نشرة “الإنسان والتطور”
10-8-2011
السنة الرابعة
العدد: 1440
كتاب جديد (قديم)
عندما يتعرى الإنسان (9 من 12)
“دروس للناس: فى الطب النفسى”
الركوب بالدور
قال الفتى:
- وددت لو قلت أقول لك كفى. لا أريد أن أفجع فى الحب وأنا على وشك أن أتزوج، أنا شاب فى مقتبل عمرى، أريد أن أستمتع بالحب حتى وأنا مغمض العينين.
قال الحكيم:
- كيف ذلك بالله عليك؟ الحب هو طاقة التطور، هو أغنية الحياة، فمم تخاف؟
قال الفتى:
– حكمتك التى تهز كل الأشياء جعلتنى أتوجس منك، فما لمست شيئا إلا وتحطَّم.
قال الحكيم:
- لو كان أصيلا ما تحطم، إنما تسقط القشرة البالية التى ستقع يوما حتى بدون أن نقترب منها، أما الجوهر فهو ثابت وأصيل ومتجدد أيضا، فلا تندم على ما يقع من مجرد هزة، فإنما نحن نعجّـل بما هو حتمى… .
قال الفتى:
- كلامك مقنع، ولكنى مازلت أتمنى ألا نسكب الماء البارد على قلوب غضة تنبض بالدفء مع كل همسة غرام، لا أريد أن تدمى الأصابع الرقيقة التى تتلامس فى لهفة حانية، بأشواك الحقيقة، لا أريد أن أعرف.. أنا شاب مثل الشباب فدعنى أفتح عينا وأغمض أخرى.
قال الحكيم:
- أنت الذى سألتَ وألححت ومشيت معظم الطريق، وما أنا إلا مرافقك، المستقبل مستقبلك، والاختيار اختيارك.
قال الفتى:
– ألا يكفى ما قطعنا من شوط، لهثت فيه وراءك وكادت عيناى تغشيان من شدة الضوء.
قال الحكيم:
- المسيرة لا تنتهى، والحقيقة تتكشف باستمرار، وعبادة صنم واحد مثل عبادة ألف صنم.
قال الفتى:
- ليس لى خيار
قال الحكيم:
- الرجوع دائما محتمل، هيا، ولكن كيف تنسى؟
قال الفتى:
– وحتى لو أغمضت عينى، فالمنظر فى خاطرى يملؤ وجدانى ولا يبرح عقلى، هات ما عندك، وليسقط الخوف والتردد.. ولكن رفقا بالحب.
قال الحكيم:
- يا بنى. لقد امتهن هذا اللفظ، مثل كثير من الألفاظ، حتى فقد معناه، ونحن لا نحطمه، وإنما نعيد له معناه الأصيل.
قال الفتى:
– هاتها ، فما دمنا قد بدأنا، دعنا نواصل، وأمرى إلى الله
****
قال الحكيم:
- جاءتنى تشكو عرضا عاديا يعالج عادة بالأسبرين والشاى، جاءتنى تشكو الصداع
قال الفتى:
- الصداع!؟
قال الحكيم:
- يقولون إن الصداع ألم بالرأس، ويضربون ويطرحون ويقسمون، ويربطون الظواهر ببعضها ويستنتجون، وإذا جاء مريض بعد ذلك يصف وصفا لم يسمعوا عنه، قالوا مبالِغ يتخيل، مع أنك لو دققت النظر فى هذا الألم الذى بالدماغ عند كل مريض لوجدت أن كل فرد يختلف عن الآخر، ولوجدت أن أجزاء الرأس التى تتألم تتنوع بتنوع المحتوى، بل إن مسار الألم يختلف، فضلا عن نوعه، وقد وصفوا ذلك كله فيما يتعلق بالتهاب الجيوب الأنفية وارتفاع ضغط العين، ولكنهم لم ينتبهوا بالقدر الكافى لالتهاب الجيوب الفكرية وزيادة ضغط المجتمع، مع أن القصة كلها فى الدماغ، والثورة فى خلايا المخ، وصراع التيارات المتضاربة تسرى كالكهرباء أو هى الكهرباء فى دوائر خاصة: سوف تتحدد غالبا.
قال الفتى:
- تريد أن تضع كل هذه الحكمة فى سجن الخلية العضوية.. فى المخ؟
قال الحكيم:
- أنا لا أضع شيئا ولا أنزع شيئا، وإنما الحياة بدأت فى الخلية، وكل ما ليس فى خلية ليس من الحياة، ولا يمكن أن ننكر على الإنسان بعد مئات الملايين من بداية رحلة الحياة حق خلاياه فى أن تكون مصدر الحياة لمجرد جهلنا بالتفاصيل، وكما تعلم فإن قمة تطور الخلايا هى مخ الإنسان.
قال الفتى:
- كنت أحسب أن وضع الحكمة فى الخلايا جزء من بدعة الميكنة والتكنولوجيا
قال الحكيم:
- بل عليه أن يكون تسخيراً للميكنة والتكنولوجيا لخدمة الحياة.
قال الفتى:
- والحب أيضا… فى الخلايا إياها؟
قال الحكيم:
- هل نسيت أن الحب هو الحياة؟
قال الفتى:
- لم أنسَ، ولكن الكلام النظرى يحدث لى صداعا، فلنرجع إلى صداع المرأة التى جاءتك تشكو الصداع، ربما خف صداعى أنا.
قال الحكيم:
جاءتنى تشكو الصداع، قالت:
– ليس صداعاً مثل الصداع، ولكنه شئ صرخ فى مؤخرة رأسى وجذبنى فى اتجاه قفاى حتى كاد يطرحنى على ظهرى، هكذا خيل إلى ثم أحسست ببرودة تسرى فى نفس المكان من مؤخرة الرأس، ثم سرَت فى جسمى كله، وتغيرت بعد ذلك الأشياء.
– كيف؟
- لست أدرى كيف، ولكن الأمور اختلفت.. هكذا، ولا أستطيع أن أصف لك أكثر من ذلك، المهم خلــِّـصنى من الصداع.. ثم.. ربما تعدلت الأمور المقلوبة، حدث شئ لا أدريه مع ظهور الصداع، ولربما إذا ذهب الصداع ذهب الشئ، وساعتها سوف أشكرك دون أن نرهق الألفاظ بمعان لا تستطيع أن تلم بها، ثم إنى لا أريد أن أرهقك بحى أحداث لن تفهمها، هات مهدئاتك وأقراصك فقد ملأت أمعائى بالأسبرين والنوفالجين.. ولا فائدة.
- الصداع مظهر لما حدث… فماذا حدث؟
– أنا لا أعرف ماذا حدث… ولست على استعداد للكلام فيما حدث لأنه لم يحدث شىء…، عندى صداع فلا تزدنى صداعا بأسئلتك، لقد ترددت مائة مرة قبل أن أحضر إليك، ويبدو أن ما قالوه عنك حقيقة فعلا، يبدو أنك تحاول أن تقلب رأسى بالبحث عن أوهام فى رأسك أنت، أوهام ليس لها أساس إلا عند شيخكم المعقد، حياتى كلها ”عال”، لم أعشق والدى ولم أشعر بالغيرة من أمى، وتزوجت عن حب وأقوم بواجباتى على خير وجه، وأولادى متفوقون بالمدارس وكل شئ على ما يرام.
- إذن لماذا جاء الصداع… هكذا فجأة؟ ولم يذهب
- يا سبحان الله! أنا التى أسالك أم أنت تسألنى؟
- أنا لا أسأل… ربما أتساءل
- إما أن تعطينى عقارا من عقاقيرك وإما أن أنصرف
- أعرف بعض التفاصيل حتى أحدد العقار المناسب.
- هكذا، …. نعم..
- هل الصداع موجود بنفس الشدة طول الوقت؟
- كان الألم فى أول الأمر مثل سيخ بارد رشق فى رأسى من الخلف، وتغير الأمر بعد ذلك، فهو شعور مكتوم غريب، كأن شيئاً يمشى فى رأسى، كأنه الهمس، كأنه التنميل كأنه اللسع، كأنه ثقل بالداخل يتحرك فى حيز ضيق، كأن شيئاً يسرى فى غير اتجاه، كأنى لست أنا، كأنى عندى صداعاً، ليس كالصداع
- والنوم؟
- مرة ثانية تستدرجنى… وسأجيب عن النوم، أما الأحلام فهذا سرى الخاص، جئت أعالج بالعقاقير، فالنوم من حقك أما الأحلام فهى خاصة بى، فليكن..، أنا أنام، لا ليس نوما هذا الذى يحدث، ليس مثل زمان، أنا أموت، أعنى أنه نوم كالموت، كأنى لا أنام، أحس أن القوة فى مؤخرة رأسى تجذبنى إلى السرير من الخلف، وحين أنام أذهب إلى عالم سحيق لا قرار له، وحين أستيقظ أقوم وقد حملت على صدرى الهرم الأكبر، ولكن هل هذا استيقاظ؟
- إذن ماذا؟
- لست أدرى.. اختلط النوم باليقظة، وكأن النوم موت واليقظة نوم، أما اليقظة الأخرى، أعنى الحياة فهى… أين هى؟ هل أنا حية.. أعوذ بالله، يكفى هذا.. ربما بسبب الصداع… ربما شملنى حتى لم أعد أشعر بالأشياء بنفس الدقة، هذا يكفى وأعطنى عقاقيرك… أو أنصرف فورا.
****
وأخذت العقاقير العظيمة.
****
– كيف الحال؟
- الحمد لله.
- بمعنى؟
- يعنى لا بأس.
- أريد أن أعرف بالتفصيل… حتى نحدد الخطوة التالية
- مازلت أخاف الخطوة التالية… كل شئ توقف ولا أريده أن يتحرك.
- لا أقصد.. وإنما أعنى نزيد العقاقير أو ننقصها.. أو نغيرها مثلا.
- وماذا فعلت العقاقير؟
- هذا هو سؤالى.
- الصداع أحسن.
- وبقية الأعراض؟
- ليس للأعراض بقية.
- إذن نستمر.
- إذن ماذا؟ ولكن هذه هى المشكلة.. لم أعد أستطيع الاستمرار.
- نستمر على العقاقير.
- آه.. على العقاقير ربما.. ولكن الحياة؟
- مالها؟
- كيف تستمر هكذا.
- مادام الصداع أحسن.
- نعم؟ تتحدث مثلما كنت أتحدث أنا فى المرة السابقة.
- أكلمكِ بلغتك.
- وماذا فعلت لغتى.
- أنت تريدين هذا.
- عليك أنت أن ترفضه.
- ما فائدة رفضنى أنا.
- تساعدنى على نفسى.
- بالعافية؟
- نعم.
- تثقى بى أولا.
- حصل… أو كاد.
- ثم نعرف ماذا جرى…. وماذا يجرى
- قد أعرف ماذا جرى.. وعليك أنتَ أن تقول لى ماذا يجرى
– ماذا يجرى؟
……
……
– أصبحت حياتى بين النوم والموت، أصحو وكأنى أنام، وأنام وكأنى أموت، اختلط النوم بالموت واختفت الحياة، منذ ذلك اليوم..
- ماذا حدث… ذلك اليوم؟
- لم يحدث الذى حدث ذلك اليوم.. ولكنها أيام وليال وشهور سابقة، أما ذلك اليوم فهو يوم انهيار البناء المتصدع، بدأ التصدع من سنوات: قل ثلاثة أو خمسة، لم تكن الرؤية واضحة ثم انهار كل شئ.
- … أى شئ؟
- انهار شئ ما كان قائما.. صورة أو تركيبة أو بناء سقط، فجأة.. حدث ذلك إثر حادث عادى.. التواء فى مفصل القدم اضطر زوجى أن يضع رجله فى الجبس ثلاثة أسابيع، ثلاثة أسابيع فقط ولكنها كانت كافية، كان البناء متصدعاً بما فيه الكفاية
- لا أكاد أتتبعك.. عم تتحدثين؟
- عن زوجى
- ماله؟
- وضع قدمه فى الجبس
- إذن ماذا؟
- رأيته من الداخل
- ثم ماذا؟
- فجعت.. فى..
- فى ماذا… لماذا؟
- فى كل ما كان.. بدا ضعيفا حتى لم أعرفه، كان العجز والاستجداء معاً، أثار شفقتى فلم أعرفه، لا ليس هو، ولست أنا، دارت رأسى ولم أصدق، ضباب كثيف، ثم أفكار تجرى وراء بعضها، وعلامات استفهام بلا سؤال، كأن عينا انفجرت من تحت الأرض تحمل ألفاظاً وحروفاً ومشاعر من كل الأنواع… لا أكاد أميزها، يومين كاملين كنت كالمسحورة أو التائهة، كنت أحاول أن أستجمع غبائى كله حتى لا أفهم، كنت أربط رأسى حتى أغطى عينى ربما حجبت عنها الرؤية… ثم… ثم اخترق رأسى ذلك السيخ البارد، وتغير طعم الأشياء، وتحدد الصداع، وجئت لك.
- ولكن كيف بدأت الحكاية
- الظاهر أنه لا بد أن أحكى لك من الأول.. حكايتى أنا لا حكاية الصداع
(1)
– أنتِ أحسن الطالبات لدى
- شكراً يا أستاذ.. هذا بفضلك
- وأحلاهن.
- نعم؟
- كم عمرك؟
- سبعة عشر.. وأسير فى الثامنة عشر
- وأنا تخطيت الثلاثين
- نعم؟ نعم يا أستاذ؟
- لا شئ.. هل.. ؟
- هل ماذا يا أستاذ؟
- هل يمكن أن أقابل والدك؟
- طبعا يا أستاذ.. طبعا
- أنت أحلى البنات
- وأنت أعظم الرجال
(2)
- لا أصدق كل الذى حدث بهذه السرعة
- أنا فى حلم.. لا أريد أن أفيق منه
- سأصنعك على عينى.. سأشكلك كما أريد
- أنا عجينة بين يديك.. إصنعنى كما تشاء
- أنت أجمل ما اقتنيت
- وأنا سعيدة بك
- أنت سبب نجاحى فى الماجستير
- أنا جارية تحت أقدامك
- أنت نور حياتى
- وأنت شمس الوجود كله
- ما أحلى الحب
- اسمك لا يحيط باصبعى فقط ولكنه يلف كيانى كله
- أنت جزء من وجودى
- لقد ذبت فيك تماما
- أصبحنا واحدا
- وسنجعل من بيتنا جنة
- أنت ملكة الحور
- أكاد لا أصدق
- حقيقة كالحلم
(3)
– بيت رائع.. وحب لا ينتهى
- أنا سعيدة
- وأنا أسعد
- يقولون أن زواج الحب لا يدوم
- وحبنا يزيد كل يوم اشتعالا
- ليس فى الدنيا سوانا
- ولا نريد أحدا معنا
- أنا أنت.. وأنت أنا
- لا أشعر بأحد فى العالم سواك
- ولا يخطر على بالى غيرك
- أنت الأول والآخر
- وأنت معى إلى الأبد
- انتهيت من الدكتوراه بفضلك
- ما أنا إلا صنع يديك
- سأعين فى الجامعة عن قريب
- أقل مما تستحق
– أنت ملكى وحدى
- أنت كل شئ فى الوجود
- ليس فى الدنيا أسعد منا
- أبدا
(4)
– أنا خائف
- من الحسد؟
- من فرط السعادة
- لا تدع نفسك للظنون
- نكاد لا نختلف
- نحن روح واحدة فى جسدين
- بدأت أخاف الأيام
- أنا تحت قدميك
- أنت تزدادين جمالا… وأنا أزداد انشغالا.
- مجرد وجودك يكفينى
- أخشى عليك من الفراغ
– أنت تملأ حياتى
- إلى متى ؟
- إلى آخر العمر
- آخر العمر عندى غيره عندك
- ماذا يدور فى رأسك
- فارق السن يزعجنى
- ولكنك أبى وأمى وحياتى وأملى
- إلى متى ؟
- يجعل الله يومى قبل يومك، أنت ترعبنى، ماذا يدور فى رأسك؟
- لا شئ.. هل لى فى قدح قهوة من يديك الجميلتين
- سمعا وطاعة.
(5)
– هل نسيت فاتورة التليفون؟ قطعوا الحرارة اليوم
- أحسن، أنا لم أدفعها عامدا
- لماذا؟
- لست صاحب أعمال.. ولا طبيب
- ولكن التليفون يصلنا بالعالم الخارجى
- نحن لا نحتاج للعالم الخارجى
- كيف؟
- ألا يكفيك حبى
– يكفينى وزيادة
- فلتذهب تلك الآلة المزعجة إلى الجحيم
- أمرك
- مازلت تحبينى ؟
- مادام قلبى ينبض…
- هل الإفطار جاهز
- سمعا وطاعة
(6)
– ……..
- سمعا وطاعة
(7)
– ……..
- سمعا وطاعة
(8)
هكذا كنا…
هو يأمر وأنا أطيع، هو يفكر… وأنا أناقش فكره الذى هو فكرى، هو يضطرب فلا أنام، هو يقرر وأنا أنفذ، هو كل شئ وأنا لا شئ ولكنى كل شئ به، هو الأول والآخر، هو نبضى وجسمى وكيانى وأملى وحياتى وكل شئ فى هذه الدنيا، هو هو هو، وأنا هو هو.
هذا بعض ما كان
وقد كنت سعيدة بكل ما كان، أعنى كان سعيدا بما كان.. وبما أنه سعيد فأنا سعيدة، وإذا خاف فأنا خائفة، وإذا جاع فأنا جائعة، ليس هناك مشاكل، وكيف يمكن أن توجد، كل شئ حب فى حب وليس فى العالم سوانا.
- كل شئ ماذا؟
– حب وعشق وهيام، خلاياى كلها تتجمع فى كفه يلمسنى، جسدى يتلاشى فيه، وعقلى ووجدانى وكل شئ، ثم..، ثم.
- يتلاشى
-.. ثم ماذا؟
- ثم؟!.. ”وياليت” ثم لم تأت أبداً، ولكن يبدو أن هناك دائما ثم.. ثم.
****
– الناس كلاب
- أنا لا أعرفهم
- الناس يأكلون بعضهم
- الجامعة مليئة بالمشاكل؟
- الجامعة وغير الجامعة
- ولكنك قادر على كل شئ
- الشباب أصبح وقحاً
- كنتَ شابا وتعرف نزعاتهم
- كنت ماذا؟
- كنت شابا
- والآن؟
- أنت دائما سيد الرجال
- لم أعد شابا؟
- أنت شباب على طول
- ولكنك لم تقولى ذلك فى أول الأمر
- أهوّن عليك
- تجرحينى؟
- أنا خادمتك.. يقطع الله لسانى
- ”هذا” ما عملت حسابه
- ما ”هذا”؟
- الطلبة فى الشقة المقابلة
- مالهم؟
- سفلة
- فى منتهى الوقاحة
- كيف علمت؟
- أنت تقول وأنا أصدق عليك
- لا بد أنهم أظهروا وقاحتهم معك، ولم تخبرينى
- أنا لا أعرفهم
- إذن كيف تصفيهم بأنهم فى منتهى الوقاحة
- أنت الذى قلت أنهم سفلة.. فلا بد أنهم فى منتهى الوقاحة
- سنقفل الشباك بالمسامير
- خيراً تفعل.. ولكن لماذا؟
- يبعدون وقاحتهم عنا
- فى ستين داهية
- موافقتك هذه تهزنى
- ولكنى طول عمرى أوافقك
- هذا أمر آخر..
- كل كلامك أوامر
- أنا محتار
- لا تشغل بالك
- هاتى المسامير والقادوم
- سمعا وطاعة
****
وحتى هذه اللحظة لم أكن أتصور أن فى الأمر شيئاً، كان قويا واثقا، ولكن.. حين بدأ يلين ويتراجع بدأت أنا أهتز، كان من المفروض أن أرحب بهذا التغيير وأرتاح له، ولكن الذى حدث هو العكس، كنت قد تعودت على التحديد والأوامر والوضوح، وحين أصبحت الأمور أحسن، وحاول أن يشعرنى بنفسى، تهت فى مجاهل لا أعرف أولها من آخرها، تغيرت لهجته، وكان ينبغى أن يبدو ذلك طيبا للغاية، ولكن مع ظهور هذا الشئ الطيب بدأت أسمع صوت التشقق والتصدع.
قال لى فى يوم ما دون مناسبة:
- أحس هذه الأيام أنى احتاجك أكثر
- طول عمرى تحت أمرك
- ولكنى أحتاجك بشكل آخر.. ربما ليس تحت أمرى
- طول عمرى تحت أمرك
– ربما أحتاجك هذه الأيام فوق أمرى
- ماذا؟ العين لا تعلو على الحاجب
- أحس بالوحدة
- ولكنى معك
- أنت لست معى، أنت فىّ
- لا أفهم
- أحس بحاجتى لإنسان بجوارى
- أنا بجوارك
- أنت جزء منى ولست بجوارى
- لا أفهم
- أحس بدبيب الضعف قادماً من بعيد
- أنت لا تضعف أبداً
- أنا إنسان
- لا..؟!
- ماذا؟
- أعنى لست ككل الناس
- كان ينبغى أن أصنعك بشكل آخر
- إصنعنى كما تشاء.. أنا بين يديك
- لم أعد قادرا على صنع شئ.. يداى ترتعشان
ولم أفهم ما الذى جرى له، لم أفهم ماذا يريد، ولا ما الذى ينبغى علىّ عمله، لم أفهم ما الذى حدث، ربما حدث له شئ من أمراضكم، أصبحتهم كالوباء تنتشرون بالماء والهواء، توقظون الناس من غفوتهم، وتطمّعونهم فى حياة أحسن، ثم ماذا، لم أفهم ما الذى جرى له، كان الناس قديما يعيشون مغمضى العينين ويموتون قبل أن يفيقوا من غفوتهم، ربما كان ذلك أفضل، ربما!، كان يستعملنى مثل الحذاء ورباط العنق والمعطف ولم أقل لا، وكان يأخذنى على صدره كالنيشان فى الحفلات والاجتماعات، ولم أقل لا، هو يحتاجنى فى أى وقت فيجدنى معلقة بجوار السرير، ولم أقل لا، لماذا يريد أن يكف عن استعمالى ويقلب حياتى رأساً على عقب، ماهذه اللهجة الغريبة التى بدأت تلون حديثنا، يحترمنى أكثر، ويقدرنى أكثر، أنا لم أتعود على ذلك، ماذا جرى له يا ترى، روحى وعينى وحياتى، ماذا جرى له؟ ولكنى حتى ذلك الحين لم أتصور أن فى الأمر شيئا يستحق الجزع واتهمت فهمى، لم أفهم، فليكن..، يكفى أن يفهم هو، حتى التوت قدمه، واضطر من باب الحيطة أن يضعها فى الجبس ثلاثة أسابيع، فقط، ولكنها كانت كافية.
****
– هكذا الأيام، ألم أقل لك أنى لم أعد أحتمل
- التواء بسيط سرعان ما تقوم منه بالسلامة
- وهذا الجبس، أصبحت عاجزا
- يبعد الله الشر عنك.. إجراء احتياطى
- أنت تستهينين بحالتى
- أنا أهوّن عليك
- كنت انتظرك قوية فى هذه الأحوال
- أنا قوية بك
- ومن غيرى ؟
- أنا لاشئ بدونك
- إذن.. فأنا أطلب المعونة من لا شئ
- حيرتَنى.. ربنا يبقيك لى ألف عام
- ولكنى أتغير
- أنت كما أنت.. طول عمرك سيد الرجال
- أنت لا تعرفين ماذا تفعل الأيام بالرجال
- تزيدهم قوة ورجولة.. أنت مثل أول أيام الزواج
- ليست هذه هى المسألة.. أعنى قوة أخرى
- أى قوة أخرى
- كيف أُفَهِّمك… ليتك كنت قوية
- أنا قوية بك
- أريدك قوية “لى”.. لا “بى”
- لا أفهم
- ولن تفهمى.. ويحى..! كان ينبغى أن أعمل حساب كل ذلك، أنا وحيد.. ضعيف، و… وحيد
****
لهجة جديدة لم أتعودها حاولت أن أفهمها، لم أستطع وابتدأ الدوار فى رأسى، وانفتحت عين الذكريات من تحت الأرض، وانطلقت نافورة الأفكار والألفاظ والحروف، وحاولت أن أحول دون أن تشكل تلك الحروف والألفاظ أى معنى، كان أى معنى يخيفنى، يهدد سكينتى، وفى نفس الوقت كنت أحس بصليل قوة غريبة تريد أن تدمر كل شئ، وخفت، عشت أياما وليالى طويلة مرعوبة، وكان يراودنى منظر نسيته طول عمرى وكأنى لم أعشه أبدا، منظر أبى وأمى..؟ لا أريد أن أتذكره.. الآن، لا أريد، لا أريد، أفضل الصداع والمرض على أن أرى تلك الصورة..، أنت الذى اضطررتنى للكلام. وعليك أنت أن تسكتنى، أين أقراصك التى تسد بها الأفواه؟ أليس عندكم أقراص للكلام وأقراص ضد الكلام؟ طلبت منك أن تتركنى فى حالى وإذا بك.. سامحك الله.
قلت لها:
- ولكنك أنت التى عجزت عن أن تستمرى كما كنتِ
- هو الذى أرادنى غير ذلك فلم أستطع ، وهأنت ذا تكمل علىّ، فتحت مخزن الألم
- ماذا كنت أستطيع، أنا صامت معظم الوقت
- كنت تتركنى أذهب فى ستين.. لا أريد. لا أريد
- ولكنه حصل
- منك لله.. يبدو أنى لا بد أن أحكى لك الحلم.
- أى حلم؟
- الحلم الذى حاولت أن أهرب منه بالصداع والأقراص والنوم
- بداية المرض؟
– حلم بشع مفزع.. فلتسمعه إذن ولتشمئز كما تشاء أنت السبب.. وعليك أن تحتمل
- ……
****
رأيتنى فى قاعة الاحتفالات بالهيلتون، وكان المدعوون تكاد تغطس رؤوسهم فى فجوات بالموائد، وكانت أقدامهم مربوطة تحت الموائد، كل الأقدام مربوطة مع كل الأقدام
ثم تغير المنظر…
المكان هو نفس المكان ولكنه أصبح كالسوق، سوق للحمير، وكنت – ولا تؤاخذنى – حمارة جميلة بين الحمير، ليس مثلى حمارة أخرى وجاء المعلم.. سيد المعلمين، وتحسسنى برفق. ثم اختبرنى وفتح فمى ليرى أسنانى وركبنى ودار بى، ثم تحسسنى ثانية.. واشترانى
ثم انتقل المنظر..
حظيرة جميلة فيها كل وسائل الراحة: الدفء والبرسيم والهواء والنظافة، وكان لى سرج من الحرير، ومهماز مغطى بالقطيفة حتى لا يجرح بطنى، ولجام رقيق لا يعض لسانى، فقد كنت هادئة ومطيعة، وعلمنى المعلم كل شئ.. الجرى و”الرهونة” وحتى الرقص على المزمار.. كنت حمارته المفضلة.. للركوب الشخصى فقط.. لا أحمل ترابا ولا سمادا…
ثم تغير المنظر
رأيتنى أقف على رجلىّ الخلفيتين وكلما حاولت أن أسير على أربع لا أستطيع، ثم… ثم انقلب نصفى الأعلى إلى إنسان….
ثم تغير المنظر
رأيت حماراً عجوزاً تقترب منى وتتسمح فى..، ولكنى نصف حمارة ونصف إنسان، وتعجبت من هذه الحمارة المنهكة وهى تتمسح فى كأنها تدعونى للركوب.. ولكنى لا أستطيع وأنا مسخ مشوه لا أنا حمارة ولا أنا إنسان، ولكنى – وهذا هو أكثر ما أرعبنى – نظرت فجأة إلى نفسى فوجدتنى حمارا ولست حمارة
وأخذت أصرخ وأصرخ وأصرخ حتى أيقظنى زوجى وأنا أقول
“لا يمكن.. لا يمكن”
يا ساتر..
لماذا يا دكتور، لماذا؟ اضطررتنى أن أحكى لك كل هذه البشاعة؟، ولكن.. عندك.. لا تطلق لخيالك العنان، لا تحاول ان تتحدث باللغة الداعرة عن تفسير الأحلام، لا تتصور أن لى رغبة فى أن أصبح ذكرا.. بل أن الذى أزعجنى هو هذا الأمر ذاته، لا تفسرنى بعقدة الخصاء والذى منه، فليس هناك قضيب فى الخيال ولا شذوذ جنسى…
قلت:
- أنا لم أقل شيئاً
- ولكنى أعلم عنك الكثير، أنا مثقفة رغم ما أنا فيه، كنت أقرأ فى مكتبة زوجى، لست أدرى ماذا جرى لنا، أنا أعلم تفسيرات شيخكم الغبية، أو القاصرة على أحسن الفروض
- صبرا.. فالدنيا تغيرت
- هل تاب الله عليكم من حكايات الجنس هذه؟ أليس الجنس عندكم هو الأصل؟
- بل الأصل هو الأصل
- ماذا تعنى ؟
- كيان الإنسان أولا
- ماذا تريد أن تقول؟
- الجنس دافع واحد.. وهو عند الحيوان والإنسان على السواء ولكن سعى الإنسان ليكون له كيان مستقل متفاعل هو الأصل.. هو الحقيقة الأولى.
- كيان؟ مستقل؟
- نعم.. كيان مستقل متفاعل
- وكيف يمكن أن يكون للإنسان كيان مستقل متفاعل؟
- أظنك آمنت أن مجرد الكلام لا يفيد
- نحن نتكلم لأننا لم نعرف كيف نعيش
- فلنعش
- كيف؟
- أنت هنا تحاولين
- باجترار الآلام وتفسير الأحلام؟
- ..بل نحن نعيد البناء
- أى بناء؟ وأنا مازلت لا أكاد أعرف أين أنا؟.. من أنا؟ مازلت متجمدة أمام الحلم وما يذكرنى به الحلم
- وما الذى يذكرك به الحلم
- أحاول أن أنسى
- وهل يمكن؟
- هل تصر؟
- وهل الأمر يحتاج لإصرار؟
- دعنى… لعلنى أنسى.. أو حتى أتناسى
- وهل يمكن؟
- إنها صورة فظيعة
- ومع ذلك
- أمرى إلى الله…ولكنها صورة فظيعة
****
“أبى يضرب أمى وهى تقبل قدميه”
أبى يبيع حليها… أكثر من أقة كاملة بميزان اللحم، وهى تدعو له بالتوفيق فى إتمام الصفقة، الدموع على خديها، ووجهها يضئ بابتسامة بلهاء
أبى يحضر مع أصحابه، وأحيانا – هل تصدقنى – صاحباته – فى المنزل… وأمى فى غاية السعادة.. تخدمهم
ثم يمرض أبى ويفقد أغلب ثروته فى صفقة لم يحسبها جيدا، ويصفى حسابه ويعتمد على إيراد ثابت من بقايا عماراته.
وتنقلب الصورة
بعد فترة انتقال إهتزت فيها أمى تماما واحتارت، لم تجد بدا من أن تركب… جاء عليها الدور،
ركبها أبى طالما كان قويا،
ثم جاء عليها الدور ولكنها لا تعرف كيف تركب،
وترددتْ، وتلكأتْ حتى ظهرت عمتى فى الصورة، بدأت تتدخل رويدا رويدا، وأبى الجبار يطيع فى لين وطراوة، أمى لا ينقصها الذكاء ولكن ينقصها التدريب، لم تفهم فى أول الأمر ماذا يجرى، ثم أثار دخول عمتى المسرح كل إمكانياتها الكامنة.
ذات يوم فاجأت أمى عمتى وهى تضع قدميها فى الركاب تستعد للقفز على المسرح، كانت تتدخل فى إدارة ما تبقى من عقارات وهو يسمع ويطيع، وهجمت أمى بكل غرائز المرأة وحب الحياة، وضعت قدمها بدلا من عمتى وقفزت واعتدلت فى جلستها.. وهزت رجليها، وانصاع الحمار العجوز
****
وعشت بقية عمرى أشاهد امرأة أخرى لا أعرفها، وهى لا تكف عن هز رجليها بداع وبغير داع ، ما أبشع هذا المنظر، ما أبشع كل ذلك ، لماذا؟.. لماذا… لماذا؟
– حلم مفزع
- وحقيقةٌ أفظع
- معك حق
- والآن كلما استيقظت من نومى وقبل أن يكتمل وعيى، أرى أمامى قدمين فيهما خلخال يهتزان بانتظام.. لا.. لا يمكن، لا أستطيع، كفى، لا يمكن أن تكون هذه هى ذكرى أبى وأمى الطيبين، الحلم هو أبى وأمى.. أليس كذلك؟
- وأنت؟
- مالى أنا.. الحلم هو أبى وأمى
- غير أنك كنت فى الحلم.. أنت وليس أمك
- فى الحلم؟ أنا أمى طبعاً فى الحلم فقط، أما فى الحقيقة فشتان بين الصورتين: كان أبى يضرب أمى ولكن زوجى لم يضربنى أبدا، كان أبى يستغل ثروتها ولكن زوجى لم يفعل ذلك أبدا، كان أبى يجرح أدق مشاعرها ولكن زوجى لم يخدش كرامتى أبدا… الفرق واضح
- فى التفاصيل
- ماذا تعنى ؟
- لكل مرحلة شكل
- ماذا تعنى ؟
- هل تقرئين الصحف؟ هل تقرئين فى السياسية؟
- طبعا… أنا مثقفة، وهذا منتهى الحرية، زوجى يسمح لى بالقراءة فى حين أن أمى لم تكن تعرف القراءة أو الكتابة
- هل سمعت عن الاستعمار الجديد
- بكل تأكيد، الصحف ليس وراءها إلا ترديد كلمة الاستعمار حتى ولو كانت هى نفسها نوع من الاستعمار
- ذكاؤك ثروة فى العلاج
- أمى كانت ذكية أيضا
- أنت التى تذكرين أمك
- ألا تقولون إن الذكاء وراثة؟
- ليس فقط الذكاء
- ماذا تعنى ؟
- حدثينى عن الاستعمار الجديد
- كان ”زمان” لا بد من جندى وبندقية، والآن تكفى اتفاقية واحتكار
- تماما.. أليس هذا هو الفرق بينك وبين أمك
- كيف؟
- نفس الحال
- حال الركوب
- ماذا تعنى؟
- كان المهماز من الحديد قديما.. والآن هو هو ولكنه مبطن بالقطيفة.. هذا هو كل الفرق
- ما أبشع ذلك
- كان ينبغى للرجل أن يضرب المرأة ويستولى على مالها حتى تتم السيطرة
- والآن؟
- الآن.. ليس عليه إلا أن يستغل كيانها وينميها لحسابه
- إذن فهو ينميها
- لحسابه
- ولكن الرجل الآن اختلف
- يتمنى أن يعيش إنسانا
- وماذا فى ذلك، هل هذه الأمنية هى السبب فى ظهور ضعفه هكذا؟
- هو ضعف البداية، هى دعوة لأن يكون جرا بشكل أعمق.
- كان أبى “زمان” لا يقعده إلا الشديد القوى، وحين يبرك يقوم
- والرجل يبرك الآن بمحض إرادته.. طمعا فى الأخذ .. طمعا فى استرجاع إنسانيته التى ضاعت تحت وهم قوة لا معنى لها
- ولكن الأوان قد آن؟ لا بد من توقيت صحيح
– هذه هى المأساة
- التى ظهرت فى الحلم
- أنت خبيث
- حكم الصنعة
- ألا يكفينى أنى حكيت لك الحلم.. وعليك أنت تفسيره
- هذا الحلم لا يحتاج إلى تفسير، ولكن ما الذى أفزعك فيه
- ربما أفزعنى ذلك المسخ المشوه، الذى لا يستطع الركوب، أفزعنى أن جنسى تحول، وأنا لا أحب تغيير جنسى على آخر الزمن، أنا أحبنى امرأة كما خلقت.
- ربما
- الذى أفزعنى أن تتكرر مأساة أمى.. مع أنها بدت لى بعيدة
- كيف؟
- أن نعيش حيوانات فهذه سعادة العمى والضلال، أما أن نعيش أنصاف حيوانات وأنصاف بشر فهذا ألم الضياع وقسوته
- ولكن هناك احتمال آخر
- أى احتمال آخر؟.. المرض والهرب أليس كذلك؟ هذا الصداع والنوم الموت؟
- نحاول أن نكمل حياتنا بشرا
- عشم إبليس فى الجنة
- الشمس تشرق كل يوم
- لا تخدعنى.. كفانى مابى.. أنا لم أعد أعرف من هو الانسان
- الانسان هو الكائن البشرى الذى يمارس حياته مع إنسان آخر ولا يكتفى باستعماله.
- إسمع… أنا لا أفهم هذه الأشياء، يعيش معه؟ يستعمله؟ ماذا تريد أن تقول؟
- كنتِ أنت وزوجك واحداً لا اثنين
- هذا هو الحب
- هكذا يسمونه؟
- إذن ماذا تسمونه أنتم؟
– صبرك بالله… نبدأ من الأول
- نبدأ
- ضاع كيانك فى كيانه
- حصل
- ذبت فيه
- تماما
- إذن… لم يكن هناك آخر
- لا أفهم
- كان يحتويك، فيملأ كيانه بك
- وماذا فى ذلك؟
- لا شئ.. ولكنها حياة بلا آخـَـر.. فلمْ تستمر
- ماذا تعنى ؟
- إذا كنتما واحداً.. فأين الآخر؟
- وكيف نكون اثنين؟
- لو كان هو كامل.. أو كنت كاملة لما اندمجتما حتى الفناء فيكما هكذا
- إذن لمَ أحبنى ؟
- هو؟… هو استولى عليكِ فذبت فيه
- كل هذا الهيام والغرام لا تسميه حبا
- هذه هى النتيجة
- دعايتكم هى التى أفسدت عقول الناس، لو لم يعاملنى أحسن لسار الحال على ما يرام
- ربما كان رفع الستار تأخر عشر سنوات من الآن
- كان أفضل
- ثم تحدث المأساة نفسها فى ظروف أسوأ.
- أعوذ بالله… ولكنى أنا.. أنا أيضا أحببته بكل حواسى وكيانى
- أنتِ؟.. أنت ضِعت فيه، سكنتِ داخله
- إذن ماذا؟
- أم تكن تلك هى الحياة التى سعيتما إليها؟
- فما الحياة التى كان ينبغى أن نعيشها؟
- لا يرضى الرجل إلا مشاركة إنسان آخر.. يعطيه ويأخذ منه.. والمرأة كذلك
- هذا ما أراده زوجى.. أو تمناه
- بعد ماذا؟
- حقيقة بعد ماذا.. بعدما اهتز من قشة.. من التواء قدم
- مجرد عجزه بضعة أيام أظهر حقيقة ضعفه
- ولكن ما ذنبه.. وما ذنبى
- نحن لا نحاكم أحدا..
– هل أنا أضعف من أمى…، أمى استطاعت أن تركب
- حين خافت أن يضيع منها.. خافت من عمـّتك أن تستولى عليه
- لماذا لم أستطع أنا؟
- لأنك تريدين أن تكونى إنسانة
- وأمى ؟
- لم تتح لها الفرصة
- أنا مسخ مشوه، نصف حمار ونصف إنسانة… ماذا أفعل؟ ما أبشع كل هذا
- ليس أمامك خيار
- ولكنه حين ركبنى كان إنسانا
- كان يلبس جلد إنسان، ويحاول أن يكونه
- وكيف أضمن ألا أكون مثله.. ألا أستعمله بدورى
– سوف تشعرين بكيانك.. فلا يلزمك أن تستعملى أحدا… لن تستطيعى..
- يخيل إلى أن الوقت قد فات.. لماذا لم أولد إنسانة من الأول
- أنت رأيت والديك.. فماذا تتوقعين؟
- …..؟
- …
- فعلا.. وهو؟ زوجى؟
- كان خائفاً
- سيذوب فىّ كما ذبت فيه
- لا يستطيع
- لماذا؟
- لأنك لن تحتاجى من يذوب فيك
- كدت أتوه فى ألفاظك
- رغم أنك تشعرين بها تماما.. أقرأ هذا فى عينيك
- ياليت…. متى.. متى أستطيع؟
- حين تعطين بلا حساب ولا خوف، حين تأمنين الالتهام تمارسين الحياة
- متى؟
- حين تحبين بحق
– الحب؟ أليس كل ما حدث بسبب الحب
- فرق بين الحب.. وبين العشق والأنانية، دعينا نحاول أن نروض الحيوان الكامن تحت جلودنا ليخدمنا لا لنخدمه
- وما هو الحب الذى تعنيه؟
- هو البناء، وهو الأخذ والعطاء، هو العاطفة التى تغنى الاثنين معاً، حين يكون قربك من إنسان حافزا أن تحبى نفسك، أن تشعرى بإنسانيتك ويجد هو فى قربه منك ذاته وكيانه، ثم تنطلقا معا إلى رحاب الناس جميعا حينئذ يحق لنا أن نقول: هذا هو الحب
- ومالهم الناس بنا؟
- لا يوجد حب بلا ناس
- ألا يكفى اثنين
- تبدأ البداية باثنين، فإذا أحبا بعضهما فعلا أصبحا ملايين، وسط الناس وبالناس وللناس
- ولكن هذا صعب جدا
- الصعب هو التشوية، وتعقيد الحياة
- لست أدرى.. أشعر أنى لن أستطيع
- جربى وقد تضطرى، فتنجحين
- أضطر؟
- المضطر يركب الصعب
- أركب الصعب؟ وأنا لم أستطع أن أركب السهل!
****
قال الفتى:
- ولكن الزواج هكذا من قديم: سيطرة الرجل كاملة… ثم سيطرة الرجل ظاهرة.. ثم سيطرة المرأة خفية.. ثم قد تصبح صريحة
قال الحكيم:
- ولكننا نسعى الآن إلى حياة أفضل بلا سيطرة.
قال الفتى:
- ولكنها صعبة
قال الحكيم:
- ولكنها تستأهل
قال الفتى:
- وكيف نميز الحب من الذوبان والالتهام؟
قال الحكيم:
- المقياس الذى لا يخيب هو مدى انتشار الحب على الآخرين.. على الناس
قال الفتى:
- أنت تصعب الأمور، كيف نميز بين الإنسان والحيوان.. بين الإنسان والشئ؟
قال الحكيم:
- الإنسان هو الذى يجعلك تحب نفسك فى وجوده، ثم تحبه، ثم تحب كل الناس
قال الفتى:
- كل الناس؟ ألا يكفى الأولاد؟ لو كان عند هذه السيدة أولاد فهل تختلف الصورة؟
قال الحكيم:
– إذا سخروا الأولاد لإكمال النقص وتغطية الضعف فلا فائدة، الأولاد سوف تطحنهم أنانية أهلهم وتلتهمهم سيطرتهم فيصيرون اللاشىء نفسه. ثم لا يفيدونهم شيئاً.
قال الفتى:
– وكيف يلتهم الأهل الأبناء.. ثم لا يغنونهم من أنفسهم شيئاً
قال الحكيم:
– هل تذكر أول حكاية.. حكاية “الضياع” .. الإبن الذى ضاع حين ثار على الألفاظ والمعتقدات التى حشرها الأهل فى رأسه.. فلتكن آخر حكاية.. حكاية الأهل الذين ضاعوا حين اكتشفوا خدعة امتلاكهم أبناءهم وماهم بمالكيهم.