مجلة فصول
(المجلد العاشر العددان 3-4 سنة 1992)،
عن الإبداع والعدوان (والجنس)
[رؤية باكرة]
نشرت الأطروحة الأساسية (الجزء الأول) فى مجلة الإنسان والتطور (العدد الثالث: السنة الأولى سنة 1980، ثم أكملت بعد ذلك وعدلت ونشرت كاملة فى مجلة فصول (المجلد العاشر العددان 3-4 سنة 1992)، وهى رؤية باكرة لم تنسخ كلها، وقد ألحق بصورتها الأخيرة محاولة مراجعة ونقد وتوليف مع ما تلاها من تنظير وفروض.
الجزء الأول
(عن العدوان والجنس والإبداع)
مقدمة:
يمر إنسان عالمنا المعاصر بأخطر مراحل تطوره، فقد أصبح تحت يديه من وسائل الدمار ما لا يبدو للوهلة الأولى أنه قادر على السيطرة عليه، ولابد أن قانونا – لا نعرفه فى الأغلب – يقوم بالمحافظة على استمرار بقاء الحياة على الأرض حتى الآن على الرغم من وجود كل هذه القوة المدمرة بين أيدى من لا يستعمل بقية خلايا مخه بنفس الكفاءة، ذلك أن طريقة تفكير الساسة على الجانبين، وسلوكهم الشخصى الدال على وفرة الدفاعات (الميكانزمات) التى تتحكم فيهم دون وعى منهم لا تـطمئن الشخص العادى بأبسط حسابات المنطق السليم، ناهيك عن العالــم اليقظ.
من واجب العلماء البحث عن هذا القانون الخفى إن كان موجودا أصلا، ثم تقويم فاعليته واستثـماره وتطويره إن احتاج الأمر، فإذا ثبت (أو صور لنا جهلنا) أن الحياة مستمرة بالصدفة، تحت زعم أن ليس ثمة قانونا خفيا أو ظاهرا فالواجب أكثر إلحاحا فى العمل على إنشاء ذلك القانون الذى يساعد فى استمرارها بوعى لائق، ومسئولية مناسبة وحساب علمى قويم، وفاء بأمانة ما نحمله بشرا !!.
من أولى المناطق بالتنقيب لتحديد طبيعة مخاطر الدمار الذى يتعرض لها الإنسان بجرعات متزايدة ما يتعلق بغريزة حيوية أساسية، وهى “العدوان”، ذلك لأنها تمثل القوة التى إذا عجزنا عن دراسة قوانينها وتوجيه مسارها، قد تنطلق -وفى يدها كل أدوات الدمار الجاهزة حاليا- فتقضى على البشر بلا تردد، وقد تقضى على الحياة كلها بلا وعي، خاصة وأن الإنسان – كما يقول تينبرجن أولدنر- دون كثير من الحيوانات- لم ينم لديه جهاز للضبط والتوازن والتحكم فى نزعاته العدوانية، وهذا النقص قد يكون مسئولا عن تماديه فى الفعل العدوانى حتى أقصى نهايته وهى القتل.
ذهب لورنز[1] إلى اعتبار أن الإنسان- دون كثير من الحيوانات المفترسة- ليس عنده كف غريزى للقتل بوصفه مفتقدا أية جوارح قاتلة (مخالب وأنياب) ، بالتالي، فى رأيلورنز، هو ليس محتاجا لهذا الكف الغريزي، وهذا أمر يتطلب مراجعة بعد التدهور التدميرى الذى يعيشه إنسان العصر الحديث الذى خلق لنفسه مخالب وأنياب أمضى وأشمل تدميرا للحياة برمتها وليس فقط لعدوه من جنسه أو غير جنسه. ثم إن الإنسان هو الحيوان القادر على قتل أفراد من نفس جنسه ، فهو يقتل: أ) بشرا لا يعرفهم “شخصيا” (ب) وعن بعد دون أن يراهم (جـ) وفى مجموعات.
بل لقد أصبح هذا الفعل الشائن فى ذاته من المنجزات الجديرة بالفخر، كما يقول روبرت جاى ليفتون “…إن كمية القتل قد أصبحت مقياس الإنجاز”.وفى ظل هذه الظروف، فإن مصيبة الدمار الفنائى قد باتت شديدة القرب بحيث لو حدثت هذه المصيبة فقد تكون إثباتا مروعا لزعم قائل: إن التركيب الانسانى فيه ما يشير إلى خطإ تطورى[2] لا يمكن أن يستمر مالم يعدل.
لا يمكن أن ننساق وراء هذه المخاوف الانطباعية فى تشاؤم عدمى إلا أننا أيضا لا يمكن أن ننكرها لمجرد أنها بعيدة الاحتمال.
نبدأ البحث بتساؤلات محددة نحاول من خلال الإجابة عليها أن نحدد أبعاد المشكلة، ومن ثم إمكان الخروج منها:
1- هل العدوان غريزة أصيلة لها صور تعبيرية مختلفة مع اختلاف الأزمان والأجناس، أم أن العدوان مجرد سلوك مكتسب طاريء، نتوقع له أن يزول بزوال مستدعياته؟
2- ما هى وظيفة العدوان البقائية، وما هى فرص التعبير عنه فى حياتنا المعاصرة وخاصة بالمقارنة بغريزة الجنس التى تتعلق أساسا ببقاء النوع؟
3- ما هى الاحتمالات المطروحة لمواجهة هذه الطاقة الغريزية تعليما أو ترويضا، أو تحويرا، أو إدماجا؟
محاولة تعريف مبدئى
لا يحتوى لفظ “العدوان” مضمونا واحدا (جامعا مانعا) متفقا عليه بالقدر الذى يطمئن إلى تناوله من نفس المنظور من كل الأطراف، فالتعريف السلوكى يصوغه “تينبرجن” كالتالى:
”العدوان- باعتبار السلوك الفعلي- يتضمن الإقدام تجاه خصم، وإذا كان فى متناوله فإنه يتضمن دفعه بعيدا وإصابته ببعض الأضرار بشكل ما، أو على الأقل إرغامه بمؤثرات تكفى لإخضاعه”.
نلاحظ هنا منذ البداية، ذلك التحفظ الذى وضعه تينبرجن، من حيث تحديد التعريف بنص اعتراضـى (يبدو أساسا) بقوله -باعتبار السلوك الفعلي- ذلك أن الخلط بين السلوك الفعلى وبين الموقف التهيئى دون فعل ظاهر، ثم بين هذا وذاك وبين غريزة العدوان- فى كمونها ونشاطها-، هذا الخلط هو ما يترتب عليه إغفال الأصل، وبالتالى مضاعفات الجهل والتشويه؟
لتوضيح قصور مثل هذ التعريف المؤكد على الإقدام والإضرار دون غيرهما نطرح بعض التساؤلات مثل:
هل يمكن أن نقسم سلوكى الكر والفر، باعتبارهما سلوكين متضادين ظاهرا، ونقصر كلمة العدوان على سلوك الكر fight دون سلوك الفر flight على الرغـم من أنه يصاحبهما نفس المتغيرات الفسيولوجية تماما (مـثل زيادة نشـاط الجـهاز العصبى السمبثاوي)، كما أن سـلوك الفر قد يكـون تمـهيدا لسلوك الكر أو جزءا منه أو تناوبا معه لتحقيق نفس الغرض؟
و هل يمكن أن نتناسى صور العدوان السلبى: بالانسحاب أو الإلغاء أو المحو؟
الإجابة على مثل هذه الأسئلة هى بالنفي، وبالتالى فالمراجعة واجبة.
نبدأ بعرض تعريف مبدئى يقول:
”العدوان هو الدافع أو السلوك (أو كلاهما) الذى يهدف للحفاظ على الفرد وجودا وذاتا -على حساب الآخر (من غير النوع عادة [3] أو من نفس النوع، مؤقتا) وهو يشمل فى صورته البدائية: السلوك المقاتل المهاجم حتى الطرد أو القتل، ولكنه يتحور – مسلكا وموضوعا – بتحور مراحل نمو الفرد والمجتمع جميعا” وذلك من خلال تداخلاته مع مستويات الوجود الأخرى فى جدل ولا فى متصاعد.
لن أبدأ بالدفاع عن هذا التعريف لأنه فى واقع الأمر غاية هذا البحث أكثر منه مسلمة ابتدائية.
نظرية الغرائز: موقعها الآن
أصاب الغرور الإنسانى “نظرية الغرائز” فى مقتل دون وجه حق، فقد ثارث نزعة مضادة ضد نظرية الغرائز وخاصة بعد مغالاة ماكدوجال فى تقديمها وتقسيمها، وقد توالت الضربات على نظرية الغرائز هذه من مصدرين أساسين: وهما الاتجاه السلوكى من ناحية، والاتجاه الاجتماعى من ناحية أخري، وحتى فرويد لم يستطع أن يمتد تأثير موقفه بالنسبة لغريزة الجنس أساسا إلى ما يسمح بالدفاع المناسب.[4] فقد هوجم من خصومه، كما هوجم من أتباعه على حد سواء، ذلك أن كثيرا من الفرويديين المحدثين قد هاجموا بيولوجيته لحساب ما أسموه نظرية العلاقة بالموضوع Object relation أو العلاقات البينشخصية Interpersonal، فى حين أن السلوكيين قد ركزوا على التعـلم ونظرياته وآثاره فى إحداث المرض وإزالته على حد سواء، مستبعدين بإصرار أى غرائز ثابتة أوجاهزة، أوموروثة (من حيث التفاصيل على الأقل). ورغم زعم علماء النفس الإنسانيين (أمثال أبراهام ماسلو) بتغليب الخير فى أصول الإنسان البيولوجية (الشبغريزيةInstinctoid )، إلا أن لغتهم الأقرب إلى “الشعر الحالم” لم تدعم نظرية الغرائز بقدر ما غيمت الجو حولها، الأمر الذى تفاقم أكثر فأكثر من جراء (النظريات البعشخصية والعبرشخصية Transpersonal) مما أفضل أن أسميه “علم النفس التجاوزى”، ذلك أن هذه النظريات أفرطت فى التجاوزية الغائية (شبة الدينية) حتى كادت تنفصل عن جذورها البيولوجية الغريزية.
إن مواقف اتجاهات علم النفس المعاصر، فى أغلبها، لم تدعم نظرية الغرائز بقدر ما حطت من قدرها أو أهملتها، وحتى غريزة الجنس (وهى أظهر وألمع من العدوان) كما هي، أو كما قدمها فرويد، لم تأخذ حقها فى الاستيعاب البيولوجى/الوجودى المناسب، بل لعل بعض المشتغلين بالتحليل النفسى قد أساء إليها، وأضاف إلى تشويهها. إن فرويد نفسه لم يعطها حقها على الرغم مما شاع عن فكره، بل جعل كبتها والتسامى فوقها (فيما هو ” خلـق” أو حضارة) هو السبيل إلى التحكم فيها، ثم إنه بالغ فى عقلنتها (فيما هو نظرية) على حساب إحيائها باعتبارها لغة تواصل أرقى وأشمل، حتى ليمكن أن نأخذ قول لورانس مأخذ الجد إذ يقول… “إن تناول فرويد للعمليات الغريزية فى الإنسان كان محملا بثقل الشعور بالذات لدرجة خليقة بأن تكتفى بإعلان الميل الشبقى بعيدا عن (فعل) الحياة، لتطيح باحتمال أن يحقق الانسان براءته التلقائية وانبعاثه الخلاق بحق”، ثم يمضى فيقول “… إن نظرية التحليل النفسى قد أعــدت لتصيبنا بحالة من ” الجنس فى الرأس”Sex in the head (الدماغ)، ولا أحسب أن هذا هو المكان اللائق به”.
الأرجح أن المبرر وراء كل هذه المحاولات لتهميش الغرائز هو مبرر أخلاقى على مستوى ما من لاشعور أغلب هؤلاء المفكرين، بمعنى أنهم تصوروا أن التسليم بوجود غريزة مسبقة (أية غريزة كانت) يبدو تقييدا لحركة تطور الإنسان بشكل أو بآخر، والمنطقية، والاستسهالية لهذه المسلمة الخطأ هو أن ننكر الغريزة ابتداء، أو على الأقل أن نتنكر لها، متصورين أننا بذلك نفتح الآفاق، إذ يحدونا الأمل أن يحل التغير البيئى والتطور الثقافى محل التغيير البيولوجى المستحيل (من وجهة نظرهم).
وقد دعم هذا المبرر الأخلاقى موقف الدارونيين المحدثين من علماء الوراثة الأقدم (فايتسمان ومندل أساسا) بتأكيدهم على استحالة وراثة العادات المكتسبة.
وعلى الرغم من كل ذلك فإن الغرائز مثلها مثل أى حقيقة صعبة، لا تختفى بالإجماع على تخطيها أو الخوف منها، أو نتيجة العجز عن تفسير مظاهرها السلوكية فى الوجود الانسانى المعـقـد. فكـان لابـد من إعادة النظـر فيها من مـدخل آخر، ومن عـجب أن يكون هذا المـدخل الجديـد هو من علم الإثـولوجى Ethology وبواسطة علماء الحـيوان Zoologists أسـاسا. وقد كـان لإسـهام لـورنز وتينـبرجـن فى دراسـة ظـواهـر مـثـل البـصـم Imprinting والــطـاقة الخـاصة الفـعـالة Action Specific Energy وإزاحة النشاطof Activity Displacement. كان لكل ذلك أكبر الأثر فى فتح ملفات نظرية الغرائز بشجاعة مضاعفة، وكذلك إعادة النظر فى آراء الدارونيين المحدثين. وخاصة بعد تلاحق الأبحاث المهتمة بالتأكيد على إمكان وراثة العادات المكتسبة .
العدوان غريزة أم اكتساب:
يمثل لورنز الرأى القائل بأن العدوان دافع أولى (غريزة) ويؤيده فى ذلك تينبرجن (رغم اختلافهما فى تفاصيل أخري) إذ يقول الأخير عن الأول معترضا جزئيا “… إن لورنز يفترض أن العدوان هو دافع أولى موروث، وإنه مثله مثل الدوافع الأولية- فى تصوره- يسعى إلى الإطلاق (الإشباع) “.
ويعارض مونتاجو فى مناقشته مقولة تينبرجن منكرا أن يكون العدوان غريزة ويعدد إثباتا لرأيه هذا أجناسا وقبائل مثل الإسكيمو [5] والأستراليين البدائيين الذين لا يحارب بعضهم بعضا، وينتهى بالتساؤل التقريرى قائلا ” ألا يجوز أن الرغبة فى القتال هى شكل من أشكال السلوك المكتسبة”[6].
ولا سبيل إلى الفصل فى هذا الموقف دون التعرض للموقف الأخلاقى سابق الذكر الذى يبرر الهجوم على نظرية الغرائز عامة، ونظرية العدوان كغريزة بشكل أكثر تحديدا، ليبدو الإنسان ……. عن التوحش.
ثمة محاولات للخروج من المأزق من خلال تبنى منظور أن الغرائز -تطوريا على الأقل – هى سلوك سبق طبعه imprinted عبر تاريخ تطور الحياة. حتى على فرض أنه كان مكتسبا فى يوم من الأيام، فقد أصبح بلغة علمية أخرى: غريزة تورث، ذلك لأن التعلم بالبصم (دون التعلم الشرطي) يختص بالسلوك اللازم للبقاء فى مرحلة ما، وقد كان السلوك العدوانى من ألزم أنواع السلوك اللازم للبقاء فى معظم مراحل التاريخ الحيوى.
حتى باعتبار ما ذهب إليه إريك فروم معتمدا على آخرين فى أن العدوان قد اكتسب اكتسابا لاحقا فى العصر الحجرى الحديث مع تغير الإنسان من كائن صائد جامع إلى كائن منتج خازن مع بداية الزراعة (حوالى تسعين قرنا قبل الميلاد) فإن مرور آلاف السنين، ومتطلبات الوضع الجديد للإنسان كمنتج منافس لا يمكن أن نعتبرها مجرد اكتساب مؤقت، وبدءا من حدس هريرة سنفهربرت سبنسر القائل “إن عادات اليوم هى غرائز المستقبل” حتى دراسات علم الوراثة الأحدث تتزايد الحقائق الدالة على ربط المكتسب بالغريزي، وخاصة فيما يتعلق بالبقاء والتطور.
لكل ذلك لا ينبغى أن يغرينا التلويح بموقف أخلاقى سطحى لمجرد رغبتنا أن نتميز عن الحيوانات التى نصفها بالتوحش عن الإنسان، بل إن الاعتراف بهذا الأصل التكوينى يدفعنا إلى البحث الأمين فى تصور فائدة هذه الغريزة ليس فقط فى تاريخها الحيواني، وإنما فى تجلياتها البشرية، مع العلم بأن ما نصفه بالحيوانية لا ينبغى أن يكون بمثابة الوشم بالدونية أو النكوصية كما يلمح وليام كورنينج متسائلا: “..وما هو النفع المنتظر إذا كان تحت السطح، رائحة بيولوجية كريهة”.([7]) وإنما علينا أن نتذكر أن إنكار الحقائق ادعاء أو استسهالا يزيد من عجزنا عن التحكم فى الجانب السلبى منها، أو بتعبير أدق: فى توظيفها توظيفا سلبيا ضد النوع أو ضد الحياة.
وظيفة العدوان وفرص التعبير عنه:
1- إن العدوان قد حفظ أجناسا[8] بأكملها فى صراعها ضد أجناس أخري، وذلك فى إطار قانون “البقاء للأقوى”.
2- إن سيطرة الذكر الأقوى على قطيع الإناث واستبعاد الذكر الأضعف قد ضمن البقاء للسلالة الأقوي، نتيجة استبعاد الذكر الأضعف من القطيع بالعدوان الذى ينتهى بالقتل أو بالطرد أو بالإذعان.
3- إن العدوان يعتبر جزءا متضمنا فى كل الوسائل المسئولة عن الحياة، بل وعن تطويرها.
4- إن العدوان يحدد معالم الذات[9]: فالذات إذ تنفصل عن الآخرين فى الولادة النفسية، فى المراهقة خاصة ، وفى كل أزمات النمو عامة، إنما تحقق ذلك حين يضطر “الفرد” أن يدفع “الآخر” فى عملية الانسلاخ منه، تحديدا لذاته الخاصة، الأمر الذى يتبعه بعد ذلك ومع ذلك جدل الآخر الموضوعى من خلال تحمل الاختلاف وبرنامج الدخول والخروج in-and -out program هذا ما ذهب إليه الكاتب فى دراسة سابقة[10] إذ يقول: “إذا كان الحيوان يحافظ على وجوده ككيان فيزيائى بالعدوان، فإن الإنسان يحافظ على وجوده ككيان مستقل واع (أى على فرديته) بالعدوان كذلك، ففى حين يستعمل الحيوان عدوانيته ضد احتمال افتراسه (ولافتراس الآخرين) فإن الإنسان يستعمل عدوانيته (دفاعا) ضد احتمال سحق ذاته وسط الآخرين”.
كل هذه الجوانب المهمة فى وظيفة العدوان لابد أن تؤكد ضرورة إعادة النظر، فيما ذهب إليه فرويد (على الأقل فى بداية تنظيره) من استقطاب الجنس فى مقابل العدوان، باعتبار ترادف العدوان Aggression مع التحطيم Destructiveness لدرجة جعلته يرادف بعد ذلك بين العدوان (التحطيم) وما أسماه غريزة الموت Thanatos [11].
التعبير عن غريزة العدوان فى السلوك الإنسانى المعاصر:
إذا قبلنا فرض أن العدوان غريزة بهذه القوة، وأنها ضرورية للحفاظ على الحياة والذات كخطوة سابقة لـ (ومتبادلة مع) غريزة الجنس (وليست نقيضة له كما صورها فرويد فى أواسط أعماله متبعا النظرة الاستقطابية التى غمرت فكره حينذاك)، فما هى المظاهر المعاصرة الإيجابية المباشرة والمحــورة التى تظهر فيها غريزة العدوان بالمقارنة بغريزة الجنس؟
لقد نالت غريزة الجنس من الانتباه والدراسة ما جعلها تبدو وكأنها تمثل الغرائز جميعا، فضلا عن أنها كانت وما زالت بؤرة يدور حولها تنظير التحليل النفسى وتطبيقاته، ربما من خلال ذلك، ونظرا لطبيعة الجنس اللذية فى معظم الأحيان كانت فرص التعبير المباشر وغير المباشر عن هذه الغريزة متواترة ومتنوعة (خصوصا إذا قورنت بفرص التعبير عن غريزة سيئة السمعة مثل العدوان. خذ مثلا بعض الأمثلة:
1- الجنس يجد مخرجا شرعيا واجتماعيا ودينيا مباشرا فى الزواج (قبل وبعد فرويد).
2- الجنس يجد مخرجا اجتماعيا ( ومدنيا أحيانا) فى صورة العلاقات التلقائية قبل وخارج منظمات الأسرة فى كثير من المجتمعات شديدة البدائية وفى المجتمعات المتقدمة على حد سواء.
3- الحديث عن الميل الجنسى بما يحمل من فرص التنفيث والإرضاء الجزئى يعتبر حديثا مقبولا ومحببا وأحيانا فخرا وزهوا (للرجال على الأقل)، وذلك فى الإطار والمجال الذى يحدده كل فرد لنفسه، فمن المألوف السهل أن يتحدث الرجل عن رغبته الجنسية سواء تحققت أم لم تتحقق، أو حتى عن قدرته الجنسية، ولدرجة أقل تفعل المرأة نفس الشئ ولو مع قريناتها فى المجتمعات المحافظة.
4- الجنس له حضور كاف، وأحيانا غالب فى صورته الصريحة أو المحورة، فى كثير من الأعمال الأدبية والفنية وحتى فى بعض مظاهر التدين (العشق الإلهى والغزل فى الأنبياء والأولياء… الخ).
5- يصاحب ذلك، أو لعله نتيجة له أن الجنس قد يجد بسهولة مخرجا مناسبا ومتواترا فى الخيالات والأحلام على حد سواء.
والآن هل للعدوان نفس الفرص للتعبير المباشر أو غير المباشر؟
الإجابة بالنفى، وتفصيل ذلك:
1- إنه لا توجد صورة اجتماعية أو شرعية يمارس فيها الإنسان المعاصرعدوانه بشكل مباشر ومعترف به، اللهم إلا فى بعض أنواع الرياضة البدنية الالتحامية (فى المصارعة والملاكمة مثلا) التى يثار ضدها هذه الأيام اعتراضات متزايدة، ثم إنها ليست ممارسة شائعة أصلا يمكن أن نزعم أنها مجال عام يصلح لاستيعاب العدوان عند كل الناس.
2- لا يوجد أى تقدير أو تقبل طبيعى يسمح للفرد بالحديث عن رغباته العدوانية أوميوله العدوانية ، بغض النظر عما إذا كانت هذه الرغبات قابلة للتنفيذ أم لا (فى حين أن ذلك مقبول بالنسبة للجنس بترحيب خاص - من الرجال أكثر- كما ذكرنا).
3- لا توجد صور أدبية أو فنية تعلى من قدر العدوان، اللهم إلا صور البطولة (والفتونة) التى تعلى من قدر عدوانية فوقية من الجانب المسيطر دون التابع.
4- يبدو أن كل هذا القهر والكبت الساحقين قد أثرا حتى على الأحلام والخيالات، فمن واقع خبرتى الكلينيكية، نجد أن حكات المرضى عن أحلام (أو خيالات) القتل أو حتى القتال، هى أكثر ندرة من أحلام المطاردة والاضطهاد مثلا.
صور العدوان البديل (مكافئات العدوان).
إذا كانت غريزة العدوان بصورتها الصريحة لا تجد الفرصة الإيجابية للتعبير عن نفسها بشكل مباشر مقبول ، فهل يوجد شكل غير مباشر يمكن أن يحقق التعبير عن غريزة العدوان بأى صورة محورة؟
بالنظرة الأعمق يمكن أن نستنتج خطوطا عامة تبدو وكأنها تؤدى هذا الغرض، ومنها:
1- التنافس الدراسى والأكاديمي[12]. كما يرى من كل من انتونى ستور Storr وألفرد أدلد
2- التنافس الرياضى (الذى يظهر بشكل مباشر فى الرياضات الالتحامية فى المصارعة والملاكمة كما هو متضمن بشكل غير مباشر فى معظم الرياضيات التنافسية).
3- السيطرة الطبقية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. مع تذكر أن السيطرة الطبقية قد أصبحت مؤخرا تتم فى الخفاء وبأساليب سرية مغلفة، أو بشعارات أخلاقية أو دينية أو أيديولوجية مناسبة، وهى وسيلة القلة على كل حال.
وعلى كل حال، فقد اتجهت التربية الحديثة، ومحاولات المساواة الممكنة وغير الممكنة إلى تغيير القيم إزاء فكرة التنافس أصلا، حتى كاد التنافس أن يصبح غير كاف لامتصاص طاقة العدوان، فضلا عن احتمال الضرر من الإفراط فى تقديسه. فالتنافس الرياضى مثلا لا يشمل إلا نسبة ضئيلة من الناس، ثم هو يحاط بالترويض المستمر للعدوان المغلف به فى شكل تنمية ما يسمى بالروح الرياضية، ولا يشارك عامة الناس فى إطلاق غريزة العدوان التنافسية اللهم إلا بتقمص المتنافسين مشاهدة من الوضع جلوسا مصفقين على أحسن الفروض (!!) وهذا غير كاف. فضلا عن احتمال الخداع والتشويه.
إذن: فالأمر يبدو وكأنه لا يوجد فعلا فى عالمنا المعاصر أى فرصة حقيقية لإطلاق غريزة العدوان ولا للتنفيس عنها أو حتى لمجرد الاعتراف بها على مستوى العقل.
وكأننا يمكننا إعلان أن درجة الكبت والمنع والإنكار لغريزة العدوان قد وصلت -بإجماع تقريبا- إلى أضعاف ما أزعج فرويد بالنسبة لغريزة الجنس وآثار كبتها.
وإذا كان ما لحق من كبت لغريزة الجنس إنما تظهر آثاره السلبية أساسا فى مجال المرض النفسى المسمى قديما “العصاب”، كما يقول فرويد، فإن كبت غريزة العدوان إنما يظهر فى مجال الأمراض الأخطر، الأمراض الذهانية خاصة، ثم هو يتعدى الخطر على الفرد إلى ما هو أخطر على الجماعة والمجتمع.
نتائج كبت العدوان
يمكن استقصاء بعض جوانب النتيجة الطبيعية لكبت العدوان كما يلى:
أولا: تراكمت هذه الغريزة كطاقة مقهورة تستنزف الطاقة البشرية فى محاولة إبقائها فى حالة كامنة خفية.
ثانيا: استعار العدوان مظاهر غرائز أخرى للتعبير عن نفسه كالتالى (كأمثلة):
(ا) غريزة الجنس: فى كثير من الأحيان يختلط الجنس بالعدوان، ليس فقط بمعنى السادية، وإنما أصبح السلوك الجنسى فى بعض الأحيان تعبيرا عن العدوان، رغم مظهره الجنسى (حالات الاغتصاب المتزايدة، على الرغم من وجود الاستكفاء الجنسى عند بعض المغتصبين).
(ب) غريزة الجوع: أحيانا لا يتوقف الالتهام عند الشبع (إرواء حاجة الجوع) بل يتمادى حتى ليعبر فى بعض الأحيان على نوع من العدوان على الذات والآخرين معا، مما يذكرنا ببعض أنواع العدوان بالالتهام عند بعض أنواع الزواحف والعناكب.
(جـ) غريزة التملك: ثمة نوع من التملك يتزايد حتى يصبح عدوانا، مثل سلوك التخزين Hoarding (باعتبار أن التخزين دافع أولى)، بما فى ذلك من العدوان على الذات (اغترابا) وعلى الآخرين (حرمانا).
ثالثا: أسقطت ظاهرة العدوان فى أشكال فنية أو شبه فنية فى شكل أفلام العنف والإجرام والكاراتيه، وقد تقوم هذه الأشكال بالسماح بالتقمص الذى يمتص طاقة العدوان عند المشاهد، أو هو يفجرها فى الخفاء عادة.
مظاهر العدوان (الضار) الصريح
حين يفشل كبت العدوان يظهر صريحا فى صور متعددة، وقد يتخذ ذرائع تبريرية، كما قد يكون مباشرا تسلطيا ظالما، ومن أمثلة ذلك:
أولا: تتفجر العدوانية بين الحين والحين فى شكل حروب محلية أو عالمية، عادة غير مشروعة ولا مبررة.
ثانيا: تتفجر الصراعات الطبقية، والعنصرية، بكل ما تحمل من حقد وانتقام واستغلال من كل جانب للآخر: الأعلى للأدنى والأدنى للأعلى (باعتبار هذا الأخير هو الوجه السلبى لـعدوان “العبد على السيد” فى ديالكتيك هيجل).
ثالثا: قد يأخذ العدوان شكلا لفظيا مباشرا مثل الهجاء، والسخرية، والأحكام الفوقية.
رابعا: تتعدد صور العدوان السلبى مثل العدوان بالإهمال أو بالتخلى (حتى ولو كان هذا التخلى تحت الشعار الأحدث: “أنت حر” مثلا) وفى شكل “الرقة المتفرجة” مما لا مجال لتفصيله هنا.
خامسا: هذا فضلا عن العدوان المباشر والمجرم فى صور جرائم العنف خاصة.
الأهمية البقائية للعدوان:
إذا كان العدوان بهذه القوة وهذا الإلحاح، فى نفس الوقت ليس له إلا أقل قدر من فرص التعبير الإيجابى والمسار البنـاء، ثم كانت صوره المحورة والخفية، وأيضا الصريحة العارية، هى من أخطر ما يمكن تصوره على مسيرة الإنسان عامة، فما هو الموقف المسئول تجاه كلهذا؟
احتواء العدوان أو التسامى عنه
(1) تـمنى المهتمون بالأمر (من الإثولوجيين خاصة) أن نعود نستلهم الحيوانات، نسألهم ماذا فعلوا هم وعجزنا عنه نحن بورطتنا المرعبة، ذلك أن العدوان بين نفس النوع Intraspecies هو أمر شديد الخطر على نوع بذاته، بحيث حاولت أغلب الحيوانات تحقيق غايتها دون ممارسته الى نهايته، وهى القتل، وقد أثار إريك فروم تساؤلا مزعجا يقول: هل الإنسان نوع واحد؟ حيث عرض احتمال أنه نظرا لاختلاف اللغات والألوان والأوطان ، فإنه قد يكون استقبالنا لبعضنا البعض قد وصل إلى اعتبارنا أجناسا متعددة، لا جنسا واحدا كما أن تينبرجن شرح ذلك نصا فى قوله: “… إن القاعدة أن كل الأنواع قد نجحت فى تحقيق النصر دون أن يقتل أفرادها الآخر، وفى الحقيقة أنه حتى مجرد إسالة الدماء يعتبر حدثا نادرا فيما بينها، والإنسان هو النوع الوحيد الذى يمارس القتل الجماعي، الوحيد ذو الوضع الناشز فى مجتمعه”. إن الحيوانات قد حذقت فيما بين أفراد نوعها لعبة الإنذارات والتهديد (فيما يشبه الحرب الباردة) بدرجة أعفتها من القتال الفعلى أساسا ، فضلا عن قتل أفرادها من نفس الجنس…، وقد درس علماء الحيوان وعلماء الإثولوجى هذه الإنذارات وتمنى بعضهم أن يحذق الإنسان مثل هذه الإنذارات، وأن يتعلم ترويض العدوان لإحلال التهديد محل القتل، حتى ضربوا مثلا سطحيا لذلك، وهو الضرب بقبضة اليد على المائدة بدلا من ضرب الخصم، وشبه بعضهم توجيه المسار هذا بعملية التسامى (أو الإعلاء) التى قال بها فرويد بالنسبة للجنس.
لكن الإعلاء والتسامى – أمل هؤلاء الباحثين- لا يمكن أن يـقبل إلا كمرحلة من مراحل النمو، وحتى فرويد، الذى أعلى من شأن “التسامى” خصوصا بالنسبة للجنس، قد هوجم بشدة لما لحق بالغرائز على يديه ثم على يدى أغلب أتباعه من “عقلنة” بسبب نقلها إلى موضوع رموز ونقاش دون استيعابها جدلا مشتملا.
(2) بالغ البعض فى قيمة إعادة التعليم كحل ترويضى (حضارى) يستنكر العدوان ويحل محله أساليب أخرى أكثر إنسانية ورقيا مما يليق بالإنسان. وإن كان هذا الحل يعد بترويض العدوان وإبداله ، فإنه يتجاهل قيمته البقائية الأساسية. إن مثل هذا الحل الذى يقلبها حربا داخلية يمكن أن يكون الأساس المرض لكثير من الاضطرابات النفسية على اختلاف أنواعها.
ومع التسامح تجاه هذه التمنيات الطيبة !!!، والحذر من أن ينقلب الإنسان على نفسه لمجرد الخوف من الاعتراف بالحقيقة، فإننا نجد فى مجالى علم النفس والطب النفسى صورا لمضاعفات التمادى فى الاقتصار على هذا الحل البادى السلامة.
احتواء الغرائر ومسارها:
وعلينا ألا نمل من مواجهة هذين السؤالين:
أولا: ما هو الموقف الحالى تجاه غرائزنا البدائية التى كانت فى صورتها الفجة لازمة لحفظ البقاء الفردى والنوعى معا؟
ثانيا: كيف يتم احتواء مثل هذه الغرائز واستيعابها وتحويرها مع تطور الحياة والأحياء، وكيف يسهم الوعى بذلك كله فى توجيه المسيرة؟
أبدأ بوضع تصورى للإجابة على هذين السؤالين فى صورة الافتراضات الأساسية للمداخلة الحالية، على الوجه التالى:
1- إن الغريزة، باعتبارها سلوكا أوليا مطبوعا، ومن ثم موروثا للنوع كافة، وموروثا للفرد، مع بعض التفاصيل المختلفة بين الأفراد، هى تنظيم “خلوى نيورني” قائم فى ذاته، كما أنه تنظيم قائم ضمن ارتباطات وتنظيمات أكبر فى نفس الوقت، وهو قابل للبسط unfolding بقدر ما هو قابل للتكامل integration فى الكل الأكبر.
2- إن لكل غريزة تعبير بدائى مباشر، كما أن لها فى نفس الوقت، من خلال ارتباطات تنظيمها النيورونى والخلوي، تعبيرات محورة تخدم أيضا المستويات الأعلى من الوجود الحيوى للنوع أو الفرد على حد سواء.
3- إن الغريزة لا تظهر فى صورتها البدائية الأولية الفجة تماما إلا إذا انفصلت عن سائرالغرائز من ناحية، وكذلك إذا انفصلت عن سائر الوظائف من ناحية أخرى.
4- إذا عجزت الغريزة عن التكامل فى الارتباطات الأعلى والأشمل قامت بدورها الدافعى لوظائف أرقي- وحتى دون الالتحام بها- مما قد يخفف من احتمال ظهورها بمظهرها البدائى مباشرة، ويعتبر هذا الحل تسوية ناجحة كمرحلة، ولكن استمراره كحل دائم، لابد وأن يعوق النمو، حيث يفصل الطاقة عن الأداة فى حين أن تكاملهما حتمى فى المستوى الأعلى من النمو.
5- يمر نمو الغريزة على مستوى تطور النوع والفرد معا فى خطوات متتالية تصاحب اتساع دائرتها وشمول ارتباطاتها، بما يشمل الوعى بها حتى فى صورتها البدائية، و بما يشمل القدرة على تأجيلها وتنظيمها.
6- تتعرض هذه الارتباطات الأشمل للتفكيك المرحلى فى الحلم، أو أزمات النمو، تمهيدا لولاف أعلى وأشمل، فهى لا تمحى أبدا بصورتها البدائية إلا فى مرحلة نظرية تماما هى مرحلة “التكامل القصوى” التى تعتبر هدفا دائما فى تطور الإنسان الحالى (لكنه هدف غير محقق فى الحاضر وإلا كنا نتعامل مع الإنسان القادم على سلم التطور).
7- يستمر نمو الغريزة وتتسع ترابطاتها حتى تصبح قادرة على الالتحام الولافى فى حركية التكامل الجدلى، سواء كان ذلك مع ما يبدو نقيضها، أو مع صور تجاوزاتها، أو مع الواقع المكتسب من تحويرها.
ومن خلال هذه الافترضات المبدئية يمكن إعادة النظر فى التصورات والمعلومات والمظاهر المتعلقة بغريزة الجنس بوصفها نموذجا نال حظا وافرا من الدراسة، وكذلك بوصفها معرضة لاتهامات أقل بأنها مجرد تعلم مكتسب !!
ونعيد ترتيب هذه المعطيات، أولا بالنسبة لغريزة الجنس:
1- إن الغريزة الجنسية، بكل صورها البدائية والتالية، موجودة فى التركيب البشرى بتاريخه الحيوى كله، وكمثال: فإن مضاجعة المحارم هى من صلب السلوك البقائى للحيوانات وللإنسان حتى عهد قريب، فظهور مثل هذا السلوك على مستوى الحلم أو غيره (الجنون) لا يحتاج إلى تبريرات “أوديبية” أو افتراض عقد تثبيتية، لأنه أصل فى التكوين البشري، ولعل التأكيد على هذه التفاصيل الدرامية الذكرياتية الفردية قد تضاعـــف للتخفيف من صعوبة مواجهة الطبيعة البشرية بتاريخها الصعب.
2- إن وظيفة الغريزة الجنسية البدائية هى حفظ النوع أساسا، وذلك بالتناسل، كما أن شكلها هو التلاحم الجسدى المتداخل، أما وظيفتها الأرقى لحفظ النوعية (نوعية الإنسان بما هو إنسان) فهى التواصل (العلاقة بالموضوع كما يسمونه) لإعطاء الإنسان ميزاته الاجتماعية وامتداد وجوده إليالآخرين ومنهم، تعاونا ورقيا.
3- إن أشهر أشكال التعبير المعاصر لغزيرة الجنس هو ” الغرام” بمعنى الحب الثنائى بما يشمل معانى العشق والشوق والحنين وما إليها.
4- إن الميكانزم الإبدالى السليم، فى حالة العجز (النسبى أو المطلق) لغريزة الجنس عن التعبير المباشر هو “التسامي” الذى اعتبره فرويد بشكل ما أساسا لكثير من مظاهر الحضارة.
5- إن الكبت المفرط لغريزة الجنس إنما ينتج عنه استــنفاذ الطاقة التى تستعمل فى الكبت وكذلك الحرمان من طاقة الجنس ذاتها، مما يترتب عليه اضطراب فى النمو، فضلا عن اضطرابات نفسية معينة تكاد تشمل معظم أنواع العصاب ، وكثيرا من اضطراب سمات الشخصية Personality Trait Disorder هو الأقرب إلى هذه المقابلة، وكان هذا هو اهتمام فرويد الأول، وهو ما يفسر اهتمامه بالعصاب – أكثر من الذهان- بشكل خاص.
6- إن نوع الإبداع الذى يمكن أن يستوعب الطاقة الجنسية الداخلية هو ما أسميه هنا الإبداع التواصلى الذى يبلغ من تناسقه وجماله أن يخلق لغة جميلة تواصلية بين المبدع والمستمتع.
7- إن التطور الأرقى لهذه الغريزة هو طاقة الحب (وليس مجرد الغرام)، بما يشمل معانى الرعاية و المسئولية والرؤية (مع تحمل التناقض) والتواصل لتحقيق حفظ النوعية (ماهو إنسان) وليس فقط النوع.
8-إن الهدف الأعلى هو الولاف بين النقائض الأولية (الجنس مع العدوان) ثم الولاف الأعلى فالأعلى (الوظائف الدوافعية مع الوظائف الترابطية “مثل التفكير”)، وهى مرحلة مازالت نسبية، ونظرية جزئيا، فى مرحلة تطور الإنسان الحالية.
على هذا القياس، يمكن إعادة النظر فى غريزة العدوان ومسارها كما يلى:
1- إن غريزة العدوان فى صورتها البدائية (القتل والالتهام) موجودة فى التركيب البشرى بتاريخه الحيوي. وقتل الأكبر سنا (مثلا: الوالد) لتوفير الطعام وإعطاء فرصة للاستمرار الحيوى قد لا يحتاج بالتالى إلى تفسيرات درامية ذكرياتية فرودية أوديبية تثبيتية خاصة.
2- إن وظيفة غريزة العدوان ( البدائية) الرئيسة هى حفظ الحياة (الاستمرار الفيزيائى) وذلك بالقتل أساسا، أما وظيفتها الأرقى فهى السيطرة للتنظيم الطبقى التمييزى المرحلى بالضرورة.
3- إن التعبير المعاصر عن هذه الغريزة هو “تأكيد الذات” فى مواجهة الآخرين.
4- إن الميكانزم الإبدالى فى حالة عجز هذه الغريزة (النسبى أو المطلق) عن التعبير المباشر وغير المباشر هو التعويض التفوقى بالنجاح والمكسب والسيطرة والانتصار بكل صوره، ومثال ذلك ما يتم فى التنافس الرياضى إما على حساب الفريق الآخر وإما فى مواجهة الرقم القياسى السابق “كسر الرقم القياسى”.. (لاحظ تعبير “كسر”).
5- إن الكبت المفرط لغريزة العدوان إنما ينتج عنه استنفاذ طاقة أكبر لازمة لهذا الكبت بالإضافة إلى قمع طاقة العدوان ذاته، مما يترتب عنه توقف النمو، وفى بعض الأحيان يسبب ارتداد هذه الطاقة إلى الداخل فى شكل تمزيق ذات للأخرى ثم تناثر الاثنان معا هذا وبرغم دعم لورنز لفكرة فرويد عن وجود غريزة خاصة بالعدوان إلا أنه ذهب- كما نحاول التأكيد هنا- إلى أنها غريزة تحترم الحياة بشكل ما، فى حين ذهب فرويد إلى أنها أقرب إلى التحطيم والموت.
6- إن الإبداع الذى يستوعب الطاقة العدوانية هو الإبداع الخالقى الذى تتضمن إحدى مراحله تحطيم الكل القديم إلى مكوناته وجزئياته لإعادة صياغته مع أجزاء كل آخر تم ( أو جار) تحطيمه بدوره، ثم صناعة ولاف أعلى من كل ذلك، وهو ليس إبداعا تواصليا إبتداء بل لعله يكون تنفيريا فى البداية (كما سيأتى).
7- إن التطور الأرقى لهذه الغريزة هو الإبداع الخالق على مستوى عالم الواقع (وليس عالم الفن كبديل)، ويشمل ذلك الثورة الاجتماعية والسياسية الحقيقية (غير الدموية خاصة).
8- إن الهدف الأعلى هو الولاف بين النقائض ظاهريا (الجنس مع العدوان) ثم الولاف الأعلى فالأعلى (الوظائف الدوافعية مع الوظائف الترابطية تحقيقا للتكامل الأقصى)، وهذه المرحلة حاليا هى مرحلة نظرية بالضرورة [13].
هذا الحل الصحى الذى يتم على مراحل قد تناول مرحلته الوسطى ألفريد أدلر كما نوهت قبلا، وذلك بالنسبة لحديثه عن الميل إلى السيطرة، وعما أسماه “التأكيد الذكرى”، وهى المرحلة المقابلة للتسامى بالنسبة لحل غريزة الجنس، على أن هذا الحل وذاك - كما أشرنا قبلا- هما حلان إبداليان، والإبداع فى صورتيه ( التواصلى والخالقى) هو المرحلة الأولى بالدراسة.
وفى هذه الأطروحة سوف أركز على الإبداع الخالقى أكثر من الإبداع التواصلى لأنه هو الذى يستوعب العدوان أساسا، على الرغم من أن فصل نوعى الإبداع عن بعضهما هو فصل تعسفى لأن علاقتهما جد وثيقة، حيث أن الغريزتين (الجنس والعدوان) فى هذه المرحلة الأعلى من النشاط تقتربان من بعضها البعض فى الإعداد للولاف الأعلى من خلال تلاحم تناقضهما الظاهرى، على الرغم من هذا التقارب الحتمى، فإن تمييزا بين نوعى الإبداع قد يكون مفيدا للتوضيح، مع الاعتراف ابتداء بأنه تفسير تعسفى بشكل أو بآخر، وفى ذلك نقول:
إن الإبداع الخالقى يتميز بما يلى:
1- تحطيم القديم فى مغامرة فردية صعبة تتصل بعامل الأصالة وتأكيد الذات أساسا.
2- إعادة خلق الجديد من جزيئات القديم المحطم، بما يشمل المخاطرة بالوحدة والرفض.
3- يتم هذا التحطيم وإعادة البناء عادة على حساب الآخرين-فى البداية وظاهر الأمر-ذلك أنه يهزهم ويقلقل استقرارهم ويشكك فى معتقداتهم ويهدد سكينتهم.
4- يلاقى المبدع من جراء إبداعه الخلاق من الرفض والنبذ والقسوة والاضطهاد ما يجعله فى معركة حقيقية.
5- يقاوم المبدع كل هذا بالوحدة والإصرار والاستمرار، مما يحتاج إلى كل طاقة عدوانه تجاه الآخر (الآخرين) [14]. وبديهى أن هذه الوحدة ليست عزلة بقدر ما هى مواجهة تحمل فى طياتها فرصة أن تصب فى النهاية فيما رفضته، وهذا هو الفرق الأعظم بين العدوان فى صورته البدائية والعدوان فى صورته الإبداعية.
هذا، ولابد من توضيح أن ما أعنيه بالإبداع الخالقى لا يقتصر على الإنتاج الإبداعى فى مجال الفن أو الأدب خاصة، وإنما هو أعمق وأشمل تماما، فهو إنما يشمل:
ا- المتلقى الناقد المبدع الذى يعيد صياغة ما يتلقى بنفس القدر من الهجوم ، فإعادة الصياغة.
ب- التغيير الذاتى الإبداعى المشتمل على مغامرة طرق باب المجهول ثم إلى الجديد حتما.
جـ – الإنشاء العلمى أو الأدبى أو الفنى الإبداعى المغيــــر.
د- الموقف الإبداعى الحياتى المتجدد.
هـ- الثورة السياسية والاجتماعية والاقتصادية المغيـرة الحقيقية المسئولة.
وكل ذلك بلا استثناء ما فيه من تحطيم القديم وتحديه، ومن صناعة الجديد ومخاطره، يتفق مع المعالم الأولية لوظيفة غريزة العدوان كما أوضحناها.
أما الإبداع التواصلى فقد يكون مرحلة سابقة أو تالية أو بديلة عن الإبداع الخالقى، ( وهو ليس بعيدا عنه أو مناقضا له) فالتواصل مع الآخر ( وليس مواجهته بالوحدة فالاقتحام) هو الأصل فى هذا النوع من الإبداع التواصلى، حيث يثابر المبدع ويستمر حتى يثير التنظيم المقابل الجديد فى المتلقى، وهذا يمكن أن يقاس بالتواصل الجنسى. فأحيانا ما يكون مستقلا ومباشرا، وأحيانا ما يكون الجنس لاحقا للعدوان فى بعض الأنشطة البدائية (دون حاجة إلى افتراضات سادية شاذة)، وأحيانا ما يحل الجنس محل العدوان.
وفى هذا النوع “التواصلى” من الإبداع
1- لا يلزم تحطيم القديم حتى النخاع، وقد يكتفى بتحسينه حتى القبول.
2- ولا يشترط إعادة خلق جديد من جزئيات قديمة بقدر ما يشترط تناسق الجزئيات القادرة على التناغم مع نفس المستوى عند المتلقى.
3- ولا تتم هذه العملية على حساب (وفى مواجهة ) الآخر – كخطوة حتمية- وإنما تتم لحساب ، وسعيا إلى الآخر منذ البداية.
4- ولا يعانى مثل هذا المبدع رفضا وتهديدا حتميين، وإنما عادة ما يجد تقبلا واستحسانا من البداية.
5- والمبدع هنا لا يؤكد وحدته بنفس الحدة المطلقة – كخطوة أيضا- وإنما هو يأتنس بمن يتحدث – ويتلقى – على نفس موجته بشكل نسبى على الأقل، ومنذ البداية أيضا.
وقد يكون الإبداع التواصلى أقرب شئ إلى الفن الموهبة وهو فن تنمية القدرات الفنية الخاصة ، وبالتالى فهو يشمل أغلب الإنتاج الفنى والأدبى بصوره المتميزة والمألوفة، دون القفزات الطفرية التى تغير مسار صوره وأشكاله، بل ومسار الحياة برمتها وقد اقتطف سيلفانو أريتى فى كتابه “الإبداع” رأى ناثانيل هرش فى كتابه الذكاء الخلاق حيث فرق بين “الموهوب” والمبدع الخلاق الذى أسماه “العبقري” تفرقة هامة تختلط على الكثيرين حتى كاد يعتبرهما نقيضين: “ففى حين أن الموهوب Talented يحسن الأداء فإن العبقرى يصنع الجديد، والموهوب يتقن التحليل الجزئى فى حين أن العبقرى يعتمد على حدسه، والموهوب يتكيف ويحقق المكاسب فى حين أن العبقرى يعطى حياته كلها لهدف الخلق الإبداعى”.
وهذه التفرقة رغم فائدتها ووجاهتها، ورغم موافقتى عليها من حيث المبدأ، إلا أنها تشير إلى استقطاب لا أوافق عليه، وما يهمنى هنا هو أن هذا النوع من الإبداع التواصلى ليس بديلا عن الجنس (وإلا كان الأولى أن يسمى تساميا) ولكنه منطلــق من الجنس ومحتواه.
كذلك فإن الإبداع الخالقى ليس بديلا عن العدوان ولكنه منطلق من العدوان ومحتواه ومحقق لوظيفته الأصلية فى أرقى مراحل تطوره قبل الاندماج فى الولاف التكاملى الجديد.
هامش عن الذكورة والأنوثة والإبداع والعدوان
لا يمكن أن ينتهى هذا العرض المحمل بالثقل البيولوجى دون أن نواجه تحديا صريحا صادرا من نتائج الأبحاث المتعلقة بالسلوك العدوانى وما لوحظ من مصاحباته من ارتفاع فى نسبة هرمون الذكورة (التستسترون)Testosterone فى الدم، فقد ثبت بما لا يدع مجالا للشك أن مستوى هرمون التستسترون فى الدم يتناسب تناسبا طرديا مع السلوك العدوانى فى عديد من حيوانات التجارب حتى أصبحت هذه المشاهدة من الحقائق العلمية التى لاجدال فيها، وقد فسرها بعضهم تفسيرا تطوريا يشير إلى أن الذكر الأقوى عدوانا هو الأقدر جنسيا، وبالتالى فهو الأضمن للتناسل وتأكيد قوى النسل القادم، غير أن هذا التفسير الاجتهادى لم يقنع الكثيرين.
وقد ذهب آخرون إلى التعمق فى دراسة شكل هذه العلاقة وارتباطاتها “كسبب ونتيجة” وقد وجدوا أن إثارة السلوك العدوانى فى ذاته يضاعف مستوى هذا الهرمون الذكرى فى الدم صعودا إلى خمسة أضعاف، مما جعل احتمال أن تكون هذه الزيادة هى نتيجة للسلوك العدوانى وليست سببا له، الأمر الذى يمكن تفسيره تطوريا مما لا مجال لتفصيله، وقد نرجع إليه فى بحث آخر.
ومع احتمال صدق هذه التفاسير من زاوية بذاتها، إلا أن الأمر يحتاج لمزيد من الإيضاح الذى سوف نتناوله من منطلقين كالتالى:
أولا: إن السلوك العدوانى ليس مرادفا لغريزة العدوان ولكنه أحد تجلياتها، هو الشكل الظاهر لها، أما الغريزة نفسها فقد يكون لا تجليات أخرى غير السلوك المعرف بالعدوانية، وأيضا قد يكون لما أسميناه العدوان الإيجابى ارتباطات بيوكيمائية أخرى غير السلوك العدوانى الضار المتعارف عليه لمثل هذه الدراسات.
ثانيا: إن السلوك العدوانى عند الرجل (الذكر) انبعاثى ظاهر يتعلق ببقاء الفرد أساسا ثم النوع، أما السلوك العدوانى عند الأنثى (المرأة) فهو احتوائى ملتهم أساسا يتعلق ببقاء النوع أصلا باعتبار أن الذكر يقوم بالدفاع الأول، ويمكن أن يثبت ذلك من مراجعتنا لظهور أقسى أنواع السلوك العدوانى عند الإناث (القطة مثلا) عند تهديد أطفالها حديثى الولادة بوجه خاص، أى أن الحفاظ على النوع (أطفالها) يثير لديها العدوان الصريح مباشرة.
وعلى نفس المقياس يمكن تصور الفرق بين إبداع الرجل وإبداع المرأة، الأمر الذى أشرت إليه فى دراسة سابقة[15]. حيث أكدت على اختلاف المرأة عن الرجل اختلاف بداية وليس اختلاف هدف أو غاية وجود، كما أوضحت أن عجز التاريخ عن أن يرصد للمرأة تفوقا أو مساواة فى الإبداع مع الرجل لايمكن أن يفسره القهر الاجتماعى والاقتصادى الذى لحق بالمرأة فحسب، وإنما التفسير الذى طرحته هناك كان يتعلق بأن إبداع المرأة الذى لم يحسب لها لم يوضع فى الاعتبار أصلا، لأنه لم يكن فى بؤرة الانتباه ، ولنتذكر أنه (إبداع) الحياة وإبداع التغير الذاتى وإبداع الإسهام فى التطور: “إفرازا للحياة وليس بديلا عنها” ثم يأتى إبداعها بالرموز والعلامات بعد ذلك نتاجا طبيعيا لتكاملها وليس بديلا انشقاقيا عن التكامل، كما يحدث للرجل فى بداية الأمر، وهذا يتفق مع مقولة وينيكوت التى كانت أحد الأسس التى بنيت عليها ذلك البحث، وهى أن الرجل “فاعل – ابتداء – ليكون”، أما المرأة فهى “كائنة – أصلا – لتفعل”.
كما أن هرمون التستسترون لا يصح أن يعتبر هرمونا ذكريا مجردا، فهو موجود فى الإناث من إفراز قشرة الغدة فوق الكلوية، كما أنه قد ثبت أن نسبته فى الإناث مسئولة مباشرة عن كفاءة الحياة الجنسية لدى المرأة، كما أن له وظيفة بنائية أيضية (ميتابوليزمية) كذلك.
وهكذا نعود لنؤكد أن دراسة الجذور الغريزية والبيولوجية للعدوان وتطوره ينبغى أن تأخذ فى الاعتبار كل مظاهر السلوك على سائر المستويات، الأدنى فالأرقي.
كما نؤكد مرة ثانية أن الفروق بين الجنسين هى فروق بيولوجية دالة، ولكنها فروق بداية مسيرة وليست فروق غاية ومصير.
ثانيا: تطبيقات باكرة ومتابعات[16]:
1- لاحظت أن بعض الأمراض النفسية، الدورية خاصة، ذات المحتوى الفصامى (أخطر إبداع مرضى) تتناوب مع الإبداع الخالقى بوجه خاص، بمعنى أن هؤلاء المرضى إذا أبدعوا فى فترات الإفاقة تميز إبداعهم بالأصالة والاقتحام وبعض الغرابة، كما لاحظت نفس الملاحظة ولكن بدرجة أقل بالنسبة لحالات صرعية معينة (والتاريخ يشير لمثل هذا التبادل أيضا فى حالة ديستويفسكى مثلا). مما جعلنى أفكر فى التكافؤ الوظيفى العكسى وراء هذا التبادل، وأبحث عن البديل الثالث فى الفترات الخالية من الصورتين، وكان هذا البديل الثالث هو العدوان المباشر بصور مختلفة، وهو ما نواجهه فى صورة واضحة فى الطب النفسى الشرعى.
2- فى العلاج الجمعى كانت صور التعبير عن العدوان بمختلف أشكاله فى جو من “سماح” مسئول ينفى احتمال السادية الانشقاقية، وكان مما يصاحب هذه النقلة -أحيانا- علامات بداية الولادة لإعادة الخلق الذاتى من جديد، مع اختفاء الأعراض[17]. هذا مع التذكرة بأن التعبير عن العدوان ليس هو السلوك العدواني.
3-فى علاج بعض حالات اضطراب نمط الشخصية (وخاصة الشيزيدى منها، النوع الرقيق الحساس بوجه خاص) كان ما يتفجر من وراء هذه الرقة بعد المرور ‘بالمأزق العلاجي” فى العلاج الجمعى خاصة هو طاقة عدوانية وافرة لا يحلها إلا التغير الذاتى الجوهرى أو الطاقة الثائرة المسئولة بما نعنيه بالإبداع الخلاق [18].
4- أثناء الإشراف على عدد من الرسائل الجامعية المتضمنة لخطوات تتطلب الحسم بالرأى الشخصى بمعنى الترجيح الإبداعى لتفسير جديد، أو لطرح الفروض، من خلال معايشة فنومنولوجية ذاتية، كان المعوق الأول للباحث هو العجز عن العدوان، وبتعميق أكثر أو بتعبير أدق: الخوف من العدوان، وكان تدريبى لطلبتى لتخطى هذه الخطوة هو الممارسة لعبور هذا الخوف، وكان الباب الذى ينفتح بالممارسة ليدخل منه التفكير الخلاق بعد المناقشة المغامرة المسئولة يتضمن رعبا من الحسم ثم انتصارا مقداما بما يشبه العدوان.
5- فى خبرتى الشخصية كان أهم ما ساعدنى على اتخاذ موقف نقدى مغامر من أى مقولة أو بحث أو معلومة مطبوعة أو شائعة أو مسلم بها مهما كان مصدرها أو قائلها هو اجتيازى مرحلة الخوف من العدوان، إلى مرحلة التمكن من العدوان، وطمأنينتى للقدرة على ممارسته بسيطرة مناسبة على حساب القديم لصالح الجديد والآخر فى آن واحد، وأعتقد أن مما ساعد على ذلك مباشرة هى التجربة الخبراتية كما تأكد ذلك من خلال ممارسة علاجية طويلة فى مجال نوع العلاج الجمعى الذى أمارسه والذى تمت أبحاث متنوعة فى شأنه[19]، ومن خلاله.
6- من متابعتى لما يسمى الأبحاث الخاصة بالإبداع، وخاصة ما يستعمل فيها أدوات لقياس القدرات الإبداعية مثل مقاييس الأصالة والمرونة والطلاقة والحساسية وما إليها، توقفت كثيرا شاكا فى قدرة هذه الأدوات على تحقيق الفروض المطروحة فى تلك الدراسة، وذلك لسببين أساسيين وهما: أن مثل هذه الأدوات قد تساعد بدرجة متواضعة تماما على قياس الإبداع الموهبة ( أو التواصلي) دون الإبداع الخالقى ، كما أن العدوان ، كطاقة كامنة قابلة لأن يتضمنها الإبداع الخالقي، يكاد لا يقبل أن يقاس بمقاييس بعيدة عن الالتحام الخبراتى (فينومينولوجيا) .
ثالثا: المتابعات النقدية (فى الأدب)
خلال العشر سنوات الأخيرة، صدرت لى أعمال نقدية متعددة ، رحت أبحث فى طياتها عن بصمات هذه الدراسة عن العدوان والإبداع ، فاكتشفت أننى لم أعرض لها صراحة بأى قدر من المباشرة، وفرحت أننى لم ألتزم بتحقيقها، بل لعلى نحيتها جانبا بعيدا عن ظاهر وعيى بشكل ما.
لكن ثمة ملاحظات جديرة بالإشارة فى بعض هذه الأعمال، لا بد وأن تدل على موقفي، بقدر ما تنبه إلى تحديد يمنع الخلط المحتمل من جراء تداخل المستويات وغلبة المضامين الشائعة، وأورد بعض هذه الملاحظـات التى رصدتها من خلال هذه المراجعة.
1- إن محتوى عمل أدبى ما لمضمون يتحدث عن السلوك العدواني، مثلما أشرت له فى قراءتى لمحفوظ فى ‘ليـالى ألـف ليلة”،[20] ليس دليلا على علاقة إبداع هذا الكاتب فى هذا العمل بالعدوان، ولا هو يصنف العمل باعتباره نابعا من طاقة العدوان
مباشرة، كما أن المحتوى الجنسى لعمل ما، لا يشير إلى علاقة هذا النوع من الكتابة باستعاب طاقة غريزة الجنس (قراءة فى المنسى قنديل) [21]
2- إن اختفاء السلوك العدوانى من عمل ما، مثلما أوضحت مباشرة فى قراءة ‘الأفيال” لفتحى غانم،[22] لا يستبعد زخم طاقة العدوان التى احتواها .. إذ حركته باندفاعة الاختراق ليتحقق هذا العمل المنتمى للإبداع الخلاق، بغض النظر عن خلو المضمون من صريح الفعل العدواني، كما أشرت فى النقد.
3- إن علاقة سمات الكاتب الشخصية، وخاصة فيما يتعلق بالجانب العدوانى فيها، تكاد لا ترتبط مباشرة لا بنوع الإبداع (خالقى/ تواصلى) ، ولا بقدرته على تضمين عمله بما هو سلوك عدوانى صريح، ففى حين بينت فى قراءتى لرباعيات نجيب سرور أن ثمة تناسبا طرديا بين عدوانيته (شخصيا) وبين جرعة الهجوم الحاد المتلاحق الوارد فى رباعياته هذه، أشرت- على الجانب الآخر- إلى قدرة نجيب محفوظ (فى ليالى ألف ليلة خاصة) على تحريك القتل الإيجابى والسلبى فى كل اتجاه، الأمر الذى يكاد يتناسب عكسيا مع دماثته شخصيا وسماحه.
4- ضبطت نفسى – شاعرا – متلبسا بوصف القتل بالفروسية.[23]
5- فيما يتعلق بحركية الإبداع فى علاقته بالعدوان ما يرتبط بإسهام هذا المنطلق فى تفسير وتقييم بعض ما يحيط قضية الحداثة كما تتداولها الآراء نقدا; قبولا ورفضا:
ذلك أن الأعمال المتميزة حقيقة وفعلا، فيما يسمى الحداثة، هى التى تنتمى إلى هذا النوع الخالقى أكثر من غيرها، مع الاعتراف الأمين بأنه لا يوجد تصنيف سهل يعرف هذا النوع من الإبداع، وخاصة فى الشعر.[24] ولكن هذا لا ينفى أن هذا النوع من الإبداع الخالقى الذى يكشف ، ويقتحم ، ويضيف ، ويغامر بأشكال جديدة، ويخلق لغات ورؤى جديدة هو وارد فى أشكال أخري، لا تنطبق عليها هذه التسمية -الحداثة- بشكل مميز (مثل ما ظهر فى دراسة الحرافيش لمحفوظ).[25]
الجزء الثانى
المأزق – المواجهة – المخرج
المأزق
المراجعة:
مع إعادة تحديث هذه الرؤية الباكرة (1980) وجبت مراجعة ما جاء فيها من خلال النظر فى المراحل اللاحقة.
والتساؤل الذى يطرح نفسه بداهة يقول:
إذا كان الإبداع فعلا يوميا، يحدث تلقائيا مع الإيقاع الحيوى فى النوم الحالم (الحلم)، وبالتالى يصبح الشخص العادى مبدعا بالضرورة، و إذا كانت جدلية الجنون والإبداع – على مختلف مراحل العملية الإبداعية- هى الفصل الختامى فى أى عملية إبداعية، فما هى الحاجة إلى طاقة غريزية بكل هذا الدفق والدفع؟
المواجهة:
1- نعترف ابتداء بصعوبة – أو استحالة وضع العملية الإبداعية ذاتها تحت مجهر البحث العلمى – إذ كل ما هو متاح لنا هو: إما ناتجها، وإما مبدعها، هذا فضلا عن الوحدة الزمنية التى تستغرقها آخر مرحلة لازمة لانبثاق الإبداع ، إذ هى لحظة شديدة التكثيف شديدة القصر (لا نبالغ إذا قلنا إنها جزء من ثانية رغم فساد قياسها بهذا المقياس العادى من حيث المبدأ)، وقد تكون هذه الحقيقة فى ذاتها هى التى تسمح وتبرر بتنوع المداخل إلى العملية الإبداعية، مع اختلاف الرؤى ، الأمر الذى يؤدى إلى بعض ظاهر التباين.
2- لابد من التدقيق فى الأبجدية المستعملة فى تناول هذه القضية المكثفة المعقدة ، فلا يجوز الخلط بين نبض الإبداع، الذى ينتمى إلى جذور العملية الإبداعية، وبين ناتج الإبداع علما أو أدبا أو تشكيلا، أو بينهما وبين سمات المبدع ومواهبه وقدراته.
3- لابد أيضا من التمييز بين تناول ماهية الإبداع باعتبارها أحد محاور الحياة لكل الناس (بل لكل الأحياء، بلا استثناء)، وبين تناولها فى حدود العمل المبدع ناتجا متاحا فى أى مجال من مجالات المعرفة علما أو أدبا أو تشكيلا.
4- لا مفر من تصنيف الإبداع المنتج ( رمزا أو عيانا) فى أشكال متعددة، متوازية أحيانا ، متبادلة أحيانا، مكثفة أحيانا، ومتصاعدة ( هيراركية ) كثيرا، فمنذ البدايات ( فى دراسة العدوان والإبداع) فرقت بين الإبداع الخالقي، والإبداع التواصلى، وفى آخر ما نشر لى فى هذا الصدد ميزت بين الإبداع الفائق والإبداع البديل، فضلا عن الإشارة للإبداع المجهض، ومحاولة تعرية الإبداع الزائف وأهمية هذا التصنيف هى التأكيد على ضرورة التعامل مع كل نوع بجرعات مختلفة من التطبيق الممكن.
المخرج
وفى محاولة لتقديم موقف قد يستطيع الإلمام بأطراف القضية بدرجة تخفف قليلا أو كثيرا من التناقض الظاهر، أطرح آخر المحاولات للتأليف بين هذه المراحل على الوجه التالى:
استطعت أن أحدد أن دراسة الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع كانت تركز- كمنطلق- على أحقية الشخص العادى أن يكون مبدعا بالضرورة البيولوجية، سواء ظهر ذلك فى صورة الإبداع اليومى (الحلم) أوالإبداع الحياتى (تطور الحياة وارتقاء النوع) ، ثم ليكن الإبداع المنتج رمزا أو عيانا قابلا لتلقى آخر فى شكل أحد صور الإبداع لا أكثر.
لكن دراسة العدوان الباكرة قد ركزت على دور طاقة العدوان فى تحطيم القديم واختراق الوعى والتقدم للآخر، ولا يظهر هذا أصرح ما يكون إلا فى نوع خاص من الإبداع المنتج رمزا، وهو ما أسميته الإبداع الخالقي، وإن كان فى نفس الوقت هو دفع جوهرى فى سائر الأنواع.
ثم جاءت الدراسة عن جدلية الجنون والإبداع لتربط ما بين مرحلة التنشيط التلقائى (دراسة الإيقاع) وكيفية المحافظة على ناتج هذا التنشيط بمحاولة توظيف السماح بحركية التنشيط أن تبقى فى الوعى أو قريبا منه، ثم التأليف من ذلك اقتحاما للوعى ثم إقداما نحو الآخر.
أما الدراستان الأولى والوسطى اللتان أشارتا إلى حفز الإبداع من خلال فقد التوازن المرحلى بين مستويات الصحة أو فى مراحل النمو (نقص الأمان- فرط التوجس)، فإنهما يشيران إلى العمليات المساعدة فى عملية التنشيط البيولوجى التلقائى من جهة ، وحركية الولاف الإبداعى من جهة أخرى.
وعلى ذلك، نعود فنؤكد أن ثمة فرقا ضروريا بين التنشيط البيولوجى العادى اللازم لحركية المعلومات التى لم تتمثل فى الكيان الكلى تمثلا كافيا، وبين التفكيك الإرادى اللاحق والمواكب، وخاصة تفكيك التركيب الجامد الذى يمكن أن يحول بين هذا التنشيط وبين إعادة التوليف.
وإذا كانت عملية التنشيط الأولى تنتمى إلى الإيقاعية البيولوجية، فإن عملية التحطيم والاقتحام تنتمى إلى إيجابية العدوان بدرجة مناسبة من الإرادة الغائية والوعى الفاعل النشط.
وبتعبير آخر فإن الانتقال من مرحلة الإمكانية البيولوجية المتاحة (فى فعلى التعتعة و البسط / إيقاع) ، لا تصبح ناتجا إبداعيا متميزا ومرصودا إلا إذا انتقلت إلى مرحلة الصياغة فى جرعة مكثفة مخترقة وكاشفة، وبإرادة حاسمة ووعى مسئول، وهذه المرحلة الأخيرة - مرة ثانية- هى التى تحتاج قدرا هائلا من الطاقة الملتحمة بالوعى والإرادة (وخاصة فيما أسميته الإبداع الخالقى أو الفائق) طاقة تكون قادرة على الحفاظ على جرعة التنشيط إلى غاية الإبداع المنتج.
وهكذا نرى أن طاقة العدوان إنما تسهم أساسا فى المساعدة على استيعاب التناثر (البيولوجى التلقائي)، ومن ثم الحيلولة دون العودة الساكنة التى تمحو تلقائيا كل ما يتيحه النبض الحيوى من حركية وتنشيط قادر على التمادى للخلق والإبداع (عند كل الناس – من حيث المبدأ).
وعلى ذلك يكون إسهام العدوان الإيجابى (فى الإبداع الخالقى بوجه خاص) ، كما جاء فى هذه الدراسة هو:
(1) العمل على تكثيف جرعة التنشيط لاختراق طبقات الوعى الذاتى، وتأكيد الوحدة والتميز عن الآخر، وتحمل التهديد بالفناء كأحد مخاطر عمق التغيير.
(2) ثم يرتبط دوره أيضا بالحفز لاختراق وعى المتلقى (وليس الاكتفاء بدغدغته).
(3) ثم إن الأمر يحتاج إلى مزيد من الطاقة للحليولة دون التناثر (كإبداع بديل مجهض أو سلبي، فى بعض صور الجنون والانسحاب والتجمد)
(4) وأخيرا فإنها (طاقة العدوان) تساعد على المثابرة لإكمال وصقل حركية الإبداع وتصعيدها إلى أن يتم الناتج الإبداعي، خاصة من النوع الفائق[26].
الخلاصة
ومن هذه المقدمة، فالمراجعة، نستطيع أن نخلص إلى ما يلى:
1- إن نظرية الغرائز بصورتها الجديدة من منطلق علم الإثولوجيا قد عادت لتأخذ حقها فى فهم سلوك الإنسان وتطوره.
2- إن التسليم بنظرية للغرائز يرتبط ارتباطا مباشرا بالتأكيد على إمكان وراثة العادات المكتسبة الغائرة ذات الدلالة التطورية (التعلم بالبصم) وبذلك لايصبح الأمر تسليما للغريزة وإنما انطلاقا منها.
3- إن غريزة العدوان أعمق وأكثر خطورة من غريزة الجنس، ومع ذلك فهى لم تأخذ حقها فى الدراسة والبحث بالقدر المناسب.
4- إن الفرص المتاحة للتعبير عن العدوان فى حياتنا المعاصرة نادرة وواهنة ، بحيث تجعل إهمال دراسة هذه الغريزة خطرا أكثر تهديدا.
5- إن الصور المحورة للتعبير عن هذه الغريزة وتراكماتها شديدة الخطورة لافتقار الإنسان إلى الجهاز المناسب الصالح للتحكم فيها مباشرة.
6-إن إنكارها-أو إهمالها- هو استسهال خطر لا يتفق مع مسئوليات العلماء المعاصرين مهما كان التبرير مقنعا تحت وهم أى أمل أخلاقى أو حلم مثالي.
7- إن محاولة ترويض غريزة العدوان بالتعليم الشرطي، أوإبدالها بالإعلاء والتعويض السطحى بالنجاح والسيطرة هى وسائل مرحلية، إن نجحت فينبغى أن نؤكد على طبيعتها المرحلية وإلا أعاقت النمو فى النهاية.
8- إن التغافل عن حسابات غريزة العدوان وتأثيرها قد يكون مسئولا عن الحروب والتمييز الطبقى المعلن والخفى بين الأجناس والطبقات الاقتصادية والاجتماعية والأديان، الأمر الذى زادت مضاعفاته وتضخمت مخاطره وخاصة بعد تملك أدوات الدمار بلا حدود، مما يهدد السلام البشرى بل وبقاء النوع الإنسانى أصلا.
9- إن الحل المسئول يتطلب إعادة فهمنا لمراحل تطور الغرائز، فيما بعد الإبدال والتسامى نتيجة لتآلفها مع وظائف أخرى ومع بعضها البعض فى تصعيد مستمر.
10- إن الإبداع الخالقى بمواصفاته الفائقة وخطواته المميزة من تحطيم وإعادة صياغة، ثم ما يترتب على ذلك من نبذ واضطهاد وإصرار وتحد، هو أقرب الصور للعدوان الحضارى مباشرة دون إعلاء أو إبدال ولكن بالمعنى التوافقى والولافى الأعلى.
11- يبدو أن إتاحة الفرصة لمثل هذا الإبداع الخالقى بجرعات متزايدة ولأعداد متزايدة هو الوقاية الأولى من مخاطر الدمار الشامل أو الانقراض التى تهدد وجود الإنسان فى مرحلته الحالية (وهذا النوع مثل كل إبداع لا يقتصر على إنتاج الإبداع وإنما على معايشته أساسا).
12- إن توظيف طاقة العدوان فى الإبداع – بكل أشكاله ومستوياته- لا يتناقض مع نظرية التنشيط الدورى لأبجدية الإبداع، ولا مع الجدلية الضرورية فى مواجهة نقيض الإبداع (الجنون السلبى التناثري).
13- إن ثمة تعديلا قد أضيف فى هذه المرحلة من تطور فكر المؤلف، فقد عدل عن التركيز على دور طاقة العدوان فى تحطيم القديم – ما دام التنشيط الدورى يقوم بالتعتعة تلقائيا، لكنه يركز على قدرة طاقة العدوان على الاقتحام، اقتحام طبقات الوعى للمبدع ذاته، واقتحام استاتيكية السكون، ثم اقتحام وعى المتلقى.
14- إن دراسة أنواع الإبداع من منظور بيولوجى الجذور، وظيفى المحتوى، غائى الدافع.. يمكن أن تفتح آفاقا جديدة لبحوث تبنى على تفرقة جديدة تساهم فى مسار الإنسان وتكامله ولاتركز على سماته وإتقاناته الطرفية- على الرغم مما فى ذلك من إسهام إيجابى لاجدال فيه- إلا أنه يحتاج إلى أن يتكامل مع دراسات نوعية أعمق[27].
جدول للمقارنة بين الجنس والعدوان: طبيعة ومسارا
الجنس | العدوان | |
الشكل البدائي | الالتحام الجسدى المتداخل | القتل (أو الالتهام) |
الوظيفة البدائية | التناسل | حفظ حياة الفرد |
الوظيفة الأرقى | التواصل (العلاقة) | تأكيد الذات (فى مواجهةالآخرين) النجاح |
التعبير المعاصر | الغرام | التعويض التفوقي |
الميكانزم الإبدالي | التسامي | (الانتصار) |
آثار الكبت المفرط | توقف النمو (اضطرابات الشخصية وخاصة اضطرابات سمات الشخصية) والمرض النفسى (وخاصة العصاب) | توقف النمو (اضطرابات الشخصية وخاصةاضطرابات نمط الشخصية)
والمرض النفسى (وخاصة الذهان وبالذات الفصام) |
احتمالات وظيفة الإبدال | التسامى يصنع الحضارة | التفوق يصنع الإنجاز(المسهم فى الحضارة)
|
التطور التعويضى الأرقى | الإبداع التواصلى (أولا)الولاف بين النقائض | الإبداع الخالقى (أساسا)الولاف بين النقائض:
|
الهدف الأعلى | الجنس مع العدوانثم الدوافع مع الفكر …..إلخ | الجنس مع العدوانثم الدوافع مع الفكر …..إلخ
|
جدول مقارنة بين الإبداع الخالقي
والإبداع التواصلى (دون فصل حاسم)
الابداع الخالقى |
(النابع x من العدوان أساسا)الإبداع التواصلي
(النابع x من الجنس أساسا)1 – تحطيم القديم فى مغامرة فردية صعبة
2-إعادة خلق الجديد من جزئيات القديم المـحـطـم بما يشمل المخاطرة بالوحدة والرفض
3-يتم هذا التحطيم وإعادة البناء عادة على حساب الآخرين- فى البداية وظاهر الأمر.
4-يلاقى المبدع من جراء إبداعه الخلاق قدرا من الرفض والنبذ والقسوة والاضطهاد مما يجعله فى معركة حقيقية.
5- يقاوم المبدع كل هذا بالوحدة والإصرار والاستمرار، مما يحتاج إلى كل طاقة عدوانه تجاه الآخر ( الآخرين) وهى وحدة تصب فى النهاية فيما رفضته ( فى الآخرين)
6-لا يقتصر هذا النوع على الإنتاج الفنى أو الأدبي، وإنما يشمل ، التغيير الذاتى الإبداعى فى النمو الفردي، والإنشاء العلمى والثورة السياسية والاجتماعية والاقتصادية المبدعة المسئولة إلخ ..– لا يلزم تحطيم القديم، وقد يكتفى بتحسينه حتى القبول
2- العملية الأساسية تهدف إلى تناسق الجزئيات القادرة على التناغم مع نفس المستوى عند المتلقي.
3- تتم هذه العملية لحساب، وسعيا إلي، الآخر أساسا.
4- عادة ما يجد المبدع تقبلا واستحسانا من البداية
5- والمبدع هنا لا يؤكد وحدته بنفس الحدة المطلقة-كخطوة أيضا- وإنما هو يأتنس بمن يتحدث -ويتلقي- على نفس موجته بشكل نسبى على الأقل، ومنذ البداية أيضا.
6- يمكن أن يكون هذا النوع مرادفا للإبداع ‘الموهبة’ المرتبط بتنمية القدرات الفنية الخاصة، وبالتالى فهو يشمل أغلب الإنتاج الفنى والأدبى بصوره المتميزة والمألوفة، دون القفزات الطفرية التى تغير مسار صوره وأشكاله، ومسار الحياة برمتها .
جدول مقارنة بين الإبداع الخالقى ، والإبداع التواصلي
(دون فصل حاسم)
الابداع الخالقى | الإبداع التواصلي |
1 – تحطيم القديم فى مغامرة فردية صعبة
2- إعادة خلق الجديد من جزئيات القديم المـحـطـم بما يشمل المخاطرة بالوحدة والرفض
3- يتم هذا التحطيم وإعادة البناء عادة على حساب الآخرين- فى البداية وظاهر الأمر.
4- يلاقى المبدع من جراء إبداعه الخلاق قدرا من الرفض والنبذ والقسوة والاضطهاد ما يجعله فى معركة حقيقية.
5- يقاوم المبدع كل هذا بالوحدة والإصرار والاستمرار، مما يحتاج إلى كل طاقة عدوانه تجاه الآخر ( الآخرين) وهى وحدة تصب فى النهاية فيما رفضته( فى الآخرين)
6-لا يقتصر هذا النوع على الإنتاج الفنى أو الأدبي، وإنما يشمل ، التغيير الذاتى الإبداعى فى النمو الفردي، والإنشاء العلمى والثورة السياسية والاجتماعية والأقتصادية المبدعة المسئولة إلخ .. . ..
1- لا يلزم تحطيم القديم، وقد يكتفى بتحسينه حتى القبول
2- العملية الأساسية تهدف إلى تناسق الجزئيات القادرة على التناغم مع نفس المستوى عند المتلقي.
3- تتم هذه العملية لحساب، وسعيا إلي، الآخر أساسا.
4- عادة ما يجد المبدع تقبلا واستحسانا من البداية
5- المبدع هنا لا يؤكد وحدته بنفس الحدة المطلقة-كخطوة أيضا- وإنما هو يأتنس بمن يتحدث -ويتلقي- على نفس موجته بشكل نسبى على الأقل، ومنذ البداية أيضا.
6- يمكن أن يكون هذا النوع مرادفا للإبداع ‘الموهبة’ المرتبط بتنمية القدرات الفنية الخاصة، وبالتالى فهو يشمل أغلب الانتاج الفنى والأدبى بصورة المتميزة والمألوفة، دون القفزات الطفرية التى تغير مسار صوره وأشكاله، ومسار الحياة برمتها .
الهوامش:
[1] – لورنز وتينبرجن Tenbergen فى كتاب Comprehensive يمكن 1967
[2] – يقول آرثر كوستلر Arthur Koestler ..إننا لو تتبعنا الخط المجنون الذى سار عليه تاريخ الإنسان فإنه قد يظهر أن هناك احتمالا كبيرا أن هذا الكائن العاقل Homo Sapien ليس سوى مخلوق بيولوجى شاذ, ناتج من خطأ واضح فى عملية التطور’ ويقول فى موضع آخر: إن ظهور القشرة المخية الجديدة Neocortex (فى الإنسان) هى المثال الوحيد فى التطور الذى أعطى نوعا من الأحياء عضوا لا يعرف كيف يستفيد من استعماله.
[3] – يختص هذا البحث أساسا بالعدوان بين أفراد نفس الجنسIntraspecies دون سواه.
الحب = العشق = البقاء
[4] – وكان الموقف أضعف بالنسبة لغريزتى الموت Thanatos والحياةEros (الحب العشق البقاء…). حتى أن فرويد لم يتمادى فى شرحها, أو الدفاع عنها, ولم تنتشر أفكاره حولها إلا بعد وقاته.
[5] – عدد إريك فروم أربع عشرة من القبائل غير إسكيمو الأرض الخضراء (مثل قبائل الإنكاس والباشيجاس.. وغيرها) ممن اعتبرهم مجتمعات لا تتصف بالعدوان التحطيمى أصلا.
[6] – يذهب بعض السلوكيين (مثل ج.دولارد وزملائه) إلى اعتبار العدوان ببساطة أحد مظاهر التفاعل للإحباط أساسا.
[7] – نعلن تحفظنا ضد استعماله كلمة كريهة offensive لأى أثر بيولوجي, حيث العيب الذى جعله كريها ليس فى وجوده وإنما فى انفصاله عن الكل.
[8] – ولعل هذا ما حاول أليسون فيتزسيمون تأكيده فى حديثه عن الغضب والعدوان (وهو يستعملهما كمترادفين) فى قوله: ‘إن الغضب.. هو جزء لا يتجزأ من الحب ومن كل الدفاعات والتحفظات ضد الموت والقوى المهددة, وبالإضافة فإن هناك شيئا صحيا ومفيدا فى العدوان : هو أنه جزء من كل الأساليب الإبداعية’. (وهو لم يذكر كيف كان ذلك, وهذا ما سنحاول الوصول إليه فى نهاية البحث).
[9] - فى حديث إريك فروم عن العدوان كتأكيد للذات Self Assertion حاول أن يدعم العدوان كخطوة أمامية (ضد النكوص كخطوة رجوعية).
[10] – يحيى الرخاوى : دراسة فى علم السيكوباثولوجى 1979 (شرح سر اللعبة)
[11] – كما يمكن الرجوع إلى عرض إريك فروم (المحلل النفسى الحديث فى كت ابه ‘تشريح عدوانية الإنسان’) لتطور وجهة نظر فرويد فى نظرية العدوانية والتحطيم Freud’s Theory of Aggressiveness and Destructivenes فى تسلسل رائع منذ اعتبرها أولا (ثلاث مقالات فى الجنس 1905) جزءا من المكونات الغرائزية Component instincts لغريزة الجنس, ثم أخذ يشك فى وجودها كغريزة مستقلة (حالة هانز الصغير سنة 1909) حتى أعلنها مستقلة فى ‘مافوق مبدأ اللذة 1920’ دون اقتناع كامل, وكيف قرنها ابتداء بما أسماه غريزة الموت, أى أنه نظر إلى فاعليتها السلبية والتحطيمية أساسا, وظل فروم يستعرض التطورات التالية حتى قرب وفاته (1938) حيث أكد أخيرا ‘…إن العدوانية بصفة عامة هى ظاهرة غير صحية وتؤدى إلى المرض’ (لاحظ استعمال عدوانية Aggressiveness وليس عدوانا Aggression التى نادرا ما كان يشير إليها والتى هى موضوع بحثنا هذا).
[12] – كلا من ستور Storr, A. (1970) (أنظر القراءات) وألفرد أدلر.
[13] – هذه المرحلة تحتاج إلى تفصيل لا يمكن أن يستوعبه هذا البحث, رغم أن ما يهم فى هذا البحث فى المقام الأول هو عرض الحل الصحى المنطقى لانطلاق العدوان وليس الصورة المرضية لمضاعفات كبته.
[14] – قد يكون موقف سارتر من جحيم الآخر موقفا مبدعا بالضرورة, من هذا المنطلق بالذات.
[15] – يحيى الرخاوي. (1975) ‘تحرير المرأة وتطور الإنسان, نظرة بيولوجية’. المجلة الإجتماعية القومية,12 , العددان 2 – 3.
[16] – ذكرت أغلب هذه التطبيقات كما هى مصاحبة للمحاولة الأولى فى كتابة هذه الدراسة عن العدوان والإبداع, ولم أضف إليها الآن إلا الإشارة إلى بحثى الدكتوراة الذين نبعا منها وأجريا فى كل من كليتى الطب جامعة القاهرة والآداب جامعة عين شمس, وكذلك الفقرة -6- بشأن ما يتعلق بالمنهج ووسائل التحقيق وأدواته.
[17] – وقد أوحت هذه الملاحظة بفرض اقترحته على إحدى طالباتى , فقامت بعمل رسالة دكتوراة فى الطب النفسي, لبحث التفرقة بين مظاهر العدوان السلبى والإيجابى فى مسار العلاج الجمعى عزة البكري, ظاهرتى الاكتئاب والعدوان فى العلاج النفسى الجمعي, رسالة دكتوراة, كلية الطب, جامعة القاهرة 1990 (غير منشورة).
[18] – وقد تحقق ذلك فى البحث المشار إليه فى الهامش السابق , بقدر ما تحقق فى بحث آخر فى نفس مجموعة العلاج الجمعي:
نجاة النحراوي, (1981) دراسة اكلينيكية فى بعض حالات البارانويا من خلال أعراضها (محاولة توضيحية). رسالة ماجستير. كلية البنات. جامعة عين شمس.
[19] – يحيى الرخاوى (1978) مقدمة فى العلاج النفسى الجمعي: عن البحث فى النفس والحياة. القاهرة : دار الغد للثقافة والنشر.
[20] – القتل بين مقامى العبادة والدم: قراءة فى ليالـى ألف ليلة لنجيب محفوظ. الإنسان والتطور عدد 19 من 122 – 156.
[21] – يحيى الرخاوى (1987, 1988) : قراءة نقدية فى ‘ بيع نفس بشرية’ لمحمد المنسى قنديل الإنسان والتطور, 32, 33 :98-126
[22] – يحيى الرخاوى (1983) الموت .. الحلم .. الرؤيا دراسة فى رواية الأفيال لفتحى غانم. الإنسان والتطور,15 : 108- 136.
[23] – يحيى الرخاوي: من قصيدة رثاء الفخر (لم تنشر بعد), القتل فعل فارس , ما أشعل النار الحياة تــــفجــر الوعى المضفر بالعدم , [ لكن دس السم فى نبض الكلام , قتل جبان]
[24] – الأمر الذى عانيت منه فى قراءتى لشعر أحمد زرزوز , ولم أعد إليه ثانية عجزا وخوفا. يحيى الرخاوى (1986): هوامش وهواجس حول شعر أحمد زرزور. القاهرة, أبريل, عدد 58 ص 78-79.
[25] – يحيى الرخاوي: دورات الحياة وضلال الخلود (الموت والتخلق فى حرافيش نجيب محفوظ) . فصول المجلد التاسع . العدد الأول والثانى . أكتوبر 1990 : ص 153- 188.
[26] – إن الدعوة إلى استيعاب العدوان فى حركية الإبداع لا يمكن أن تقتصر على تنمية المواهب, أو الحفز على الإنتاج الإبداعي, بقدر ما تشير, وتوصى بضرورة خلق محيط من الحرية والحركة والمحاولة فى كل مجالات الحياة تسمح باستيعاب هذه الطاقة فى مختلف أشكال, ومراحل, ومستويات الإبداع.
[27] – لا تستند هذه الدراسة إلى نصوص بذاتها بقدر ما تستعين , تآنسا فى السياق, بمقتطفات من قراءات مواكبة, لذلك فضلت أن أحتفظ بالمراجع الأولية كما أثبتت فى العمل فى صورته الأولى , ليس باعتبارها مراجع محددة, وإنما باعتبارها إطارا عاما متداخلا مع الأرضية التى نشأ فيها هذا الفكر, فهى قراءات مواكبة, ولكنها ليست جوهرا يرجع اليه, بحيث تظل الأطروحة فى نفس موقعها حتى لو رفعنا منهم الدعم المقتطف, ولا أود أن أسن بذلك سنة لا أوافق على تعميمها, لكنى متمسك بحقى -حالا- فى ذلك , وبالإضافة إلى ذلك فإن ثمة قراءات لا غنى عنها بما أقتطف منها , بحيث أحسب أنه لا يمكن الحوار مع ما جاء بهذا العمل بغير الإلمام الكلى بكافة جوانبها.
ومن أهم تلك القراءات الموصى بها:
سيجموند فرويد: ‘ما فوق مبدأ اللذة’ : ترجمة محمد عثمان نجاتي, دار المعارف 1966.
يحيى الرخاوي: ‘تحرير المرأة وتطوير الإنسان, نظرة بيولوجية’, المجلة الاجتماعية القومية, المجلد الثانى عشر (العدد 2, 3) 1975.*====*
يحيى الرخاوي: ‘دراسة فى علم السيكوباثولوجي’: دار الغد للثقافة والنشر 1979, القاهرة.
يحيى الرخاوي: الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع. فصول, المجلد الخامس, العدد الثاني, ص67-91. (منشور بالكتاب الحالي).
يحيى الرخاوي: جدلية الجنون والإبداع فصول 6 , 4 1986: 30-58. (منشور بالكتاب الحالي).
Alliso, C .C. (1972) Guilt, Anger and Cod’. New york: The Seabury Press.
Arieti, S. (1976) ‘Creativity: The Magic Synthesis’ New york: Basic Books.
Corning,W.C. (1975) ‘Violence Depends on your Point of View.
Dyal, J., Cornin, W. & Willows, D. (1975) ‘Readings in Psychology: The Search for Alternatives’ New york: Mc Graw-Hill Book Company.
Fromm, E. (1973) ‘The Anatomy of Human Destructiveness’. New York: Fawcett Crest.
Storr, A. (1970) ‘Human Aggression’ New York: Atheneum Publisher.