نشرة “الإنسان والتطور”
12-7-2011
السنة الرابعة
العدد: 1411
اعتذار متكرر: لم أستطع – مرة أخرى– مواصلة كتاب “الأساس فى الطب النفسى”.
فنواصل الكتاب القديم الجديد ليحتل المساحة اليوم وباكرا.
كتاب جديد (قديم)
عندما يتعرى الإنسان (7 من 12)
“دروس للناس: فى الطب النفسى”
العـلامة
قال الفتى للحكيم:
– أراك حطمت من الأصنام ما يهز معتقداتنا مرة ومرات… وها أنت ذا تقترب من إله العصر الحديث “العلم” وأخشى ما أخشاه أن يختلط الأمر على فتهتز ثقتى بهذا الإله أيضاً، وهو نور الهداية على طريق التقدم، وهو الحل الأول والآخر فى بلدنا هذا، فى عصرنا هذا.
قال الحكيم:
– ليس على العلم خوف ولا فى حديثنا عنه حرج، ولا ينتقص منه أن يمر أحد رهبانه بأزمة وجود، وعلى أية حال فإن المبالغة فى تقديس معطياته دون تمحيص، وعبادة أرقام بطريقة عمياء، قد يزركش الطريق ولكنه ليس دائما دليلا على سلامته وصحته، وعلينا أن نعرف قصوره حتى نسكتمل أبعاده وإلا انزلقنا إلى سبيل ضال رغم بريقه، قد يعوق تطور الانسان ونحن نتصور أنه يزين حاضر حياته، وحكاية اليوم لا تنقص من العلم بل تزيد من إمكانياته، ولا تنفى ضروته بل توسع آفاقه.، وهى حكاية “العلامة” الذى كاد يكفر بعمله حين اهتز كيانه.
قال الفتى:
- وكيف كان ذلك؟
قال الحكيم:
- هو أستاذ مساعد أو مساعد أستاذ، هو لا يعلم أى أستاذ يساعد، وربما كان هذا من بعض ما يشغله إذ يبدو أن ذلك اللقب فى سالف الأيام كان له معنى، إذ كان يدل على طريقه حرفية فى التعلم والتعليم، تكاد تشبه تدرج المريد على يدى شيخه الصوفى، حيث يكون للأستاذ طريقة، ولكل طريقة شيخ، ولكل شيخ مريدون، ومن المريدين من يساعد الشيخ، كانت هذه المساعدة درجة يرفع بها المريد إلى أن يكون خادم الشيخ أو خليله أؤ صديقه، ولما أصبح اسم الشيخ فى العصر الحديث أستاذاً… أصبح مساعدوه أساتذة مساعدين، ثم راح اللفظ بفقد معناه بسوء الاستعمال، ويفقد نبضه من كثرة الابتذال، ويصبح رمزا لوظيفة لها علاوة، وللعلاوة ميقات معلوم، وأوراق مرتبة، حدث ذلك حين أصبح العلم غاية فى ذاته، وليس سبيلا للمعرفة، والألعن حين أصبح وسيلة لغير المعرفة، مثل المنح والترقيات، ولخدمة أموال الشركات وبالتالى أصبحت المعلومات أشبه بالأوراق المالية ولها بورصة وأسواق، وليست إثراء للوعى البشرى، وإسهاما فى التطور، فراحت تنحشر فى أدمغة الحفاظ، وتتراجح عن دورها كطريقة فى الفهم وتنمية للفكر الخلاق، وهكذا انقلبت الجامعات ومراكز البحث من مراكز حب صوفى بين الأستاذ ومريديه، إلى درس إملاء من بوق إلى سامعيه، ويبدو أن كل هذا لازم لمواجهة الأعداد الكبيرة للحفاظ والانتشار الهائل لموجة التحفيظ، وليس التعليم. إذا فقد التعليم طريقة الشيخ والمريد فإنه يفقد النبض العاطفى، ويصبح حشوا منظما لكم متناثر من المعلومات فى خلايا مخ إنسان لم تضع فى حسابها وهى تتطور أنها ستصبح مخزنا لرموز أشياء فقدت اتصالها بالأصل.
قال الفتى:
– ما هذا كله؟ كأنك تلقى محاضرة لا تحكى حكما من خبرة كما بدأنا
قال الحكيم:
– عندك حق، نسيت نفسى، لكن كل هذا كان يشغل هذا الإنسان الطيب حين حضر إلىّ شاكا مترددا هيابا
قال الفتى:
– وكيف كان ذلك؟
قال الحكيم:
– اندفع بخلاف غيره بمجرد أن دخل على وراح يتكلم بصوت مرتفع دون أن أسأله قال: لولا بقيه من أمل… لذهبت إلى “كودية زار” فقد كدت أكفر بالعلم من كل نوع، وحين شاهدت الشهادات على حوائطك انزعجت أكثر فإن كل ما تقوله هذه الشهادات هو أن دماغك فى وقت ما قد انحشر فيه كذا كيلو جراما من الكتب.. ما هذا؟ لماذا؟ هل تريد ان تدهش زبائنك بكم معلوماتك قبل أن يدخلوا إليك فتسهل مهمتك فى ترويضهم؟ هل هم جاؤوا إليك تقديرا لهذا المخزن الممتلىء بالمعلومات أم طلبا لما تحمل فى جوانبك من معرفة ومشاعر..؟ لماذا لا توزع عليهم دليل أبحاثك “إياها” التى ترقيت بها؟ أو تكتب لهم بيانا برحلاتك العلمية التى اشتريت فيها الملابس الداخلية لزوجتك وبناتك، أليس هذا أوقع فى نفوسهم حتى يدخل الواحد منهم وقد استسلم لهيلمان معلوماتك فتلقى اليه ما تريد، أليست هذه الطريقة هى التى تجعلك مسبكا مثل المسابك الوالدية المحترمة، تصنع الناس حسب النموذج الذى فى ذهنك؟ تضغطهم على بعضهم حتى تغوص أنوفهم فى أقفيتهم، وتنطبق شفاهم ويصبح المنطوق فى حدود المقبول…. وبهذا يتكيفون مع ما حولهم من واقع فاسد وكذب شائع!؟
قلت له:
– لماذا أنت قاس كل هذه القسوة فى فروضك، فبرغم أنها تحمل بعض الحقيقة إلا أنك لم تر بقية الصورة بعد، وأظن أنه من الأفضل أن تنتظر ثم تحكم.
قال:
– أنا أبدو قاسيا لكثرة ما قاسيت طول عمرى لأنى أقول الحق عارياً، والحق قاس وصارم، وعلى كل حال فأنا لم أجئ بالجديد، أليست الصحة النفسية عندكم هى التكيف، لماذا لا تغير اللافتة فتكتب الدكتور فلان أخصائى ”التكييف”، أو قل مثلا جهاز ”التكييف الطبى الصحى المعتبر”؟ أليست وظيفتك أن تكيف الناس مع بعضهم البعض، ألستَ هنا تخدم استمرار النظام كما هو؟ ألا تسمون بعض عقاقيركم المهدئات العظيمة؟ أى عظمة أن تهدئ ثائرة الناس؟ ومع ذلك فقد جئت إليك على رجلى… ومستعد أن أسمع منك غير ما قلته أنا.
قلت:
– أنا أساعد الناس أن يجدوا أنفسهم، ويطلقوا قدراتهم ويمارسوا حريتهم ثم يختارون طريق التكيف أو يشكلون هويتهم كما يشتهون… أما مجرد الرفض دون بديل، وإشعال النار دون إطلاق طاقة؛ فهذا ما لا بد أن تتفق معى على رفضه.
قال:
– إذن أنت تحاول أن تستدرجنى.. فليكن.. أنا جئت هنا أحاول.. فلأحاول، سوف أحكى لك:
كنت طالبا ممتازا فى كل شئ، رغم مرور السنين.. أذكر بخاصة يوم انتزعونى من البيت إلى المدرسة، أذكر ذلك تماما رغم أنى لم أكن بعد تخطيت الرابعة، خدعونى، كانوا يتصورون أنى لا أفهم، ولكنى مازلت أذكر هذا اليوم مثل الآن، ومازلت حتى هذه اللحظة لا أثق فيهم، قالوا أننا سوف نزور عمتى لألعب مع أولادها، وكانت وجوههم تقول غير ذلك، أيقظونى فى الصباح الباكر، وكان وجه أمى غير وجهها، لماذا هى مكتئبة هكذا؟ لماذا نزور عمتى قبل طلوع الشمس؟ كنت أسمع قبل ذلك حديثاً عن المدرسة، وعن المريلة وعن أشياء كثيرة لم أتصور أبدا أنها يمكن أن تكون حقيقة فى يوم من الأيام، كانت علاقتى بأمى علاقة خاصة جداً، كانت جزءا من كيانى أو كنت أنا جزءا من كيانها، أو قل لم يكن لى كيان أو لم يكن لها كيان، كنا واحدا والسلام، مرة “أنا هى” ومرة “هى أنا”، ولكنها لم تحسن التمهيد لما سيكون، لأنى أحسست أنها فى ذلك اليوم لفظتنى فجأة، تقايأتنى من جوف أحشائها وهربت، وياليتها أنذرتنى بل خدعتنى…، فجأة.. وجدت نفسى فى الجحيم فعلا.. هل أستطيع أن أنقل لك مشاعر طفل بعد تلك السنين؟ كيف أنقل لك المشاعر بألفاظ اكتسبناها فيما بعد.. مشاعر عاشها طفل لم يكن يحذق بعد لعبة الألفاظ...
كيف أصور لك كيف انتهت الحياة؟ كيف اتسع العالم وانمحت حدوده حتى اختفى؟.. كيف أصف لك لوعة طفل تركوه فجأة، وقالوا سنرجع حالا ولم يرجعوا أبدا، ربما حتى الآن، تركوه ليرتمى على رمل المدرسة ويتمرغ.. ثم يحس بالتضاؤل حتى كأنه يتحول إلى دودة صغيرة تسعى وحيدة فى صحراء شاسعة ليس فيها حياة… قالوا سنرجع حالا.. ويا ليتهم ما قالوا “حالا”، توقف الزمن عند هذه اللحظة، ولم يعد حال ولا ماض ولا مستقبل، واستمرت لحظة الحال الدهر كله، ومازلت أعيش هذه اللحظة أبدا، ومع ذلك فهأنذا قد مرضت أو هكذا تقولون..، ما أقسى كل هذا، وحين جاءت أمى لتأخذنى آخر نهار الجحيم قفزت الدودة فى جوفها وزحفت قليلا فى أحشائها ثم تلاشت تماما.. كلام مجانين أليس كذلك ولكنك أنت الذى اخترت هذه المهنة فعليك أن تسمع كلامنا… وإلا لمن نتكلم.. شبعت كلام عقلاء… وجئت لأتكلم مثلما كنت أفعل قبل أن أذهب إلى المدرسة “أى كلام”… أما بعد ذلك فلم أنطق إلا بالمفيد… حتى صرت إلى ما صرت إليه، اسم الله !!!!
قالت الأبلة:
– “الذى سيتكلم سأقفل فمه باللزاق” ومن يومها لم أنطق إلا بالمفيد، بالدروس… بالمعلوم بكل الجدية، وكل ما هو غير ذلك انحبس فى جوفى إلى الابد.. لا.. إلى الآن، حتى انكسرتُ، فجئت إليك أقول ما يحلو لى وأتمتع بفضيلة الجنون، الدودة..الصحراء! على فكرة هناك من الديدان ما ليس له فم. وأنا لم يكن لى فى تلك الأيام فم.. هل تجد صعوبة فى الفهم؟ معك حق، ولكن مشاعر الطفل إذا ترجمها عالم متحذلق مثلى إلى ألفاظ ليعرضها على آخر كانت النتيجة كلام مجانين. أليست المشكلة التى تجعل الناس مجانين أنهم يحملون من المشاعر ما لا يستطيعون صياغته فى ألفاظ؟ منذ ذلك اليوم انقطعت علاقتى بالحياة، كان الحزن العظيم الذى عاشه الطفل أكبر مما يحتمل فاختفت المشاعر كلها حتى حزن ذلك اليوم، وكان الضياع الهائل وسط صحراء المدرسة مفزع ولكن لا بديل له.. لم تضع أمى فى حسابها أنى ذاهب عنها لا إلى المدرسة ولا إلى أى مكان آخر، ولماذا يضعون فى حسابهم حزن الأطفال وهم لا يعرفونه، هم يتصورنه شيئا مثل حزن الكبار بل هم يتصورنه أهون كثيراً، فالأطفال سرعان ما سينسون. إن الكبار هم الذين يمكن أن ينسوا فاذا تذكروا فهى ذكريات حزينة، أما الأطفال فانهم لا ينسون، لأنهم يعيشون تجربة لا يعرفونها قبلا، فتختلط بكيانهم الغض حتى تغيره، فكيف ينسون وقد أصبحت الذكرى جزءا من تكوينهم، إن حزن الكبار هو الأسى، هو الأسف، هو اللوعة، هو الحسرة، أما حزن الأطفال هذا الذى أحكى عنه فهو ليس حزنا، هو حسرة، هو الضياع الكامل، هو الموت، هو الإحساس بشئ كبير هائل يجثم على أنفاس الصغير ويحيط به من كل جانب ويجعله يتضاءل حتى يكاد يتلاشى وياليته يتلاشى، ولكنه يندمج فى هذا الشئ غير المحدود حتى يصبح هو بلا حدود، لا يمكن أن أصف لك هذه المشاعر بمزيج من الهمّ والضياع والخوف واليأس؛ لأن كل هذه الكلمات اكتسبت معان نستعملها نحن الكبار، أما شعور الطفل فهو شىء آخر. حدث كل ذلك فجأة…أحبتنى والدتى حتى تملكتنى فيها، ثم تركتنى قهرا دون إنذار… ، خدعتنى.. كذبت علىّ، فانقطعت علاقتى بالناس وللأبد، كانت أمى هى الجنة الوارفة المثمرة، لا أبذل فيها أى جهد لأحصل على ما أريد، أما فى صحراء المدرسة فقد كان الكتاب هو نبات الصبار وها أنا، صلب مثل الصبار وذو شوك أيضا يؤلم من يقترب منى، أصبحتُ أنا الكتاب ذاته وارتبطت المشاعر نحوى بكونى كتابا جيدا أو كتابا سيئا، وإلا فأنا لا شىء.
****
- لماذا تحبينى يا أمى؟
- لأنك تلميذ شاطر
- هل ترضى عنى يا أبى؟
- طبعا ما دمت شاطرا فى المدرسة
- وإذا لم أكن شاطرا يا أمى؟
- غير معقول
- وإذا قصّرت يا أبى؟
- لا.. ليس أنت.
غير معقول ألا أكون إلا كتابا.. “أنا” لست ”أنا” إذا قصرت، أما “أنا” فهو أمر غير وارد غير محتمل.
وهكذا دارت الأيام وأصبحتُ كتابا محبوبا.. الشطارة مصدر الرعاية، والتفوق شرط الحياة..
فليكن.
أقبلت على الكتب.. غرقت فيها حتى أذنىّ وساعدتنى وحدتى وحمانى انطوائى.. وكان والداى يفرحان بهذا الهدوء والقراءة المستمرة، واستبدلت بالناس الصور المقروءة، واستبدلت بالكلمات النابضة وبالحياة الدافئة، الكلمات المرصوصة على الورق، وحين ازدادت حاجتى للناس فى سن المراهقة حاولت أن أبعث فى ألفاظ الكتب الحياة، حاولت أن أجد الناس الأصدقاء بين الصفحات، كانوا ناسا رموزا لكنهم ناسى، أحسن من لاشى والسلام، كنت قد فقدت الثقة بالناس الحقيقيين، كيف آمن لهم وقد يتركونى مرة ثانية دودة ضائعة فى صحراء جرداء جديدة لا أعرفها، أما ناس الكتاب فأنا الذى أمد يدى إليهم وقتما أريد، وأنا الذى أعيدهم إلى صفحاته حين أنشغل عنهم بعد أن يؤدوا الواجب، أنا سيد الموقف لا أنتظر شيئا من آخر وحتى أنت جئت إليك – بصراحة – لا أنتظر منك شيئا، أقنعت نفسى أننى جئت إليك أتفرج على علمك، أو عليك، لن ترتقى أبدا لأن تكون ناسا عندى، أنا دفعت لك تماما كما أشترى كتابتا، وعندى أمل ان تكون أسهل فى القراءة… أما كونك إنسانا “آخر” فهذا ليس فى حسابى رغم أن جزءا غائرا فى نفسى يتمناه.
قلت:
- ولكنى إنسان، وهذا هو أساس مهنتى
قال:
- يا ليت، وما هذا الذى تعلقه على الجدران فى الصالة، أنت “عالم” قبل أن تكون طبيباً، هذه هى صورتك عندى، وهى صورة لا تسر بعد ما حدث لى
- وهل هناك تناقض بين أن أكون عالما وأن أكون طبيا إنسانا
قال:
- هذا ما جاء بى إليك.. فقد عشت هذا التناقض منذ اللحظة الأولى بين الكتاب والإنسان، بين العلم المجرد ونبض الحياة، وكانت نهايتى كما ترى: هنا بين يديك، هارب من الجنون أو قل هارب إلى الجنون. منذ اللحظة الأولى..، منذ تركتنى أمى دودة تسعى فى صحراء بلا ناس، منذ خدعتنى وقالت: سآتى حالا ولم تأت أبداً، منذ أحبتنى حبا لصقنى بها جزءا منها، ثم تركتنى فجأة كتابا ملقى على الطريق تعبث بصفحاته عواصف الصحراء، أعنى حوش المدرسة، وظلت العواصف تقلب صفحاتىحتى تمزقت دون أن تتطاير، وها هى بقاياها بين يديك، .. هذا الذى أمامك هو بعض ما تبقى مما لا يصلح لشىء، .. أنا الغلاف والمقدمة والخاتمة، أما محتوى الكتاب فهو ضائع منى، وبالتالى فهو ليس فى متناولك
قلت:
- ..كنتَ طالبا ناجحا ثم صرت عالماً ناجحاً غاية النجاح، فأين المشكلة؟.
قال:
– النجاح؟ نعم النجاح هو القوة التى تساعد على المسير..، هو الطاقة التى تجعلك تستمر ولكن هذه القوة لا تحدد طريق المسير. إلى أين؟ هى تنقلك من محطة نجاح إلى محطة نجاح تالية؟ ولكن كل هذه التنقلات ولو بدت إلى أعلى شئ وصواب الطريق الذى تتنقل بين محطاته شئ آخر.
قلت:
- أليس طريق البحث والعلم هو من أكثر الطرق إبهارا وتنويرا
قال:
- كان طريقا باهراً مملوءا بالنجاح فعلا، وهو ملىء بالتنافس أيضا، .. آه من التنافس قد يحلو لك أن تنتصر على غيرك وتسحقه.. ولكن الطفل.. الطفل المسكين كيف يثيرون فى نفسه كل هذه الرغبة فى الانتصار على أقرانه ومن أول لحظة.. كيف يثيرون الحقد فى أعماق طفل لم يتعد الرابعة.. كيف يكون الهدف الأول والأخير أن يكون ”أفضل” لا أن يكون “فاضلا”، دائما أفضل من الآخرين. فيصبح الآخرون أعداء يتكالبون معه على شئ واحد..، ومن البداية، مع أنهم فى أشد الحاجة إلى بعضهم البعض، أكثر من حاجتهم إلى ذلك الشئ الأوحد: التفوق.. وبدل أن يكون العلم منهلا ينهل منه الجميع. يصبح التفوق مطلبا فى ذاته.. ومنذ متى.. من أول خطوة على الطريق، لا شك أن التفوق ضرورى لهذه الحياة ذات الفرص الضيقة، لا شك أن التنافس حافز، ولكن ذلك التنافس الحاقد ومنذ الطفولة شئ آخر، هو إثارة لكل دناءة العصر الحاضر، هو تنمية للنوازع التى تخدم حرص المجتمع منذ الطفولة، ولكن هذا شى عادى يحدث فى كل بيت ولكل طفل، وهو يأتى بأفضل النتائج، لا تعجب فقد جاء عندى أيضا بأفضل النتائج، كنت الأول دائماً، كنت أرى نظرات أحمد وعمر وسالم ونبيل وسناء ومى، وأفرح فرحا بلا نشوة، وأزهو بلا طرب، ويدب فى حماس نحو نجاح آخر… ويزيد تعلقى بالكتب، وبعدى عن الناس فى نفس الوقت.
ثم جاءت فترة المراهقة. فازددت عزلة خوفا من هجر جديد، تجنبت أن أدخل فى مغامرة غير مضمونة، لا أريد أحدا يحبنى حتى أتلاشى فيه ثم يتركنى حتى أضيع… أما أصدقاء الكتب فهم مضمونون. تستخرج من بين السطور من تشاء تتقمصه وتصادق أصدقاءه وتعادى أعداءه ثم تحتفظ بالجميع على رف المكتبة، تستدعيهم وقت ما تشاء وتجدهم فى أية لحظة من ليل أو نهار، وزاد تعلقى بالكتاب وأصبح بديلا عن الحياة.. وزاد تفوقى.. وأهلى راضون سعداء. حققت لهم ما يشتهون.. وحصلت على شهاداتى المزركشة بتقديرات عظيمة.. ورغم أنها لم تكن عملية سهلة إلا أنها كانت تتم بنجاح.. وراء نجاح، ومع ذلك ظلت الامتحانات هى رعبى الهائل المتكرر طول الوقت..، كانت حدثا رهيبا فى حياتى لأنه: بما أنى كتاب ليس إلا، فليس لى خيار، صار الامتحان بالنسبة مسألة حياة أو موت فعلا لا مجازا، لأن معنى الإخفاق هو الضياع، الاختفاء، الفناء.. ماذا يتبقى منى إذا فشل الكتاب.. وأنا كلى كتاب، لست إلا كتابا، كنت أدخل الامتحان لا لأفرغ ما فى رأسى من معلومات ولكن لأتأكد من وجودى.. لأنه لا وجود لى بدون شهادة، وحصلت على الشهادة تلو الشهادة حتى البكالوريوس. إلى هذا الحد.. كانت حياتى مفهومة ومعقولة – على الأقل من الظاهر – استعضت بالكتاب عن الحب، و بالنجاح عن الحياة الاجتماعية، وبالشهادة عن الوجود الإنسانى، وبدا لى كل ذلك طبيعيا من فرط ما مارسته كل هذه السنين، لم أكن أدرك أننى لم أبدأ حياتى أبدا، لم يكن ينقصنى شىء.. لم أكن أشكو من شىء حتى ذلك الحين..، كان نجاحى يحفظ حياتى ويعطى لها معنى.. وما ظهرت هذه الرؤية إلا الآن، كأنى أكتشفها معك لأول مرة.
قلت له:
- ولكنك صورت النجاح تصويرا وكأنه الفشل، فهل تعتقد مثلا أن الفشل كان سيصلح حالك؟
قال:
- قلت لك إن الفشل هو الموت ذاته، لأن النجاح كان الشىء الوحيد فى حياتى، النجاح طاقة ولكنه كان لى هدفا وغاية ووسيلة وكل شىء، إلا ان النجاح والتفوق فى ذاته لا يعطى للانسان عاطفة أو حياة، قد يتيح له فرصة أحسن ولكنه ليس هو ذاته الفرصة الأحسن، الناس تركز على نجاح الأطفال وتفوق الصبية والبنات ولا يتابعون مصير الناجحين حين يكبرون..
ياسيدى أنا نجحت حتى لم يعد للنجاح طعم، تفوقت على الآخرين حتى ابتعد عنى الآخرون، وحصلت على الشهادات كلها.. وكلما تدرجت على سلم الشهادات انزعجت من تلك المقاييس التى تقيم الناس، وكان آخر المطاف شهادة الدكتوراه: رسالة وامتحان يرضى كل الممتحنين بلا استثناء – أى والله بلا استثناء – وتيقنت أن آخر شهادة هى أخطر شهادة، لأنها تعطيك حق الجهل، وهى شهادة تُعطى ولا تُؤخد، تدل على الرضا أكثر مما تدل على العلم، أما أنها تعطى حق الجهل فهذا أخطر ما فيها.
قلت:
- لا تغال.. وقل لى كيف؟
قال:
- أنا لا أغالى، ولو لم أكن حاصلا عليها لحسبت ذلك شعورا بالنقص أو حقدا ولكنى حاصل عليها من أول مرة وبامتياز، ومع ذلك فأنا لا أقول إلا الحق، فقبل هذه الشهادة يتمتع الطالب أو العالم بفضيلة الحياء، فيخشى أن يفتى فتوى دامغة إلا إذا راجعها وحسب لها حسابها، أما بعد أن يحصل عليها فإن له أن يقول ما شاء دون حساب مباشر، خاصة فى بلدنا هذا، هذا هو الخطر بعينه، أن يحسب الانسان نفسه عالما بالشهادة، فالشهادة قد تكون خدعة كبرى لأنها من الرموز التى تعدت معناها حين أصبحت غاية فى ذاتها، وأصبح تقويم الانسان صغيرا وكبيرا مرتبطا بها ارتباطاً وثيقا، وهذا من ضرائب العصر التى لم نجد لها بديلا حتى الآن..
قلت:
- ولكن ماذا ضرك فى كل هذا.
قال:
- لا شىء حتى الآن إلا جفاف الحياة، وفقد نشوة الانتصار. بعد الشهادة الكبيرة عشت الألم الرهيب الذى انتهى بكسرى الذى أتى بى إليك هذه هى الحكاية.
قلت:
– أية حكاية؟
قال:
– حكايتى مع العلم والعلماء والبحث والمبادئ ، أنا حين سلكت طريق العلم أصبح للكلمة محراب فيه أرقام وأرقام أهتز لها احتراما، وأنحنى أمامها تبجيلا، ولكن حين أصبحت أحد خدام هذا المحراب اكتشفت أن ما به ليسوا آلهة كلهم، هناك أيضا أصنام من الحجارة تبدو عليها سمات الآلهة، واهتززت وتشككت وكدت أتراجع وأنا أكتشف أن الأبحاث فيها الحسن وفيها السئ، وحين تقرأ بحثا فأنت إما أن ترفضه وإما أن تقبله، ولكنى كنت أحد خدام المحراب وولدانه، فمارست تناول الماء المقدس من الداخل ولم يكن دائما مقدسا، خصوصا لدى الكهنة الأساتذة المشايخ والأحبار.
قلت:
– الحياة: “فيها”.. “وفيها”.
قال:
– ليكن، ولكن فى محراب العلم تصبح الأمور لا تحتمل أن يكون ” فيها”.. ”وفيها”، إما أنه فيها، أو أنه ليس فيها.
قلت:
– فلندخل إلى الموضوع ونخفف من الألغاز.
قال:
– ما دامت الأبحاث فى بلد نام، أو فلنسمه متطوراً فلا بد من احترام إمكانياته، وقد سمعت أستاذاً ساخرا يقول أثناء التلمذة إن الأبحاث فى مصر – فى مجاله على الأقل- إما كلام فارغ أو كلام مفروغ منه، أما الكلام الفارغ فهو البحث الذى يعمل وكأنه شىء مبتكر وهو ليس به شئ، أما الكلام المفروغ منه فهو الذى سبق عمله فى بلاد أكثر تقدما وما تكراره هنا عندنا إلا من باب تحصيل الحاصل.
قلت:
– تريد أن نوقف البحث العلمى فى بلادنا؟
قال:
– خطر لى فعلا أنه إما أن يكون هناك بحث علمى وإما أن يوقف.
قلت:
- فليكن.
قال:
– لم يكن.
قلت:
– إذن ما الذى كان؟
قال:
– كان يا ما كان أستاذ ذو كرسى، والأستاذ عندنا صنفان: واحد له كرسى والآخر يظل واقفا حائرا بدون كرسى، وعندنا من الأساتذة من يتراخى على كرسيه حتى يصبح الكرسى أريكة، ويا حبذا لو كان سريرا يحاط بمساعدين يهوون عليه بمراوح من ريش نعام.
قلت:
– إنك فى أزمتك تذهب إلى بعيد وترسم صورة صارخة ليست هى القاعدة.
قال:
– أنا لا أتحدث عن قواعد، أنا أتحدث عن تجربتى الخاصة، أنا مريض نفسى وأنت طبيب نفسى، وقد تحرجت طويلا أن أقول هذا الكلام بين الزملاء، كانوايشعرون أنى أهاجمهم وأكشف عوراتهم فى حين أنى كنت أنقد نفسى معهم، كانوا يدافعون عن جلال العلم وهيبة ”الأساتيذ” دون محاولة لمناقشة صدق محاولتى، وكأن الأستاذ هو أستاذا لأنه أستاذ، وليس لأنه رائد وموجه وناقد وإنسان، وظللت أكتب وأخطّئ نفسى وأعمل حسابا للذى يصح والذى لا يصح، وأفوّت وأصهين وأسكت وأغمض حتى انكسرت، وجئت إليك يا سيادة الأستاذ الطبيب النفسى، ولكن قل لى هل أنت تعترض لأنك أستاذ أم لأنك طبيب؟ لمصلحة من تحاول أن تزين لى حقائق عشتها أنا بكل الألم والمرارة، وتقول أنت تبالغ؟ أنتم الذين تبالغون فى العمى والضلال.
قلت:
– العمى والضلال مرة واحدة؟ هكذا؟
قال:
– نعم بحجة احترام الواقع والمجاملات، إن الواقع محترم. طالما هو صدق وأمانة، والمجاملات عظيمة طالما هى الزيت الذى يلين تروس المعاملات الجافة، أما أن نرص الأرقام ونتبع مبدأ “من سهل، سهل الله عليه” فإن ذلك هو العمى والضلال.
قلت:
– ولكنها تجربة خاصة.. فلماذا تعممها؟
قال:
– أنا لا أعمم شيئاً.. أنا إنسان مكسور ضعيف مهان، وملقى فى كرسى فى عيادة نفسية، فى عقلى خلل وفى إدراكى شطط، ومن حقى أن أخرف ما شئت، وإلا ما فائدة أن يمرض الإنسان، أليس المرض سبيلا إلى حرية ما، ألا يمكن أن يكون عذرا لأمثالى ليقولوا ماشاؤوا، أم أنه دائما علقه قبل وبعد الحديث الطليق؟
قلت:
– ولكنهِ مرضِ.
قال:
- مرِضَ يمرضُ مرضاً فهو مريض والجمع مرضى أو مريضون أو مريدون، يبدو أننى لكى أقول ما أشعر به فى صدق وصراحة لا بد أن أمرض، وحين أمرض لا يصبح لكلامى معنى ولا يسمعه أحد لأنى مريض سوف” يسقطون لى فارغة”.
قلت:
- فهو المرض.
قال:
– هو كذلك… ولكنه الحقيقة، أن ترى الأوضاع مقلوبة، أن ترى العجز سافرا، أن تعيش يقظة الوحدة، أن تعرى الأشياء، هذا ما تسمونه مرضاً.
قلت:
– ربما هى حقيقة هاربة مختبئة.
قال:
– لم يسمح لها بالظهور فى غير العيادة النفسية.
قلت:
– ربما أنت لم تحتمل الاستمرار.
قال:
– ربما.. ربما لم أحتمل الاستمرار، وربما خفت من الاستمرار…. فالإنسان ما لم يتيقظ فى كل لحظة انحرف وهو لا يدرى، وأسلوب الانحراف يختلف ويتنوع، وأخطر أنواعه النوع الخفى ذو المبررات الواقعية وشبه الأخلاقية، اسمع يا سيدى هل انتهى وقتى أم استمر؟
قلت:
– خذ راحتك
قال:
– قالوا أنت حنبلى، ولوحوا أمامى بالترقيات والمؤتمرات وقلت لنفسى، أنا لا أستطيع أن أصلح الكون وأنا صغير، فلأكبر أولا ثم أصلح الكون، إنهم يريدون عدداً من الأبحاث “كل شىء كان” (كلِّشنكان) فليكن، ولأصبح ذا مركز يليق، ثم أغير الكون.. وبدأت الطريق القاسى، لم يكن هناك سوى أرقام أريد ضربها وطرحها وقسمتها، وإيجاد مُعامل الإرتباط، ومُعامل الثبات إلى آخر هذه القصة التى تزين البحث لتستخرج منه حقائق توصف بأنها علمية أو ما شابه ذلك، وكلما وصلت بهذه الطريقة إلى حقيقة تعجبت فهى حقيقة بديهية، ولكن البديهيات لا تتقدم بالعلم، والعلم يحتاج إلى أرقام ودلائل، ومضيت أجمع وأطرح وسجلت ملاحظات لا بأس بها، وكان لها رنين حلو منمق، ولكنى فى قرارة نفسى كنت غير مقتنع بكل ذلك، ماذا أفاد هذا البحث؟ ماذا أضاف؟ أى سؤال أجاب؟ أى جديد؟ وكنت أسأل زملائى فأجد عندهم جاهزة براقة معادة، لا تصلنى فأتهم نفسى، والعجيب أننى كثيرا ما كنت أرد نفس ردودهم إذا ما سألنى أحد نفس الاسئلة، أما داخلى،.. آهٍ من داخلى هذا! كان داخلى يخرج لى لسانه ويلعب لى حواجبه، كان داخلى يسخر منى فألقمه مرجعاً ينشغل به، وأمضى فى طريقى وأقول: حين يصبح لى من الأمر شىء سوف أعدل الكون، بما فى ذلك البحث العلمى، أما الآن فعلىّ أن أصبر وأتساهل، واستعمل الكلمات الرنانة والأرقام المقنعة وأمضى، وذات يوم.. نعم ذات يوم.. أكتشفت انزلاقى.. توقفت وانكسرت.. وجئت إليك.. وها أنذا مريض مهان. أقول الحق فى عيادة.. لا بد لكى أقول الحق أو أدافع عن الحق أن أمرض.. ولا أقوله إلا فى عيادة طبيب
قلت:
– تقول “ذات يوم”! أى يوم كان ذلك اليوم؟
قال:
– نعم “ذلك اليوم”.. كنت هناك، وكان بحثا ضخما مفتخراً به من الجداول أربعة عشر ومن الصفحات ما يربو على العشرين، كنت أعرف فيه نقطا ضعيفة وكم هاجمتها فى غير هوادة، ومضت الأيام.. حتى دخل ذلك البحث سرداباً خفياً فى جانب ذاكرتى ثم اضطررت فى ذلك اليوم أن أقدّمه، ووجدتنى أستحضره وأنا أكاد أفخر به لحسن ترتيبه، ووجدتنى أدافع عن نقط ضعيفة، كم سبق أن رفضتها، وفجأة حدث الذى كان.
قلت:
– وما الذى كان؟
قال:
- أثناء إلقاء البحث، اخترق رأسى من الداخل فجأة : ما بين عينىّ صاروخ مثل السيف المحمى على النار، واضطربت الألفاظ أمام عينى وأصابتنى دوخة وعجزت عن الاستمرار فى إلقاء البحث، كيف أدافع عما لا أعتقده؟ وفى أى مجال؟ فى مجال العلم؟ أحسست بأنى داعر، لا تؤاخذنى فى التعبير، ولكن لا تنسى أنى مريض، وأنى ما مرضت إلا لآخذ حقى فى التعبير، فحيث تكون السلامة تكون المجاملة ويكون الكلام ممنوعاُ والسكوت ممنوعاً أيضا،
قلت:
- ولكن هذا البحث.. .. ماذا به؟ ، ماذا حدث فى ذلك اليوم، هل اكتشف أحدهم فى المناقشة أن به شىء؟
قال:
- لا .. ليس به شىء، هذه هى المصيبة، ولأنه ليس به شىء فقد كُسرتُ لأننى اكتشفت أننى أدافع عن لا شئ، هل يمكن أن تتصور إنسانا يمسك بكل أسلحته للدفاع، ثم يكتشف أنه يدافع عن أعدائه هو، تقضى عمرك تدافع عن معتقداتك فى خزانة عقلك ثم فى لحظة يقظة تفتح الخزانة فإذا بها خاوية على عروشها. حينئذ تصعق وتدور الأسئلة تلسع رأسك ثم تنطلق السهام الملتهبة المصنوعة من معدن صلب، تشل عقلك، وأعتقد أن أحدها هو الذى أصابنى بين عينى، كدت أراه فعلا وهو ينطلق نحوى، شعرت أننى لو مضيت أدافع نفس الدفاع، كأننى أحلف بمقام الشيخ الذى تحت القبة، ولا أحد يعرف سواى أن المدفون تحت القبة هو حمار نافق، وليس شيخا ذا كرامة.
قلت”:
– ولكن ليست كل الأبحاث هكذا
قال:
- آه .. ذكّرتنى، مرة من ذات المرات كنت أجلس وكان ذهنى خاليا من كل شىء، كنت فى حديقة ما.. أمسك زهرة جميلة وكأنى مراهق يتأمل التوافق بين ذاته وبين الكون، وخطر ببالى وبدون سابق إنذار نفس التعبير الذى قلته انت الآن: ”أنه ليست كل الابحاث هكذا”.. فرد آخر من داخلى يقول ”هكذا كل الأبحاث”، وأفقت من لحظة التوافق والانسجام، وجعلت أتأمل مشكلتى المحيرة، وارتسمت ابتسامة ما على عقلى، ونظرت للوردة فى يدى وأخذت أقطف أوراقها وأنا أردد ”ليست كل الابحاث هكذا”… “هكذا كل الابحاث”… “ليست كل الأبحاث هكذا”… هكذا كل الأبحاث”، وظننى الناس عاشقا ينتظر عشيقته ويسأل الوردة “ستحضر.. لن تحضر..” ووجدت عنق الوردة وقد تعرى من جمال الوريقات، وأنا اتساءل تساؤلى الذى لا ينتهى، وهتف لى هاتف أن مصير الطبيعة فى المعمل الجاف الذى ينسى نبض الانسان… مثل مصير الوردة بين يدى إنسان قلق أوشك على الانهيار، وتبينت ساعتها أن الانهيار قادم لا محالة ورفضته وتمنيته فى ذات الوقت.. رفضته خوفا من أن ينطلق المارد من داخلى فيحطمنى قبل أن يتحطم زيفى.. وتمنيته ليخلصنى من قيود حبست نفسى فيها بمحض إرادتى، وحين تخاف الشئ وتتمناه فى نفس الوقت يصبح الألم صريحا وقاسياً، وحين يزيد الألم ويهدد يصبح الانكسار وشيكا.. وقد كان، فانكسرت، طارت أفكارى كالطيور تسرح فى حديقة حرية المرض النفسى، وأخرجت لسانى لأبحاثى الزائفة. ومضيت أحرق الكلام المكتوب جميعه، آه من الكلام المكتوب، حرمنى فى طفولتى من أمى، ثم قيدنى فى شبابى من حريتى، ثم زيف المعرفة فى عز رجولتى، أنا حين أمسك بالكتاب الآن، أى كتاب: تصبح الصفحة أمامى بيضاء من غير سوء، تتداخل الألفاظ أولا، ثم ترقص الحروف، وتخرج لى لسانها وتلوح لى بالسلاسل، ثم تتشابك لتصبح سلاسل من حديد وتقترب من فكرى، فأخاف وأخاف حتى ينمحى كل شئ.. أليس هذا هو الجنون بعينه؟
قلت:
– أو هو الرفض الصارخ الشامل.
قال:
– وأظن أنى هنا لأقبل ما لم أستطع قبوله، ولكن كيف، لقد حاولت أن أحشره فى رأسى حشرا فلم أستطع، حين تحمل الألفاظ أجنحة المرض تنطلق بغير حدود، وساعتها يصبح للحياة معنى.
قلت:
– ربما يعطى المرض معنى للحياة إذا..
قاطعنى قائلا: هذا ما خيل إلى فى أول الأمر.. ولكنى أحسست بالوحدة الرهيبة تكاد تسحقنى، وفى نفس الوقت أحسست باستحالة دخولى القفص مرة ثانية وهذا ما جاء بى إليك، فهل عندك من ترياق:
قلت:
- سوف نبدأ برفض ما رفضت.
- حقاً؟
- ولم لا؟
– لأنى مريض؟
- بل هو رفض الزيف والخداع.
– ومن قال لك أنه زيف وخداع؟
– أنت الآن
– وكيف تصدقنى وتكذب لجنة التحكيم التى أجازت نشر البحث فى أحسن المجلات؟
– لم أجد أى مبرر أن أكذبك، ولا أى مصلحة لك فى أن تكذب علىّ، ووجدت أن الأقرب لى هو أن أبدأ بأن أقبلك بكل ما تحويه وتمثله وتقبله وترفضه.. فهل تقبلنى أنت؟
- أنا؟.. أنا أخاف منك.
- عندك حق، فى أزمتك هذه لك كل الحق أن تخاف من كل الكلام وكل الناس.. ولكن للأمر وجه آخر.
- وأخاف أيضا من هذا الوجه الآخر.
- ولكنك لا تعرفه.
- أنا خائف.. طيور فكرى تهرب من كل الأقفاص.
- ولكنها لو استمرت فى السماء بلا حدود.. فسوف تهلك أنت وهى.
- ستبحث لها عن عش ولو فى القطب المتجمد.
- تهلك من البرد والوحدة.
- أفضل من السجن داخل الخداع.
- ولكن هناك احتمال آخر.
- أى احتمال؟
- الإنسان.
- هو الذى أشقانى وعذبنى حتى انكسرت.. أمى كانت الإنسان الأول فى حياتى ثم تركتنى دودة تسعى فى صحراء المدرسة بين حروف جافة وطباشير أكلح لا نبض فيه، ثم سجنت وأنا أبحث عن الانسان بين صفحات الكتب، ثم فجعت وأنا أفتقد الإنسان فى مجال العلم الجامد
قلت:
– ولكن هذا لا يعنى أن نكف عن التعليم أو نهاجم الكتب كلها أو نحطم قدسية العلم.
قال:
– إذن ماذا يعنى؟
قلت:
– يعنى أن تخرج من تجربتك أقوى وأصلب فتدافع عن المدرسة ولا تنسى الحب، وتتصالح مع الكلمة مكتوبة أو مروية، فهى وسيلة الاتصال بين البشر على أن يكون هناك بشر، ثم لنسخِّر العلم فى خدمة الحياة بكل نبضها المتناغم وجمالها البديع..
قال:
– ولكن كيف؟
قلت:
– بأن نستمر
قال:
– الألم والخوف والسجن والانهيار
قلت:
– الانهيار يمكن أن يكون ضياعا ودمارا كما يمكن أن يكون إطلاقا لقدرات لا حدود لها مثل تفتيت الذرة سواء بسواء، يمكن أن تفنى البشر كما يمكن أن تدفع بهم على سلم الرقى البناء.
قال:
– هل يمكن أن يكون بالإنسان طاقة مثل الذرة؟
قلت:
– بل أقوى وأبقى.
قال:
– أين هى؟
قلت:
– هى الخير والحب والإرادة والفضيلة، هى التى استمرت بالتطور حتى الآن، هى التى انتصرت دائما وستنتصر دائما.
قال:
– أين هى؟
قلت:
– فى داخلك
قال:
– الحب فى داخلى أنا..؟ لو أن هناك حَكَما عدلا لحكم بيننا الآن.. من الذى يخرف؟ أنا.. أم أنت؟ لقد كان الخوف فى داخلى، أما الحب فقد ذهب منذ خدعتنى أمى، ذهب ولم يعد.
قلت:
– لم تكن تقصد.
قال:
– ولم أكن أعرف.
قلت:
– والآن تعرف.
قال:
– وأين هى ؟
قلت:
– هى تمثل “الآخرين” فترة، وأنا قد أمثلهم فترة أخرى.
قال:
- ماذا تعنى؟ هل أبدأ من جديد؟
قلت:
– ولم لا؟
قال:
– ومن يضمن لى؟
قلت:
– قوة الخير التى استمرت بالانسان حتى الآن.
قال:
– تعلمنى نظريات الحياة.
قلت:
– بل تحس بنبض الصحة
قال:
– على ألا أرجع للكتب ومعمل الأبحاث.
قلت:
– بل حين ترجع للكتب ومعمل الأبحاث سوف تملؤها من فيض خبرة حياتك، وجسارة صدقك.
قال:
– أنت تحلم
- أنا أمارس هذا الحلم
- عندهم حق
- من؟
– الذين يقولون أنكم مثلنا
- حتى نفهمكم؟
- ومن يفهمكم؟
- أنتم
- لغة خاصة؟
- نخترق بها الحواجز
- أى حواجز؟
- كل معوقات التطور
- ولن تتركنى؟
- لا أستطيع
- لماذا؟
- لأنى أحتاجك مثلما تحتاجنى
- تحتاج هذه النفاية البشرية!
- بداخلها طاقة الذرة المتفجرة
- لماذا تحتاجنى؟
- ليزداد البشر واحدا
- يا صلاة النبى
- الوقت……
- تبيع الأمل؟
- الحب….
- تعبث.. بالألفاظ؟
- الصحة.
- لا أعرفها.
- والآخر.
- أين هو…؟
- هل شعرت به؟
- خائف.
- ولكنك شعرت به؟
- خائف.
- ولكنا اثنان.
- يبدو ذلك
– إذن.. لقد شعرت بى
- ولن تتركنى كالدودة على رمال الصحراء؟
- سوف يكون هناك آخرون وآخرون، وحينذاك لن يغير فى الأمر شىء أن ينقصوا واحداً، وحتى هذا لن يحدث أبداً.
- متى؟
- الوقت
- أين؟
- الحب
****
قال الفتى للحكيم:
– مالك تتحدث بلغة كالألغاز؟
قال الحكيم:
– لأن اللغة فى مثل هذه الأحوال – كمجرد رمز أو ألفاظ – لا تعنى شيئاً، أما الذى يصل ويتأصل ويطمئن ويبنى فهو نبض المشاعر وصدقها.
قال الفتى:
– وهل يشعر المريض بصدق الإحساس وهو فى بؤرة تدهوره؟
قال الحكيم:
– كلما كان الإحساس صادقا كان أقدر على اختراق الحواجز.
قال الفتى:
– قد علمت هذا المثل فحدثنى عن ”خدعة المال”.. فقد خيل إلى أحيانا أنك تتناساها عمداً.
قال الحكيم:
– وكأنك تقرأ أفكارى… فقد كدنا نصل إلى كبير الأصنام الذى اتهمه سيدنا ابراهيم أنه حطم باقى الأصنام.. فلما سألوه عن المسئول عن تحطيم الأصنام.. تحطم هو ذاته.
قال الفتى:
– وكيف كان ذلك؟