اليوم السابع
الثلاثاء: 29-4-2014
عن الأمّيـة والثقافة الإعلامية الكلامية الاستقطابية
كنت – ومازلت – أخجل من إبداء رأيى المضاد للسائد، وأنا أدافع عن الأمّية باعتبار أن الأميين قد تكون لهم فرصة أكبر فى التفكير التلقائى والتساؤل بعيدا عن قهر الكلمة الجاهزة المطبوعة، ثم عايشت مؤخرا تمادى إغارة وسائل الإعلام المسموعة والمرئية على وعْى الملايين الأميين فزاد فزعى حين تصورت عجز الأمية السليمة عن صد هذه الإغارة الجديدة على الفطرة البشرية السوية.
اعترضت يوما ما (الأهرام: 11/11/1979) على ثقافة وسائل الإعلام المسموعة والمرئية، واتهمتها أنها لا تصل إلى العقل من خلال مسالك حوار خلاّقة، تحفز التفكير وتثير التساؤلات، ولكنها تُغَلَّف فى كلمات إخبارية أغلبها يقينية، بحيث تنهى كل حديث، أو نقاش، بنصيحة مسطحة، أو جملة فخر خفية، أو تعبير مديح ساذج، وذلك فى محاولة إغراء سامعها أو رائيها بأن الأمور المعضلة قد حلت جميعها والحمد لله، بفضل هذا الضيف الكريم فى بعض الحالات، أو بفضل ألمعية المذيع أو مقدمة البرنامج فى أغلب الحالات، والمتوقع أن ترتسم ابتسامة عريضة على وجه المنتفع المشاهد تترجم عما تم حشره – سابق التجهيز – فى مخه، وخلاص، ثم تطورت المسألة وظهر بإلحاح ما يسمى “التوك شو” الذى ينهى اللقاءات ليس فقط ببث يقين مسطح وإنما باستقطابات مشلَّة، فيختزل التفكير السليم للأمى وغير الأمى إلى “إما…أو”.
تصورُ أيضا فى شطحاتى القديمة أن عبقرية الإعلام قد وصلت إلى تكنولوجيا استعمال نظرية “الأوانى المستطرقة” فى نقل المعلومات إلى وعاء العقل البشرى، وهذه النظرية تقول إن السوائل تنتقل من الإناء الأعلى إلى الإناء الأسفل حتى تتساوى الأسطح، ولعل خضوع المشاهد لهذا الإيحاء الضمنى هو الذى يجعله يفضل مشاهدة التليفزيون فى “الوضع راقدا” أو مستلقيا، حتى يسهل عملية انتقال المعلومات بالجاذبية السلبية!! وهكذا ينقلب العقل البشرى من كيان معقد رائع مواجهه متحدٍ خلاّق.. إلى إناء فارغ متلق مستسلم، وبذلك لا تعود المسألة حوارا مع كلمات كاتب سطر ما كتب، ولا تحديا لرأى منشور، ولا بحثا فى نقاش حى عن قضيةٍ “متحركة، ولا حيرة أمام الهوة بين الكلمة والفعل، ولا تساؤلات ذكية مُفِيقة، بل إجابة وأجوبة تثير المزيد من التسليم المطاوِعى، فالقنوات الإعلامية تعطينا الأجوبة الجاهزة على الناحيتين فى الدنيا والآخرة على حد سواء وكل ما عدا ذلك فهو ممنوع من البث.
وإنى لأشفق أشد الإشفاق على القائمين على الإعلام، حيث أكاد أتصور الواحد منهم وهو محدد الخطوات مكرر الكلمات، خوفا من مسئولية التلقائية ومغامرة التفكير، حيث السيوف المسلطة تحيط به من كل جانب من أول الرئاسة المباشرة حتى الرئاسة الأعلى، ومن أقصى تشنج الردود السلفية الجاهزة إلى أقصى صياح الكوادر “الثورية” الثابتة، ورحمة الله على فضيلة الدهشة ونبض التفكير، فكيف نطلب منهم أن يثيروا فينا شرف التساؤل، أو أن يحافظوا فينا على فضيلة التقشف النفسى وهو وقود الحضارة ومُخْصبها؟! إن المحروم من الشىء لا يستطيع أن يدافع عنه فضلا عن أن يعطيه.
لقد أصبحت أكثر تصديقا للتعبير الذى ابتدعته ليصف الإعلام من ثلاثة عقود حين أسميت ساعات الإرسال باسم “مبيدات الوقت الإعلامية”، وكان ذلك على اعتبار أن “قتل الوقت” أصبح واجبا قوميا حتى لا ندع فرصة للفراغ يتحرك فيهاالتفكير والإدراك والوجدان لما خلقهم الله من أجله، وكأن كل ما هو على وسائل الإعلام أن تقوم به هو تقريب المسائل إلى أقرب واحد صحيح، بحيث تحافظ علينا حتى لا نتذبذب فى بحث جاد، أو نضيع فى تساؤل غامض، حتى ولو كان هو الدليل على روعة تكريم الله سبحانه للبشر.
أنا لست يائسا بحال لأنى لا أملك ترف اليأس، بل لعل كل ذلك هو الباعث إلى الأمل بلا حدود، لأن استمراره مستحيل، ذلك لأنه يعنى انقراض نوعنا كافة، هى مسئولية مضاعفة وتزداد صعوبة كلما زادت عدد المحطات والفضائيات عامةوخاصة، إن مهمتنا جميعا، وإعلام الدولة فى المقدمة، شديدة الصعوبة، فسياسة السوق وتسطيح الوعى، تجرنا بعيدا عن جوهر حمل أمانة الكلمة والصورة فالمعنى، ولكنها مهمة لا بديل عنها، وقد اكتشفت أنها ممكنة من واقع خبرة العلاج الجمعى فى قسمنا بقصر العينى لمدة أكثر من أربعة عقود حتى الآن، خبرة العلاج الجمعى مع عينات متعاقبة من الشعب المصرى الفقير (ثلثهم أميون فعلا وأكثر من نصفهم أميون بمعنى البعد عن التأثر بأكوام الورق المطبوع الملىء بسواد الكلمات)، هذه الخبرة – العلاج الجمعى – ليست مقصورة على المرضى، وقد يسمح لى هذا الموقع الكريم أن أعرض بعض عينات منها توضح ما أقصد بالأمية الفعلية، والأمية الثقافية، والأمية الإبداعية، وحضور كل ذلك عند الأسوياء قبل المرضى.