نشرت فى الاهرام
26-12-2005
عن السلطة والإيمان والدين
…. الخطاب الجارى بعد مفاجأة الانتخابات التى هى ليست مفاجأة، يحتاج وقفة ومراجعة، الحديث يدور عن الدين، والإخوان، والوطن، والوطنى، حتى وصل التنويه إلى علاقة ما جرى بالله سبحانه، وبالإيمان ….إلخ. كل هذه الألفاظ تصدر من مجتهد، أو مستسهل، فتصل إلى وعى الناس بأشكال مختلفة. لو حسبنا ماذا تعنى كلمة “الإخوان” عند عينة من الناس: الناخبين والقاعدين، والسياسيين، والمتدينين، المؤيدين، والمعارضين، والمخالفين، والخائفين، لخرجنا بنتائج مختلفة. نحن نحتاج أن نتأمل ما نستعمل من ألفاظ وشعارات، ربما انتهى عمرها الافتراضى. خذ مثلا، وعذرا للتكرار، شعار “الدين لله والوطن للجميع”، هو كلام جيد قيل فى مناسبة تاريخية احتاجته، فأدى مهمته، هذا الشعار يستعمل الآن بفرحة عّلمانية عفوية، أو نية حسنة، وهو يعنى إجمالا : أن تنفصل الدولة عن الدين، وتحديدا أن تمنع السلطة الدينية من إعاقة حركية إدارة الدولة. لكنه فى النهاية قد يؤدى إلى تهميش الدين فالإيمان، الأمر الذى هو ضد الطبيعة البشرية، هذا ما أعلنته كل صناديقُ الانتخابات من الإسكندرية إلى نيوجرسى مرورا بتل أبيب وبغداد والبصرة.
الإيمان أصلٌ فى الوجود، والدين أحد تجلياته، بوحى ورحمة من الله عبر أنبيائه عليهم السلام. الإيمان ليس مرادفا للدين الخائفون من تدخل السلطة الدينية بجمود معوّق، راحوا يلقون بالطفل (الدين) مع السلة المتخلص منها (السلطة)، ويكتفون بإعلان السماح للأفراد أن يتدينوا بعض الوقت، أو كلما لزم الأمر !!، الأمر الذى همّش الإيمان وتجاوز الطبيعة البشرية، فجاع الناس إلى الرجوع إليها، فتبعوا شعارا براقا يـعِـدُ، بلا ضمان.
تظل حركية الإيمان/الإبداع هى الوجود البشرى فى أنقى صوره. الإيمان موقف وجودى حياتى حيوى، يمتد بالوعى البشرى إلى الوعى الكونى كدحا إلى ربنا لنلاقيه، هو عملية فردية/جماعية بقائية تطورية مستمرة، لا يمكن تهميشها بأى قرار أو تنظيم، كما لا يمكن حبسها بأية وصاية أو تقزيم. الفصل بين الدين والدولة ينبغى أن يمتد إلى نوع من الفصل بين السلطة الدينية وإيمان الناس، لا استهانة بدورها، وإنما تنظيما يطلق حركية وعى كل واحد إلى ربه إيمانا وإبداعا: “”كل يعمل على قدر إيمانه” (ملحمة الحرافيش). هذه النوعية من الوجود البشرى الممتد هى التى تفيد كيف أن الأمر كله لله: الدين لله والوطن لله، والدين للجميع والوطن للجميع، والجميع لله. هذا كله لا يتحقق بتهميش الدين إلى نشاط فردى سرى اجتماعى خاص بعض الوقت، ولا بتسطيحه وسجنه فى ألفاظ تجمدت فى وعى المفسرين عبر الأزمان، وإنما برفع سقف الحركة إلى الله حتى تتسع للوعى البشرى المتجه إليه إبداعا وعبادات.
فى مقالى السابق فى الأهرام أوردت مقتطفا من حرافيش محفوظ فى حوار بين فلة وعاشور الناجى الكبير، وهى تسأله: ” كيف يلقاك الناس يا عاشور؟” فيرد “كل يعمل على قدر إيمانه”، الإيمان فى هذا السياق الإبداعى المخترق يمكن أن يعيننا لنستلهم فهما جديدا لإسلام هؤلاء الأعراب (وإسلام بعضنا) دون الإيمان الذى فى الآية الكريمة: “قالت الأعراب آمنا، قل لم تؤمنوا، ولكن قولوا أسلمنا ولمّا يدخل الإيمان فى قلوبكم”، أما الإيمان الذى ورد فى مقال بعنوان عن الدين والسياسة لكاتب جاد (فهمى هويدى – الأهرام 20 ديسمبر) باعتباره “طاقة” تجلت فى الشعب المصرى فى الانتخابات الأخيرة وعلينا أن نستثمرها..إلخ ، فلعله شىء آخر.
هل الإيمان طاقة؟ أم فطرة؟ أم سعى كيانى إبداعى؟ أم بند فى برنامج نائب إخوانى..إلخ؟ وهل هو مرادف للدين؟ أم للإسلام؟ أم للإخوان؟ كل هذا يحتاج إلى وقفة ومراجعة، نسأل الله أن يوفقنا إلى بعض ذلك، وهو، تعالى، من وراء القصد.