نبذة: صدر العدد الأول من الأهرام فى 5 أغسطس سنة 1876 وأعيد إصدار العدد الأول فعلاً، وهذا المقال قراءة فى هذا العدد يظهر، دور الصحافة، وبعض ماورد فى هذا العدد كأمثلة مثل الحديث عن الأنانية والحرب والسلام.
الأهرام 10-8-2001
[قراءة فى العدد الأول من الأهرام 5 أغسطس 1876]
عن حب النفس، والأنانية، والحرب، والسلام
كيف نقرأ التاريخ، وما هو موقع الصحف اليومية فى تسجيله؟ يعلمنا المصرى العالم الجميل الجليل د. يونان لبيب رزق كيف نقرأ أنفسنا إذ نراجع ما سبق نشره فى الأهرام ‘ديوان للحياة المعاصرة’. كلما قرأت فصلا من كتاباته تجسدت لى الحياة آنذاك صورة ماثلة، ثم قد أنتهى إلى أحكام ورؤى، أو قد تحضرنى فروض واحتمالات، أو قد أمتلئ حسرة وأسى، أو قد أفرح وأستعيد آمالا كادت تتوارى تحت ضربات الحاضر،يحدث ذلك حسب ما يصلنى من رسائل، فى حالة بذاتها أكونها ساعتها، وفى كل الأحوال يزداد تعرفى على نفسى أكثر، وعلى ناسى . أجد نفسى فى غير قليل من الأحيان أعيش مقارنة مؤلمة تفرض نفسها على وأنا أنتقل مما يعرضه هذا المصرى الجميل إلى ما هو منشور فى نفس العدد بتاريخ اليوم، وأتصور مؤرخا يكتب عنى وعن ناسى بعد مائة عام أو أكثر أو أقل، وأتساءل: هل الصحف اليومية ديوان تسجيل مناسب، وما هى الوسيلة الأكثر مصداقية لتناسب ‘المنشور مع الواقع؟
ليس هذا هو موضوع هذا المقال، الحكاية أن هذه ‘المؤسسة/ التاريخ’ قد أهدت قارئ الأهرام – وسط فيض إهداءاتها مؤخرا- العدد الأول من الأهرام الصادر منذ قرن وربع قرن. فرحت به فرحا شديدا، ورحت أقرأ ما تيسر من موضوعاته وقد تداخلت بلا عناوين فاصلة، وفوجئت بمقال بغير توقيع (مثل غيره) يتحدث عن الطبيعة البشرية، ويفرق بين حب النفس الفضيلة، وحب النفس ‘الطمع غير المرتب’، يفعل ذلك وهو يجرى قياسا بين الفرد والأمة، ويشرح كيف يتكون التعصب، فالاستعلاء، فالحروب والاستعمار. كل هذا بأسلوب سهل، وعمق غائر.
قبل أن أدخل فى عرض بعض ما عن لى أثناء قراءة هذا الموضوع أود أن أذكر نفسى بمعنى قراءة الصحف اليومية، (ثم المجلات ..إلخ) وبالتالى مسئولية تحريرها. أبدأ من قول لم أفهمه بحقه إلا مؤخرا وهو إشارة ‘هيجل’ كيف أن ‘قراءة الصحف اليومية هى صلاة الإنسان المعاصر’، فهمت هذه العبارة أخيرا من منطلق أن القراءة هى ليست للتلقى السلبى.
تكون القراءة صلاة حين تكون نقدا ، ووعيا، وحوارا، وحفزا، وتحديا يصل إلى حد العراك أحيانا. كثيرا ما أسأل أحد طلبتى أو المتدربين على يدى-ونحن نفحص مريضا أو نعرض علاجا – عن خبر أو مقال فى صحيفة اليوم أو أمس، فيجيبنى بفخر أو استعلاء، لا بخجل أواعتذار – أى والله – ‘أنا لا أقرأ الصحف’، فأثور، وأحتج: كيف يعالج مرضاه، ويفهم ناسه، دون أن يتابع ما يكتب عنهم، أو ما يكتب منهم.
أصبح للصحف أكثر من دور فى حياتنا المعاصرة، ويزداد دورها أهمية كلما ازدادت التحديات والبدائل (مثل وسائل التواصل والإعلام الإلكترونية الأحدث). لست هنا فى مجال تعداد هذه الأدوار، ولكننى أشير إلى عناوين بعضها مثل (ا) الإخبار (ب)والتسجيل (جـ) والإنذار (ء) وقراءة الرأى العام (هـ) وتشكيله (و) والإعلان (ز) والتنوير (حـ) والترويح (ط) والمواساة (ى) وتبسيط العلوم والمعارف (ك) ثم عرض ‘القضايا، والآراء’ للحوار، وغير ذلك كثير كثير. بهذا تقوم الصحافة بوظيفة معرفية، وتتحمل مسئولية أخلاقية وتربوية لا تكاد تقارن بأى مؤسسة أخري.
هل كانت الصحافة كذلك طول عمرها، أم أن هذه الأدوار والوظائف قد استجدت عليها؟
إن هدية الأهرام الغالية هذه، (أول عدد)، تساعدنا على الإجابة عن هذا السؤال فيما يختص بالدور المعرفى الخاص الذى تقوم به الصحافة ، والذى يتمثل فى أهرام اليوم فى هذا الباب خاصة ‘قضايا وآراء’، ثم فى الصفحات المتخصصة على تنوعها.
فى هذا العدد الأول، وتحديدا: فى هذا المقال’المحشور’ فى أول صفحة، ما يقرب من عامود ، ناقش الأهرام قضايا متعددة كم شغلتنى طويلا، ولم أحسم رأيى فى كثير منها حتى الآن،وفيما يلى بعض ذلك:
[وسوف أقدم المقال بحروفه كما نشر، فالاجتزاء فى هذا الظرف، بعد قرن وربع ، قد يخل بالرسالة التى أريد توصيلها ، وقد يسمح لى بحركة تأويلية ذاتية أكثر مما أسمح به لنفسي. سوف أقدم ‘المقتطف’ أولا، ثم إلحقه بـ’موقفي’ منه]
(الأهرام 5 أغسطس سنة 1976 العدد الأول)
كيف ما وجه العاقل أفكاره باحثا عن حركة العالم الإنسانى يرى فروع الحوادث راجعة إلى أصل واحد، أنتج نتائج متعددة أوجبت تشعشعا مستمدا من عدم ثبوت الحال عل نمط بالنظر إلى السلام وعدمه.
المقتطف:
نشر هذا الكلام فى الصفحة الأولى، دون عنوان يشير إلى أنه مقال عن النفس الإنسانية، أوعن السلام، أو عن حركة العالم، كما لم يكتب اسم كاتبه أصلا،ولا تحددت نهايته إلا بخط متوسط مهزوز. نلاخظ منذ البداية بعض العموميات كما يلي:
(1) الاهتمام منذ هذا التاريخ بمخاطبة العقل ودعوته ‘للامتداد إلى العالم، باحثا عن حركة العالم الإنساني’. الهم واحد، وما يروج له الآن من عولمة ليس جديدا، بل إن الامتداد الذى دعا إليه المقال يبدو أكثر انتماء إلى وحدة العالم، وأيضا إلى محاولة فهم القواعد الأساسية التى تحكم سلوك البشر أفرادا، فجماعات.بدا لى الأمر أكثر انتماء وجدية مما يجرى الآن من دعواى العولمة والكوكبة وما شابه، مع فارق السرعة، وشبهةالإغارة، وغموض الدافع.
(2) إن هذه الدعوة بإعمال الفكر إنما توجه للقارئ العادى فى صحيفة يومية
(3) إن الانشغال بـ’السلام’و’ضده’ هو هم من هموم الإنسان منذ ذلك الحين.
المقتطف:
…ولو أشغلنا الفكر مليا للوقوف على حقيقة تلك النتائج العظيمة لقادتنا ضرورة هذه الحقيقة إلى البحث البسيط والإفرادى بالنسبة إلى الشخص الواحد حيث يتركب الجمع من المفرد، وحينئذ يسهل علينا أن ندرك هذه الأمة أو تلك المملكة مع عظمها وسؤددها وسطوتها الأدبية والمادية بالنسبة إلى جرى أعمالها ومسير حركاتها فى ساحة الهيئة الاجتماعية واختلافها عما سواها ومراقبتها من دونها بأية حالة كانت.
الموقف:
هذه القضية لم تحسم حتى الآن، قضية أن ما يسرى على الفرد يمكن أن يسرى على الجماعة قياسا موازيا. ينكر علم النفس الاجتماعى، عادة، هذه المقولة، لكن الملاحظ أن كثيرا من التفسيرات والاجتهادات المتنوعة تنهج هذا النهج القياسى، إذ تحاول -خطأ أو صوابا- تفسير سلوك المجاميع وكأنها كيانات فردية. هذه القضية الخلافية بدأت منذ مقولة أفلاطون أنه ‘مثل الإنسان ..مثل الدولة’. كتب أفلاطون جمهوريته باعتبارها دراسة للنفس الإنسانية اضطر أن يقوم بتكبيرها إلى ما هو دولة حتى يمكن النظر إليها بتمعن وتفصيل (معظم الناس ينسون هذه الحقيقة التى أكدها أفلاطون فى مقدمة الجمهورية ويتصورون أن الجمهورية هى نظام سياسى، وأنها يوتوبيا واعدة، وليست محاولة لفهم النفس الإنسانية، ومن ثم فهم العالم).
المقتطف:
…ومتى بحثنا مدققين فى الفرد الواحد ذاته وقابلناه بالنسبة إلى غيره، لاح لنا من وراء الحجاب تلك الصفة الغريزية التى لا يخلو منها إنسان، ولا تحول عن أحد، فهى كقول من قال: عادة فى البدن لا يغيرها إلا الكفن. وإن أردنا أن نعبر عن هذه الصفة بما يدل عليها، فتدعونا الأفكار متسابقة إلى التصريح بها بقولها حب الذات، حب الذات.وبالحقيقة أن هذه الصفة الغريزية مستقلة فى كل فرد ولها عليه دواع ودعاو، فهى الأميرة المطاعة والسلطانة المطلقة التصرف، ولا ننكر أن هذه الخلة هى من الخلال الغريزية التى تحل الإنسان محل الشرف وترفعه من عمق الكسل والتهاون، فيتزين برداء الفلاح ويتكلل بتاج التقدم فيها وعليها مدار سيرته وإنفاذ أمره.
الموقف:
اعتبار حب النفس غريزة، وفى البدن، بداية مهمة لتفكيرعلمى وواقعى، ثم اعتبارها غريزة إيجابية يذكرنا بما آل إليه الفهم الخاطئ (شبه المثالي) من التأكيد على مقابلة ما هو أنانية (كرذيلة) بما هو إيثار(كفضيلة). يذكرنا هذا الموقف الإيجابى من حب النفس (كنقطة بداية، وحافز للطموح، والتفوق) بما ذهب إليه حديثا ‘إريك فروم’ من التركيز على ضرورة التفرقة بين ‘حب النفس’Self Love و’الأنانية’Selfishness.إن حب النفس سمة إيجابية وضرورية ولازمة للانطلاق إلى الآخرين من موقع ناضج. لا يوجد ما يطمئن إلى موضوعية حبنا للآخر (الموضوع) إلا مرورا من حب النفس إلى حب الناس، وبالعكس.
ثم لاحـظ وصف حب النفس بأنه غريزة ‘تحل الإنسان محل الشرف وترفعه من عمق الكسل والتهاون’. إن ما يسمى بالشخصية غير الكفء Inadequate Personality تتصف، رغم الطيبة والمطاوعة الظاهرتين، بأن صاحبه اخال من الطموح، عاجز عن المبادأة. هذا ما انتبه إليه هذا الكاتب، ليثبته فى صحيفة يومية تصدر فى مصر منذ قرن وربع. إن من أهم الصفات الأخلاقية التى تحتاج إلى مراجعة هو ما يسمى ‘الطيبة'(!!) ذلك النوع الذى عرته الأغنية الشعبية وهى تقول ‘ دا لا هو طيب ولا حاجة، داهبل وعبيط’ !!، . أنظرهذا الكاتب فى الأهرام منذ قرن وربع، وتساءل معى عمن يخاطبه من القراء بكل هذا العمق وهذا الحدس (قبل فرويد وقبل يونج).
إنها وظيفة الصحافة المعرفية، يؤكدها الأهرام من أول عدد.
[قراءة فى العدد الأول من الأهرام 5 أغسطس 1976]
عن حب النفس، والأنانية، والحرب، والسلام (1 من 2)
يحيى الرخاوي
إشارة إلى ما جاء بالجزء الأول:
تعرض الجزء الأول من هذا المقال إلى ما كتب فى العدد الأول من الأهرام حول فرض يقول: إنه ‘مثل الفرد مثل الدولة’Like man Like state، وإن فهم طبيعة الفرد يساعد على فهم طبيعة الدولة، وإن تفسير الحرب والسلام قد يتبين إذا نحن فهمنا الطبيعة البشرية كما ينبغى، ثم عرض المقال مداخلة تقول: إن حب النفس غريزة يشرف بها الإنسان، لأنها دافع طيب نحو النجاح، ومبرر مناسب للطموح.
نكمل القراءة فى هذا الجزء بتكملة للفرض تقول: ‘ إذا تجاوزت هذه الغريزة (حب النفس) حدودها، وفقدت نظامها، تصبح مدخلا إلى الطمع ‘غير المرتب’، فالتحزب المتعصب، فالاستعلاء، فالظلم، فالحروب. يقول المقال استطرادا:
المقتطف:
…. ولكن نستجير من الله منها(من غريزة حب النفس) إذا تجاوزت تمام الترتيب وكانت غير محاطة بدائرة الاعتدال التى نقطة مركزها، مهما ترد أن يفعل الناس بك افعل أنت بهم، حيث لاتتساوى خطوطها بالنسبة إلى خط الدائرة، بل تذهب بالخط المنحرف إلى زاوية الانعكاس طمعا بزيادة الاستيلا فتنتج الطمع غير المرتب الذى يصور لكل إنسان استيلآ ما لسواه له، فلا يراعى حرمة زيد ولا يسأل عن حقوق عمرو،وكأنه يقول لا يوجد غيرى على وجه الكرة، فتراه مشتغلا دون انكفاف بالحصول على ذاك، والقبض على تلك إلخ.
ولدى وقوفنا على هذه الحالة الحقيقية المتعلقة بالواحد، لا يصعب علينا الوقوف على الحقيقة المتعلقة بالاثنين أو بالثلاثة وهلم جرا.
الموقف:
من هنا يبدأ المقال فى التمييز بين الاعتدال والتوازن فى ناحية، فى مقابل الانحراف حتى تؤدى نفس السمة عكس ما كانت تعد به،( أى: حتى تصبح السمة الإيجابية سلبية). لاحظ العوامل التى يمكن أن تقلب الإيجاب (فضيلة) والتى يمكن تحديدها في: (1)تجاوز الاعتدال و(2) فقد الاتساق (عدم الترتيب) ثم(3 ) عدم تحرى العدل حتى تنسى (ا) أن ثمة ناسا (الآخر)(ب) أنك ينبغى أن’ تعامل الناس بما تحب أن يعاملوك به’.
إن نتاج كل ذلك هو ‘الطمع غير المرتب’ الذى يصل بك إلى أنه ‘لا يوجد غيرى على وجه الكرة’ (لاحظ: لم يقل الكرة الأرضية، وهذا أجمل).
كل هذا وهو يتكلم عن الفرد، لكن هذا ليس هو المقصود من المقال أساسا، ذلك أن مدخله كان تساؤلا عن السلام، وعما يجعل الناس يتفرقون إلى قبائل متناحرة حتى الحرب. يتدرج الحديث فورا إلى الإشارة إلى أن هذا الوجه السلبى لحب النفس، نتيجة للطمع غير المرتب، هو الذى يتكرر فى المجاميع وهى تتكون وينضم أفرادها إلى بعضهم البعض ليصبحوا قبائل متناحرة من حيث أن الذى جمعهم هو التميز عمن سواهم، لا التعاون فيما بينهم إلى من سواهم. وبصياغة أخرى: إن فضيلة حب النفس تشترط عدم إلغاء الآخر، أو الاستعلاء عليه. إن تجمع الناس بعضهم إلى بعض شعوبا وقبائل يتماثل أفرادها مع بعضهم البعض إنما يعنى أنه تميز للتجمع معا لتأكيد الاختلاف عن الآخرين، فالالتقاء بهم. ‘وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا’. أما إذا كان الاختلاف للتميز،والاستعلاء، بما يترتب عليه الوصاية والاستعمار، تحت دعوى التنوير والإعمار، فهذا هو الخبث الزاحف ، والتمييز الخطير. كما يلي:
المقتطف:
……إذا لاحظنا انضمام الأول إلى الثانى دون الثالث وانضمام الثالث إلى الرابع دون الخامس حيث يتألف من ذلك قبيلة شمالية وأخرى جنوبية الواحدة غربية، والثانية شرقية إلخ. وعند الاتحاد الأدبى يصدر المادى، فتجتمع المقاصد، ويرجع كل منهم إلى مبداه، فيتحد هذا مع رفيقه لعدم التباين فى الوضع، فيرون من دونهم من القبائل أو من الممالك بالطمع المتسلط ويرجعون بالتكاتف والتعاضد إلى اعمال ما يخفف طمعهم من الاستيلا على سواهم، وإحرازهم تحت مطلق تصرفهم من يكون مستقلا عنهم، `وقس…
الموقف:
لم أستطع لأول وهلة أن أفهم كيف أنهم يخففون طمعهم من الاستيلاء على سواهم، تمنيت أن تكون خطأ مطبعيا، وأن يكون النص الأصلى هو ‘يخفي’، لا ‘يخفف’، إن صح ذلك فلعل الكاتب يشير إلى خدعة تبرير الاستعمار، بأن يزعم الذى يتصور نفسه أرقى وأكثر حضارة أن له الحق فى أن يستعمر من دونه ليرتقى به أو يعمر أرضه ، وهو فى واقع الحال إنما يزيد تعاليا، واستعمالا لمن يعتبرهم دونه، الأمرالذى أصبحت له صورة عصرية أخرى تجرى تحت مزاعم ما يسم بـ’حقوق الإنسان، ونصرة الأقليات، والتأكيد على الديمقراطية وما شابه ذلك.
على أنه يبدو أن هذا الإخفاء (أو التخفيف!!) لا يصلح، فسرعان ما يعلن الأمر، ويكشر العدوان عن أنيابه، ويختفى السلام.
المقتطف:
…، فيجاهرون بالعدوان ويفزعون إلى هدم الراحة ليستروا نبراس السلام بكثافة غيوم الحروب والقلاقل غير مبالين بما هنالك من تشويش الأفكار وانقلاب مركبات الأعمال بتعطيلهم مسالكها القويمة، كأنهم هم العالم وليس سواهم.
الموقف:
لاحظ أيضا التدرج الذى أدى إلى أن تحل غيوم الحرب محل نبراس السلام، وكيف أن المسألة مرتبطة بـ ‘تشويش الأفكار، وانقلاب مركبات الأعمال..’. إن الحرب منذ كانت، هى مسألة غير منطقية مهما كانت تبريراتها، ثم إنها أصبحت أقرب إلى الجنون فى صورتها الأخبث والأحدث (القتل عن بعد، دون فروسية أو مواجهة ، مثلما حدث منذ البوسنة حتى فلسطين مرورا بكوسوفو)، الحرب ليست فقط مخالفة للطبيعة، وضد الحياة، بل إنها مسألة ضد المنطق ودليل على تشويش التفكير. إنها ضد الفطرة الإنسانية السليمة حتى لو ثبت رسوخ جذورها فيما قبل الإنسان. الحرب اضطرار لمنع الحرب هو الأمر المنطقى الوحيد (ولو مؤقتا) لتبرير قتل الإنسان للإنسان تحت اسم ‘الحرب’.
المقتطف:
…فنرى إذ ذاك تغيرات شتى وانقلابات عديدة ومقاصد متنوعة ومذاهب مختلفة وتضعضعا مستمرا من حركات متجاذبة متدافعة.
الموقف:
هذا التداعى الذى تتداعى به الحروب، وكأنها بمجرد انطلاقها تتمادى بالقصور الذاتى، ولا يعرف أحد كيف يوقفها ، صوره الشاعر العربى حين قال:
وما الحرب إلاما علمتم وذقتموا وما هو عنها بالحـديث المرجـم.
متى تشعلوها تشعلوها ذميمة ، وتضرى إذا ضريتموها فتضرم.
المقتطف:
…فنلتزم وقتئذ بعد معاناة البحث أن نرجع هذه الفروع إلى أصل واحد أنتج هذه النتائج، وندعوه بالمقال، ودليل الحال: حب ذات غير مرتب، أصدر طمعا فعل ما تري.
وهكذا يختتم الكاتب مقاله بالتذكرة بالفرض الذى اقترحه كبداية لتفسير غباء، و’لاترتيب’وأنانية، وظلم الحروب، وأن ذلك يرجع إلى حب ذات’غير مرتب'(التعبير الذى استعمله المقال)، يصدر عنه طمع غبى، ومن ثم، فهو التعصب فالاستعلاء فالحرب والضياع للجميع.
الحرب الكارثة (الطمع غير المرتب)، الحرب الانقراض هى شارون وما يمثله.
هو ومن على شاكلته هم أول من سيدفع الثمن. والسلام المحب للذات وللناس معا، هو ذخيرة البقاء وهوما تمثله الانتفاضة إذ تنتصر حتى لأعدائها. تنقهم منهم لهم ولنا ولكل الناس.
هذا هو ما وصلنى، ترجمة حالية لإشارة دالة من أهرام عريق.
وبعـد:
ليس الغرض من هذه القراءة أن نكرر مقولة أنهم كانوا زمان أسبق، وأعمق، وأكثر إحاطة، وأدق استنتاجا، هذه لهجة لا تفيد، فضلا عن أنها خطأ، حتى ولو كان فيها تكريم للسابقين، وتمجيد لما كانوا يتمتعون به من حصافة وجدية. إن الغرض من هذه القراءة يمكن إيجازه فى النهاية – مع بعض التكرار- فيما يلي:
1- إن للصحافة اليومية دورا معرفيا شديد الدلالة.
2- إن الأخلاق والقيم السائدة تحتاج إلى فحص أشمل يخلصها من الأحكام المطلقة المسبقة الثابتة. تلك الأحكام التى نقسمها إلي’أبيض-أسود’،أو’حلال- حرام’.
3- إن فحص الأخلاق والطباع ومراجعتها خليق بأن يعيد تصنيفها، وترتيبها، وتنقيتها، وبالتالى الاستعداد لقبول قيم جديدة تتولد من إعادة النظر، وتعميق الفهم.
4 – إن السلام مرتبط بـ ‘حب النفس’ فى هارمونية (مرتبة) وهو شرف وحفز، وليس سكونا وادعاء إيثار خائب، ولا هو تنازل واستخذاء هروبي.
5- إن الحرب عمل غير أخلاقى فى ذاته مهما قيل فى تبريره، من حيث أنها ‘طمع غير مرتب’،و ورطة غبية، يدفع ثمنها فى نهاية النهاية كل من الجانى والمجنى عليه، وربما الجانى أكثر لو تمادى، لأنه يشوه إنسانيته، وهو الخاسر فى النهاية مهما كسب.
6- إن رفض الحرب ووضعها فى مكانها الصحيح لا يعنى تجنبها على طول الخط، ينبع هذا من غريزة ‘حب الذات’ كفضيلة بقائية. إن رفض الحرب باعتبارها تشويش فكرى، وقرار بدائى غبى إنما يشير إلى قصر عمرها كوسيلة للتعايش معا، لأنها ضد الطبيعة البشرية السليمة.
ليكن الاضطرار إليها أحيانا هو الوسيلة المثلى لتجنبها نهائيا.
7- إن مقولة فهم المجتمع، والسياسة، والدول، والمجاميع، من خلال القياس على فهم الفرد، هى مقولة تستأهل العودة للمراجعة المرة تلو المرة .لعل فيها منهجا مفيدا.
8- إن الجدية التى كتب بها هذا المقال فى أول عدد فى الأهرام تستأهل وقفة لمراجعة مدى الجدية التى تصدر بها أغلب صحف هذه الأيام، وإن كان علينا أن نعترف أن الأهرام ما زال رائدا فى هذا المجال التنويرى والمعرفى منذ صدوره وحتى الآن.