“يوميا” الإنسان والتطور
13-5-2008
العدد: 256
عن الإدمان والإيمان (2 من ؟؟؟)
من العلاج الجمعى إلى ما آل إليه الدين
ملاحظة من العلاج الجمعى:
نبدأ بملاحظة عملية محددة من خلال العلاج الجمعى عامة.
بعيدا عن الإدمان والإيمان – فى العلاج الجمعى – الذى أمارسه منذ 37 سنة بانتظام حتى الآن، لاحظت أن الذى يربط أفراد المجموعة بعضهم ببعض هو “كيان يتكون” داخل الدائرة، أكاد أراه رأى العين(1) لولا خشيتى أن أتهم بالهلوسة البصرية، كما تحاط المجموعة من خارجها بنفس الكيان وهو يضم الأفراد ويحتويهم، تشارك معه كل الأشياء والأناسى المحيطة – بما فى ذلك “الزمن المحدد للقاء والانتهاء” – وبقليل من الخيال (الذى اسميه هنا الامتداد) أدركتُ أن هذا الكيان ينمو مع نمو المجموعة ككل، وأيضا يتواكب هذا عادة- فى الأحوال الطيبة – مع نمو أفرادها فردا فردا. لاحظت أيضا أنه بقدر قدرة هذا الكيان الحقيقى (ليس تجريدا) على الامتداد إلى ما حوله وما بعده تكون قدرة الأفراد على إطلاق مسيرة نموهم امتدادا طولا وعرضا.
استلهمت من خلال هذه الملاحظة فهم بعض أجزاء معنى “اجتمعا عليه” “وافتقرقا عليه”، وامتد بى الامتداد إلى أن أرى أن هذا الرابط الجماعى، الذى لا يحل محل، ولا يستغنى عن الروابط الثنائية والثلاثية .. الخ. وهو يوثِّق ويُمَوْضِعُ العلاقات بين البشر، بما فيها العلاقات الثنائية الصعبة (ومن أصعبها العلاقة الزواجية)، يمتد طولا وعرضا إلى ما يجمعنا معا إليه.
طوال سبع وثلاثين سنة وأنا أتابع هذا الواقع الماثل أمامى مئات المرات فى آلاف الأفراد، بما فيهم شخصى، فنمى وعىٌ يقول إن هذا الذى يتكون، إذا كان من قوانين فاعليته وحضوره قانون التوازن الممتد، فهو لابد قادر على أن يكرر ما فعلناه أفرادا مع مجموعات أخرى أو مثله تكونت على شاكلته، ولكن فى ظروف مختلفة، وأن هذا القانون – قانون الامتداد وتكوين وحدات أكبر – سوف يظل يعمل تصعيدا واقعيا إلى مدى لا نعرفه .
من خلال هذه الرؤية كنت أشعر بالثقة والأمان، وأحيانا استعمل مضطرا ألفاظا دينية محدوده لأوصل توضيحا لما يجرى، لا يرتبط بدين بذاته، ومن أهم تلك الألفاظ لفظ الجلالة سبحانه وتعالى، لكننى كنت ألاحظ أنه بمجرد استعمال هذا اللفظ الكريم، خاصة فى بداية نمو المجموعة، مشيراً مثلا إلى أنه هو الذى يجمعنا عليه لنفترق عليه، أنظر حولى أطالع ماذا وصل للمجموعة، فأرجح أن معنى آخر غيرْ الذى أعنيه قد أبعدنا عن بعضنا بقدر ليس قليل من الاغتراب عن “هنا والآن”، عكس ما كنت أرمى إليه، ويظهر ذلك أكثر وضوحاً حين تضم المجموعة أفرادا من أديان مختلفة، وهو أمر يتواتر نسبيا، فكنت أتراجع لأعود للألفاظ الخالية من الشحن المسبق.
لاحظت أن الخطوات الإثنى عشر فى علاج وتأهيل الادمان لم تتحرج فى استعمال لفظ الجلالة بشكل مباشر، أو شبه مباشر، فى أكثر من خطوة، من هنا جاء إقدامى على تناول الموضوع بحرج أقل .
الإشكال فى تناول هذه المواضيع الحساسة هو الخلط الجاهز والمحتمل بين معانى الألفاظ التى نستعملها، وبين استقبالها عند كل فريق، وكلما اختلطت معانى الكلمات المتقاربة ببعضها البعض، زادت الحيرة وزاد سوء الاستعمال،فالدين غير السلطة الدينية غير الإيمان غير الروح غير الروحانية، وحتى الألفاظ المستعملة الثانوية فى هذه السياقات لحقها نفس الخلط، فالطمأنينة لها معانٍ كثيرة، وكذا الاعتراف والتوبة، والتوجه، والتسامح،… الخ.
لكل ذلك أرجو ممن يتابع هذه المداخلات أن يتروّى قليلا أو كثيرا قبل أن تقفز إلى ذهنه، إلى عقله، إلى وعيه، المعانى والمضامين التى أعتاد عليها عند سماع أى من هذه الألفاظ.
الإدمان والشباب والحاجة إلى دينٍ ما:
استجابة لدعوة للمشاركة فى ورشة عمل مع رجال الدين المسلمين والمسيحيين فى مصر للتوعية بدورهم فى الوقاية والعلاج من الإدمان. كلفنى المسئول بتقديم مداخلتين متكاملتين:
الأولى: عن الشباب والدين والإيمان والعصر والإدمان
الثانية: كيف يساعد الهدىْ الإيمانى والإرشاد الدينى فى الوقاية (فالعلاج).
وجدت ابتداءً أن هذا وذاك يتطلب إعادة طرح حاجتنا إلى الدين من منظور رحب متجدد، وهذا يتطلب تعريفا بالجذور البيولوجية والثقافية، والوجودية لكل من الدين والإيمان، خاصة وأن بعض الإدمان يبدو كأنه دين بديل بشكل أو بآخر له طقوسه، وفاعليته فى الوعى، ثم إن له آثاره السلبية فى مرحلة التدهور، هو دين يعلن به الشباب – احتجاجا سلبيا – أن المطروح عليه، من منظومات دينية رسمية جاهزة جامدة لا يملأ وعيهم، ولأن هذا الدين البديل (الإدمان) هو سلبى ومدمر خاصة أثناء عمق الورطة، فعلينا أن نقدم لهم الدين والإيمان بشكل يملأ وعيهم وقاية فعلاجاً، وأن أية عملية سطحية، أو شكلية ولو لبست ثوب الدين، لا يمكن أن تملأ وعيهم بما يحفز نموهم واستغناءهم عن دين زائف، أو دين بديل.
نبدأ أولاً بالنظر فى ما آل إليه استعمال (أو سوء استعمال) الدين حاليا:
أبعاد الزعم بالدعوة للعودة للدين
إن الدعوة إلى العودة إلى الدين ليست – فى كل الأحوال – دعوة خالصة ولا مخلصة تماما، وإنما هى قد تمثل نوعا أخر من التهميش والاختزال، وفيما يلى بعض ما صار إليه استعمال الدين (أو ما يقال عنه دينا) فى العصر الحاضر
1- كثير من الناس (والمجتمعات) يستعملون الدين بعض الوقت، كنشاط اجتماعى أوترفيهى، فى عطلة نهاية الأسبوع،
ويبدو هذا استعمالا غربيا توفيقيا طيباً، فهو يسمح للمتدينين بقضاء فترة محدودة يمارسون فيها نشاطا اجتماعيا جادّا، مع جرعة مناسبة من الود والحلم، يتم ذلك فى دور العبادة فى نهاية الأسبوع عادة، أو كلما عَنَّ لهم ذلك. إن من يمارس أو يوصى باستعمال الدين بهذه الصورة يؤكد عادة أن الدين أمر شخصى تماما حتى يصبح – من واقع الممارسة – أقرب إلى الهواية الفردية الدمثة.
هذا استعمال قد يؤدى دورا اجتماعيا مفيدا، لكنه أسطح من دور الدين والإيمان فى تحقيق بشرية البشر من حيث عمق الجذور البيولوجية التى يتجلى من خلالها الإيمان عبر التاريخ .
2- جَمْعٌ آخر راحوا يستعملون الدين كمسكن كلما لزم الأمر، (وحتى إذا لم يلزم الأمر).
هذا هو ما التصق بنوع من السكينة يحققها التدين الاستسلامى أو التسليمى. ارتبط هذا المفهوم بمقولة “النفس المطمئنة” بمعنى السكون والتسليم. إنه مثلما يحدث فى الطب النفسى، فإن تحقيق السَكينة يمكن أن يتم بنوعين من المعالجة: إما بتهميد الجزء المفرط النشاط من الدماغ أو من النفس بتعاطى بعض العقاقير القادرة على ذلك. وإما باحتواء هذا الجزء الناشز للإسهام فى هارمونية التوازن الكلى تناغما مع ما بعده (الغيب) إلى وجه الله.
الذى حدث فى حالة استعمال الدين مسكنا مؤقتاً أو دائماً هو أنه قد بولغ فى التركيز على مفهوم جزئى للنفس المطمئنة كغاية فى ذاتها، تكاد ترادف فعل التدين. إن المبالغة فى تصوير دور الدين فى تحقيق السكينة بالمعنى السلبى هو اختزال يخل بالمعنى الذى تقدمه حركية الدين: كدحا إلى وجه الله. حتى النفس المطمئنة التى ذكرت فى القرآن الكريم، لم ينتبه من استعملوها جزئيا إلى أن الاطمئنان الذى توصى به الآية إنما يتحقق وهى راجعة إلى ربها راضية مرضية، مرورا فى عباده (فادخلى فى عبادى)، ومن ثَمَّ جنته تعالى. (وادخلى جنتى).
3-هناك مَنْ يستعمل الدين كوسيلة لغيره، مثلا للوصول إلى السلطة السياسية .
الأمر فى هذا الصدد لا يحتاج إلى دليل بعد ما جرى مؤخرا فى الولايات المتحدة، وبعد ما يجرى حاليا فى كثير من البلاد الإسلامية التى يستعمل فيها النظام الحاكم، أو النظام الذى يريد أن يحكم سلطة الدين وهو يتصور أنه سوف يغير نوعية الحياة إلى كيف خلقها الله كما قرر هو (كقائد سياسى) وليس بالضرورة كما أرادها الله. وهذا أمر لا يمكن الاطمئنان إليه بمقاييس السياسة المعاصرة.
4- ثَـمَّ فئة ليست قليلة تستعمل الدين كوسيلة للتربح والاحتكار وقفل دائرة التعامل على أهل دين بذاته، أوفئة منهم
وهو أمر وارد سواء بالنسبة للأقليات الدينية أو لجماعات من الأغلبية ميزت نفسها بتجمعات خاصة (تصبح أقلية بالضرورة).
5- ظهرت موجة خبيثة بعد انهيار الاتحاد السوفيتى تستعمل الدين تبريرا لما يسمى صراع الحضارات.
المفروض أن الحضارات تتعاون، وتتتابع، وتٌتَـوارث لا تتصارع بالضرورة.
الأديان الحقيقية لا تتصارع لأنها حضورٌ دائم متجدد، وليست تاريخا جامدا قامعاً.
إن الذى يتصارع هو أهل حضارات وأديان لم يعودوا أهلها، ولا أهلاً لها.
6- يستعمل الدين لتفسير بعض العـلوم والمعلومات، وبالعكس
ما شاع أخيرا حتى بدا أنه الحق هو ما يسمى “التفسير العلمى للنصوص الدينية”، وهو نشاط حسن النية أغلبه، سطحى خفيف ضارٌ فى نهاية الأمر. ذلك لأنه يدل على جهل خطير بكل من الدين والعلم على حد سواء. الدين هو أقدم تاريخا وأرسخ قدما، و أكثر عمقا وإفادة لتأكيد ماهية الإنسان،أما العلم فهو إنجاز عملى أحدث، وهو فى حركية دائبة متجدده، لا يعنيه أن يستمد مصداقيته من الدين، ولا الدين الحقيقى يحتاج إلى مباركة العلم أو موافقته ليفيد البشر ويهديهم.
7- يستعمل الدين كوسيلة لقهر أو وأد الإبداع.
إن قياس كل ما يصدر من جديد فى أى مجال بتفسير محدود لنص دينى معين يمكن أن يجهِض – فى نهاية النهاية- أية محاولة لإعادة وضع الدين والإيمان فى موضعهما التطورى المناسب. إن الإبداع الجاد المثابر هو السبيل الأساسى لتواصل النمو الذاتى، ومن ثم اطراد تطور النوع البشرى بعد أن اكتسب الوعى، فكيف يقف الدين فى وجه أى من ذلك؟ إن الدين الصحيح إنما يشجع الإبداع الذى يفتح الطريق للنمو الدائم من المهد إلى اللحد وبعده.
8- أخيرا وليس آخراً استعملوا الدين تبريرا للاستيلاء على أوطان الغير، وطرد أهلها- وقتل الأطفال.
وهل يحتاج الأمر للإشارة إلى الدولة العبرية أو إلى أمريكا فى أفغانستان والعراق؟ أو إلى الأندلس قديما؟
فى مراحل معينة من التاريخ اسُتعمل الدين كمبرر من أقوى الدوافع لإفناء البشر من الديانات الأخرى تحت زعم هدايتهم، أعنى هداية من تبقى منهم، إلى دين بذاته.
وبعد
كل هذه الاستعمالات ليست بسبب أن الدين – أى دين- يسمح بأىٍّ من ذلك، وإنما هى تعلن واقع الحال الذى آل إليه استعمال من تصدوا لاحتكار الدين من ناحية (السلطة الدينية) أو لتهميشه من ناحية (السلطة المدنية الهروبية).
المطروح إذن لاستعمال الدين فى مساعدة البشر لاستعادة توازنهم الخلاق يحتاج إلى مفهوم أرحب وحركية أنشط، ولعل هذا هو ما ألجأ أساليب علاجية مختلفة إلى اللجوء إلى تسميات أخرى مثل “الروحانية” أو غير ذلك.
قبل أن نستطرد دعونا نطرح هذه الأسئلة حتى الغد:
1- هل هناك فروق جوهرية بين الأديان؟
2- هل ثم فرق بين الدين والإيمان؟
3- ما علاقة ما يسمى الروحانية بالدين؟
4- ما هى علاقة السلطة الدينية بالدين والإيمان؟
5- هل ثمة علاقة بين الدين والبيولوجيا (بالمعنى الأشمل) ؟
[1] – وإلى درجة أقل لاحظت ذلك أيضا فى علاج “الوسط” فى المجتمع العلاجى، لكننى سأقصر إشارتى إلى العلاج الجمعى هنا.