هذا، لأنه غير ما شاع وغير ما توقّع من شخص مثلى مع أن كل الناس راحوا يفتون بفتاوى جاهزة عن اكتئاب سعاد وانتحارها !!! دون أى حرج أو تردد. وحين كان السائل يتحايل ويحوّل سؤالى إلى قضية عامّة واستفسارات معادة كنت أجيب إجابات عامة، محاولا أن أميز بين الحزن والاكتئاب، أنفى عن الاكتئاب ـ مرضاً ـ أنه مرادف لحزن الناس وعياً. الألم النفسى المشارِك، والهم المسئول، والحزن المبدع، ليست أمراضا. أفضل ألا نستعمل لفظ الاكتئاب فى وصف الحزن العظيم، الحزن شرف الوعى فى مواجهة إشكالة الوجود، هذا الحزن هو الذى يتفجّر منه فرح أعمق لا يلغيه لكنه يحتويه. هو الحزن الذى وصفه صلاح عبد الصبور (عبد الصبور متهم بالاكتئاب أيضا !!).
الاقتراح الذى اقترحه أستاذنا المرحوم أ.د. عبد العزيز القوصى لفض الاشتباك بين الحزن العظيم، ومرض الاكتئاب هو أن نسمى هذا الأخير (المرض) باسم آخر وهو :”الانهباط”. هو اسم غريب لكنّه شديد الدقّة. لا يُعتبر الحزن مرضا، أو ظاهرة سلبية، إلا إذا “هبط” بصاحبه إلى ما هو دون حفز الحياة، إذا عوّق وجـَمـَّد.
الحزن العظيم نتعلمه من عبد الصبور وجاهين، وليس من الأطباء النفسيين، ولا حتى من المنهبطين من المرضى النعّابين. يقول عبد الصبور: “لقد بلوت الحزن حين يزحم الهواء بالدخان، فيوقظ الحنين، ثم بلوت الحزن حين يلتوى كأفعوان، فيعصر الفؤاد ثم يخنقه، وبعد لحظة الإسار يعتقه، ثم بلوت الحزن حينما يفيض جدولا من اللهيب” إلى أن تفجر الفرح منه قائلا : “ثم يمر ليلنا الكئيب، ويشرق النهار باعثا من الممات، جذور فرحنا الحبيب”.
أما صلاح جاهين فقد زاد فى نفس هذا الاتجاه الرائع حتى أصبح الاقتطاف منه اختزالا مخلاًّ، لكن ما باليد حيلة، لا بد من “عينة”: حين غمس جاهين سن قلمه فى السواد “علشان ما يكتب شعر يقطر ألم”، إذا به (بالقلم)، يرسم من وراء ظهره “وردة، وبيت وقلب، وعلم”.
هؤلاء هم أساتذة النفس الإنسانية نتعلّم منهم كيف تتولد الحياة من العدم، وكيف يقفز الفرح من عمق الأحزان”
حتى الانتحار، لا يعتبر مرضا فى ذاته، الانتحار هو الموت اختيارا، سواء كان هذا الاختيار بسبب أو بغير سبب، سواء تمّ ذلك بإفناء الجسد أم بالتسليم الساكن والدوران فى المحل. قرار الانتحار العميق “بدم بارد”، لا يحول دونه إلا أن تحب الناس، وأن تتلقى حبّهم، لا يكفى أن تعلم أنهم يحبّونك، ولا يكفى أن تمارس الحب بكل مستوياته، لا بد أن تعيش هذا “التلقى” بكل لحمك ودمك. حب الله وهو يتجلّى فى حب الناس، هو وقاية أعظم وأضمن. الانتحار عندنا نادر فعلا لأن أدياننا جميعها تؤثمه بلا تردد. ليس من حق أحد أن ينهى عملا لم يكن هو صانعه.
لا يوجد أى إجرآء طبى أو غير طبى يحول دون الانتحار إذا كان صاحبه قد حزم أمره وأصدر حكمه النهائى. إسألوا هيمنجواى أو داليدا أو غيرهما، الأبحاث تقول إن نسبة الانتحار واحدة بالنسبة لمن تتخذ معهم إجراءات الحيطة المطلقة، وبين من لا يحاطون بمثل ذلك، قرار الانتحار -إذا صدق وتعمّق- يكون أقوى من كل إجراء. هذا على المستوى الإحصائى للمجموعات قيد البحث، أما بالنسبة للحالة الفردية فالإجراءات ضرورية حتما، لكنها تؤجل تنفيذ القرار لا تلغيه، وهى واجبة، مع أن بعضها إذا ما بولغ فى إظهار تفاصيل التوقى (المستحيل) فيها كان – أحيانا- أدعى لصاحب القرار أن يسرع بتنفيذه تحديا وعنادا.
لا يحول دون الانتحار إلا أن تحب الناس، وأن تتلقى حبّهم، لا يكفى أن تعلم أنهم يحبّونك، ولا يكفى أن تمارس الحب معهم بكل مستوياته دون استثناء، لا بد أن تعيش هذا “التلقى” بكل لحمك ودمك. بنبض وجودك وإيمانك، حب الله وهو يتجلّى فى حب الناس، هو وقاية أعظم وأضمن.
تفاعل وتفاعل
صباح الأحد 31/8/1997 ماتت الست ديانا، الأميرة الرقيقة التى كانت تحب المنظرة، والأطفال، ومدرب الخيول، وأشياء أخرى. قام العالم -وشاركناه – ولم يقعد بعدها حتى الآن.
ثم استشهد هادى نصر الله بعدها بأسابيع، ولم يلق منا، ولا من العالم ما ينبغى رغم ما شرَّفنا به هو وحزبه وأبوه: هو باستشهاده، وأبوه الشيخ حسن نصر الله بصبره وومثابرته، وحزبه بتحقيق النصر المبين.
كتبت آنذاك أنبّه إلى تفاهة تفاعل الشعب الإنجليزى البارد، مقارنة ببلادة تفاعل الشعب العربى الذاهل.
حضرنى نفس الشعور، وأنا أتابع تفاعلنا ووداعنا لسعاد حسنى، مقارنة بتفاعلنا ووداعنا لرحيل أطفالنا ورجالنا ونسائنا بالعشرات كل يوم، كل ليلة، كل ساعة، طول الوقت، بأنذل وأغدر الوسائل التى يهيئها للقاتل ذلك القواد السياسى على الجانب الآخر من الحيط. غاية ما يصرح به أن كل هذا القتل فىه “استفزاز لا يجوز. هل تعلمون ماذا يعنى هذا، يعنى أنه لا يهمه من مات، ولكن الذى يهمه أن هذا الموت قد يستفز ذويه فيؤذون القاتل!
ولادة شعب
على الرغم من كل شىء، من كل ما يجرى، من كل ما نفقد، فإننا نكسب أكثر، إن ثم شعبا يولد الآن، صدقونى، ناس جدد يتخلّقون، فى شعب جديد، ذى وعى جديد، اختبار الحمْل تتأكد إيجابيته كل يوم. الرحم هو فلسطين رمز الإنسان الجديد. سوف يولد الجنين ولو بعد حين.
الذى يتبقى فى وعى شاب أو صبى وهو يحمل زميله المجروح لاهثا إلى عربة إسعاف قد ينسفها المجرمون الإسرائيليون قبل أن تصل إلى المستشفى، الذى يتبقى فى وعى هذا الشاب هو البذرة التى ترويها الدماء الذكية، ويحتويها الرحم الكرامة الأبية. “فلسطين”.
الذى يتبقى فى وعى من يشيّع النعش تلو النعش، داعيا أنه لا إله إلا الله، هو الذى سوف يجعل هذا الدعاء حقيقة فى وعينا، ثم على أرضنا، ثم فى كل الدنيا: أنه لا إله إلا الحق سبحانه وتعالى، لا أمريكا، ولا إسرائيل، ولا بورصة طوكيو.
…الموت، ذلك الشعر الآخر
حين مات صلاح عبد الصبور قال أدونيس فى رثائه ” الموت. ذلك الشعر الآخر!!”، فهمت من ذلك أن الموت،بالنسبة لوعى طازج، هو بعث وخلق وتجديد.
ليس موتا إذا تبقى منا، أو فينا، ما ينفع الناس
ليس اكتئابا أن نحزن لما نحن فيه.
ليس انتحارا أن يستشهد نصفنا (سبعين مليون عربى أو نصف مليون مسلم(
يمكنك أن تنتحر إلى أعلى: الانتحار الإيجابى هو أن تنسلخ منكَ إلى ما هو أفضل منك.
من يريد أن يتخلص من نفسه الآسنة القديمة (أى من يريد أن ينتحر إلى أعلى) : يمكنه أن يبدع نفسه جديدا، أو يفدى قومه شهيدا.