“يوميا” الإنسان والتطور
2007-11-11
.. عن “المصداقية” وتشكيلاتها
وعدت أمس أن أتكلم عن “المصداقية بالاتفاق الطولى“، لكننى رجحت أن زائر هذا الموقع قد يحتاج إلى التعرف على استعمالى (أو استعمال) كلمة ومفهوم “المصداقية” عامة قبل أن أتحدث عن المصداقية بالاتفاق، ناهيك عن المصداقية بالاتفاق الطولى أو التاريخى.
كلمة “مصداقية ” لها استعمال أكاديمى حين تعنى validity وتشير إلى متانة وكفاءة أداة قياسٍ ما فى مهمتها التى حددتها، مثلا: قدرة اختبار ذكاء على قياس ما هو ذكاء، مع أن هناك اختلافا حول تحديد الذكاء، ولا تنزعجوا من فضلكم، بقدر ما أن هناك اختلافا حول ما إذا كانت هذه الاختبارات تقيس الذكاء أصلا أم لا، فلا تدْهشوا.
وعلى ذلك فكل معلومة، وكل مقياس يحتاج من الناس موقفا ناقدا، وليس بالضرورة حذرا.
الاستعمال الثانى لكلمة مصداقية هو الاستعمال العام الذى يتواتر أكثر فى مجالات السياسة والتاريخ، فمثلا حين نتكلم عن مصداقية بيان الحكومة أو وعودها ، نحن نبحث عن مدى ما تحقق من التطبيق الفعلى لما أعلنوه، على مدى جدول زمنى (عادة لايحددونه).
وبالنسبة للتاريخ فحدّث ولا حرج.
حين دعيتُ مؤخرا لمناقشة مسلسل “الملك فاروق“، اعتذرت للقناة تلو الأخرى لسبب بسيط، وهو أننى لم أشاهد المسلسل أصلا، اللهم إلا لحظات متفرقة بعد عودتى من العيادة متأخرا. لحظاتٍ لا تصل أبدا إلى دقائق، مع أننى سمعت عنه ما كان ينبغى أن يدفعنى إلى متابعته، لكننى لم أستطع، ولم أرغب، خاصة بعد أن انقطعتُ عن متابعة كل المسلسلات بلا استثناء، ليس فقط بسبب الوقت، وإنما تحدّياً لما شعرت أنه يحيط بى (وبالناس) من عمليات أسميها “الإغراق” و”التشتيت” مع سبق الإصرار، كان أبى دائما يردد بيت شعر جميل يشرح العجز عن الانتقاء حين يحتار صياد غزلان أىَّ غزال (ظبى) يصيد، كان اسم الصياد “خِراش” (هذا هو اسمه أنا مالى! لم أسأل أبى فليس هو الذى سمّاه)، كان هذا البيت يقول “تكاثرت الظباء على خراشٍ… فلا يدرى “خِرَاشٌ مايصيد”. وبالقياس: أدركت سر عزوفى ذاك، حيث “تكاثرت المسلسلات على المشاهد، فما يدرى المشاهد ما يتابع“، تراجعتُ بهدوء، وحُرِمْتُ حتى من مشاركة مرضاى بعض اهتماماتهم التافهة ومنها المسلسلات (وهذا من أهم علامات الصحة النفسية!! الاهتمام بالتفاهة اختياراً)، المهم قـَبـِلَ أغلب الذين دعونى إلى مناقشة المسلسل اعتذارى إلا مُعِدَّة شابة فى قناة جديدة متحمسة، قالت لى إنك مدعو لتناقش التاريخ، بمناسبة المسلسل، وليس لمناقشة المسلسل، أفحمتْنى الشابة فقبلتُ، وتكلمت – على الهواء- عن “مصداقية التاريخ” (على فكرة البرنامج فى الموقع الآن) ، وقلت فيما قلت إن التاريخ – حتى الذى يحكيه المؤرخون، حتى ما يُدْرس أكاديميا ، هو على أحسن الفروض ، ليس إلا وجهة نظر، وأضيف هنا أن التاريخ حتى إذا كان مدعما بالوثائق، هو يحتاج إلى وقفة متأنية قبل قبول ما يزعمون –ولو بالوثائق- أنه حقائق.
هذا، وقد سبق أن أعلنت مرارا موقفى مما يقوله ويكتبه هذا الحرفى الرائع، أستاذ أجيال الصحافة المتلاحقة، محمد حسنين هيكل حين رحت أحذر من الاستسلام لما يقول انبهارا بالمواثيق التى يقدمها، ثم استعملت لهذا التحذير تعبيرا لا يخصه –شخصياً- بالضرورة أسميته، “الكذب الموثق”، أعنى به مايصلنا حين يكون للمؤرخ أو للمحرر أو للراوى موقفا متحيزا (شعوريا أو لا شعوريا) ثم يروح يبحث، أو يعثر!، على ما يؤكد موقفه انتقائيا، فيوثِّق ما يقول بما يخالف الحقيقة – بقصد أو بدون قصد- أسميتُ هذا الموقف المتحيز المدعم بالأوراق الرسمية “بالكذب المُوَثَّق“، بل إننى حين كنت أجد جدلا خطيرا حول صحة حديث شريف من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم يعتدّون بعلم “الجرح والتعديل“، فأذهب إلى منهاجية هذا العلم، , وأقيسه بأغلب معطيات مناهج التسجيل الموضوعية، وبالأصول الأكاديمية لسعة الذاكرة، ومداها، ثم أستغفر الله العظيم، وأدعو لمن يبلغه (أولا يبلغه) ما بلغنى، ولنفسى، بالغفران والهداية، وأنتفع بالحديث النافع الملهِمِ شاكرا أفضالهم، مصليا ومسلما على رسولنا الكريم،
ثََمَّ جانب آخر يتعلق بالمصداقية التاريخية أيضا وهو مدى مطابقة ما يسمى بالسيرة الذاتية على واقع الحال، وقد أشرت إلى ذلك تفصيلا فى يومية سابقة- هرمان هسه-
أمّا أغرب ما دعانى إلى الشك أكثر فأكثر فى مصداقية بعض التاريخ. فهو الاعتماد على صور وتماثيل وآثار وكتابات قدماء المصريين، واستخراج حقائق تاريخية، منها: نفخر ببعضها، ونفسر بعضها، ونعتبر بعضها مقياسا لغيره ..إلخ
ثم خذ عندك استنتاج حقائق سيرة ذاتيه تحليلية نفسية عن مبدع تشكيلى (مثلاً)، مثلما فعل فرويد مع ليوناردو دافنشى، وغيره، أنا لا أرفض أن يكون الإبداع مصدرا للتاريخ العام، أو الشخصى (كما سيرد حالا)، لكننى أنبه إلى أنه أيضا “وجهة نظر”، وزاوية محددة لا ينبغى أن تتعدى مساحتها.
التاريخ ليس هو المكتوب فى وثائق التاريخ، لا المتاحة أولا بأول، ولا الرسمية المخزونة لعدد من السنين ثم يفرج عنها للدراسة، وكأنها الحق الذى ليس وراءه ولا أمامه.
التاريخ الموضوعى الحقيقى هو ما احتوته خلايانا حتى الآن، هو تركيبنا الجِبِلى وما تبرمج فى أحماضنا النووية ، نوعا بعد نوع، وجيلا بعد جيل، وأسرة بعد أسرة، ثم أفرادا نحمله ونسعى به: نشوهه، أو نفسد إنجازاته، أو نرعاه.
ليس معنى ذلك أننى حتى أعرف تاريخ الملك فاروق أروح افحص الدنا DNA من ابنته الأميرة فريال، ولكن ما أريد تأكيده هو ضرورة البداية مما هو “الآن“، مما هو “نحن” هكذا، صحيح أنه من المفيد أن نحيط بالأحداث التى جرت بدرجةٍ ما، لكن لا بد أن يكون ذلك باللجوء إلى أكثر من مصدر، ومن خلال موقفٍ ناقدٍ طول الوقت.
المصادر المتاحة –الأخرى- التى أؤكد لزوم الاستعانة بها، قبل وبعد الوثائق والمؤرخين ، يمكن تعدادها كالتالى:
- الإبداع المنشور بكل أشكاله وخاصة إبداع الحكى، نحن يمكن أن نتعرف على القاهرة، وحقبة مهمة من تاريخنا الحديث جدا، من روايات نجيب محفوظ أكثر من أى مصدر أكاديمى
- الإبداع غير المنشور (بالمنع الرقابى أو بانعدام فرص نشره) وقد يكون أهم، لأنه قد يحوى من المعلومات ما يتصف بالصراحة والجرأة أكثر بكثير مما يحويه الإبداع المنشور
- ما سجله الوعى الشعبى بما يتيح أن نقف منه موقف النقد لا التسليم، وهذا يشمل تنويعات كثيرة من أهمها:
- ما سجله الوعى الشعبى الممتد قديما فى أمثال ومواويل وملاحم وسير (السيرة الهلالية مثلا، وما طرأ ويطرأ عليها من ارتجال وتلوين، شكرا يا عم عبد الرحمن يا أبنودى)،
- ما يبتدعه يسجله الشباب الآن من لغة جديدة ويسجلونه ويستعملونه (بالاشتراك مع مجتمع “البيئة” كما يطلقون عليه)،
- ما تسجله “ثقافة الإدمان” خاصة، وما يصلنا من تعرية المرضى خاصة بعد كسرهم
- ما تسجله الفنون التلقائية والشعبية، والتدين الشعبى فى الموالد، والمديح خاصة…الخ
أكتفى بهذا القدر من المصادر المساعدة لأنبه إلى رأيى فى “مستويات المصداقية التاريخية” التى تعرض على الناس عادة
- مستوى الواقع الواقعى “بما هو” (ونحن لا نعرفه، وقد لا نعرفه مهما حاولنا)
- مستوى الواقع المحكى (شهادات الشهود على عصرٍ ما، أو فردٍ ما)
- مستوى الواقع الوثائقى الرسمىِ، حالاً ومستقبلاً
- مستوى الواقع الوثائقى الشخصى (بعض الأحاديث المسجلة والسير الذاتية وغير الذاتية).
- مستوى الواقع الإبداعى، والتشكيلى
……………..
…………….
– فانظر بعد ذلك كيف نرادف بين آخرمستوى (5) وأول مستوى (1) حين نأخذ ما جاء فى دراما أو مسلسل باعتباره مصدرا تاريخا مسلما به
– أو انظر كتب التربية الوطنية ، والتاريخ المقررة فى المدارس الرسمية
– أو أنظر الوصاية اللفظية السلفية التفسيرية المغلقة، على الواقع الحى المتفجر نورا نحو الأصل…إلخ
هذا ، ناهيك عن عبث الحكام بتاريخ من سبقوهم، سرقة، أو نفخا، أو تزويرا أو تشويها.
…………….
أنا لا أريد أن أخلص من كل ذلك إلى أية توصية بإهمال التاريخ،
فقط علينا أن نحسن قراءة ما يصلنا منه،
وأن نحسن نقده
وأن نحدد مستواه
وأن نتحمل مسئوليته،
خاتمة
يا خبر !!! كل هذا عن المصداقية التاريخية فقط
كل ذلك ولم ننتقل بعد إلى ما أسميته “المصداقية بالاتفاق الطولى” التى تعلن جهلى، وفى نفس الوقت أستعملها مبعثا لفخرى أحيانا ؟
فلنؤجلها إلى يومية لاحقة إذا سمحتم.