نشرة “الإنسان والتطور“
28-6-2011
السنة الرابعة
العدد: 1397
كتاب جديد (قديم)
عندما يتعرى الإنسان (5 من 12)
“دروس للناس: فى الطب النفسى”
قال الحكيم:
– حكاية ذلك الفتى الثائر هى حكاية هذا العصر، بل وكل عصر، وقد شغلنا الاستطراد فى حديث “القفص والسجن” عن صديقنا هذا الذى آمن حتى كفر، وعاش الكلمات التى قرأها بكل عمق وإحساس نقى، وحين أراد تحقيقها وجد كل شىء مختلفاً… ، أراد أن يضيء فاحترق… أو كاد.
قال الفتى:
- وكيف كان ذلك؟
قال الحكيم:
– هو فتى من أرض هذا البلد الطيب، حمل فى نفسه تراث حضارة قديمة أصيلة، وفى جوفه طمى نيلها القوى الجبار، وانصهرت كل خلية من خلاياه بشمسها المشرقة الدافئة، وكان يؤلمه أشد الألم أن ينبض وجدانه بكل هذا الصدق والأمل، ثم هو لا يجد حوله إلا هذا التراخى والشلل، واتجه إلى الكتاب فعشق الكلمات من صغره، فمنذ العاشرة وهو يقرأ كل ما تقع عليه عيناه، آسف… لم يكن يقرأ الكلمات بل كان يعيشها، لم تكن الصفحات أمام عينيه مسطحة ملساء بل كانت دنيا زاخرة بالأشخاص، تنبض بالحياة، لم يفرق أبدا بين اللفظ والمعنى، كان اللفظ هو معناه فى نفس الوقت… بل هو حقيقته.. كانت الألفاظ حقائق قائمة تسير فى الحياة. بل هى الحياة. وكان من أول ما عرف من ألفاظ هو كلام الله سبحانه وتعالى، ومثل أهل هذه الأرض الطيبة المنبسطة كان الإيمان عنده أمرا بديهياً لا يحتاج إلى منطق أو تفكير، فلأمر ما يدخل الإيمان هنا- إلى القلوب مباشرة دون تفسير ودون جهد ودون مراجعة، أهى دعة الطبيعة تثير هذا الشىء بداخل أنفسنا؟ الشىء النابض بالجوع إلى الاتصال بأصل الوجود؟ لماذا ظهرت الديانات السماوية كلها فى هذه الأرض أو قريبا من هذه الأرض؟ وكيف لا؟ كيف يمكن وسط هذه الطبيعة السهلة ألا يتحرر الانسان من قشرته الزائفة فإذا به جزء من كل ما حوله، يحس بالأمن والخير، يحس بالقوة والحق، يحس بالصدق والأمل، إذن هو الدين فى صورته الأصيلة، وقد كان نبض الدين فى عروق صاحبنا أصيل وعميق، ولكنه حين دخل حظيرة الدين دخلها فى صدر شبابه من باب جانبى، وإذا به فى متاهات وسراديب… وابتدأت تجربته.
جاء إلىّ شبه مختار… وجلس..
وقال:
- لقد كفرتُ بكل شئ.
قلت:
– بماذا؟
قال:
– كفرت بكل ما يقال.. وكل ما كان.. وكل ما هو كائن، وكل ما سيكون، بكل ما كتبوه، وما لم يكتبوه، بكل شئ وكل أحد.
قلت:
– وأنت؟
قال:
– كفرت بنفسى أولا وقبل كل شىء.. كفرت بالأصل والفرع، بالسبب والنتيجة، بالحق والباطل، كفرت بالشىء وضده.
قلت:
– والانسان.. والغد؟
فقال:
– وبالذات كفرت بالإنسان… وبالذات كفرت بالغد.. لقد خـُـدعت بما فيه الكفاية، وما بقى منى هو العفن الطافى فوق الجسد المتآكل، اشتعلتُ حتى احترقت، وحتى الحريق لم يكمل مهمته فيتركنى ترابا مقدسا، بل تركنى جسداً مشوها منتفخا سرعان ما فاحت رائحته… لست رمادا بعد.. لم أمت.. بل جننت. أو هكذا تسمون أمثالى، الموت ينتهى إلى رماد نقى جاف، أما الجنون فهو موت عفن كريه، لم أستطع حتى الموت.. لأنى كفرت بكل شىء حتى الموت.
قلت:
- ولكنك مازلت.. هنا
قال:
– أنا هنا لأتفرج عليك، كنت قد قرأت عنكم معشر الدجالين والمشعوذين والفلاسفة وعلماء النفس وأطبائها ما شغلنى وبهرنى لفترة من الزمان، ولكن مثل كل ما قرأت كان يُشعل فىّ شمعة لها ضوء نورانى بديع، وما إن أقترب منه وأحاول أن أرى من خلاله الطريق حتى أحترق، يحترق إصبعى ثم تلفح النار وجهى، ثم تحترق نفسى ثم مبادئى ومُثُلى وفكرى، وياليتهم تركونى حتى النهاية… إذن لأصبحت رمادا نقيا، ولكن مَنْ حولى أطفأونى فلم يبق إلا جسد ممزق لا حياة فيه، ألا تعرف يا سيادة الطبيب تلك الرائحة المميزة فى من تسمونهم المجانين، نحن، أنتم تقولون إنها رائحة العرق لأنهم لا يستحمّون، هذا وهم سخيف، إنها رائحة عالمية تجدها تفوح من كل من تودعونه مصحاتكم، إنها رائحة الحى الميت، ما علينا لا أريد أن أجهّلك قبل أن أعرفك..، أقول كنت قد قرأت عنكم معشر الدجالين وأطباء النفس ما بهرنى وأضاء فىَّ شمعة من الشمعات التى أحرقتنى، ثم طفت جولتى بين الكلمات والأشخاص، بين النظرية والتطبيق، بين المبادئ والواقع، وانتهيت إلى ما ترى، وجاء ذكرك شخصيا فى نهاية المطاف قلت أتمم الجولة بك.
قلت:
- قل ما شئت.، ولكن تذكر دائما أن هناك احتمالا آخر.
قال:
- أى احتمال آخر.. لقد جربت كل الاحتمالات.. هل أحكى لك من الأول.. أم تختار أنت.. لقد جربت كل الاحتمالات.
قلت:
- قل ما تشاء.
قال:
– كان الطريق الأول هو طريق الدين.. وكنت مثل سكان هذه الأرض الطيبة – التى لم أعد أعرف لماذا هى رغم كل شىء ما زالت طيبة – كنت أحب الحق، الحق، كان هذ هو الدين الذى دخل إلى وجدانى دون تفكير، ولكنى أيضا كنت أحب الناس، كل الناس، ومن أى دين، وسمعت حينذاك دعوة تقول إن الدين هو دستور الدنيا والآخرة، هو الأول والآخر، هو السياسة والأخلاق، هو التجارة والصناعة، هو العدالة الاجتماعية والاشتراكية وكل شىء، هو الحل لكل معضل.. لكل مشكل، وكنت – وقبل أن أقرأ أى شىء أشعر بأنه لابد أن يكون الدين فعلا هو كل هذا، وبما أن الدين هو اتصال الانسان بأصل الوجود، وبما أن الدين هو الفطرة السليمة، والفطرة هى الجمال والسهولة والحرية والحق والقوة والحب فى آن، إذن: فلا بد أن الدين هو كل شىء. ودخلت مع تلك الزمرة التى كانت تنادى بهتافات نهتز لها صدقا وحماساً.. وجلسنا نتدارس الدين فى حلقات كانوا يسمونها ”أسر”، ما أحلى أن يجتمع الشباب حول كتاب الله يشرق بالنور والهداية، وتفقهنا – ولكن كان ممنوعا علينا أن نتفقه أكثر مما ينبغى، استبدلوا كتاب الله بكتيبات صغيرة تدخل إلى العقل من الباب الجانبى للوجدان، ثم تتربع فوق العقل، ثم تشل حركته، وحين تشل حركة الإنسان حيث تضيع منه ذاته، وتقوم الكلمات حواجز بينه وبين ربه، بدلا من أن تكون كلمات المفتاح إليه، تضيع كل المعالم كنت أحاول أن أرى نور الكلمات على الوجوه.. وكنت أجده أحياناً، ولكننى فى أغلب الأحيان كنت أصدم بالتزمت والقسوة، كنت أحاول أن أتلمس نبض الوجدان فأجد أن صفعات الألفاظ تنهى وتأمر، وأخذت أختنق رويدا رويدا.. وملأنى الغيظ والحنق وأنا أرى الألفاظ المضيئة وهى تُستعمل لتنير دهاليز لا أعرفها، توصــِّـل إلى حجرات تحت الأرض كلها ظلام فى ظلام، هى حجرات الأسر السرية قلت فى نفسى: كيف؟ كيف يكون طريق النور هو حجرات مظلمة تحت الأرض؟ وكيف يتجنبون كلام الله بشموله ورحمته، ولا نتدارس إلا الحرب والضرب والجهاد الموصى عليه… لقد كان الجهاد وسيلة لتعميق وتثبيت الإيمان.. ولكنه لم يكن بديلا عنه..، وصعدت السلم درجة درجة، وكلما صعدت درجة فجعت فجيعة، فأسرة الشبيبة غير أسرة الشباب العلنى، وهى أنقى وأطهر من أسرة الشباب السرى التى كانت بدورها أصدق وأشرف من مستويات المسئولين عن الإرشاد.. آه من “المسئولين”.. كلما اقتربت من مسئول كانت فجيعتى أكبر، هل أنت مسئول يا دكتور؟
- نعم.. أنا مسئول عن صحة االناس.. هذه مهنتى.
- إذن. فأنت لا تعرف معنى كلمة “مسئول” لو عرفتها ما وصفت نفسك بها، أو لعلك مثلهم تافه وسطحى ومتسرع، كنت وأنا صغير أعتبر المسئول مسئولا، فإذا بى أكتشف أنه كلما كان الإنسان مسئولا كانت قراراته أكثر سطحية وتصرفاته اكثر انفعالية، وشخصيته من الداخل أكثر اهتزازا، لماذا هذا التناقض يا دكتور؟
- التناقض هو من قوانين الحياة وهو المحرّك الأول فى تطور الانسان واستمرار الحياة
- آه.. تطور الإنسان؟ أنت تحلم كما كنت أحلم وأنا صغير، يبدو أنك لم تنضج بعد يا دكتور، كيف تقف هذا الموقف وقد شاب المتبقى من شعرك على صلعتك؟ سأعلمك أنا معنى التناقض والنضج: التناقض الجارى هو أن تؤمن حتى تكفر، أن تحب حتى تكره، أن تتحمس حتى تتبلد، أن تصرخ حتى ينحبس صوتك، أن تكبر حتى تموت.. هذا هو التناقض.. أما النضج المعروض فهو أن تتشكل وتتلون لتتكيف مع كل زيف حولك، ما علينا، دخلت باب الدين متسلحا بالإيمان، وتُهت فى سراديب الرسائل الصغيرة واختنقت برائحة الحجرات الرطبة المظلمة تحت الأرض، وأخذت الشموع تخبو فى نفسى، وأظلم عقلى ولكننى مددت يدى أتحسس وجدانى فلسعتنى النار، وفرحت فقد علمت أن الشعلة ما زالت هناك، لم تخمد بعد، استمتعت بلسع النار لأنه أيقظنى قبل أن يفوت الأوان، قبل أن يعطونى مسدسا أقتل به إنسانا لا أعرفه، قالوا إنه عدو الله، لسعتنى نار وجدانى فأنقذتنى قبل أن يطمسوا عقلى بالترانيم والأقانيم والتعاويذ والتسابيح، وحفاظاً على نفسى كفرت بما يفعلون، ولم أكفر بجوهر الأشياء، احتفظت بالإيمان وكفرت بالكهنوت، حافظت على صلة الإنسان بأصل الوجود ورفضت أوامر القيادات الفارغة الجوفاء، رفضت اهتزاز اللحى وهى تعزف مقطوعة القتل بعد التكفير، رفضت أن يشوه الإنسان الخير. كيف يصبح الدين االنابض بالحب والتسامح هو هو طاقة الحقد والقسوة والتزمت؟ لماذا يفعل الناس بأنفسهم وبمعتقداتهم هكذا؟
****
وانتهت فترة نابضة قاسية من صدر شبابى. وانطفأت إحدى الشموع، ولكن ضوءاً خافتاً آخر بدأ فى الظهور، هل تريد أن تعرف بماذا آمنت بعد ذلك؟ ولكن قل لى يا دكتور هل تؤمن أنت بشىء، أم أنك ترتزق مثل سائر الكهنة المرتزقة من احتراف مهنة ما.. طبعا أنت مرتزق، هذا واضح، ولكن هذا لا يمنع من السؤال: هل تؤمن بشىء؟
- أنا لا أصلح لهذا العمل إن لم أومن.
- وبماذا تؤمن؟
- أؤمن بالحياة تتحرك نحو غايتها، أؤمن بالإنسان وسلامة توجهه،.. أومن بقدرته على التطور إلى ما بعده وعلى التجديد فيما عنده،
- يا سبحان الله.. يظهر أنه لابد أن تسير طريقى كله حتى تكفر بكل هذا.. أنت تتفرج على الناس من فوق كرسيك هذا وتتشدق بالألفاظ، ولكنك لا تعايشها مثلما فعلت، ولكن قل لى بالله عليك كيف تحتفظ بإيمانك هذا وأنت ترى الفشل تلو الفشل فى صورتنا نحن المرضى.. ألا نيئسك فى حياتك وآمالك حين نفشل ونستسلم؟ هل مازلت ترى نبض الإنسان وراء حطام مثل هذا الجسد الحى الميت: أنا
- إن ما حافظ على إيمانى هذا هو قدرة الإنسان الخارقة على أن يجمع شتات نفسه رغم كل شىء وبعد كل شىء… إن مازاد إيمانى بالإنسان هو رؤيتى له عاريا يصارع الزيف بالألم، نعم بل حتى بالمرض.. “أنت” الذى حافظت على إيمانى هذا.
- أنا.. الله أكبر!.. أنا الذى كفرت بكل شىء أجعلك تحافظ على إيمانك، ما أعجب هذا: نبى كافر يؤمن من خلاله الناس.. أليس هذا هو الجنون بعينه.
- انت ضقت بكل شئ.. ولكنك لم تكفر بعد.. وإلا لما كنت هنا.
- أنا هنا حتى أكفر بك أنت أيضا.. أكفر بالطب وبالعلم. نعم العلم الطبى بعد أن كفرت بالعلم السياسى والاجتماعى.. هل تريد ان تسمع بقية حكاية الإيمان حتى الكفر؟
– ….
- اسمع يا سيدى: حين تهت فى سراديب الكهنوت، وانتهى الإيمان إلى غيابات التنظيم السرى، وانقلب نور كلام الله إلى إرهاب كلام القادة والمرشدين، حين تصورت ما بين دفتى المصحف حلا لكل شىء فإذا بهم يستعملونى وسيلة للقهر والقتل والإرهاب الفكرى وجدت نفسى أرتمى فى أحضان النقيض، وذهبت إلى حيث وجهتنى قراءاتى الاشتراكية العلمية، فقد كنت مازلت أتلمس الطريق بما أقرأ من كلمات توجهنى، وهناك فى أروقة المادية الجدلية رأيت الإنسان ينتصر على شهواته، قرأت عن التطور والعدل، عن الرحمة وحسن التوزيع، عن العمل والإنتاج قرأت وطربت ورقصت الكلمات فى وجدانى رغم أنى تململت من بعض التفاسير المادية البحتة، ورغم أن داخلى رفض الإلحاد والهجوم على الدين، رغم كل هذا فقد ارتقيت فى أحضان المادة والعلم المادى بعد أن كفرت بالكهنوت، بالمظاهر الدينية، ولكن داخلى ظل متمسكا بالنبض الإيمانى الذى يحس بالله سبحانه برغم كل شىء، وبلا أية وسيلة، ولا حتى غاية، ولكنى تجاهلت داخلى واندفعت إلى التفسير المادى للتاريخ، وبما أن الكلمات عندى هى المعنى الملزِم بالفعل: قررت التنفيذ، ولم أدخل هذا السبيل من الباب الجانبى، بل بدأت الطريق فى الظلام، ومن أول لحظة، فقد كان النشاط سريا منذ البداية، وكنت قد تمرست على الرؤية فى الظلام من أيام الأخوة إياها، فلم يكن غريبا على أن أقبل السير فى الظلام وصعدت السلم من أوله: خلية صغيرة، ثم مسئولية كبيرة، وكلما صعدت درجة أحسست بالغرابة والانزعاج، فقد كانت الكلمات المضيئة تتوارى وراء الإجراءات والأوامر والترتيبات، وبدأ فكرى الحر يحتج، وقالوا أنت تحلم بغير الواقع.
قالوا: إن الحرية خطر على الناس، إنهم يستعملونها فى جمع المال وإذلال الآخرين، إن الحرية بهذا الشكل هى العدو اللدود للبشر، للطبقة العاملة، ونحن نمثل الطبقة التى تمثل الأغلبية، ونحن أحرار، إذن فالأغلبية أحرار، وهذا يكفى لقيام الحرية، ويبدو أن عقلى المثالى لم يقبل إلا الأحلام، وبعثونى فى مؤتمرات السلام، وما أبهج الكلمات حين تدور حول حلم الإنسان عن العدل والسلام.
ولكن..، يا سبحان الله: ما هذه الأسوار العالية حول الفكر؟ ما هذه القيود حول الجديد؟ ما هذا الخوف من الرأى؟ إن الأفكار الجميلة حين تخرج إلى التطبيق لابد أن تتبناها حكومة، وللحكومة “بوليس” “وللبوليس” رئيس، وللرئيس صولجان وهيلمان، وللحزب “مفتى” وللفتوى تفسير، وللتفسير تأويل… إننا حين نمارس الفكر المشرق فى واقع الحياة نصاب بخيبة أمل لا حدود لها، وكانت خيبة أملى شديدة حين سافرت إلى بلاد اليسار الأحمر، حين رأيت الأمل يختنق فى الصدور، حين رأيت الكلمات تنحبس فى الحلوق، حين اكتشفت أن أفكارى أنا شخصيا تتردد فى الورود إلى ذهنى، إلى هذا الحد وصل القهر إلى داخِلِنا: أنا أمنع نفسى أن أفكر خشية أن يجرنى فكرى إلى مناطق محظورة تضر بالطبقة الحاكمة – أعنى الطبقة العاملة – فى كفاحها المجيد ضد الاستغلال، الطبقة العاملة هى السيد والباقون طماعون سفاحون خبثاء، ولكن لماذا نفكر نحن رجال الحزب للطبقة العاملة، أليست لهم عقول يفكرون بها، ولكن أين هى الطبقة العاملة؟ إنها بين دفتى الكتب العقائدية، يبدو أن وجودها غير حقيقى، إذ أننا نتكلم باسمها، وهم يحكمون باسمها، ثم هى فى واقع الأمر.. أين هى؟. ويبدو أن تفكيرى كان مثاليا عجز عن استيعاب الذى يجرى “كمرحلة” فاستعجل الوصول.
وتوقفت فجأة.
وأخذ إيمانى يهتز بالمادية كما يحددونها، ورفضت أن تحجز أفكارى على أفكارى، رفضت أن تكون الكلمات الجامدة هى السجن الذى نسجن فيه الإنسان لصالح طبقه ما.. رفضت أن تكون هناك وصاية مذهبية على الفكر والتفكير.. أو وصاية طبقية على الحكم أو على الشعب: طبقة الحزب وصية على الحكام، والحكام أوصياء على الشعب، والشعب مسموح له أن يفكر فى الطريقة التى يحقق بها المادية الجدلية ذاتها.. ممنوع الجدل فى الجدل..لقد حلت النظرية كل شىء، الانسان يستغل الانسان منذ الأزل، وقد آن الأوان لتوقف كل هذا، وإذا بالانسان يستغل الإنسان من أجل أن يتوقف الانسان عن استغلال الانسان.
وكفرت، كفرت…
ذبلت شمعة جديدة..ويئست وأنا أتحسس طريقى وسط الظلام على ضوء خافت يتراقص، وحين مددت يدى نحو الضوء احترقت وأفقت، ووجدت أن جذوة النار لم تهدأ.
وانحرفت.. هكذا قالوا!!
وصمونى بالانحراف وبالنكسة وبالتردى فى هاوية المرتدين الجبناء، أرهبونى وحطمونى أمام نفسى، وكان جزء من نفسى يحاول أن يطفئ داخلى حتى استمر فى طريق الفكر المجرد، والعمل المنظم لتحقيق هذا الفكر العظيم، كنت أحاول أن أتصور أن الفشل فى التطبيق ليس إلا مرحلة لابد أن نتخطاها، ولكن القائمين على الأمر كانوا واثقين من أنفسهم ومن النظرية أكثر مما ينبغى، أكثر مما أطيق، لم يكن فى هذه االحياة إلا مذهب واحد.. وللمشاكل إلا حل واحد وللأمراض إلا تشخيص واحد، لم يكن عندهم إلا تفكير واحد وحرية واحدة وطبقة واحدة فكل شىء ورد فى أقوال الزعيم، كل شىء وضع له حل، اليوم وغدا وبعد ألف عام، ورفضت ورفضت.. وكلما اقتربت أطفى الجذوة بأن ألقى عليها حجارة من الكلمات المرصوصة، كانت نفسى تتلقف الحجارة وتوقدها بالوهج حتى تحمر الحجارة وتنصهر، وأصبحت الكلمات الجامدة وقودا للثورة على نفسى، ولم أستطع يا سيادة الطبيب، لم أستطع…
أنا إنسان خيالىٌّ فاشل برغم محاولاتى المتكررة أن أعيش واقعى… أن أواقع الكلمات، أنا لا أقرأ الكلمات.. أنا أعيشها، أنا أعاشرها، أناغيها، أرافقها، الكلمات تدخل خلاياى وتسرى فى دمى وتنبض فى عروقى، تصبح هى أنا، وأنا هى، فإذا حاولت أن أسير بها وجدت الفرق شاسعاً بين ما فى أوراق الكتب وما فى واقع التطبيق، وخاصة حين أشاهد مصير الكلمات فى تصرفات الرؤساء. ألم أقل لك أننى كنت كلما صعدت الدرج ازددت جزعا. كان المسئولون يتراشقون بالكلمات دون معانيها، كانوا يستعملون المبادىء لتحقيق أشياء أخرى غير المبادىء.
هل هو الطمع؟
هل هى السلطة؟
هل؟… ماذا؟.. لماذا؟. قل لى ياسيادة الطبيب النجيب ما هو ذلك الشىء الذى يُنسى الإنسان نفسه؟
- الخوف
- هو ذاك.. الخوف.. لقد خفت كل شىء، إنك إذ تخاف تفعل أى شىء وكل شىء حتى تنجو من الرعب الذى يتملكك، لقد خافوا على الانسان حتى قضوا على الإنسان، خافوا على العمال حتى خنقوا الحرية، خافوا على أنفسهم حتى نسوا أنفسهم وخفت أنا أيضا، كما أن من حقهم أن يخافوا، فمن حقى أيضا أن أفر بجلدى وفررت… ولكن إلى أين؟ ياوحشة الطريق.. إليك، إلى الأمان المطلق إلى الجنون المطبق.. آه.. يا إنسان يا غريب الأطوار.. تبا لك من حشرة جبانة تهرب إلى الجحر بمجرد سماع وقع الأقدام.
- إن تجربتك مرة، ولكن لا تمتهن الإنسان، فقد عاش حتى الآن يصارع نفسه وهو يصارع الخوف.. وهو مازال دائم التقدم بالرغم من كل شئ.
- نعم بالرغم من كل شئ. بدليل أنك جالس خلف كرسيك ترتزق من أشلائه المتناثرة
- أنا أعيش وأفعل ما أستطيع
- وماذا تستطيع حين يكفر إنسان بنفسه.. ماذا تستطيع أن تفعل له أنت؟
- أستطيع أن أحبه رغم كل شىء، أحبه جزءاً جزءاً حتى يجمع شتات نفسه، أثق فيه وهو فى قمة تصدعه.. أصاحبه حتى يستمر كما ينبغى.
- ينبغى؟ وماذا ينبغى ياسيادة الطبيب؟ ينبغى أن أغمض عينى وأكتفى بأن أذهب إلى وظيفتى وأقبض راتبى آخر الشهر؟ أن أقتنى امرأة حضّانة تنتفخ بطنها بين الحين و الحين ببعض ما ألقيه فيها من فضلات اللذة، حتى تزيد عدد الأحياء التعساء، مذا ينبغى يا سيادة الطبيب؟. قل لى بربك ماذا تفعل بالناس من على كرسيك هذا؟ أنت تساعد فى”ميكنة” الإنسان وقتل مشاعره.
- بل أنا أحاول أن أساهم فى الحفاظ عليه حتى يكمل طريق الثورة والتطور. إن المرض رفض، والرفض لا يثمر إلا بقيام الثورة وأنا أقف بجوارك لنكمل الطريق.. فالثورة لا تكون ثورة إلا بعد تحقيقها. وإلا فهى محاولات مجهضة فى الظلام. لا يخرج منها إلا مسخ ناقص النمو.
- عليك نور.. أنا المسخ ناقص النمو أنا المسخ المشوه.
- ولكن هذا التشوه الذى يظهر عليك مرحلى وسطحى، أما جوهرك فهو هو، وإلا ما مرضت، المرض يصبح نعمة حين تخرج منه أصلب عودا، وأقدر على الاستمرار.
- الاستمرار؟!! لقد حاولت الاستمرار، وباستمرار. هل تعلم ماذا فعلت بعد أن ضللت فى دهاليز الكهنوت الدينى وضعت فى سراديب مادية التاريخ؟ اسمع يا سيدى:
ظهر فى هذا البلد الطيب تحالف لأبنائه، تحالف قوى الشعب العاملة، كلام جميل للغاية: الشعب. التحالف، القوى العاملة. ما أروع كل هذا.. الميثاق الغد المشرق، الأرض الطيبة.. مصر.. العمل.. العدل.. الحرية..، وقلت إذا كانت دهاليز الكهنوت قد ساقتك إلى الإرهاب الدينى، وكانت مادية التاريخ قد حجرت على فكرك وحريتك، فها هى الشمس تشرق بهذه التعادلية الجديدة. تحالف قوى الشعب العاملة. وتوكلت على الله – فإن فشل تطبيق مادية التاريخ لم تستطيع أن تنتزعه من قلبى ووجدانى – وذهبت إلى التنظيم، وتحمست، فأنا طول عمرى متحمس، وفى هذه المرة كانت الرؤية واضحة، الأرض طيبة.. والحياة طيبة.. والناس طيبون والنيل يجرى سهلا.. والوادى منبسط، والله مازال فى قلبى. كل شىء طيب، ولابد من تحقيق العدل.. ولابد من إقرار السلام، ولابد من الحرية، ولابد للناس كل الناس أن يعيشوا وأن يأكلوا، أن يفكروا، أن يتطورا، وتحالفتُ مع قوى الشعب العاملة ولكن..
ما هذا الذى يحدث؟ كلما حاولت تحديد شىء ساح كل شىء فى كل شىء، فأنت هناك بلا قوام، ميوعة ولزوجة وألفاظ مرصوصة مرصوصة مرصوصة، مثل علب الأحذية الفارغة فى محل تاجر أوشك على الإفلاس، والشعارات الرنانة تطوف حول الرؤوس ولا تدخلها، وأحاول أن أصيح أن هذا الشىء جديد، ولذلك ينبغى أن يكون جديدا فعلا وأصيلا، ولكنى اكتشفت هناك أن اليمين يريد أن يخدع به اليسار، وأن اليسار يريد أن يحتوى من خلاله اليمين، وبدل أن يكون هو مجموع إيجابيات اليمين، واليسار، أصبح حاصل سلبيات اليمين واليسار، فبدل أن تجمع خمسة زائد خمسة ليصبح التحالف عشرة، كنت تطرح خمسة من خمسة فإذا بالناتج صفر، وهأنذا.. أنا هو الصفر.. أنا اللاشئ أنا المؤمن الذى كفر بكل شىء وحين انهار البناء فوق رؤوس الكهنة المتشدقين بالألفاظ الجوفاء كنت أنا قد انهرت من زمان.. سوف تقول لى إنهم يعيدون البناء..ولكنى مريض لم أعد أومن بشئ. ولا أثق إلا فىّ أنا شخصيا، وأنا لا شىء.. حاولت كل طريق ولم أحصل إلا على التمزق فالجنون، آمنت بكل لفظ حتى سقط هرم الألفاظ فوق مبادئى، أنا الآن عار من المبادئ، ومن الألفاظ، ومن المعانى، ومن الحياة، فما حيلتك فىّ؟!.
قلت له:
- ولكنك مازلت ثائراً.
- لا ..لا..، كله إلا هذا.. كفانى ثورة
- بل أنت ثائر على تصور فشل الثورة، لذلك فأنت ترتدى مظهر الاستسلام.. ومازالت الجمرة فيك وبك.
- لا تحاول أن تبعث فيها الحياة.. لقد انطفأت الشموع جميعا وعم الظلام.
- الشموع قد تنطفىء، والجمرة قد يعلوها الرماد، ولكنها متقدة فى داخلك.
- لا ترسل نسيم ألفاظك إلى حيث لا تعلم، فإنها لو أشعلت الجمرة من جديد فلا أحد يعرف كيف سأنفجر، سأتحطم تماما وقد أحطمك معى.. ألا تسمع عن المرضى الذين يقتلون.. أنا أشعر الآن بالطريق إلى ذلك، إن هذا يحدث من إعادة اشعال هذه الجمرة، إياك أن تقترب منها داخل أى منا، دعه يكتوى بنارها المتسحبة تحت الرماد حولها حتى يحترق ويموت.
- إذن فهناك جمرة.
- تحترق.. فهيا ساعدها بعقاقيرك المهدئة العظيمة لتنطفىء إلى رماد،.. أرجوك لا تهيجها بألفاظك المثيرة.
- بل العقاقير تهدئها مرحليا حتى تصبح طاقة قادرة على الاستمرار.
- وماذا بقى منى حتى أستمر؟
- كل هذه الخبرات لابد أن تتجمع.. وتعود إلى حياتك العادية، لتجعل العالم كله غير عادى.. بالتطور والعمل والاستمرار.
- ولكنى فشلت.. فلماذا التطور ، هذه كلمة خبيثة خادعة، يبدو أن التطور هو خدعة تاريخية
– ليس تماما، وبالذات بعد خبرتك هذه.
– ولماذا أنا بالذات؟
- لأنك مرضت، إذن فقوتك الداخلية أكبر من سائر البشر، إذن فأنت تحمل رسالة التطور.
- وهذه الرسالات التى آمنت بها حتى كفرت، ألم تكن وسيلة للتطور.
- وهى هى دليل التطور.
- إذن لماذا احترقتُ بنارها وشككت فى كل شئ.. على فكرة أنا أشك فيك.
- هذا بديهى.
- وأرى خيالات وصورا وأشياء كثيرة من حولى.
- مثل ماذ؟
- أرى أفلاطون وأرسطو وبعض الأنبياء، أى والله أحيانا أعيش فى جمهورية أفلاطون، وأحيانا أنام فى غار حراء.. ما أجمل كل هذا رغم كل شئ…، أن تعيش مع هؤلاء الذين استمروا ليغيروا العالم دون أن يمرضوا، ولا أن ينهاروا، ولكن من يدرى؟ لعله لو كان هناك أيامها طب نفسى كنتم قلتم أنهم مرضى.. كل شئ جائز، فالعلم الخبيث خليق أن يشوه كل شىء، أن يعطى رقما رمزيا أو إسما تشخيصيا لكل نبض إنسانى، حتى لو كان نبيا، على فكرة.. ما اسم مرضى؟
- ليس لمرضك اسم.
- طبعا… تخفيه لأنه الجنون.. فما معنى الجنون؟
- أنا لا أعرف معنى لهذا اللفظ… ولكن ما أنت فيه هو أزمة التطور.. أما ما يسمونه جنونا فأنا لا أعرفه إلا حين تتم الهزيمة الكاملة.
- ولكنى هزمت نفسى… فعلا.
- ليس بعد
- إذن ماذا؟
- لا بديل للاستمرار
- فما تفسير هذا الفشل كله؟
- لقد نسيت أن تطور الانسان يحتاج لآلاف السنين.
- إذن لا بد أن أعيش آلاف السنين حتى أتطور.
- بل بمجرد أن ترفض الهزيمة والاستسلام فإنك تكون قد أديت دورك لتسلم الشعلة لمن بعدك، ليخطو هو أيضا نحو الغد، وهكذا
قال:
- لفد خطوت خطوات وخطوات، وفى كل طريق حسبت أنه يوصل، ولكن الناس… السادة الكبار.. أفقدونى ثقتى بالمبدأ وبالكلمة وبالحق وبالغد.. هذه هى نهاية الطريق.. حطام فى حطام
قلت:
- بل إنها محنة على الطريق.. إن المبدأ لا يعيبه تأخر تحقيقه أو صعوبة تطبيقه؛ كل إنسان لابد أن يأكل ويعيش، لابد للحق أن ينتصر، لابد للحرية أن تزدهر، فقط….الوقت، الإشكال الآن هو أن إنسان الأمس بخوفه وضعفه ونقصه، يطبق اليوم.. نظرية الغد، فينشأ التضارب والفشل، ولكن الفشل فى التطبيق لا ينبغى أن يفقدنا الثقة فى المبادئ.. وفى الغد.. وفى التطور.
- إذن ماذا؟
- أنت لا تملك إلا هذا.
- هذا ماذا؟
- أن تستمر.
- لم أعد أستطيع.
- الكيمياء تهدىء الألم وتحافظ على قوة الجمرة وإن خفــُـتَ بريقه مؤقتا.. ثم تستمر.
- وكيف أطمئن ثانية بعد أن هزنى الخوف والشك
- ليس هناك بديل.
- وماأدراك
- خبرتى وعلمى وحبى للحياة الذى لا يهتز.
- هل تحب الحياة، فعلاً؟
- نعم
- حتى ما تناثر فيها من الشظايا المنتفخة بالعفن، مثلى
- وبخاصة الشظايا المنتفخة بالعفن، فوراءها طاقة الانسان المتطورة الخلاقة.
- ألن تتخلى عنى؟
- لا أستطيع
- مهما أصابتك شظاياى؟
- مهما حدث
- وهل أستطيع؟
- وهل تستطيع غير ذلك؟
- لا أظن
****
قال الفتى:
– إذن مازال الفتى المؤمن مؤمناً بالحق، ساعيا إليه بالرغم من كل ما جرى
قال الحكيم:
- نعم وإن كان الطريق شاقا وطويلا، إلا أن الإنسان الذى يرفض الزيف حتى بالمرض، لا يستسلم إلا بعد جولات وجولات، ونادراً ماتكون الضربة قاضية إذا ما عرف الطريق.
قال الفتى:
- ولكن لماذا امتلأت حياتنا هكذا بالزيف، أنت تعرى فى حكاياتك كل الأشياء حتى تبدو الحياة أحيانا وكأنها تمثيلية سخيفة.
قال الحكيم:
- وبالرغم من ذلك فإن القليل الحقيقى فى هذه الحياة هو الذى يبقى، ولكن يبدو يا بنى أنه لابد من الكثير الغث حتى يظهر القليل الجوهر، والإنسان يلجأ إلى السيطرة والقوة وإلى العلم وإلى كل ما يغريه بالتفوق ولكنه لا يصل إلى جوهر الأشياء إلا بالصدق والسعى والكدح إلى الحق.
قال الفتى:
- ولكن كيف تكون القوة خدعة هى أيضا؟
قال الحكيم:
- مثل حكاية “أبلة الناظرة”، كانت إنسانة أمينة ثائرة متحمسة فرضت رأيها فى كل شىء.. وعلى كل من حولها خوفا على مبادئها، ولكن الخوف كان مرعبا وقاسيا حتى احتمت منه وراء مظاهر القوة، ونسيت..، ولكن الإنسان الثائر فى داخلها لم ينس… لم يهدأ أبداً، لم ينم.. وجاءتنى تشكو الأرق.
قال الفتى:
– وكيف كان ذلك؟