نبذة: مزيد من مواجهة تضخيم قيمة الاستاذ ” محمد حسنين هيكل” مع كل احترام حرفيته، وتذكر له بواجبه نحو مزيد من الأفصحاء ودعوة للجهد أكبر فى المراجعة.
الاهرام : 20-10-2003
عن الاحترام والحب، واستئذان “الأستاذ”
كان ذلك ذات سنة فى معرض القاهرة الدولى للكتاب، وكنت أحد أعضاء ندوة تقدمها لجنة الثقافة العلمية بالمجلس الأعلى للثقافة، وإذا بالقاعة مليئة بالجميلات الأنيقات، والوجهاء الثقات. الشباب يتزاحم والدنيا تضرب تقلب، بدأت الندوة والحضور يتهامسون، ثم يتحدثون، ثم يتصايحون، وهم يدخلون ويخرجون، واستغرابنا يتزايد بشكل متصاعد. بمجرد انتهاء الندوة انكشف السر، وهو أن كل هذا الجمهور كان ينتظر لقاء “الأستاذ”(هيكل) فى نفس القاعة بعد ندوتنا مباشرة.
حضرتنى هذه الصورة وأنا أتابع من بعيد ما دار ويدور هذه الأيام حول “اعتزال” الأستاذ”، حتى نشر مقاليه بالغى الرقة والوجد والألم جميعا. تسحبت إلى من خلالهما عاطفة افتقدتها نحو هذا الرجل نصف قرن.
لم يساورنى شك من قبل فى مدى احترامى لمهارة صنعة الأستاذ أو أناقة كلمته، أو حضور ذهنه، أو جمال تأتيه، أو حذق التفافه، أو دقة توثيقه، إلا أن كل ذلك لم يجعلنى أحبه. أنبه نفسى- وأبنائى وطلبتى ـ آنه لا يوجد حب دون احترام، بل إننى أتصور أن أعلى درجات الحب هو ما كان احتراما وجدانيا متضفرا، مثل ما بدا لى فى وفاء الأستاذ لشريكته وهو يذكرها بأنها “نور الضمير” (وليس فقط الطريق) و”حبيبة العقل” (وليس فقط القلب). يبدو أن العكس غير صحيح، إذ قد يوجد احترام بلا حب، هذا ما كان منى للأستاذ وإن كاد قد تغير مؤخرا.
رحت أراجع مشاعرى تجاه عدد ممن أحبهم الناس، أغلب الناس، فوجدت أننى مختلف. إذن فالعيب فى أنا وليس فيمن عجزت عن أن أحبهم مع الناس مثلى مثل الناس. حدث لى ذلك مع عبد الناصر، ومع الشيخ الشعراوى رحمهما الله (وليسامحنى محبوهما)، بل وحدث أيضا -ربنا يستر – مع أم كلثوم برغم حبى الشديد لشدوها (دونها) حتى أننى أصبحت مؤخرا لا أسمع صوتها فقط بل إننى أراه بعينى وهو يتلألأ فى سماء وعيى حتى أكاد ألمسه بكل حسى.
للحقيقة ثم استثناءان يجدر ذكرهما فى هذا المقام، هما النحاس باشا ونجيب محفوظ، الأول : لم أستطع إلا أن أحبه (لم أكن وفديا أبدا)، والثانى لم أستطع أن أميز بين حبى وبين احترامى له حتى تصورت أنه ولد فى عاطفة أرقى لم تسمى بعد.
خلاصة الموقف الآن: أنه لم يأذن للأستاذ أحد ممن طلب إذنه،-وأنا من بينهم، ولكن اختلفت أسباب عدم الإذن. لست مع من زعم أن الأستاذ-بكل فضله وتميز مهاراته- مرجعية بلا بديل، كما أننى رفضت من لم يعطه الإذن محتجا بأنه يملك – شخصيا- من الوثائق ما لا يسمح له بالانصراف إلا بعد أن يفرج عنها. كل ما فى الأمر أننى تصورت أن شكر نعمة الله عليه بالشفاء لا يكون إلا بأن يعمل صالحا يرضاه (…”رب أوزعنى أن أشكر نعمتك التى أنعمت على وعلى والدى وأن أعمل صالحا ترضاه…)، خطر لى أن الصالح الذى يرضاه رب العالمين مقابل نعمة الشفاء هو أن يواصل الأستاذ مسيرته بشكل يختمها خير ختام وأصدقه، وأنبله، حين يتفضل بالقيام علانية بمراجعة أدائه وأداء صديقه بالمقاييس الموضوعية التى حذقها من خبرته العالمية خاصة مؤخرا.
سوف أضرب مثلا واحدا: ماذا لو راجع الأستاذ نفسه إبراء لذمته وحمدا لله على سلامته عن دلالة إخفاء شروط “النصر سنة 1956، نحن نسلم بداهة بانتصار شعب مصر ممثلا فى شعب بورسعيد وغيره، ولكن النصر الذى زعمه الحكام شيء آخر إن كان وراءه ما وراءه. ألا يستحق الأمر محاكمة كل من أخفى أو وافق على إخفاء شروط نصر كانت هى السبب فيما ترتب عليها بعد أحد عشر عاما؟ ألم يئن الآوان أن يقترح الأستاذ أن يحاكم المسئولون عن انتحار شعب وجيش معا، مثلما يحاكم بيلير عن انتحار ديفيد كيلى وهو فرد واحد؟ أم أن إخفاء المعلومات أو الكشف عنها أو تزييفها له مقاييس مختلفة حسب التاريخ والجغرافيا ونوع الناس؟ وقس على ذلك، هذا مثال واحد وبقية ما يحتاج لمراجعة أو محاكمة هو بلا حصر.
نحن لم ولن نأذن لك، أيها الفاضل العظيم، ولابديل أمامك إلا مواصلة العطاء والوفاء، وأنت قادر بإذن الله على ذلك، أدام الله عليك نعمة الشفاء، وغفر للجميع.