نشرة “الإنسان والتطور”
26-7-2011
السنة الرابعة
العدد: 1425
كتاب جديد (قديم)
عندما يتعرى الإنسان (8 من 12)
“دروس للناس: فى الطب النفسى”
كبيرهم
قال الحكيم:
– جاءنى شيخا متهالكا لا يكاد يقوى على المسير، وعلاج الشيوخ عندى مشكلة ليس لها علاج، ولى من الزملاء من يحب هذا النوع من التطبيب، وله فى ذلك فلسفة هادفة، إنسانية وكريمة، أنا أشفق على الشيخ حين يتحطم وأسير بجواره يتكيء علىّ كما يتكيء على عصاه حتى يأذن الله فى أمره، ولكنى لا أعتبر ذلك علاجا بالمعنى الذى أمارسه، فالعلاج عندى هو التحول والثورة والطفرة وإعادة البناء والتجديد والاستمرار، ولكن هذا الشيخ بالذات كان شابا فى ثورته، وإن كنت غير واثق ماذا يفعل به الغد.
قال الفتى:
- وهل للثورة ميعاد وتوقيت؟
قال الحكيم:
– الثورة هى الشباب، وهى تبدأ بالرؤية الحادة الأمينة، والرفض والسخط والاحتجاج، ولكنها ليست ثورة ما لم يصبح الرفض فعلاً، والسخط مسئولية، والاحتجاج تغيراً.
قال الفتى:
– ولكنك تقول أن هذا الشيخ كان شابا فى ثورته.
قال الحكيم:
– عندك حق، خطّأتنى يا فتى، كان ينبغى أن أقول أن هذا الشيخ كان شاباً فى رؤيته لا فى ثورته، لأن الثورة شىء، ولكن الرؤية دون ثورة هى ألم الضياع وإفزاعه، وربما كان هذا السبب هو الذى يجعلنى أتردد أمام علاج ثورة الشيوخ الشباب، فكم بقى لهم فى العمر حتى يجعلنى أعرّضهم لآلام المخاض، وكم فى الغد ينتظر بعد طول الخداع، أنا أشفق عليهم، وقد أحاول أن أساعدهم فى إغماض عيونهم حتى لا يمارسون ألم الرؤية بلا فاعلية، وقسوة الصحوة بلا مسيرة، وانهيار القديم بلا بديل.
قال الفتى:
– ومع ذلك تحكى لى قصة صديقك الشيخ من ضمن حكاياتك التى تعلمنى بها الحكمة.
قال الحكيم:
– أنا أحكى لك ولا أحكى له، أنا أتكلم عن الشيوخ للشباب، ولكنى لا أستبعد وجود شيخ ثائر يستطيع الاستمرار، على أن يكون قد بدأ المسيرة من زمان، ولو نظر الشباب إلى من سبقوهم فى طريق الخداع وحاولوا أن يغوصوا فى أعماقهم ليعرفوا مدى تحقيقهم لأهدافهم لاتعظوا قبل فوات الأوان، ومهما خافوا من الألم أن يهدد سكينتهم الراكدة فهم سيعلمون هول المصير الكالح ممن سبقهم، لذلك فهم لا بد سيثورون فى الوقت المناسب مهما كلفهم ذلك من مشقة.
قال الفتى:
- أخالك تصعـّب عليهم الحياة.
قال الحكيم:
- ليس عندى بين الأبيض والأسود ظلال، إما أن نحيا أو لا نحيا، ليستسلم من شاء، وليخالف من شاء وليتردد من شاء، ولكن الذى سيستمر هو الذى سيختار الحياة ليوقف التدهور.
قال الفتى:
- ولكن الناس كلهم يختارون الحياة.
قال الحكيم:
- هم يختارون البقاء سواء كان بقاء فيه حياة لها صفات الإنسان أم كان بقاء يماثل بقاء أولاد عمومتنا الذين سبقونا وتوقفوا، يرتضون الحياة التى تشكلت ولكنهم لا يشكلونها، هم يتسابقون فى حجرة مغلقة مبطنة بالكاوتشوك الطرى فلا يتآلمون، ولكن الحياة التى أعنيها هى الصراع للتطور، وليس فقط المحافظة على البقاء.
قال الفتى:
– وكأنك تريد القضاء على الإنسان الحالى فى مقابل وهم فى رأسك تزعم أنه ممكن.
قال الحكيم:
– أنا لا أزعم شيئا ولا أتوهم خيالا، ولكن قانون الحياة فرض علىّ أن أكون فى موقع من المعركة هو المقدمة، على خط النار، وأنا أرى الصراع الممثل فى المرض النفسى يمثل صراع الإنسان مع أجداده الحيوانات الذين يحملهم بين خلاياه، فالانسان يحمل كل آثاره القديمة وكل الصفات التى ورثها عن أجداده جميعاً، إلا أنه يتحكم فيها ويوجهها لتخدم صفاته الإنسانية، وهذه الآثار القديمة تثور عليه حين ينساها فيكون المرض، لذلك أنا لا أملك أن أزعم شيئا خاصا مبتدعاً، وإنما وجودى على خط النار يلزمنى بترجيح الغد على الأمس، على أن يستمد الغد قوته من طاقة الأمس، فيصبح إنسان اليوم وحدة متكاملة متناسقة تخدم مرحلة التطور الحالية: لا تنسى التاريخ وهى تصنع المستقبل، وقد كنت فى أول رحلتى مع النفوس المتصدعة أتصور أن الطبيب ينبغى ألا يتصور نفسه مصلحاً أو داعية، ولكن بعد فترة وجدت ذلك امتهانا لإنسانيتى، فلا يمكن أن تأتينى الثورة حتى عندى وأنا أتفرج عليها… أحجم عن المشاركة فى توجيهها للغد.. لا، لقد قررت أن أعيش، وأن أشارك، وأن أرجح كفة الغد، ما أتيحت لى الفرصة لذلك.
قال الفتى:
– ألا تخشى أن تفرض معتقداتك على المرضى أو على الأقل على الثائرين … سمهم كما تشاء؟
قال الحكيم:
– بل هم الذين علمونى معتقداتى، هم الذين جعلونى أومن بالانسان وبالغد الذى يبدأ الآن، وهم الذين فرضوا علىّ النقلة من ”مطبطباتى” إلى إنسان يضع خبرته وعواطفه مع التطور مهما كلفه ذلك من جهد.
قال الفتى:
– لن ينته النقاش.. فحدثنى عن كبير الأصنام، الذى حطم كل القيم زائفة أم حقيقة – ثم تحطم.
****
قال الحكيم:
- جاءنى شيخا متهالكا انطفأ فيه كل شىء، لونه أقرب إلى الزرقة، وعيناه كقطعة من حجر الجير، وذقنه فى صدره، وبقايا شعره نافرة على صلعته مثل الشعيرات المتناثرة على كوز ذرة جاف فى يوم قائظ.
قلت:
– أهلا
فارتفع حاجباه واهتزا ولم يرد.
قلت:
– ليس بعد.
وانتبه أكثر.
قلت:
– ربما
قال:
– ماذا؟
قلت:
– أهلا
قال:
– بكم
وبعد معلومات سريعة وهامة وعقاقير عظيمة وفاعلة، وأيام مظلمة وصبر وإلحاح، ضغط على يدى ذات يوم وقد تراجعت العقاقير، وصلتنى الرسالة وهو يصافحنى، فشجعتنى أن نفتح الملف.
قلت له:
– ما هى الحكاية.
قال:
– هى حكاية النهاية قبل البداية، فى الوقت الذى كنت أحسب أنى اقتربت من بداية النهاية لأستمتع بكل ما كان، جاءت النهاية فجأة وبغير حساب، كل شىء عندى هو بالحساب، بدأت عصاميا وحسبتها ونجحت، لم تخب حساباتى أبدا، ولكنى لم أضع ما حدث هذا فى الحساب، كنت دائما أؤجل البداية حتى جاءت النهاية قبل البداية، هل تفهم؟
قلت:
– أسمع.. وأحاول..
قال:
– ولكن الكلام متعب.. الذكريات تمر بفكرى بالرغم منى، أريد أن أنسى ولا أستطيع، ألا يكفى ما حققنا بالعقاقير،.. لقد أصبحت أنام أحسن، ومعدتى تتقبل بعض الطعام، وتتحرك أصابعى على مسبحتى ربما تحاول أن تذكر الله أو تستغفر، أو هى تجذب انتباهى بعيدا عن أفكارى، ألا يكفى هذا وشكرا.
قلت:
– لا شكر على واجب.
قال:
– إذن فهو الواجب… وقد حسبت أنى وجدت من يفهمنى، أنت تفعل الواجب فحسب، سواء كان من أمامك إنسان أم جماد، فى الأول حسبت أن الأمر غير ذلك، حسبت أنه حب وليس واجبا.
قلت:
– ولكن الواجب ليس مفروضا من الخارج، الواجب اختيار أصلا، وأنا اخترت أن أكون بجوارك، ومن واجبى على نفسى أن أعيش إنسانا..هذا ما عنيته فلا داعى للشكر.
قال:
– لا أستطيع أن أكتفى بهذا التحسن وأسكت، لا أستطيع أن أعيش مع أفكارى وحدى، أنا فى حاجة إلى إنسان يسمعنى حتى ولو لم يصنع لى شيئاً، أريد إنسانا يفهمنى من وجهة نظر أخرى، أنا لا أجد من يفهم، كلما حكيت عن النجاح انبهروا بما حققت ونسونى تماما، وربما هزأوا بى وشكّوا فى عقلى، أو ربما تصوروا أنى طماع لا أحمد النعمة وكل منهم يقول “ما أغباه هذا الساخط، فليعطنا ثروته وسوف يرى على وجوهنا السعادة التى يفتقدها، سوف نعلمه كيف يعيش…” وترتفع الحواجب وتمصمص الشفاة وينحبس الكلام فى حلقى، فهل أنت مثلهم.
قلت:
– ماذا وجدت؟
قال:
– وجدتك مختلفا ولو قليلا، ولكنى أخشى المنطق العام والسخرية، ثم إننى مرضت فمن حقى أن أتكلم بمنطق خاص ومن واجبك ألا تسخر، أمرى إلى الله.
سأتكلم:
قال والدى: “أنت مش نافع”، وقالت أمى: “والله ما انت فالح”،
قال والدى: “هذه ذقنى: إن فلحتَ، وكنتُ مازلتُُ حيا تبصق عليها، وإن كنت قد مت فتبول على قبرى”
وفشلت..
لم أنجح فى أن أعرف أين تقع “ألبانيا”، ولا مصير الأكسجين مع الشمعة داخل الكوب المقلوب فى الماء، ولا متى مات الاسكندر الأكبر، ولا مقدار المسافة التى تتركها فى الشتاء بين قضبان السكة الحديد لكى تتمدد فى الصيف.
وفشلت فى أن أدخل الجامعة لأصبح رئيس الإنشاءات فى وزارة الرى مثل أخى ”ممتاز” أو مستشارا فى مجلس الدولة مثل أخى ”عبد القوى” فشلت وجربت المهانة والرقاعة والانحلال، وتخلى عنى الجميع.
جربت نفسى فى أكثر من مهنة حتى احترفت الجريمة بعض الوقت، لم يُحكم على، ولكن ليلتين فى السجن كانتا كافيتين للعدول عن هذا الطريق، فضلت السرقة المشروعة والضحك على ذقون البسطاء، عن السرقة الرسمية والتعرض لقهر القانون، ووجدت البسطاء فى القرية المصرية، ولما عضنى الجوع ركبت عجلة بصندوق وعملت موزعا بالعمولة قومسيونجى لمصنع ”صابون الوحش”، كنت فى أشد الحاجة لأى قرش يحمينى من الجوع. ويرضى “مزاجى” أيضا، وكان صاحب المصنع خواجة، له عين واحدة كعين الصقر والأخرى من الزجاج، وكنت أركب الدراجة ذات الصندوق وألف على البقالين فى القرى المجاورة، كنت أسرق وأغالط الخواجة والبقال على حد سواء، ولكنى كنت أوزع أضعاف ما يفعل الباقون، أنا لا ينقصنى الذكاء، ولكنه ذكاء خاص لا يقاس بالقدرة على حشر المعلومات فى الدماغ ثم تقيئها على ورقة إجابة، ذكائى يمكن أن يقاس بمقياس جديد: القدرة على اللعب بالبيضة والحجر، لماذا يا سيادة الطبيب لا تخترعوا هذا الاختبار وتسمونه مثلا ذكاء المكسب أو ذكاء “الجدعنة” أو “القدرة على التهليب”، سجل هذا الاقتراح من فضلك واحتفظ لى بحق النصف فى استغلاله، هل تحب أن تسمع التفاصيل.
- أنا أسمع كل شئ.
- تعطى المختبر بيضة وحجرين فى حجم البيضة وشكلها، وتجعله يقذف بها بالتبادل فى الهواء بين يديه الاثنين على الا يكسر الحجر البيضة، وتقيس الوقت بساعة إيقاف لتعرف أطول مدة يمكن أن يستمر فيها فى اللعب، وبعد ذلك تطلقه بعدة دست من إبر الوابور والغلايات فى إحدى القرى التى يسكنها ناس طيبون وتحسب المبلغ الذى جمعه فى يوم، وتضرب الزمن الأول فى كمية النقود، يطلع لك مقدار العمر النقدى فتقسمه على “العمر الدراسى” وتضربه فى مائة.. فتكون النتيجة “معامل الفهلوة”.
- يبدوأن ذهنك صفى.
- طول عمرى ذهنى صاف قبل هذا الكابوس اللعين، ولكن صفاء الذهن لم ينقذنى من مصيرى، كان ذكائى سلاحا ذا حدين، علىّ وعليهم.. وهذه هى النتيجة.
****
خلع الخواجة عينه الزجاجية ومسحها وأعادها مكانها فى محجر عينيه، ثم ضيق عين الصقر كأنه ينظر فقط عبر الزجاج، وقال:
- أنا أعرف.. ولكنك ذكى.
- تعرف ماذا؟
- أنت تسرقنى.. ولكنى أنا الكسبان.
- لا سبيل إلى المداراة…
- المهم أن تكون العملية رابحة
- أهذا هو المهم؟
- طبعا
- اتفقنا
- فهل تعمل معى؟
- ما دام هذا هو المهم قد اتفقنا.
واتفقنا.
****
وصعدتُ الدرج، ووجدت نفسى، وتيقنت أنه بالنصب المشروع يمكن أن يكون الإنسان شيئا ما، وحين يجد الإنسان نفسه بأية وسيلة مهما تكن تافهة أو خاطئة أو صورية فإن هذه الوسيلة تصبح هى حياته، إنه يصبح هذا الشئ الذى أشعرْ بوجوده، أنكرنى أبى،وأنكرتنى أمى، وأنكرنى الناس وتعرضت للسجن وللجوع، وأنقذنى القرش، إذن فالشئ الوحيد الذى رد إعتبارى هو القرش، أصبحت أنا والقرش واحداً صحيحا، تعلمت من الخواجة الشئ الكثير، علمنى كيف يكون الدفتر المسطر ذى الخانات – دفتر اليومية – والمفاتيح والخزانة هى حياتى، علمنى أن هذا هو الأمان الوحيد فى هذه الحياة، ولم أكن فى حاجة أن يعلمنى كل هذا فقد تعلمت أكثر منه، كنت أنا وهو أقرب الناس واقعا، وأبعد الناس فعلا، كانت الكهرباء تسرى بيننا من خلال ورق البنكوت، لم أكن أعرف أن الورق موصل جيد لماء الحياة: المال – حاولوا فى سنة ثانية ابتدائى أن يعلمونى أن المعادن هى التى توصل الحرارة، ولكن الحياة علمتنى أن الورق موصل أقوى، ولكن هل كانت حياة تلك التى كانت توصلها أوراق النقد، وحرصت على أن أجمع أكثر وأكثر، وكلما جمعت أكثر حرصت أكثر- قصة قديمة قدم خوف الأرنب من الثعلب وقد سعى النمل إلى جحورها من برد الشتاء، مثل كل الحكايات، ولكن الحياة أيضا قديمة، والأيام معادة، وحين تصل إلى نهاية العمر مثلى ويصبح اليوم نسخة مكررة من أمس إلا من وهن أكثر، وآلام فى المفاصل أكثر حدّة، تعرف أنه لا جديد – فعلا- تحت الشمس، ومهما كانت القصة قديمة فهى حكايتى أنا، وأنت طبيب وعليك أن تسمع الحكايات مهما تكررت، وأنا لم أجد من يسمع هذا الجانب من حياتى أبداً، كل حديثى كان كذبا على العملاء أو أوامر للعمال، فدعنى أستفيد من ميزة مرضى… أن أتكلم كلاما آخر.
وجاءت القوانين الاشتراكية علىّ خيرا وبركة، خاف الخواجات، شبعوا من عصير الطيبة المصرية وهاجروا.
قال الخواجة:
- عملتَها، ونفعتْ.
- المصنع مصنعك فى أى وقت.
- لم يعد لى مكان.
– أنا ملكك.
- لستُ عميلا.. إنتبه.
- أنا تحت أمرك.
- ووسيلة الدفع؟
- التهريب.
- لا أضمن.
- بشرفى.
- هذا أدعى للشك.
- تأخذ كل ما عندى بالمصرى.
- والباقي؟
- أرسله لك.
- ليس لى خيار
وقمت بعمل وطنى مجيد، لم أدفع له مليما بعد السفر، واسترددت حقوق الشعب المصرى المكافح من المستغلين الأجانب (!)، وأصبحتُ صاحب مصنع “صابون الوحش” وأصبحت شهرتى “الوحش”، ونجحت… وفلحت، وكلما عقدت صفقة رابحة كان لعابى يسيل وتتجمع بصقة فى فمى، كان والدى أيامها على قيد الحياة، وبعد أن فارق الحياة لم يعد لعابى يسيل وإنما كانت رغبة أخرى تسرى فى أحشائى، أنا آسف لذكرى والدى بهذه القسوة ولكنك طبيب، وهذه أعراض جسمية نتيجة لوعيد والدىّ الذى دخل فى قلبى كالسكين… هل تذكر الوعيد.. كنت أنفذ الوصية، وكثر المال وتكدس، وارتفعت طوابق عماراتى فوق بعضها، ولكن لم تتغير علاقتى بالقرش، لم أفرط فيه أبدا، كل شئ بالحساب، كان يموت ابن العامل، عندى، فلا تهتز فىّ شعره لأنى لم أضع موته فى الحساب، حتى تأمينات العمال حسبت كيف أتخلص منها، ثم أتخلص منهم إذا مازادت حاجتهم، أو وجدت الأرخص والأسلس.
- أنا لا أعرفكم.
- التأمينات؟
– اسألوا الأسطى حسن.
- ونحن؟
- اسألوا الأسطى دسوقى.
- ولكنا نعمل عندك أنت.
- كل عملية لها مقاول.
- ولكنا عمالك منذ سنوات.
- التأمينات لم يمض عليها سوى شهور.
- نحن نعمل فى المصنع.
- أنا لا يعمل عندى إلا الأسطى حسن والأسطى دسوقى ……
- ونحن؟
- تعملون لديهم من الباطن.
- والتأمينات؟
– اسألوهم.
وتكسرت من حولى كل الحلقات. لم يستطع أن يحدنى قانون أو تنظيم، نجحت ألا التزم بشئ إلا بالقرش.. القرش هو أنا.، هو أمانى وحياتى، ليموت أولادهم جوعا فهذه مسئولية الحكومة الاشتراكية، لماذا وجدت الاشتراكية؟ لتحمى الطبقة الفقيرة، فكيف أجرؤ أن أتدخل فى مهمة الحكومة ما دامت تدعى الاشتراكية؟ أما الأغنياء فالقرش يحميهم، أنا مواطن صالح يحترم القانون وكل شئ عندى بالحساب.
وبدأت أحطم كل شئ لأشعر بذاتى التى هى نجاحى، كنت أحاول أن أثبت أن القرش هو الأبقى وهو الأقوى، هو الأصل والنتيجة، هو الأول والآخر، وحطمت القيم جميعها، وفى كل مرة كنت ألعق لعابى وأنتشى نشوة نمر التهم نصف غزال، وشبع، ووقف يتفرج على بقية الفريسة.
قالوا لى أن “واحدْ بيه” على الباب يريد مقابلتى ويقول أنه أقرب الناس إلىّ،
وضحكت ملء عقلى – فليس لى قلب يضحك – ضحكت وأنا أسمع أن هناك فى حياتى “ناس”، وأن بينهم القريب والأقرب، ضحكت من هذا الذى يقول أنه أقرب الناس إلى… ودعوته للدخول.
ورأيته …… رأيتــُنى وقد ارتديت حلة كحلية تلمع مثل حذائى وشعرى – لو كان لى شعر- وجلس أمامى وعلى وجهه ابتسامة عريضة جدا ومرسومة جدا، ومترددة جدا، ما أشبه هذا الانسان بى…. لوسارت الأمور كما حسبوها لى.
قال فى تودد ظاهر:
- ما أغرب الأيام… نلتقى بعد عشرين سنة.. وأنت لا تسأل عن أحد.
وكنت مازلت أحس أننى أنا الذى أتكلم من على الكرسى الآخر، وراح ذهنى إلى الوراء عشرين سنة، ورن فى أذنى وعيد والدىّ ووصيّتهما معا، إذن فهذا الذى أمامى هو أخى ”ممتاز”
قلت له:
- دنيا… لا تترك الراكب راكبا،. ولا السائر سائرا
قال:
– أى والله عندك حق.. ناس بأولها وناس بآخرها
قلت:
– فى نفسى سندخل مباراة فى الحكمة، ثم التفتُّ إليه قائلا فى لهفة حقيقية:
قلت:
– وكيف حال الوالدة؟
قال:
- ألم تعلم؟.ماتت فى الحج ولم ننشر نعيها حسب وصيتها، وظننا أن هذا الأمر لا يعنيك فأنت لم تحضر جنازة الوالد.
قلت:
- خشيت إن حضرت أن أنفذ وصيته
قال فى استغراب:
- أية وصية؟ هو لم يترك وصية، ولم يترك ما يوصى به.
- هى وصية خاصة بى أنا وحدى… لا عليك منها.
- ولكنا انتظرناك.
- حتى اسمى تغير ولم يعد يعنيك أمرى فى شئ، ألا تعرف بأنهم ينادونى هنا “بالوحش”
- قالوا لى ذلك وأنكرته؛ حسبت أنه اسم المصنع فقط
- أنا المصنع
- ولكنك مازلت واحدا من العائلة.
وقال عقلى “انتبه” فقلت فى تراخ لأقطع سبيل المودّة غير المأمون
- ..أيام!
قال:
- مصير الأحياء يتلاقون
قلت فى نفسى رجعنا إلى الحكمة والمودة الزائفة، ماذا يريد ابن المرحوم، عجِّل وإلا بصقت عليك أنت، حتى لا أبول على قبره عملاً بوصيته، ولكنه أكمل:
- وكيف حال الأولاد؟
- أنا ليس لى أولاد.
- لماذا؟ …لا بد من ذكرى.
- ذكرى الذين راحوا لا تشجعنى.
(لو علم المرحوم كيف أذكره للعن تلك الليلة المشئومة التى أنا نتاجها)
- تعيش وحيدا؟
- حياتى مليئة بكل ما أريد
- ولا زوجة؟
- اللبن يباع فى زجاجات فما لزوم أن تقتنى البقرة… هيا حدثنى عما تريد، أين أنت؟ وما الذى جاء بك
- أبدا، تخرجت من كلية الهندسة بتقدير ممتاز، ولم تكن هناك فى ذلك العام وظيفة معيد، وأنا الآن رئيس قسم الإنشاءات بوزارة الرى، عندى ست بنات تخرجت كبراهن من الجامعة.
قلت:
- ثم ماذا؟
قال:
- أبدا، ولكنى تذكرتك، والأيام تمر، “والدنيا تلاهى”، ومرة سأل البنات عن أقاربهن بمناسبة سعيدة، قلت أزورك.
قال عقلى: (هات ما عندك.. هاك هو المطلوب إثباته يا باشمهندس، وسوف ترى)
- ربنا يتمم بخير.
- بركتك معنا.
- كله على الله
- هم بناتك طبعاً، العم والد.
(قال عقلى “يا صلاة النبى” ثم خطرت فى بالى فكرة وحشية، وسال لعابى على الفريسة)، قلت:
- أنا تحت أمرك.
- هذا ما قلته لنفسى، الدم عمره ما يصبح ماء.
- نحن إخوة.
- “هذا ما توقعت”
- ولكن لى بعض الاستفسارات، هل تجيبنى عنها أولا.
- بكل تأكيد.. أنت أخ عزيز.
- ما هو معامل تمدد الحديد؟
- ماذا؟
- ومتى مات الاسكندر الأكبر؟
- ما الذى جرى؟ أنت تمزح بلا شك
- لقد وعدتَ أن تجيب.
- ولكن هذه معلومات قديمة.
- هى التى أدخلتك كلية الهندسة.
- ولكن لم يعد لها لزوم.
- فما الذى تبقى فى عقلك مما له لزوم؟
- أنا رئيس الانشاءات، فئة ثانية.
- ولكنك تعلمت أكداسا من الكتب حتى وصلت.
- ولكن لم يعد لى بها حاجة.
- أما أنا، فأنا لا أتعلم إلا ما ينفعنى، وكل حرف تعلمته مازلت أستعمله فى مكانه.
- أنت رجل أعمال، والعمل الحر يخلق الرجال.
- يوجد عمل حر، ولا يوجد إنسان حر، أنا عبد القرش، وأنت عبد فقط.
(وضحك ضحكة جوفاء).
- أصبحتَ فيلسوفاً.
- لا أفهم هذه الكلمة.
- يعنى.. أنت ملئ بالحكمة.. و.. والكرم.
- أنت تأمر
- بنتك ستتزوج بعد شهور.. ونحن نعتمد على عطفك وكرمك.
- ليس لى بنت، من تقصد؟
- أنا موظف ولى ست بنات، وأنت أدرى، لا يغرك مظهرى.
- أنا تحت أمرك.
وبعد ستة شهور
****
– أنت وحش فعلا، ولستَ إنسانا أصلا.
- لم أدّع غير ذلك.
- لهذه الدرجة تبلغ بك القسوة؟
- اسمى الجديد
- أطمعت البنت وخطيبها.
- أنا حر.
- وانتهى كل شئ بسببك، وفشل مشروع الزواج.
- لستُُ السبب وحدى.
- أنت وعدت، يا ترى:.. لماذا وعدت.
- إسأل نفسك أولا لماذا جئت.
- أنت لا تحس.
- هذه ميزة على كل حال.
- سوف ينتقم الله منك.
- ذاكر دروسك جيدا.
****
يا سيادة الطبيب، يا سيادة الطبيب، ألا يكفى هذا، هل أستمر؟، ألم تتقزز نفسك بعد؟ ولكنى مريض ومن حقى أن أتكلم ومن حقك أن تتقزز، فلتسمع كيف حطمت بقية الأصنام، قبل أن يتحطم الصنم الأكبر
قالوا لى أن ”واحد بيه” على الباب يريد مقابلتى ويقول إنه أقرب الناس إلى.. وضحكت ملء عقلى.. الخ.
- إذاً فأنت ”عبد القوى”.
- ما أبعد الأيام.
- وأنا الوحش.
– هذه شهرتك ولكنى مازلت أراك أخى “وحيد”
- وحيد مات منذ عمر طويل.
- جئت أعاتبك.
- على العين والرأس.
- ماذا فعلت بممتاز؟
- لى وجهة نظر.
- ماهى؟
- لم يعجبنى خطيب البنت، ولا يمكن أن يقتنع ممتاز برأيى، فأنت تعلم غروره بذكائه، لذلك صنعت ما صنعت حتى يفشل الزواج رحمة بالجميع.
- ولكن ما عيب الولد؟
- ضابط مغرور.
- كان يحبها.
- لماذا تخلى عنها؟
- أحسَّ بالإهانة، جرحتَ كرامته
- ليس فى الحب كرامة.
- ولكنها تحبه.
- غبية مثل أبيها.
- وأنت ما شأنك؟
- كنتُ فى حالى هو الذى لجأ إلى.
- فتهدمها على الجميع.
- ليس من الشرف أن أكتم النصيحة.
- لم تكن مجرد نصيحة.
- من رأى منكم منكرا فليغيره بيده.. وقد فعلت.
- أى منكر؟
- فتاة غبية، ابنة مهندس محترم، تتزوج ضابطاً مغروراً.. ألا يكفى هذا المنكر
- ماذا تعنى؟
- ما عليك... علمت أشياء “سرية” عن الخطيب لا أستطيع البوح بها.
- ولكن ممتاز يشنع عليك فى كل مكان.
- لا ينقصنى التشنيع، ولكنى أديت واجبى.
- ولكنه لن يكف عن التشنيع.
- مثل أبيه.
- الله يرحمه.
- ويبلل الطوبة التى تحت رأسه… هل تعرف كيف؟
- ماذا تعنى؟
- لا شئ… تذكرت الوصية.
- ماذا تعنى؟
- شئ خاص… ما عليك.. كيف حالك أنت؟
- مستشار بمجلس الدولة
- طول عمرك تحب الحق، وأخيراً أصبحت حامى القانون.
– آه لو تعلم.
- ماذا؟
- إن حماية القانون أصعب من خرقه.
- ولكن التحايل عليه أسهل الأشياء.
- سُمعتك التجارية ممتازة.
- علمتنى الحياة.
- أولادى صغار.
- عرفت ذلك من ”ممتاز”.
- لا أريد أن أخطئ خطأه وأفاجأ بمطالبهم كبارا.
- أنا تحت أمرك
- عندى قرشين أريد أن أستغلهم، أريد مشورتك.
- ولكن لى بعض الاستفسارات، ربما تبدو غريبة، فهل تجيب عليها أولا؟
- بكل تأكيد.. أنت أخ عزيز.
- كم حكما أصدرته يخالف ضميرك؟
- نعم؟ نعم؟!!
- وكيف تميز الخيط الأبيض من الخيط الأسود؟
- أنت تمزح طبعاً.
- وهل تصدق كل من يحلف فى المحكمة؟
- البيـّـنة على من ادعى واليمين على من أنكر.
- وهل النوم على الجانب الأيمن سنه مؤكدة؟
- ما الذى جرى؟ دع هذا المزاح
- فعلا، لنرجع إلى الموضوع.. أنا آسف.
- أريد أن أستغل “تاكسى”.
- إذن أنا مستشار المستشار!!!
- ملاحظة فى محلها.
- أنت تأمر.
- هل لديك فكرة أفضل؟
- تفكيرك عين العقل.
- باسم زوجتى.
- أكثر أماناً،… كم معك؟
- يكفى شراء عربة فورد معقولة.
- يقولون إثنين نصر أفضل، ولكن عربة واحدة جيدة هى ثروة متنقلة.
- والتأمين الشامل؟
- لا داعى.. شركات التأمين تتاجر بخوف الناس.
- والسائق المضمون؟
- خلِّ هذا.. علىَّ أنا.
- نِعم الأخ… وما أغبى “ممتاز” فعلا.
****
وبعد ستة شهور
****
– أنت السبب.
- كل شئ قضاء وقدر.
- ولكن السائق سليم.
- من لطف الله.
- هو يعمل عندك صباحاً بالمصنع.
- كان يحاول أن يزيد دخله… وأنت ارتضيت أن يركب التاكسى مساء.
- لو كنت أمّنت عليها كنت أخذت ثمنها.
- قسمة ونصيب.
- أنت ”وحش” فعلا.
- لا تسئ الظن.
- ليس عندى ما يثبت سوء نيتك.
- هذا عيب القانون الذى تطبقة.
- تنتقم منا… ألسنا أخويك، كان والدى على حق.
- يرحمه الله.
- كان ينبغى أن أتعظ من ”ممتاز”.
- ممتاز ذكى، وأنت صاحب حق، لكن الحياه صعبة.
- منك لله
– لى حساب خاص معه.
وهكذا يا سيادة الطبيب حطمت كل من يقترب منى لأشعر بالقوة وكان كل ذلك يزيد إيمانى بأن القرش هو السيد فعلا، رأيت تدهور التلاميذ النجباء فى خضم الحياة، ورأيت حيرتهم وارتباكهم أمام دراهم يقتطعونها من قوتهم ثم لا يعرفون كيف يتصرفون فيها، العلم لا ينفعهم لأنه كان جواز مرور للوظيفة ثم راح كل إلى حال سبيله، والمبادئ لا تصونهم لأنها سريعة التبخر حسب درجة الحرارة، وأفواه الأولاد، ومتطلبات العصر تحنى ظهورهم، وشئ فىّ لا يرحمهم، والذى يضحك أخيرا يضحك كثيرا، ولكنى لم أعرف الضحك أبداً، ربما كشرت عن أنيابى ولكنى لا أضحك، كنت أنتشى بلذة النصر، ولكنى لا أسعد.
قلت له:
- إذن ماذا فعلت بكل هذا الانتصار والتحطيم؟
قال:
- لم يبق أمامى شئ أحطمه، والمكسب لم يعد عندى مشكلة، ولكنى لم أفرط فى قرش واحد، ولم أسمح للناس أن يقتربوا منى أبدا، أنكرونى فأنكرتهم ولكنى كنت حاذقا فى استعمالهم.
قلت:
- والعواطف؟
قال:
- أية عواطف؟ أنا لا أعرف معنى لهذا اللفظ رغم كثرة استعمالى له، فإن كنت تقصد الجنس فقد اشتريت كل الأصناف، وربما كانت حكايتى معه هى التى جاءت بى إليك.
كنت أشتريهن بذكاء خبير، وكانت متعتى الحقيقية أن أستولى على عواطفهن بشبابى الذى كان يستمد قوته من قرشى الذى هو أنا، لا تتصور أنى اشتريتهن من سوق البغاء، إذ أن ممكلتى امتدت للبيوت والنوادى وكل مكان، كان يرضينى تماما أن أشعر أنى مرغوب فىّ، واستعملت كل الحيل والألاعيب لأثبت أنى ناجح خاصة فى هذا المجال، ونجحت هنا أيضاً فى أن أحطم قيما كثيرة، نجحت ونجحت.. ولكن لم تنجح امرأة أبدا فى أن تدخل قلبى، كنت أستولى عليهن استيلاء حتى تنمحى ذواتهن فى، وبعد ذلك أمارس اللذة الذاتية.
ومرت السنون.
وأخذ الحيوان فى يتكاسل، واضطررت أن أكمل هذا النقص بقروشى، فأنا وقرشى واحد، ونفعت اللعبة، ولكن بدأت المرارة تغص حلقى كل مرة.
وبدأ التساؤل الخبيث يثور فى عقلى: ثم ماذا؟ وكنت أطرد السؤال قبل أن يظهر فى دائرة يقظتى، ولكنى كنت أحس به يلف فى قاع جمجمتى ينثر الشك فى كل مكان، وعلى كل شئ.
ثم ماذا؟
وأخذت هرمونات ومنشطات ومنبهات، ولكنى كنت كحمار يجر عربة محملة بصابون الوحش، يحاول أن يصعد بها من تحت نفق شبرا، وتلوح له زميلة تتبختر فى النور من الناحية الأخرى، فألهب ظهرى بالمنشطات، لكننى لا ألحقها دائما، ثم أبدا، أعذرنى يا سيادة الطبيب ليس فى الطب حرج.
****
قالت وقد تراخت أو صور لى خيالى أنها تراخت.
- لا تبتئس مازلتَ سيد الرجال.
- هل أنتِ سعيدة معى ؟
- طبعا
- وهل أٌرضيك؟
- أنت سيد العارفين.
- أصبحت أشك فى نفسى، واختلطت على الأمور.
- هيا ولا تُضِعْ وقتك واطرد هذه الهواجس.
- هل أنت متعجلة.
- اخاف عليك أن تنتهى قبل أن تبدأ.
– لا تذكرينى.
- آسفه.. ولكن قلبى عليك.
- وأنت؟
- اللمسة منك تكفينى…. أنت مفعولك أكيد.
وحين اهتزت وتراخت، تصورت أنى أرضيتها.. ولكنى لمحت يدها فى نفس لحظة التراخى تعبث تحت الوسادة تعد رزمة النقود التى أتركها فى خفاء. إذن فهى تتصنع.
لم أنبس
ولم يستيقظ ذلك الحيوان ثانية أبداً رغم محاولاتى المرهقة.
****
ثم جئت إليك.
الدنيا سوداء ولا يوجد معنى لأى شئ، فقد القرش بريقه، وهمد الحيوان بلا رجاء فيه، وتحطمت كل الأصنام وراحت لذة التحدى، وأخذ مصباح الحياة يذبل شيئا فشيئاً، كنت أنتظر نهاية الجرى المستمر لأتفرغ للمتعة الخالصة وأجد الأمان، ولكن النهاية جاءت قبل أن أشعر بالأمان لحظة، وتذكرت قول عبد القوى ”منك لله..”
ولو كان الله أذن فى أمرى وأنا فى عنفوانى لِمتُّ مثال الناجحين المهرة. ولكن أن تموت قوتك الزائفة. قبل أن تموت خلاياك فهذا هو قمة الألم والضياع، لا غد لى… ولا أمل فى… وذكريات الأمس أصبحت مصدرا للعذاب لامجالا للفخر.
****
قلت له:
- ولكنك أحسن.
قال:
- عقاقيرك العظيمة تجعلنى أنام، ومعدتى تتقبل الطعام، ولكن الأمل راح إلى غير رجعة.
قلت:
- الأمل فى ماذا؟
قال:
- الأمل فى.. فى.. نعم فى ماذا؟ القرش وعندى منه الكثير، والحيوان فىّ مات فلا نساء، وأنا شخصياً لا أريد له صحوة، فكفى امتهانا وذلا، والناس عمرهم ما كانوا فى حياتى، ولكن.. عندك! هناك ما يشغلنى حتى أموت: التحف والفازات فى منزلى، أنا أعيش فى متحف نادر المثال، وأملى أن يحوى أندر ما فى العالم.
- لماذا؟
-لأصبح فريدا فى مقتنياتى.
- ولكنك مرضت وسط تحفك وفازاتك.
- وتربية نبات الصبار.. هى هواية نادرة تميزنى.
- ولكنك تمارسها من سنوات.
- ماذا تعنى؟
- أين الأمل الحقيقى الذى يمنع المرض، مهنتى تقول أنه ينبغى علىَ ألا أفقد الأمل.
- ولكن الذى ينبغى شئ، والواقع شئ آخر.
- إذا فقدت الأمل.. فماذا يتبقى.
- إذن ماذا؟
- عمالك مازالوا عندك والأطفال يولدون كل يوم.
- وبعد؟
- أنت ذاهب لا محالة.
- أفصح.. لم أعد أستطيع الانتظار.
- يكفيك حق المنفعة، بل وجزء منه أكثر من الكفاية.
- أترك مصنعى للغوغاء؟
- بعد عمر طويل.
- الانتحار أفضل من آرائك.
- مازال فى العمر بقية.
- ماذا تريد.
- تبدأ من سنة الفشل المزعوم.
– يعنى.
– تعمل مؤسسة للذين لا يدخلون الجامعة يتلقون فيها الحب ويتعلمون مهنة للحياة.
- تنصحنى بالبر والتقوى.
- أفضل من المرض.
- المرض أفضل.. وعقاقيرك نجحت، فلنستمر عليها، لعلها تكفى.
- هى مرحلة.. ثم قد لا تفيد.
- تهددنى.
- أقول ما أعلم.
- هذه نكسة بلا جدال.
- هل عندك بديل؟
- دعنى.
- حرام عليك أن تستمر فى الطريق الذى أشقاك.
- ولكنه أسعدنى.
- صحيح؟!!
- أرضانى.
– صحيح؟!!
- أنجحنى
- ثم ماذا؟!!
- ثم جئت إليك
- فهو المرض
- فليكن.
- هل تفكر ثانية.
- أنت خبيث.. تريد أن تقلب أحوالى رأسا على عقب.
- ألم تنقلب بعد؟ ؟!!
- لا تحيى فىّ الأمل حيث لا أمل.
- الأمل موجود باستمرار.
- انتهى العمر.
- مازال الأولاد يولدون.
- ليس لدىّ أطفال.
- هذا ما تتصوره ، ليس بالضروة أن ننجب نحن أطفالنا جدا.
- كفى.
****
قال الفتى:
- ما أصعب الألم فى آخر العمر، وما أبعد الأمل، فكيف إذن..؟
قال الحكيم:
- ليس هناك حل آخرإلا التأجيل، ثم إما أن يلحقه الموت أو يعاوده المرض.
قال الفتى:
- ولكن هل المرض حتمىّ لصاحبنا هذا حتى لو كان عنده زوجة وأولاد؟
قال الحكيم:
- قد يكون الزواج صحة وغناء، وقد يكون صورة أخرى للضياع.
قال الفتى:
– أتنوى أن تهز ذلك الرباط المقدس أيضا.
قال الحكيم:
- بل أحاول أن أجعله مقدسا فعلا.
قال الفتى:
- ولكن كيف يكون صورة للضياع؟
قال الحكيم:
- مثل الرجل الذى يستعمل زوجته لتكمل نقصه حتى يضعف، فتركب المحمل بقيه العمر، كل بدوره.
قال الفتى:
- وكيف كان ذلك؟