نشرت فى وجهات نظر
عدد يوليو 2003
عن التعليم… والحريات.. والخصوصية.. والأمل
قــراءة فيما جـرى
من واقع ما أمارسه فى مهنتى. يعتبر المرض النفسى (العقلى) هزيمة وتناثر وتراجع وانكسار، وأحيانا هو يؤدى إلى الجريمة أو الانحراف أو الانتحار. لا أحد يمكن أن يدافع عن المرض لدرجة استبقائه، حتى لو كانت بداياته (بدايات المرض) تشير إلى معنى الاحتجاج والثورة.
لكن ثم فرقا بين التخلص من المرض وبين التخلص من المريض بالمرة. صدام كان مرضا خطيرا، متأصلا وحقيرا فى آن، ثم تمادى إلى أن أصبح سرطانا شائها مشوها، كان ينبغى استئصاله، لكن الذى جرى ويجرى هو محاولة استئصال المريض مع المرض. إن الذى يجرى – بموافقة العالم الآن، ولو بأثر رجعى – أنه يتم القضاء على شعب العراق وما يمثله (من تاريخ ووعود) ضمن استئصال سرطان صدام ومضاعفاته. فكرة الحق الذى يراد به باطل فكرة قديمة وجيهة. التهدئة بالعقاقير المهدئة الجسيمة علاج ناجع لحالات الهياج المرضى والذهان النشط، هذا حق، ولكن إذا تمادينا فى استعمال هذا الحق (العقاقير لـلتهدئة الدائمة) لصالح شركات الدواء أساسا، دون النظر فى المضاعفات التى تلحق بالمريض ونحن نقضى على أى حركة رافضة أو محتجة مع محاولتنا القضاء على المرض، يصبح الدواء فى هذه الحالة داء جديد، ربما أخطر.
قرر مجلس الأمن قبل شهر، ربما بعد أن هزته -مثلنا- مناظر المقابر الجماعية، أن أى شر فى الدنيا (حتى لو كان شر الاستعمار) هو أفضل من هذا الذى يراه، فتورط وأعطى ما حدث من جريمة شرعية ما (برغم تحفظات وتعقيبات السيد دوفيلبان، وزير خارجية فرنسا). أوكل المجلس الموقر الأمر كله لأصحاب الفضل فى الاستعمار التحريرى الديمقراطى المبارك، وقد أوصاهم خيرا بناس العراق وبِنيته الأساسية. وأيضا أوكلهم بالسلامة- للتصرف فى بترول العراق ومعادنه، وكذلك بالعناية بأمور ناسه من تعليم وتدين وثقافة وعمل وزواج، حتى يعيشوا فى التبات والنبات، وينجبوا صبيانا وبناتا. لم يبق إلا أن يفوض المجلس الموقر الغزاة فى التحكم فى أحلام هؤلاء المظاليم، وربما أيضا فى موقعهم فى الجنة دون النار (يا حرام!!). لم ينس المجلس الموقر أن يعطى دورا للأمم المتحدة فى أن تـتابع ما يجرى من باب العلم بالشيء، دون اتخاذ اللازم. قرار مجلس الأمن هذا أخطر من الاستعمار ذاته. إن اختراق القانون يظل اختراقا للقانون مهما بدت نتائجه حسنة، وهو لا يسقط بالتقادم. الجريمة تمت علانية، ومقترفها هو أقوى دولة فى العالم وأغناها وأغباها. ومع ذلك فإن الأمر بدا وكأن ضابطا مصريا نوبتجيا يقفل المحضر بتأشيرة مصرية واقعية تقول: “يستمر الحال على ما هو عليه، والمتظلم يلجأ إلى السلطات”. أى سلطات يمكن أن نلجأ إليها متظلمين بعد ما حدث.
مادام الأمر أصبح كذلك، والاستعمار أصبح مشروعا بكل هذه الحكمة الدولية، أليس من صميم العقل أن نتعلم ونسمع الكلام بدورنا، ونمشى بجوار الحائط ، ونحن على يقين – إن شاء الله – أن تقوم الديمقراطية الأمريكية ، الموصى عليها من مجلس الأمن، بالواجب؟
يبدو أن ذلك هو ما يساور كثير منا أفرادا وجماعات، حتى لو أعلن غير ذلك. إن ما وصلت إليه حالنا، وحال نظم حكمنا، وحال تدهور أدائنا، وتمادى كسلنا، وتفاقم كذبنا، واحتمال الجرائم التى يمكن أن يرتكبها بعض حكامنا لمجرد استمرارهم على الكرسي، إن كل ذلك يمكن أن يبرر أى حل حتى لو كان عودة إباحة تجارة العبيد. يبدو أن الحرية المتبقية لنا هى حرية اختيار السيد، لنا كامل الحق أن نختار أن يكون السيد الشارى فى سوق النخاسة هو خواجة يحذق الكذب ويلقى إلينا من فائض موائده ما يقيم الأود أشهى وألذ، أو أن يكون سيدنا الشارى وحشا آدميا يدفننا أحياء بعد الذل والرعب والكذب والتجويع. بل إنه قد خيل إلى أنه لم يعد أمامنا حتى هذا الاختيار بين الدفن أحياء أو برصاصة واحدة فى هذه المقابر الجماعية، وبين أن نكون تابعين مستعمرين لأسياد أرقى وأرق، هم الذين يقررون لنا ما هو أصلح لنا.
هل الأمر كذلك فعلا، أم أن ثمة بعدا أعمق للمسألة ؟
قبل الإجابة: نعيد صياغة ما حدث بإيجاز شديد.
أولا: لم يكن فيما حدث مفاجأة، بل تعرية للجارى على الجانبين منذ سنين. لم تكن كارثة، بل كاشفة.
ثانيا: لم تكن حربا أصلا، بل قرصنة لص محترف، للتخلص من قاطع طريق قاتل، للاستيلاء على أسلابه ، وأيضا على ما تبقى من فريسته. (ثم تم تعيين هذا القرصان نفسه حاكما للجزيرة التى بها الكنز المرسوم فى الخريطة التى تركها جنى مجهول بين أنقاض مركز التجارة العالمى يوم القبض على الأمل والعدل والحياء!!)
ثالثا: لم تكن المسألة أسلحة دمار شامل، فالدمار الشامل الحقيقى قد وافق عليه (ولو بأثر رجعي) مجلس الأمن بالسلامة، ثم إن قارئ هذا القرار يمكن أن يطمئن لشرط خفى وضع بين السطور، شرط يسمح باستعمال أسلحة الدمار الشامل لناس دون ناس. شرط مكتوب بالحبر السرى لمن يحسن فك رموزه:”يسمح بممارسة التدمير الشامل دون تمييز لكل من يقسم برحمة والدته أو رأس جده أنه لا يدمر إلا الأشرار وضحاياهم بالمرة (الشيء لزوم الشيء)، على شرط أن يكون هذا المدمر الشامل أقوى وأغنى وأقدر على الكذب والمناورة، وأن يثبت أنه امتلك أسلحة الدمار لأكثرمن نصف قرن، وأنه سبق له تدمير البشر والأمل والحرية دون أن يؤاخذ، وأنه رغم كل ذلك ما زال سيد العالم قوة وجبروتا وظلما وتشويها.
أما من لا يتمتع بهذه الميزات الإنسانية الخاصة فعليه أن يسلم ما عنده من أسلحة ونوايا عدوان من أصله، كما عليه أن يسلم من عنده من القادرين على إبداع أى شيء أو فكر يمكن أن يهدد هذا السيد الخاص المسموح له بالتدمير دون غيره ،باعتباره المحتكر لحق التدمير وإبادة “الشر” بحسب ما يرى هو.
رابعا: لم يكن الصراع بين نقيضين. بل هما وجهان لعملة واحدة، الوجه الأضعف اختفى مؤقتا على الأقل، والوجه الأقوى افترى نافشا ريشه ليسن قوانين جديدة تحدد معالم الحقوق، والواجبات، والأخلاق، والتدين، والجنة، والنار، والديمقراطية، وحقوق الإنسان، وذلك باعتبار أن أى منتصر على أمين مخازن المقابر الجماعية هو على درجة من الأخلاق والدراية بحيث يقدر على نفعنا أكثر من أنفسنا، حتى لو كنا الضحايا فى الحالين.
مخاطر التسطيح والاختزال
إن أخطر الخطر ليس فيما حدث، فالمتأمل يمكن أن ينتبه إلى بعض الخير فيما تم رغم سوء النية وسوء المآل الأرجح. أخطر الخطر هو أن نتصور أن النصر الظاهر هو دليل أن صاحبه هو من أهل الخير والرؤية الأسبق، لأنه قضى على شر أكيد. ثم هاهو مجلس الأمن يقره ، مع همهمة محدودة، وها هى المظاهرات تتوقف متقززة من النهب والمقابر الجماعية. يمكن أيضا أن يستتبع ذلك تصور أن الديموقراطية بالصورة التى مارسها الغازى بكل عيوبها ومزاياها وخداعها وألاعيبها، هى نهاية الأنظمة السياسية بلا بديل. إن تعميم قيم المنتصر على العالم، لمجرد أنه انتصر قد تنتهى بنا -خصوصا ونحن بهذا الكسل والاعتمادية – إلى اعتبار هذه الديمقراطية المشبوهة بالذات نهاية الأيديولوجيات، (بل والحضارات والديانات بالمرة)، أليس هذا هو ما حدث بعد انهيار الاتحاد السوفيتى حين راح هذا المنتصر نفسه يعلن نهاية التاريخ وهو يرفع يده على حلقة ملاكمة الحرب الباردة، باعتبار أنه لم يبق فى الدنيا إلا هذا المنتصر الذى هزم بطل العالم الأسبق. فمن ذا الذى يجرؤ على نزاله بعد ذلك إلا الصحاف ورساموا الكاريكاتير؟ ما المطلوب إذن؟
قبول التحدى:
أى فرد منا يستقبل خبرا أو يعايش مسألة عامة أو يبلغه رقم رسمى أو علمى أو شبه علمى، سرعان ما يعود لقياس ما وصله بالنظر فى حاله، وحال من حوله، وحال ما حوله، ثم هو يتخذ موقفه غالبا من موقع مهنته ولغته، وحاجاته، وتحيزاته، ودرجة نضجه، ومساحة حريته، مع احتمالات الاختزال أو التعميم.
أعترف أننى لم أجد طريقه لقراءة الأحداث وقبول التحدى إلا “قياسا” من واقع مهنتي. هو مدخل شخصي، لكنه واقع يمكن تطبيقه على سائق التاكسي، وعامل الخرسانة، وعالم الذرة، ومصمم الأزياء. كل منا يقرأ الأحداث من زاويته، ويقيس- بوعى أو بغير وعى – مجريات الأمور كما يفهما من واقع مرجعيته المعرفية العملية، ومصالحه المباشرة كما تتبدى له فى نفسه، وفيمن حوله أولا وقبل كل شىء. (كان سام ماسح الأحذية يصنف نزلاء الخان فى رواية مستر بكويك “تشالز دكنز” من واقع أحذيتهم). أثرت مهنتى فى قراءتى لنفسى والناس والأحداث على مستويات مختلفة: فمن ناحية أنا أقرأ أخبار الاقتصاد المحلى من قدرة مرضاى على التداوي، كما أقرأ أخبار الاقتصاد العالمى ومناورات الاحتكار وضم الشركات عابرة القارات من خلال ما تقوم به هذه الشركات من شراء العلماء وتستطيح الأبحاث وغسيل مخ الأطباء بالسفر والمؤتمرات الشكلية وأوهام المعلومات المعروضة فى جداول ومقارنات بعيدا عن وعى المرضى الأعمق. ثم إنى أستشعر الخطر على الجنس البشرى كله من مسيرة تدهور مجنون واحد. ضبطت نفسى أستلهم من تدهور مرضاى إلى عهود سحيقة من الحياة ، رسالة تقول: “.. إن الجارى، ثم الاستسلام لنتائجه، لا يهدد العراق وفلسطين وسوريا والعرب فحسب، بل هو تهديد لبقاء النوع الإنسانى نفسه”.
إن الحديث عن دلالة ما حدث من تهديد بالفناء الشامل (الانقراض) لا ينبغى أن يؤخذ باعتباره هربا. إنه المدخل الذى ربما يؤدى بنا إلى محاولة تحديد دورنا جماعة ثم فردا فردا. لقد وصلت، من خلال قراءة صديقى المجنون وهو ينسحب من كل إنجازاته، وأغلب إنسانيته إلى ما يلي:
أولا: نحن لسنا إلا نوع من الأحياء ، صحيح أننا نتصور أننا على قمة الهرم الحيوى الذى نعرفه، لكننا نظل ننتمى إلى الأحياء الذين تحكمهم قوانين البقاء عامة.
ثانيا: إن بقاء نوعنا لا يرتبط بانتصار فى معركة حربية، أو انحراف مجرم قاتل حاكم، بل هو يرتبط بمدى التعامل مع الزمن والمحيط (البيئة- الوسط- الكون) ثم التعامل مع بعضنا البعض، ثم التعامل مع سائر الأحياء والحياة.
ثالثا: كان ذلك التعامل يتم تلقائيا دون حاجة إلى وعى ظاهر، أو عقل مخطط. لكن أزمة الإنسان هى أنه أصبح يمتلك هذا وذاك (الإرادة الواعية والعقل المسيطر)، وبالتالى زادت مسئوليته، و زادت فرصه ، وزادت أخطاؤه.
رابعا: إن الانحراف التطورى الذى أدى إلى ظهور صدام على ناحية، ثم دبليو بوش على الناحية الأخري، يعلن أن ثم خطأ جسيما حادث على مسيرة تطور البشر.
خامسا: إن كل هذه الأحداث العابرة (من نصر وهزيمة وظلم وجرائم)، هى أقرب إلى الإنذارات ، منها إلى تحديد من عنده الحق ، ومن تجاوز العدل من هذا الفريق أو ذاك.
سادسا: إن المغزى الذى علينا أن نتمعن فيه من هذه الأحداث ذا شقين على طرفى نقيض:
الأول: أن ثم تهديدا يلاحق الجنس البشرى من اعتماده على إنجازات أقلية ثرية ناجحة، لكنها متحيزة، وظالمة، وقاصرة، وقصيرة النظر، وقيمها لا تمثل ما يعد به تاريخ الإنسان الرائع.
والثانى: أن ثم أمل يتزايد فى أن يتمكن البشر – سائر البشر- من التواصل الإيجابى عبر المنجزات الأحدث للتكنولوجيا، ليتعاونوا فى درء خطر الانقراض الذى تجلى مؤخرا ظاهرا للعيان كما لم يتجل من قبل.
من هذا المنطلق
رحت أعيد قراءة موقفنا الخاص لأرى كيف تعلمنا من الدرس الجاري، وماذا يمكن أن نعدله، وماذا يمكن أن نتراجع معه، وماذا يمكن أن نضيفه. إن الحياة وقت وعمل. يتحدد مصيرنا وأحقيتنا بإنسانيتنا بما نملأ به الوقت، وبما يتوجه إليه العمل. إن الوعى البشرى -محنة ما انتهى إليه النوع البشري- هو الذى يسمح باختيار ما يملأ به وقته، وما يتوجه إليه عمله. لا بد أن يعاد النظر فى هذه البديهيات بعد كل مأزق وجودى يمر به البشر وينذر بالفناء من خلال ظروف الطبيعة أو أخطاء ومغامرات إبداع الإنسان الحسن منها والسيء (من الحرب العالمية الأولى حتى تفتيت الذرة، ومن الهندسة الوراثية حتى المقابر الجماعية).
من هذا المنطلق، على كل واحد منا عبر العالم، دون استثناء، أن يعيد النظر فى موقفه وموقعه من خلال ما حدث. إن تحديد مسئوليتنا عما حدث ليس كافيا بقدر ما هو لازم تحديد دورنا فيما يحدث. علينا أن نبادر بطرح أسئلة قديمة، تحتاج إلى اجتهادات جديدة. ومن ذلك:
أولا: أين نحن تحديدا مما جرى ويجرى ؟
ثانيا: ما هى المقاييس التى نقيس بها ما هو نحن ، وما نساهم به، وما ننجزه ؟
ثالثا: ما هى القضايا التى تشغلنا، وهل هى من اختيارنا أساسا؟ أم أننا ننساق وراء ما لم نختر ؟
رابعا:ما هو ترتيب أولويات هذه القضايا؟
لا يمكن فى مداخلة محدودة المساحة، أن نجد إجابات وافية على أى من هذه الأسئلة حتى بإجمال مختزل. إذا سألت مسئولا جدا هذه الأسئلة التى تبدو له بديهية لا معنى لطرحها أصلا، قد ينبرى مشكورا بإجابات حاسمة واعدة متفائلة مجاملة. بل إن الأصعب والأخطر أنك لو قارنت إجابات هذا المسئول عن نفس الأسئلة قبل وبعد ما حدث مؤخرا فى العراق ثم فى مجلس الأمن، فإنك سوف تتلقى نفس الإجابات دون أن تهتز فيه شعرة. الأغرب من ذلك (الذى لم يعد غريبا) هو أنك لو طرحت نفس الأسئلة على مثل هذا المسئول أو ذاك فى العهود السابقة مع اختلاف نظام الحكم والحكام، فسوف تجد نفس الإجابات.
هذه هى أولى علامات الخطر. إننا لا نتغير !!
مسئولونا يجيبون جدا، بسرعة، وسلاسة، وبنفس تعبير الوجه، قبل 56 مثل بعدها، وقبل 67 مثل بعدها، وقبل 73 مثل بعدها، وقبل 2001 مثل بعده، وقبل 2003 مثل الآن. (مع اختلاف التسميات، وأسماء الأشخاص). إذن ماذا؟
موجز إجابات مثل هؤلاء المسئولين على اختلاف العصور يمكن إيجازها في: “أننا “كويسـون” فى جميع الأحوال، وأنها مهما تفاقمت، فإنها تقترب من الانفراج، وأن التقرير العالمى الفلانى أقر بأننا على الخط الصحيح للتصحيح، وأن التعليم وصل إلى القدوة الحسنة، وأن البحث العلمى فى أروع مراحله بأمارة أن الدكتور زويل أخذ نوبل، وأن إبداعنا الأدبى وصل إلى أعلى مستوياته بدليل نجيب محفوظ، وأن عنق الزجاجة لم يعد عنق زجاجة، بل أصبح “بطن بقرة”، ولم تعد بنا حاجة إلى زجاجة (بها حاجة أصفرا).
قضايا زائفة، ولاهية
إن ضياع الوقت فى محاولة معرفة أين صدام، وماذا عن الصحاف، وهل حدثت خيانة ، وهل تم اختراق ، وهل يتولى الأمر الولايات المتحدة أو الأمم المتحدة، إن ضياع الوقت فيما نستدرج إليه هكذا هو أول علامات أننا لم نتعلم بالقدرالكافي. إن أول ما ينبغى تعلمه هو ألا نستدرج إلى مناطق لا تعنينا، إلى قضايا لم نخترها، لم نحدد أولوياتها. بعد ما حدث، علينا أن نعيد النظر فى كل قضايانا مهما بلغت قدسيتها أو تصورنا إغلاق ملفها. علينا قبل أن نستدرج إلى الخوض فى تفاصيل فرعية لأى قضية مهما بدت عاجلة وملحة، أن نتوقف لننظر فى الأساس، فى رأس الموضوع وحقيقة اختيارنا له قبل الاستدراج لما تحته: هل هى قضيتنا نحن أم أنها مفروضة علينا من واقع الشيوع والتقليد؟ بل ينبغى أحيانا أن نتراجع خطوة سابقة لنتساءل قبلا: هل هى قضية أصلا؟
إن ثمة قضايا كثيرة تلقى فى وعينا فندور فيها وحولها مع أنها -لو أمعنا النظر- ليست قضايا أصلا. قضايا أخرى تستغرقنا جملة وتفصيلا مع أنه قد انتهى عمرها الافتراضي، قضايا ثالثة هى مسربة إلينا لتشغلنا عن قضايا أساسية أهم، قضايا رابعة انتهت بموت أحد أطراف النزاع، قضايا خامسة وظيفتها اللعب فى الهوامش بعيدا عن المتن لكسب الوقت. وهكذا كثير.
باجتهاد متواضع رحت أنظر- بصفة عامة – فى القضايا المطروحة على وعينا والمستنفدة لوقتنا وطاقاتنا، والتى لم تتغير لا هى ولا ترتيب أولوياتها قبل وبعد ما حدث. تبينت أن أول ما علينا عمله لنتجنب الإلهاء والاستدراج، هو أن نبدأ بتمييز الغث من السمين، الزائف من الحقيقي، ليس فيما يتعلق بما حدث، ولكن بصفة عامة، لأن مصيبتنا عامة، برغم أن مسئوليتنا فردية وعامة معا.
تحصيل حاصل
أغلب قضايانا هى من قبيل “تحصيل الحاصل”، نضع نهايتها مسبقا قبل أن نبدأها، ومع ذلك نضيع وقتنا وجهدنا فيها ناسين أننا حسمنا نهايتها من قبل. تظهرمثل هذه القضايا فى أهم مجالين محوريين كان يمكن أن يكونا هما المغيران لما نحن فيه، ألا وهما: البحث العلمي، والفتاوى الدينية. إن كثيرا مما نسميه البحث العلم هو تحصيل حاصل ، نبدأ من حيث بدأوا أو انتهوا، لنكرر ما فعلوا، ونصل إلى ما أوصوا به، وقد نضيف: “عند المصريين”. قضايا تحصيل الحاصل فى الفتاوى الدينية (ليست بالضرورة رسمية) هى بلا حصر. مع المبالغة: إنه لا تثار قضية دينية إلا ويكون الحكم فيها فى نهاية النهاية هو ما أفتى به السلف تحديدا. حتى قضية الحوار بين الأديان تنتهى حيث تبدأ تماما. (نبهنا البابا شنودة مخلصا صادقا أنه لا حوار بين الأديان وإنما بين المتدينين، يا ليت !! هذا أفضل من الكذب المجاملاتي). من أشهر القضايا حسنة السمعة بلا فاعلية مسألة “قبول الآخر”، إن أغلب ما يجرى تحت هذه اللافتة، هو نوع من التصالح قصير العمر (واللى فى القلب فى القلب). إن هذه القضية لا تتم بقبول للآخر بقـدر ما تتم بمحاولة “فض الاشتباك”. لا بأس، ولكن أليس الأولى أن تسمى باسمها. نحن والعالم اليوم فى حاجة إلى الالتحام بالآخر المخالـف لتخليق ما يخرج منا معا. مجرد فض الاشتباك يسمح باشتعال النيران من أول شرارة.
ثمة قضايا ليست تحصيل حاصل، لكنها استهلكت حتى انتهى عمرها الافتراضي. قد تكون قد أنهكت حتى شاخت دون حل، أو تكون قد سويت بطريقة تلفيقية لا تحمل مقومات بقائها، أو تكون غير قابلة للحل أصلا. ومع ذلك فنحن لا نفعل شيئا إلا أن نعود إليها، أو لا نغادرها ابتداء. على حساب ما هو أولي. خذ مثلا قضية “الأصالة والمعاصرة” (أو التراث والحداثة..إلخ) لا جديد.
ثمة قضايا أخرى سقطت بالتقادم أو بموت أحد أطراف النزاع مثلما سقطت قضية الحرب الباردة بوفاة الاتحاد السوفيتى إثر حادث أليم، لكننا مازلنا نستدرج بوعى أو بغير وعى إليها، أو إلى ما يعادلها، يبدو أننا مازلنا لا نصدق ما حد ث، مازال فريق منا يواصل تطهير الجيوب من عدو مجهول على أحد الجانبين.، وكأن أوربا الشرقية مازالت شرقية، وكأن بلير مازال زعيما لحزب اشتراكى يسمى حزب العمال (تصور!).
القضايا الزائفة هى نوع آخر مما نستدرج إليه، وهى قضايا مبتدعة على أساس واه، أو بغير أساس. ليس المقصود من إثارتها هو حلها، وإنما المقصود هو تبرير أمور أخرى تقع خارجها. مثال ذلك ما ظهر مؤخرا مما يسمى “صراع الحضارات”، وتحديدا: الصراع بين الإسلام والغرب. هذه قضية زائفة من أساسها، ليس لأنه لا يوجد اختلاف بين منظومة الحياة ونوعيتها على الجانبين، إن الاختلاف موجود بين الوجود الإيمانى المرتجى فى الإسلام، وبين الوجود الغربى الذى بدا أنه مكثف فى مركز التجارة العالمية. لكن أين الصراع؟ إن ابتداع قضية تسمى صراع الحضارات هو محاولة لاهثة ومتمادية لتبرير الإغارة والظلم والإبادة. واقع الحال يقول إنه لا يوجد شيء واحد يمكن أن نتفق على أنه “الإسلام” كما نزل الإسلام، كما لم يعد يوجد شيء واحد اسمه الغرب كما يشاع عنه، خاصة بعد أن أصبح وجهه الآخر هو روسيا والصين وهما فى عز الشمال والشرق. الغرب نفسه أصبح أكثر من غرب. هناك الغرب فرنسا، والغرب أمريكا، والغرب السويد بل فى داخل أمريكا نفسها لم يعد الغرب واحدا، هناك غرب لاكوف وغرب تشومسكي. كما أن هناك غرب دبليو بوش، وغرب تشيني، ثم غرب شارون، وغرب بيريز، وغرب اليونان، وحتى غرب تركيا !!
نفس الحكاية بالنسبة للإسلام: إسلام جاروى غير إسلام الشيخ الشعراوي، وإسلام بن لادن غير إسلام القرضاوي، وإسلام إيران غير إسلام المغرب، وإسلام بن عربى غير إسلام ابن رشد. فأين القضية ؟ ومن هم المتصارعون؟
هناك أيضا قضايا خادعة مغلوطة إذا نظرت فى عمقها قبل أن تستدرج إليها تلاشت تحت الفحص إذ سوف تكتشف أنه لا فرق بين الجانبين. خذ مثلا بن لادن ضد بن باز، واحد يمثل الأصولية الراديكالية، والآخر يمثل الأصلولية الرسمية، ولا فرق إلا فى الوسيلة. لا فرق بين صدام، ودبليو بوش، فى عمق إلغاء الآخر، واختراق القانون وقتل الأبرياء بلا محاكمة، ولا فرق بين الاثنين وبين شارون. فأين القضية ؟
نذكر أيضا احتمال خدعة المواجهة بين الصين والولايات المتحدة. لو أنك نظرت أعمق (مع الاعتذار للدكتور أنور عبد الملك وأمله فى طريق الحرير، وعلاقة كونفوشيوس
الإسلام!!)، ثم تآملت الصفقات المعلنة والخفية بين أمريكا والصين، وكذلك نموذج التنمية والحياة الكمية عند كل فسرعان ما ستتبين أنهما واحد، وليسا على طرفى نقيض.
كذلك علينا أن ننتبه إلى التوحد الظاهر والخفى بين روسيا والولايات المتحدة ، خصوصا فى مواجهة الشيشان على ناحية، والقاعدة والفلسطينيين على الناحية الأخرى.
ثمة قضايا مؤقتة مائعة (خادعة أيضا) ، مثل تصور المستضعفين لفترة مشرقة آملة أثناء حدة الأزمة أن أوربا تستطيع أن تختلف مع أمريكا حتى المواجهة، لكن المتتبع للاستسلام اللاحق للكارثة لابد أن يتبين أنه كان اختلافا أقرب إلى عتاب الشركاء منه إلى اختلاف مواقف وجودية جوهرية يمكن أن تحفز جدلا حقيقيا.
نوع آخر، ليس أخيرا، ما زلنا نستدج إليه، وندور حوله مثل المسرنمين ، ثم لا نفيق إلا بعد انتهاء الوقت الأصى لدورنا فى الحياة ، مع أننا لم ندرج حتى فى قائمة الاحتياطي. إنها القضايا التى يمكن أن تسمى قضايا الإلهاء، وهى تتم إما بالإزاحة، أو بالتهميش، أو بالإغراق فى التفاصيل التى ليس لها نهاية. إن المتابع لمناورات التفاوض منذ هدنة 1948 وحتى خارطة الطريق، يمكن أن يدرك كم قضية أثيرت للإلهاء عن الأصل، وعن المتن، وعن الحق، وعن العدل. كل المفاوضات تقريبا كان هدفها الأول والأخير، كسب الوقت لا حل القضية، كل المفاوضات تقريبا لم تخرج عن أحد هذه الألاعيب الثلاثة (الإزاحة ، والتهميش، والتفاصيل التى لا تقدم ولا تؤخر).
هناك ألاعيب أخري، نقع فيها بمحض غبائنا، فنتلهى عن أصل المواجهة، وذلك حين تلقى إلينا مصيدة إحياء النعرات التعصبية بظاهرها الديني. أنظر كيف وضعوا، فوضعنا، الدين اليهودى (وليس شارون)، فى مقابل الدين الإسلامى (وليس حماس)، وكأن الخلاف على أى الفريقين يدخل الجنة وأيهما يدخل النار. ثم يمتد الإغراء بالتعصب فنجد أنفسنا فى قضية أخرى على مستوى أوسع حين يصدرون دين الاسلام (لا المسلمين) فى مواجهة الأصولية المسيحية الجديدة فى أمريكا. وهى تتلوا أساطير الأولين.
هذه قضايا تشعل النار بسهولة، مع أنها قديمة قدم التاريخ، إن إحياءها سرا أو علانية، صراحة أو من وراء ستار. هو أيضا من قبيل الإلهاء.
عند الأزمات المفاجئة، أو الكاشفة، تقفز مثل هذه القضايا الفرعية أو القديمة ، كنوع من التسكين للتأجيل إلى مالا نهاية. إن إثارة مثل هذه القضايا يعيد إحياء القضايا القديمة لنتلهى بالماضى عن مواجهة الحاضر وصناعة المستقبل. بعد هزيمة 1967 ظهر شعار يقول إن “الرجوع إلى الدين” هو الحل. المتابع مؤخرا لخطاب كل من صدام ودبليو وبوش أثناء حدة المواجهة (ولو لأيام قليلة) لا يخفى عليه المحتوى الدينى للخطاب على الجانبين، ليس فقط بالحديث عن محور الشر فى ناحية، وعن الجهاد والاستشهاد فى الناحية الأخري، ولكن فى كثير مما ظهر فى السطور، وأكثر: فيما غاب بين السطور.
”نهاية” و”بداية”
ما علاقة كل ذلك بما آل إليه أمرنا بعد حرب العراق، وتوقيع العالم -ممثلا فى مجلس الأمن-على الأمر الواقع (قرار 1483)؟ إذا كنا حقا نريد أن نتحمل مسئولية المواجهة، علينا أن نبدأ بأنفسنا(ولو فرادي)، فى كل مجال، بما يلي، كما يلي:
أولا: تحمل مسئولية ما حدث، بدلا من إلقاء اللوم.
ثانيا: إعادة النظر فى واقعنا حالا بمقاييس أخري.
ثالثا: تحديد مبدئى لموقفنا مما يمثله كل من صدام وبوش معا (باعتبارهما وجهان لنفس العملة).
رابعا: تحديد حجم ثروتنا الحقيقية: عمق الوعى ومساحته، مضروب فى حجم الوقت وحركيته، مضروب فى طريقة الأداء (والأدوات). هذه ليست مسائل نظرية.
خامسا: قياس هذه الثروة مقارنة بواقع الناتج اليومي، نوعا وكما، لتحديد الفاقد الفعلى لوجودنا البشري.
سادسا: تجنب القضايا الزائفة لمواجهة قضايانا الحقيقية
سابعا: تحديد أولويات هذه القضايا الحقيقية.
ثامنا: إشراك كل الناس عبر العالم فيما هو مشترك.
تاسعا: الاستعداد لتحمل مزيد من الهزائم والتعلم منها.
كيف السبيل إلى تحقيق بعض ذلك، أو البدء فى مثل ذلك. لا يكفى أن نعدد الأسباب أو نفسر الأحداث أو نرصد السلبيات أو نتبادل الآراء. الأمر أصبح أخطر من كل ذلك.
أولى بنا أن نتوقف عن الكلام والتفسير والتبرير إذا لم يكن لدينا إلا تكرار ما سبق أن قررناه بحسن نية أو بمثالية عاجزة. أولى بنا أن نعلن أننا قبلنا أن نتبع الأقوى جملة وتفصيلا، من أن ندعى أن “الإسلام هو الحل”، ثم لا نفعل شيئا إلا أن نمارس نفس قيم التنمية، ونسعى نفس السعى إلى مجتمع الرفاهية، سواء فى الحياة الدنيا أم فى الآخرة. ولا ننتبه إلى أن النموذج الذى يطرحه هذا الشعار قد يكون هو هو نموذج التنمية الكمية دون اختلاف لما نرفضه إلا فى اتجاه القبلة وشكل الصلاة.
إذا كنا نختلف فلنختلف، ونعمق، وننجح. وإذا كنا نتفق، فلـنجتهد، ونتبع، ونتقن. وفى الحالين لن يتكرر ما حدث. أما أن نظل فى موقفنا، نكرر أننا لا نتبع، ونحن لا نفعل شيئا إلا أن نتبع تحت لافتة أخري، فنحن لا نفعل شيئا إلا أن نبرر لهم ما فعلوه، وما سوف يفعلونه.
القضايا الحقيقية
القضايا الحقيقة ليست ثابتة ولا منغلقة، إنها قضايا تتجدد من واقع إعادة التقييم على أرض الواقع المتغير، حتى لو حملت نفس الاسم.لا بد من إعادة التقييم. ليس من فوق المكاتب أو بالنظر فى الأرقام دون الشارع وداخل البيوت. الجديد أيضا فى تناول قضايا قديمة هو أن المشاركة فيها لم تعد مقصورة على مكان جغرافى بعينه. إن الناس الآن قد انتبهت إلى خطر مشترك. هذا هو الذى سوف يخلق شبكة من الناس تتكاتف وهى تشعر بخطر تهديد البقاء بأسلحة الدمار من قادة الدمار العميان الأقوي. إن هذا الوعى المشترك بالخوف من الفناء هو الذى يمكن أن يدفع الناس من واقع الفعل اليومى إلى العمل على درء هذا الخطر للحفاظ على النوع، مثلما يتكاتف النمل لجر قالب السكر إلى مخزن البيات الشتوي، أو حتى مثل هجرة الطيور معا سعيا إلى التلاؤم مع احتمال الانتحار الجماعي
وثيقتان
حتى لا يكون الكلام نظريا تماما، أشير، بكل الاحترام، إلى وثيقتين اعتبرتهما مدخلين لما أريد توصيله. هاتين الوثيقتين كتبتا قبل ما حدث ، وقيل فى إحداهما أنها تنبأت بما حدث جدا، وقيل فى الأخرى أنها لم ينتبه إليها أحد برغم بالغ خطورتها. لن أتناول أى منهما بالنقد أو التعليق بالتفصيل، فقط سوف أورد بعض إشارات يمكن أن تكون المنطلق للمنهج الذى أريد التنبيه إليه.
الوثيقة الأولي: كتاب أصدره مسئول كبير فى موقع التنفيذ، باسم “مفترق الطرق”. وهو كتاب حظى بتقريظ معظم (إن لم يكن كل) الذين علقوا عليه، وقد وقفت من الكتاب موقفا حذرا حتى قبل أن أقرأه لعدة أسباب، منها أننى أعرف كاتبه طبيبا حاذقا، وأستاذا جامعيا مرموقا، ولا أعرفه بالقدر الكافى مفكرا أو وزيرا أو سياسيا، ومنها أننى قرأت كتابه السابق ولم أجد فيه جديدا، ومنها أن الكاتب فى موقع التنفيذ، ومنها أننى فى ممارستى مهنتى طبيبا نفسيا، وأستاذا جامعيا، أتابع مستوى التعليم (الرسمى خاصة) وقد وصل إلى أدنى مراتبه، سواء من الناحية الخلقية (الغش الفردى والجماعي)، أو من الناحية الإبداعية (التسميع والانغلاق داخل النص المقرر) أو من الناحية المنهجية (العجز عن الإتقان والسطحية والتقريب وفساد اللغة وغياب الحبكة). ثم قرأت الكتاب والأرقام، والاستشهادات بالشعر، والتفكير الآمل، ولم أغير رأيي. بل زدت حزنا وتوقعا للكوارث، خاصة بعد تصريح لاحق للمؤلف منذ أيام يقول فيه إن التعليم عندنا أصبح قدوة للبلاد من حولنا، وأن قيم الحرية والديمقراطية تمارس وتدرس فى كل المراحل باستقلال كامل دون توجيه من أمريكا..إلخ.
الوثيقة الثانية هى التقرير الذى قدمه الدكتور جودت الملط رئيس الجهاز المركزى للمحاسبات إلى مجلس الشعب حول ملاحظات الجهاز عن الحسابات الختامية للسنة المالية 2000 – 2001 فى هذه الوثيقة ملاحظات “رسمية” اقتصادية شديدة الخطورة، خلاصتها أن البنية الأساسية الاقتصادية، حتى منذ سنتين (فما بالك الآن)، قد وصلت إلى درجة منذرة لا تفسر أى مبرر لاستبدال حجارة رصيف لم تتآكل حجارته، أو إعادة تأثيث مكتب مسئول ما. الأخطر من كل ذلك أن هذا التقرير لم ينل أى عناية تناسب خطورته لا من السلطة التشريعية، ولا من وسائل الإعلام، ولا من الشارع من أصحاب المصلحة الذين يدفعون ثمن ما جاء فيه، وثمن ما يترتب عليه، وثمن إغفاله على حد سواء.
قدرت بينى وبين نفسي، وقد أكون مخطئا، أن عدم التعلم من هاتين الوثيقتين هو لا يقل عن عدم التعلم من كارثة (/كاشفة) العراق، ثم قدرت، وأنا أكثر ألما أنه، لو حدث أن دخلنا امتحانا مثل هذا الامتحان العراقى، فسوف يظهر مغزى عدم التعلم من الوثيقتين بما يفسر ما سوف يجري، لا قدر الله، دون حاجة لاتهامنا بامتلاك أسلحة الدمار الشامل.
بعض القضايا الجوهرية، لإعادة النظر
(1) قضية التعليم
انطلاقا من الملاحظات العابرة على “مفترق الطرق” الذى لا ننفى عن كاتبه الفاضل حسن النية ووفرة الحماس، نقول: إن التعليم هو المدخل الأول لأى تغيير. حتى الإعلام بجبروته وإغارته، لا يمكن التوقى من أضراره أو مواجهته بما ينبغى إلا من خلال التعليم الصحيح. لكن علينا ألا ننخدع فى مجرد التكرار. المطلوب هو التوقف الموضوعى المسئول عند كل ما يبدو بديهيا، أو ما يلوح لنا آملين.
خذ مثلا محو الأمية: إنها تتيح لمن يقرأ ويكتب أن يحصل على معلومات مرئية بدلا من اقتصاره على المعلومات السطحية، ثم إنها تتيح له التعبيرعما يريد، وإعادة تشكيل ما وصل إليه، بشكل مكتوب، يمكن للآخر أن يصله حتى لو لم يلق صاحبه أو يسمعه.
لكى نقيم قيمة “محو الأمية” فى الحيلولة دون كارثة مثل كارثة العراق، علينا أن نسأل أنفسنا عن تعريف “الأمية” وجدوى محوها من حيث مدى إفادة من تخلص منها فى تحقيق الهدف من تعلمه القراءة والكتابة. هل تعلم طالب الجامعة (المفروض أنه انمحت أميته) كيف يقرأ صحيفة يومية قراءة ناقدة ؟ هل نفعه هذا المحو فى قراءة صفحة من كتاب “مفترق الطرق”، مثلا:الجدول (3) ص 218 بعنوان “العلماء والمهندسين فى البحث والتنمية”، (لاحظ: المهندسين، لا: المهندسون!) بحيث أتاحت له القراءة المرة تلو المرة أن يتساءل عما يجمع العلماء مع المهندسين، ومن هو العالم فى البحث والتنمية؟ وماذا يعمل المهندس فى البحث والتنمية؟ وهل المهندس يعتبر عالما أو حرفيا؟ ولماذا لم يرتب الجدول الأرقام ترتيبا تنازليا أو تصاعديا أو يرتب الدول أبجديا؟ إذا لم يتساءل القارئ العادى (ناهيك عن الناقد الأريب) مثل هذه التساؤلات حول جدول عابر فى كتاب مسئول، فما فائدة أنه تعلم القراءة والكتابة.
بنفس القياس: إذا لم يستفد القارئ من قراءة تقرير الدكتور الملط (الجهاز المركزى للمحاسبات) المرة تلو المرة. فما فائدة تعلمه القراءة والكتابة؟
هذا عن محو الأمية. فإذا انتقلنا إلى أعلى الهرم لننظر فى ما آل إليه حال ما يسمى شهادة درجة الدكتوراه، فكل أمين متابع لبعض ذلك يمكن أن يعرف مدى الانفصال الذى تم بين هذه الدرجة الأكاديمة الأعلى وبين العلم الحقيقى والمعرفة المسئولة من جهة، وبينها وبين التطبيق المفيد لمجتمع الحاصل عليها من جهة أخري.
ثم إذا نظرنا فى الخلفية المشتركة لكل من محو الأمية والحصول على درجة الدكتوراه فيما يتعلق بأمرين: الإتقان، والأخلاق. إذن لوجدنا أن القاعدة فى محو الأمية (تعلم القراءة والكتابة) هى عدم الإتقان، وعلى من لا يصدق أن يقوم بعمل بحث من واقع أوراق إجابة طلبة كلية الآداب أو الحقوق أو غيرهما ليرى عدد التاءات المفتوحة المفروض أن تكون مربوطة وبالعكس. ثم يتساءل: هل هؤلاء هم الذين سوف يتخرجون مدرسين أو أساتذة أو قضاة؟ وهل امحت أميتهم أصلا. الإتقان فى أبحاث الدكتوراة أصيب فى مقتل خاصة بعد إسهام ما يسمى بالبحث عبر الإنترنت فى الاختزال، والتسطيح، والتلفيق، والكذب جميعا.
أما ما آلت إليه الأخلاق باعتبارها البنية الأساسية التى ينبنى عليها التعليم والبحث العلمي، فالقاعدة أصبحت هى الغش الفردى والجماعي، بالطول وبالعرض. لم يعد يجرى أى امتحان (تقريبا) إلا على خلفية من الغش المباح من السنة الثانية الابتدائية حتى درجة الدكتوراة. صرت حين أحاول أن أقيم درجة ذكاء بعض مرضاى من خلال تحصيلهم الدراسى لا أكتفى بالسؤال عن تقديرهم المئوى فى هذه الشهادات العامة (دع جانبا سنوات النقل) بل لا بد أن ألحق ذلك بسؤال إضافى يستفسر عن ظروف أداء الامتحان فى هذه الشهادة أو تلك “..إن كان بغش أو دون غش”. الغريب فى الأمر أن الطالب، أو أهله لا يستغربون السؤال. بل إنهم يصلون إلى درجة من “الأمانة” تجعلهم يجيبون بصدق أن ذلك كان “..بغش طبعا”، وبعضهم يبتسم قائلا “.ما سيادتك عارف”. وقد أطلب من بعض الحاصلين على الإعدادية أن يقرأ صحيفة يتصادف وجودها على مكتبي، فلا يستطيع قراءة العناوين الكبيرة، وقد أطلب من حاصل على الابتدائية أن يكتب اسمه فلا يستطيع. (راجع بعض ما جاء فى كتاب مفترق الطرق عن روعة ما وصل إليه حال التعليم من إحاطة وإيجابية وكمبيوترية، وإبداع!!).
على القارئ أن ينظر فى بعض ذلك، ويربطه بأحداث العراق، وما يمكن أن يصيبنا مثله حين يشتعل الحريق من “مستصغر الشرر”.
(2) قضية الحرية
يبدو أنه لم تـقدس كلمة فى تاريخ البشرية مثلما قدست كلمة الحرية. كلمة أخرى كادت تكتسب نفس القدسية، هى “الديمقراطية” لنفس الأسباب، مع أنها ليست مرادفة للحرية، برغم كل ذلك، فنحن- عبر العالم- أبعد ما نكون عن الحرية، حتى فى تجليها السياسى فيما هو “ديمقراطية”
كل الاستطلاعات، والتصريحات، والهجوم، والدفاع، والقتل، والسحل، والإذلال، تم ويتم تحت نفس اللافتة “الديمقراطية”. التهمة الأولى فى جرائم صدام هو أنه انتهك الديمقراطية، والتجاوز الأكبر الذى قامت به أمريكا وهى تضرب برأى أغلبية مجلس الأمن، وأغلبية مظاهرات الشوارع عرض الحائط هو ضرب الديمقراطية فى الصميم.
عندنا: ما إن انتهت الإغارة الكارثة حتى راح كل الناس، والصحف، والمثقفون خاصة، يتبارون فى إثبات أن غياب الديمقراطية هو المسئول عن كل ما حدث.
كل هذا يحتاج مراجعة متأنية. علينا أولا: ألا نتصور أن الديمقراطية هى المرادف للحرية، وثانيا: ألا نجعل نقدنا لما يسمى الديمقراطية يساوى رفضنا لها، وثالثا: ألا يدفعنا يقيننا من أنه ليس ثم بديل لها إلى التسليم لها بلا شروط، وبلا وعي، وبلا مراجعة، وبلا نقد. ورابعا: أننا إذا فضلناها بحق، فعلينا أن نستعد لتحمل نتائجها مهما كانت، وأول من يستعد لذلك هو من نادى بها وألح فى النداء باعتبارها الحل الأوحد.
إن ترديد شعار”الديمقرطية هى الحل” دون قبول كل التحفظات والشروط السابقة، يصبح أشبه بترديد شعار أن “الإسلام هو الحل”، دون تفصيل كاف يشير إلى “حل ماذا”، و “كيف”.
إذا كنا نريد أن نتعلم مما حدث، علينا أن نغامر بفتح ملف الحرية، وليس فقط الديمقراطية، وأن نسعى جاهدين إلى إبداع ما يتجاوز تقديس ما كان سببا فى إذلالنا سواء بالاستعمال الزائف من صدام أم بالتسويق المغشوش.
(3) قضية المنهج واللغة:
قضية المنهج ليست قضية أكاديمية بحتة، ولا هى منفصلة عن قضية التعليم أو الحرية. لا توجد معرفة بدون منهج، ولا تستمر حياة بدون منهج. حتى قبول الحياة بدون منهج هو منهج فى ذاته. إن طرح قضية المنهج فى هذه اللحظة لا يعنى الدعوة إلى اتباع منهج محدد، أو تفضيل منهج على منهج، وإنما هو للتذكرة بأن المنطق البسيط، والمنطق العام هو منهج فى ذاته، وأننا نفتقر إلى هذا المنطق بشكل لا جدال فيه.
لابد- خاصة بعد ما حدث- أن نعود إلى النظر فى منهج كل شيء، وأن نقيس جدوى أى منهج ليس بمدى رضاهم عنه، أو شيوع موضوعيته (المحددة بمقاييسهم) ولكن بحقيقة جدواه لنا الآن وبعد. إن مجرد إحياء المنطق البسيط، والحرص على تنويع المناهج، وتعلم حسن قراءتها، يمكن أن يعرفنا كيف كتب تقرير الدكتور الملط، وكيف نقرأه.
أما قضية اللغة فهى أكبر من أن تحتويها هذه المداخلة فى هذا الحيز. اللغة العربية بوجه خاص هي
تاريخ الحى لحضارة العرب، ليس فحسب لثراء ألفاظها ووفرة معانيها، وإنما بحركببتها ومرونتها وقدرتها على الإبداع. لا يمكن أن تكون هذه اللغة قد تخلقت حتى صارت بكل هذا الحضور من قوم لا ينتمون إليها. العرب الذين أنتجوا العربية حتى تجلت بصورتها الحالية هم أقدر الناس على إعادة انتاج حياتهم من واقع الأن مهما كان مظلما أو مرا. ليس مطلوبا التغنى بجمال اللغة العربيه أو الغوص للعثور على لألئها، وإنما المطلوب والمأمول هو أن تجمعنا هذه اللغة مسئولية. لا فخرا، وإبداعا لا تفسيرا.
حتى اللهجات العامية، المفروض أن نحترمها لنتعلم الاختلاف ثم نلتقى فى رحاب الفصحى دون استهانة بغيرها.
لن يجمع العرب إلا لغتهم واقتصادهم وإبداعهم، قبل أسلحتهم وخطبهم وجامعتهم، اللغة منهج حياة، ونبض وجود بقدر ما هى أداة تواصل. إن ما لحق بلغتنا العربية ولهجاتنا العامية هو أخطر دليل على مسئوليتنا على ما وصلنا إليه من هشاشة وتراجع عما هو نحن. إن لم نستطع أن ندافع عن لغتنا، الكيان، الأصل، فلن نستطيع أن ندافع عن آرضنا ولا عن كرامتنا مهما امتلكنا من أسلحة أو بترول أو أموال.
ضع شعبا فى السلاسل جردهم من ملابسهم سد أفواههم، لكنهم مازالو أحرارا.
خذ منهم أعمالهم، وجوازات سفرهم والموائد التى يأكلون عليها والأسرة التى ينامون عليها لكنهم مازالو أغنياء
إن الشعب يفتقر ويستعبد عندما يسلب اللسان الذى تركه له الأجداد يضيع إذا للأبد: (الشاعر الصقلى إجنازيو بوتيتا من قصيدة لغة وحوار أقتطاف عبد السلام المسدي)
(4) قضية الدين والإبداع والتدين
العودة إلى الدين هى حقيقة جارية عبر العالم، من أول قراءة معنى اندفاع الناس للكنائس بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، حتى انتشار الحجاب عندنا، مرورا بالحركة الأصولية الإنجيلية فى الولايات المتحدة. بل إنه حين لا تفى الأديان التقليدية فى صورتها الكلاسية الثابتة بمتطلبات هذه العودة تخترع ملل صغيرة جديدة هنا وهناك، بنبى يهبط عليه وحى ما، أو بدون ذلك.
الدراسات البيولوجية التطورية الأحدث لا ترى الدين اختراعا اخترعه الإنسان ليسد به حاجته (كما يزعم فرويد)، بل هى تتناول التدين والإيمان والله سبحانه وتعالى كحقائق بيولوجية كونية تجلت عبر تطور الأحياء حتى وصلت إلى الإنسان فى صورتها الراهنة. إن ذلك لا يرجع الأديان للطبيعة، ولكنه يؤكد غور الحقائق الأزلية التى جاءت بها الأديان لتعمق إنسانية الإنسان وتطلق إبداعه.
إن إنكار هذه الحقيقة الكونية الإلهية كشرط أساسى ليكون البشر بشرا قد ترتب عليه مصائب متنوعة تترجح من الضياع الفردى إلى الانهيار الاقتصادى والحربي. يتم هذا الإنكار بطرق مختلفة: إما بنفى صريح مثلما حدث فى أوج ازدهار الشيوعية حين اعتبر الدين مخدرا للشعوب، وقاموا بتدريس الإلحاد فى المدارس للوقاية من أى تخدير، وإما بتزييف حقيقة الإيمان بقشور دينية بواسطة سلطة كهنوتية لصالح السلطة السياسية، أو الطبقة الثرية، وإما باختزال الدين إلى جزء منه دون كلية حضوره، وإما بابتداع أديان مستحدثة تحل محل الحقيقة الأصلية المنغرسة فى الوجود، وإما بالجمود عند تفسيرات لفظية ساكنة، وإما بحشر ما تصوروه الدين فى قالب لم يصنع له أصلا تحت مزاعم التفسير العلمى للنصوص الإلهية.
لاحظنا أثناء حدة الأزمة وقبلها، وتبريرا لها، وضدها، أن نبرة الخطاب الدينى قد ارتفعت من الجانبين، وهما واحد، لكنها ارتفعت لتستعمل الدين لا لتطلق عنان إبداعاته.
إذا كان لنا أن نتعلم من ذلك، فلندرك أولا أن كل التسطيح والتزييف والاختزال الذى لحق بالدين الحقيقى لم ينجح أن يملأ وعى الناس. إن علينا فتح هذا الملف من واقع ما تجلى لنا فى هذا المشهد الكارثى الأخير بأسلوب آخر لهدف آخر. إنهم -على الجانبين – استعملوا الدين تبريرا للقتل، والتدمير، والانتحار. علينا نحن أن نتحمل مسئولية إحياء الدين والإيمان بالإبداع الحقيقي، إذا كنا نحترم جذورالمسألة حقا،ونسعى لنتعلم من المعنى الجذرى للكارثة.
إن جارودى دخل إلى الإسلام من باب الإبداع سعيا إلى تجاوز القيم التى يمثلها الغرب المغترب، وهو يصر على فتح باب الاجتهاد والجدل بين المتدينين حتى لا يكون الحوار فى النهاية من قبيل “فض الاشتباك” كما ذكرنا، أو كما وصف هو الحوار بين الإسلام المغلق، والمسيحية المغلقة بأنه “حوار بين مريضين”. إن إسلام جارودى يذكرنا بضرورة النهل من ابن عربى والسهروردى والفارابى أكثر من الاقتصار على ما سجننا فيه الغرب من بعض ابن رشد باعتبار أنها بضاعتهم ردت إليهم، لا أكثر.
هذه قضية تحتاج إلى أن نستلهم جذورها وحقيقة أبعادها ليس من السلطات الوصية ، وليس من التاريخ اللاهوتى وتجميد النص لا استلهامه، ولكن من واقع الممارسة على طيف متسع من الإبداع إلى الإيمان ملتزمين. إن عجزنا عن الإنصات للممارسات المتنوعة، وكذلك عن الوفاء بمواكبة طبيعة هذا الأصل الممتد جذوره إلى ما قبل التاريخ، المفتوحة نهايته إلى الغيب، لن يترتب على ذلك إلا اختزال أى دين إلى ما ليس هو، وبالتالى استعماله فى كل أنواع الدمار والتدمير والقهر ضد الإبداع. وهذا بعض ما حدث.
إذا أحسنا الإنصات لما جري، وأردنا أن نتعلم، فلا مفر من أن نفتح هذا الملف من مدخله الصحيح، وأن نحسن قراءته بحقيقته، وليس بمنظومة من خارجه، أو وصاية تراثية أو سلطوية ؟إن إغفال هذه القضية أو تهميشها أو تسليمها لغير أهلها سوف يؤدى إلى مثل ما جرى وأكثر.
(5) عن الإعلام، والمعلومات، والعلم، والثقافة، والتنوير
هل كل هذا قضية واحدة؟
نعم، من المنطلق الذى أرادته هذه المداخلة. إن الذى يجمع هذه المجموعة فى قضية واحدة هو أنها جميعا تمثل إنجازات عصرية لها فاعلية يومية رائعة متلاحقة وملاحقة، كذلك فإنها جميعا تشترك فى أنها تستعمل من باب التباهى بالتقدم بحيث أن من يتصف بها يعتبر معاصرا، أو عصريا، أو متمدنا، أو متحضرا، ثم إن علاقتها بآلياتها التكنولوجية الأحدث وثيقة بحيث يصعب فصلهما.
الأمل الحقيقى بالنسبة لدور الإعلام الجديد هو أن تتزايد فرص الإعلام خارج السلطات، أى الإعلام المتجاوز للدول والمال، لا بد أن نحرص على الترويج لحق كل الناس فى التواصل بشبكة عالمية تنقل إنذارات الفناء، وتنظم سبل المواجهة. هذا بعض ما ينبغى أن نستثمره مما تعلمناه أثناء الأزمة وبعدها.
أما بالنسبة لمسألة المعلومات فإن ماجرى لا بد أن ينبهنا إلى خطورة التسليم لـ أو الفرحة بـ “كم المعلومات دون التدريب على مسئولية انتقائها وإعادة تشكيلها.إن تواصل عدد أكبر فأكبر من البشر مع بعضهم البعض بعيدا عن السلطات الوصية يمكن أن يسهم فى تنمية الجوانب الإيجابية المتجادلة بالمعلومات على حساب الممارسات السلبية المتلقية للمعلومات. وهو هو الذى يمكن أن ينقذ الجنس البشرى من الانخداع بكم المعلومات على حساب انتقاء الدال منها “معا”.
أما عن تقديس العلم، الذى نتباهى به بأقل قدر من المسئولية، فهو دليل على جهل أخطر. العلم كيان متغير مفتوح النهاية لا يحتمل أن يختزل إلى صنم ثابت قابل للعبادة، لاحظنا فى الكارثة الأخيرة أن ما سمى علما قد استعمل بشكل سهل مهمة التكنلوجيا لتوصف القنابل القاتلة بالذكاء مرة، وبالإبداع مرة، وبالقدرات الخارقة مرات. إن إعادة النظر فى استعمالات معطيات العلم والتكنولوجيا لصالح البشر أم ضدهم لا يكفى بعدما حدث. لا بد أن تمتد المراجعة إلى الانتباه إلى خطورة اختزال المعرفة إلى العلم، وأيضا إلى خطورة تقديس العلم وجعله وصيا على منظومات أخرى موازية، أقدم، وربما أكثر فائدة. بعدما حدث، علينا أن نقيم موقفنا من العلم ليس فقط من حيث أننا نقدسه حتى نمسخه إلى ما ليس هو، ولكن من حيث أننا لا نعرفه ولا نمارسه غالبا(ومع ذلك نقدسه). إن الناظر الأمين إلى ما يجرى فى مجال البحث العلمى عندنا لا بد وأن ينتبه إلى أن كثيرا من ذلك لا يمت إلى البحث بصلة، بل لا يمت إلى العلم بصلة.
إعادة النظر فى هذه الجزئية من هذه القضية يحتاج منا إلى دراسة جدوى الأموال والوقت والعقول التى تستهلك فى هذا المجال، وأن نكف عن المقارنات مع الأعداء (إسرائيل بالذات) بالأعداد، وبراءات الاختراع، وما ينشر من أبحاث بشكل كمى إجمالى ننتهى منه إلى الشعور بالنقص الذى لا يترتب عليه إلا مزيد من التقديس دون الفعل، ومزيد من التسطيح دون فائدة تطبيقية حقيقية. إذا كان لنا أن نتعلم مما حدث، فعلينا أن نضع العلم فى موقعه النسبى بين وسائل المعرفة الأخرى التى يمكن أن نتميز بها أكثر (من حيث أن الدين، والإيمان، والحس الكلي، والوعى الشعبي، والتراث الشعبي، والفن والتجربة اليومية كلها مصادر موازية ومتكاملة مع العلم لتحقيق المعرفة). لعل فى ذلك نقطة انطلاق إلى ما يميزنا. ولو على مستوى يبدو بدائيا أو كليا أو خبراتيا، لكنه نوعى ضرورى قد يؤدى إلى أهداف أخرى إذا كنا جادين فى البحث عن فروق دالة بيننا وبينهم.
أما عن ما يسمى بالثقافة (بمعنى النشاط الثقافى، وليس بمعنى شبكية الوعى الجماعى) والنشاط التنويرى، فإنه يسرى عليه من حيث التحفظات والحرص على عدم التقديس بعض ما سبقت الإشارة إليه فى فقرة العلم مع اختلاف المحتوى والشكل. إن دور المثقف (والتنويري) لا بد أن يعاد النظر فيه بعد ما كان، حتى لا يصبح عبئا على تطور ناسنا فى اتجاه ما هم، وما تعد به طبيعتهم. إن لم يتغير دور المثقف بعد ما حدث ليحمل مسئولية مباشرة فى الإسهام فى التصحيح والإبداع، فنحن لم نستفد شيئا.
إننا أحوج ما نكون فى كل هذه القضايا إلى أن نعيد النظر فى دور المثقف المكتبى لحساب المثقف المبدع الملتحم بالناس المخترق للمشاكل (خصوصا المشاكل المستحيلة، أو التى تبدو بلا حل) خذ مثلا قضية الديمقراطية، نحن فى حاجة إلى ديمقراطية أخرى حتى لا يكون البديل هو الشمولية. خذ قضية الدين والإبداع والإيمان، لا أقول إننا فى حاجة إلى دين جديد، ولكننا فى حاجة إلى إبداع يوصل الأديان ببعضها البعض فى توجه ضام، لا يبعدها عن بعضها البعض بما أسميته فض الاشتباك، ولا يعمق تفضيل بعضها على بعض. من الذى يستطيع أن يغامر بفعل ذلك إلا مثقف مسئول بالمعنى الإبداعي، وليس بالمعنى الموسوعى أو الشكلى من أعلي.
خلاصة هذه الفقرة هى التنبيه على ضرورة إعادة النظر فى خدعة تصور حذق الشكل دون حقيقة الجدوى وصواب التوجه. يمكن أن يوصف بعضنا بأنه مبدع لمجرد حصوله على جائزة أو أن نصا له قد تمت ترجمته إلى لغة قوم أرقى منا وأسبق. كل هذا على العين والرأس، ولكن بغير أن نتجاوز الفرحة بالمظهر إلى الإسهام فى جوهر قضايانا الملحة فإننا نسهل لهم مهمة استعمالنا طوعا أو كرها. ومن ثم تكرار ما حدث.
(6) قضية الحروب التقليدية
تبدو هذه القضية أقل شمولا من القضايا السابقة، لكنها أكثر ارتباطا بما حدث بشكل يكاد يكون مباشرا. هذه الكارثة التى سميت حربا قد حسمت أمر نتيجة الحرب التقليدية لصالح القوى العمياء المدمرة شمولا. بل إنها جعلت هذه القوى أكثر غرورا وبجاحة. إن ما حدث، خصوصا بعد أن اكتسب نوعا من الشرعية بأثر رجعى (قرار مجلس الأمن رقم 1483)، يجعل حسابات الحرب والسلام تنتقل من حسابات قوة محلية مقابل قوة محلية (كذا طائرة وكذا دبابة مقابل كذا طائرة ودبابة عند العدو) إلى حسابات تربيطات عالمية، وتجاوزات إجرامية محتملة. أتصور أن النتيجة الحقيقية المباشرة التى ينبغى أن نتوقعها (إذا ما أحسنا قراءة ما حدث)، أن علينا أن نعيد تسليح أنفسنا للدفاع بشكل مختلف. لم يعد ثم مبرر أن تخصص البلاد العربية ثلث أو نصف دخلها، لشراء أسلحة تقليدية لن تستعملها إلا بإذن البائع ومشورته (بشكل ما). ما دام البائع قد كشف وجهه هكذا حتى أصبحت تربيطاته وصفقاته ظاهرة للعيان، فإنه لن يسمح لنا أن نستعمل أسلحته ضد حلفائه وشركائه، بل إنه سوف يتدخل بنفسه لحسم المعركة لحساب حليفه متى تجاوزنا شروطه المعلنة أو الخفية. إنه حتى لم يعد بحاجة إلى مبرر.
ليس معنى ذلك أن نسرح جيوشنا، أو نستغنى عن أسلحتنا قبل أن تصدأ. إن تراجع دور الحرب التقليدية يمكن أن يترتب عليه نتيجتان: إحداهما سلبية، مثلما حدث فى الرياض والمغرب ، بمعنى أنه مادام القانون قد نحى جانبا، والغدر وارد، والأبرياء ليس لهم اعتبار من جانب الأقوي، والحرب التقليدية أصبحت محسومة قبل أن تبدأ، فلا سبيل للمواجهة إلا بما أسموه الإرهاب الذى يمكن أن يعتبر حربا غير تقليدية بشكل أو بآخر.
الجانب الإيجابى للمسألة قد يأتى حين يدفعنا إدراكنا لضمور دور الحرب التقليدية إلى البدء فورا، وبمنتهى الجدية، فى الاستعداد الدائم لحرب المقاومة المستمرة سنين، وعقودا، وحتى نهاية العالم. هذا لا يتطلب فقط اقتناء أسلحة خفيفة، والتدريب على كل أنواع المقاومة من أول الدفاع الذاتى حتى القنص المحسوب حتى الاستشهاد المستمر، وإنما يحتاج تنمية نوع جديد من الشعور بالكرامة، وعلاقة جديدة بالموت والحياة، وثقة جديدة بالتطور وحتم النصر، ونوع جديد من الثقة فى الزمن والقدرة على تأجيل الحصول على نتيجة سريعة حاسمة. هذا الموقف الذى ينبغى أن يصبح جزءا لا يتجزأ من التعليم والإبداع والتدين والإيمان لا بد أن يغير نوع الحياة من أساسها، هو موقف معلن لا تتبناه جماعات سرية، وإنما يمكن أن يصبح أسلوب الدفاع عن الوطن بشكل واضح ومعروف مسبقا للعدو. وعليه بدوره – لو بلغه مدى جدية الناس عبر العالم فى هذا الصدد- ألا يفرح بنصر مبدئي. لأنه سوف يتيقن أن الملاييين الفلانية، فى الأرض العلانية ، قد تدربوا من سن 16 إلى خمسين (مثلا) على أن يتصرفوا بشكل تلقائى (ربما يصل إلى درجة الانعكاس البقائي) بمجرد أن يطأ أرضهم محتل ما، حتى لو استولى هذا المحتل على ما يشاء من أرض وسلطة خلال 24 ساعة. إنه بفضل هذا الدفاع الجاهز القادر على الاستمرار أربع وعشرين شهرا فأربع وعشرين عاما فمائة فألف..سوف تختلف الحسابات. هذه ليست دعوى أن تنقلب الحكومات الأضعف أعضاء فى نادى الإرهاب، إن حرب الاستنزاف التى تلت هزيمة 1967 هى النموذج الباكر لهذه الدعوة، كما أن أغلب المقاومة الباسلة فى فلسطين يمكن أن تكون كذلك.
العائد من هذا التحول لن يقتصر على كسب الحرب على المدى الطويل، بل إنه جدير أن ينقذ اقتصاد كثير من دولنا، وفى نفس الوقت سوف يغير نموذج حياتنا إذ سوف نعيش حالة استنفار لا تتوقف، وأيضا قد ينمى قدراتنا الإبداعية لاختراع أساليب جديدة للمقاومة لا تخطر على بال.
(7) قضية البنية الأساسية والاقتصاد
أعلم جيدا أنه ما كان ينبغى أن أؤجل هذه القضية حتى تأتى فى النهاية هكذا. كيف يمكن أن نتناول أى قضية مما اعتبرناه قضايا حقيقية وجوهرية دون أن نوفر الحد الأدنى للناس من مسكن ومواصلات وعمل؟ لكن علينا أيضا أن نتذكر أن الاكتفاء بتوفير الضرورة لا يعنى تلقائيا الانتقال إلى ما هو حرية. إن التوقف عند ترديد أن كل سلبياتنا (بل والسلبيات عبر التاريخ) لا بد وأن تكون نتيجة مباشرة (أو غير مباشرة) للافتقار إلى الاحتياجات الأساسية، أو سوء التوزيع، أو للاستغلال والاستعمال، هو قول حق لا جدال حوله، أما أن يكون هو كل الحق، فهذا ما جعلنى أضع هذه القضية فى النهاية دون الإقلال من أهميتها.
فى هذا الصدد ثمة أمور خطيرة ينبغى أن تقدم عليها الحكومات من أول سحب الأموال من بنوكهم حتى حتم الاكتفاء الذاتى ثم التبادل من موقع القوة.
ثمة أمور أخطر تنتظر الناس – إذا تيقنوا من ثمن الكرامة والحرية – أمور تتعلق بتغيير نمط الاستهلاك، وعلاقات الإنتاج مما لا مجال لتفصيله هنا الآن
وبعد
لا أتصور أننى قلت شيئا جديدا أصلا، وفى نفس الوقت أعتقد أن كل ما قلته جديد.
الأرجح عندى أن هذه الجدة التى تصورتها فى هذا التناول لا تأتى من ظهور فكرة كانت غائبة عنى أو عن غيري، لكن الفكرة إذا اقتربت من الوعى حتى لم تعد فكرة، فإنها تصبح شيئا آخر،لا أملك توضيحه أكثر.
اللهم فاشهد.