نشرت فى الاهرام
الأحد: 19-10-2014
عن العمل والألم
المقال الجيد الذى كتبه صاحب الفضل أ.د. حازم الببلاوى فى الأهرام يوم 2 أكتوبر الحالى بعنوان “عن الأمل والألم” بدأ بالإشارة إلى التناقض الظاهر بين الكلمتين برغم اتفاقهما فى نفس الحروف، ثم ربط – بإبداع مغامر – بين حروف اللفظين وبين “ألف لام ميم” أول آية فى القرآن الكريم بعد الفاتحة، ثم حاول الكاتب بجهد مشكور أن يصالح بين اللفظين وأن يجعل “الأمل” هو الدافع للإقدام اختيارا إلى دفع ثمن “الألم”، الذى اعتبره بدوره المصاحب الطبيعى للعمل لتحقيق الأمل، ثم أنهى المقال بنفس محاولة التسوية التصالحية.
المقال جيد ومفيد، لكننى وجدت أننى أختلف معه فى كثير من التفاصيل حين ربط الألم بالعمل ربطا مباشرا، ويبدو أنه استلهم ذلك من علم الاقتصاد الذى صرح بأنه”العلم الكئيب” الذى يربط بين “المنفعة” و”التكلفة” بالضرورة، لم أشعر بأن هذا القياس ينطبق على موقف الإنسان من قيمة العمل: كعبادة، وفرحة، وإبداع، وخاصة من منظور علوم التطور الأحدث التى تصلنى الآن باعتبارها: “علوم حركية الحياة لكدح الايمان…”
الكاتب معذور بعد أن أشاع معظم النفسيين أن الألم هو قرين ما يسمى الاكتئاب، عَرَضًا أو مَرَضَا، وبالتالى فإن مهمة العلاج هى التخلص منه بأسرع ما يمكن، وهذا ضد الطبيعة عامة، وضد الطبيعة البشرية خاصة، فالألم أصلا: هو إعلان لنقلات مسيرة النمو، وهو تأكيد لحيوية المشاعر فى مواجهة الجديد فى حركيّة الإبداع، وهو حفز إلى احتواء التناقضات النشطة فى برامج الوجود، وهو باختصار إعلان نقلة نوعية إيجابية غالبا على مسار التطور، نحن النفسيين مسئولون عن اختزال الألم إلى ما آل إليه سلبيا، نتعامل معه بمضاداته الكيميائية فقط، أو أساسا، نفعل ذلك ونحن تحت تأثير ثقافات مستوردة مثل ثقافات: دع القلق”، “ولا تخف”، “ولا تحزن” و”مجتمع الرفاهية …الخ!
إن من حق الإنسان ألا يتألم فوق احتماله، لكن من حقه ايضا وقبْلا أن يتألم، الألم حدث طبيعى على مسار التطور والنمو والإبداع، لكل هذا تعجبت من إصرار الكاتب على ربط الألم بالمعاناة وبالذات، بسبب العمل!
وتناول الكاتب موضوع العمل وهو يقرنه بالمشقة والمعاناة باستمرار، وربما ترجع دهشتى ورفضى إلى أننى أمارس مهنة لا شفاء من معظم الأمراض فيها إلا بالعمل، وحين أعرِّف مريضى ما أقصده بالعمل، أحدد له مواصفاته أنه: ساعةمواعيد ثابتة و”رئيس”، و”عائد”، و”ناتج” ومعنى” و”مجتمع”، ولا يصبح العمل اغترابا ومبعثا للألم إلا إذا افتقد المعنى وغاب أو اختفى الانتماء لهدفه، ثم غاب العدل، ليصبح العامل ليس إلا ترسا فى ،آلة كما علّمنا شارلى شابلن من قديم فى فيلم”الأزمنة الحديثة” 1936 الذى تعملق مغزاه تحت مظلة ما يسمى النظام العالمى الجديد، هنا فقط يصبح العمل ليس ألما واغترابا فقط، وإنما جريمة تجريد البشر من إنسانيتهم لصالح من يتعملق ويطغى بشرب عرقهم، بل ودمائهم.
ويقول الكاتب أيضا إن العمل هو من صفات الإنسان دون سائر الأحياء، وأنا أمارس مهنتى من واقع تطورىِّ نقدىّ، )نقد النص البشرى ( ومن خلال ذلك وصلتنى طبيعة مسيرة الحياة التى تطورت بالعمل بفضل الله الذى جعل من الماء كل شىء حى، وهو تعالى الذى خلق الإنسان فى كَبَدْ- فكيف أنكر الكاتب على سائر الأحياء ، دون الانسان، عاطفة وفضيله العمل من أول ترتيب عش العصفورة الأم إلى معجزة بيت النمل الأبيض الأصلب من الصلب!! تساءلت من أين بلغه أن الحيوانات لا تعمل، وأن أداءها غريزى صرْف، وأن الغرائز ليست إلا برامج جاهزة تقوم بالتطبيق الآلى لاإراديا، استأذن الكاتب عاذرا معتذرا ـ أن أبلغه أن أغلب أبحاث العلم المعرفى العصبى الحديث، والطب النفسى التطورى، وعلم النفس التطورى قد نسخت كل هذه المقولات وأمثالها، فللحيوانات وعى خاص بها، وهو الوعى الذى جعل من بقى منها يستمر حتى الأن ، علماً بأن من استمر منها هو واحد فى الألف من كل الأحياء،(والإنسان ضمن هذا الواحد)، وقد بقَوا من خلال عمل: “العقل/الانفعالى/الاعتمالى”القادر على معالجة المعلومات بكفاءة بقائية بفضل الله، حتى اعتبر مؤلف كتاب”أنواع العقول” دانيال دينيت أن تصور الإنسان أنه الكائن الوحيد الذى له عقل إرادى إنما يدل على غفلته وغروره.
وأرجع إلى “العمل” وقيمته ومدى ارتباطه فى ذاته وليس فقط بعائده – بفرحة إيمانية هارمونية اجتماعية إيجابية طالما أنه عمل له “معنى”، وأنه “عبادة”، وأنه”مجتمع”، وأنه “تكافل”، وأنه “يعمق الوعى الجمعى” الذى هو خطوة نحو الوعى المطلق إلى وجه الله، كل ذلك تتصف به ثقافتنا العريقة قبل أن تتشوه، وكل هذا له علاقه بما هو عمل ملىء فى ذاته بالهارمونى الذى هو أساس الفرحة البناءة، حى لو خالطتها معاناة دافعة يقظة.
علينا ونحن نحاول أن نستعيد موقعنا الحضارى أن نبدأ من ثقافتنا الأصلية قبل أن تتشوه، فنُرجع العمل إلى موقعه الإبداعى الإيمانى الحضارى الذى حقق للبشر عبر التاريخ إنجازات بلا حصر، وهو الذى ارتبط دائما بتطوير منظومات القيم الحيوية الإيجابية التى ما زالت ملامحها باقية فى بعض الثقافات الشرقية، ولعلها هى التى حافظت على الصين طوال القرن الماضى حتى حققت ما أعلنه اخيرا صندق النقد الدولى 8 أكتوبر2014 أن الصين أزاحت ولأول مرة الولايات المتحدة من المركز الأول فى حجم الاقتصاد، الأمر الذى توقعه أ.د. جلال أمين فى مقاله قبل أسبوع فى الشروق 30/9/2014 بعنوان: نحو حضارة جديدة ولو فى الصين”، وقد قام بتحديث رأى برتراند رسل سنة 1922 شارحا كيف تتميز حضارة الصين، برغم تطوير النظم السياسية والاقتصاديه وتطويعها، بأنها حضارة إيجابية عريقة، تقوم على قيم راسخة أهمها العمل والمثابرة والاحترام والعدل والتقشف والحذر من تهميش السلطة المركزية لحساب شعارات سطحية مستوردة.
العمل بالمواصفات السابقة هو حافز التطور بالنسبة لسائر الأحياء، وهو فى تجلياته العادلة الخلاقة صانع الحضارة عند الانسان، وبهذه الصورة هو لا يرتبط بالضرورة بالألم كمعاناة ومشقه خالصة.
علينا ونحن نعيد بناء أمتنا وحضارتنا أن نتعمق فى التعرف على الحضارات الأقرب إلى ثقافتنا وإيماننا من أول: “من أخد الأجر حاسبه الله على العمل” إلى ما يعلمنا إياه ربنا أنه “أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى”، مرورا بالقيمة الصوفية التى توصينا بــ “ملْء الوقت بما هو أحق بالوقت”