نشرة “الإنسان والتطور”
7-6-2011
السنة الرابعة
العدد: 1376
اعتذار: لظروف شخصية (علمية!! أيضا) لم أستطع مواصلة كتاب “العلاج الجمعى” اليوم ولا “الأساس فى الطب النفسى” غداً، فقفز هذا الكتاب القديم الجديد ليحتل المساحة قبل أن أرجع فى كلامى، وأتوقف عن مواصلة نشره.
كتاب جديد (قديم)
عندما يتعرى الإنسان (2 من 12)
“دروس للناس: فى الطب النفسى”
الفصل الأول: الضياع
كان ذلك أمر غلام ولد كما يولد الناس فى هذه الأرض الطيبة: ففى ساعة متأخرة من ليلة شتاء أو قل فى ساعة مبكرة من صباح يوم تال – طبقا لموقفك من الزمن- ترددتْ بين جنبات ذلك البيت المتوسط فى كل شىء صيحات طفل أطلقت أمه سراحه إلى رحاب الدنيا، واستراحت فى هدوء عظيم، يحسبه الناس إعياء وما هو كذلك، فهى تنصت إلى هذا المخلوق الجديد بسعادة فطرية بالغة، فبرغم الجهد وبرغم كل شئ.. كان يخامرها شعور لم يصل إلى درجة الوعى بأنها أكملت عملا مجيدا طوال أيام وليال عاشتها تسهم فى خلق وتكوين كائن حى جديد، ولعله شعور فريد تختص به المرأة الأم، ولعل هذا هو ما يميزها عن الرجل، ولعل هذا أيضا هو ما يدفع الرجل إلى محاولة المساواة بالمرأة(!) حين يحاول عملا أصيلا يعوض حرمانه من هذه القدرة الطبيعية على الخلق بمجرد الاحتواء، لعل..
قال الفتى:
– إذن فقد خرج صاحبنا إلى رحاب الدنيا مثل كل البشر.
قال الحكيم:
- نعم، ولكن رحاب الدنيا كانت أضيق من رحم أمه، فمنذ ملأ رئيته بالهواء، وملأ أذنى أمه ووجدانها بالصياح، ابتدأت عملية ملء رأسه بالأوهام، فها هو يـُفرض عليه أسلوب الحياة الجارى بتتابع وتصميم يلفانه ويعوقان حركته تماماً مثل اللفائف التى قيدت حريته بعد ولادته، فقد تم الانقضاض على كيانه بهذه الكوافيل والأوهام فى آن واحد، وكأنه ارتدى قميص الأكتاف الشهير، ويفسر الأهل هذه التلافيف “بخوفهم” عليه: من الجو مثلا، والجو.. هو الطبيعة، وهو لم يزل جزءا منها، والطبيعة هى مصدر الحياة وأصل التوازن، فكيف تحمِل هذه الطبيعة ابتداء تهديد الخطر. ولكن هل هم يخافون عليه فعلا أم يخافون منه؟ أليس فى هذا الزعم الأخير تفسير لهذا الانقضاض المزدوج بالكوافيل والأوهام جميعا؟ ولكن من أين يأتى الخطر من هذا المخلوق الضعيف الذى لم يتشكل بعد؟
ربما يكمن فى أنه “لم يتشكل بعد”، فى أنه مشروع إنسان لم يُصَغْ بعد مثلما صيغ أبواه ومجتمعه؟ أهو احتمال أن يتشكل بشكل مخالف هو الذى يبعث الخوف فى الجميع لأنه يهدد ضمنا أوهامهم التى عاشوا فى أمن سخفها – أو فى سخف أمنها- حتى ذلك الحين؟
أيكون هذا هو السبب الذى يجعلهم يسرعون بإدخاله فى نفس الجهاز ليخرج بنفس الأبعاد التى يعيشونها، وعلى نفس الهيئة؟
يبدو يا بنى أنه كل ذلك معاً.
فمن قبل أن يحس له بكيان ما، أخذوا يسارعون بإغراقه فى دوامة من التعويد، بعد التقييد، فمثلا هو يتعود على ذلك الشىء البارد الذى يلامس مقعدته فى مواعيد منظمة مع ما يصاحب ذلك أو يتناوب معه من تأنيب وهجر وهو يمارس وظيفة لا تختلف فى نظره عن الأكل والشرب، بل إن الأكل والشرب أيضا كانا يتحددان بساعة على الحائط يحترمون دقتها أكثر من احترامهم دقاته هو، فليصح أو تدق عنقه… فالساعة لم “تدق” بعد.
وتأتى سائر الأحكام على هذا النمط تماما، وهو يستسلم لكل ذلك، ويحقق بهذا رغبة والديه فى أن يكون نظيفاً ظريفاً، صالحاً “للعرض” على الزوار مع التحف التى على المناضد والصور التى على الحائط، والسجاد الذى على الأرض وسائر المميزات التى تحدد نوع طبقتهم ومعالمها، وكانت نظافته وهدوؤه ضمن هذه المعالم المميزة فضلا عن أنه كان يقوم بوظيفة تبرير حياتهم التى لابد أنها لا معنى لها بدونه، وإلا لما أجابوا السائل -وربما فى ذلك أنفسهم- بأنهم إنما يعيشون من أجلهم (الأولاد)، وكأنهم بغير الأولاد ليس لهم حياة قائمة بذاتها، فلو أن لهم حياة وذوات مستقلة، لتركوا للأولاد حياتهم وذواتهم، ولكنهم يقنعون أنفسهم-ويتبادلون الإقناع مع الآخرين- أنهم يضحون فى سبيل الصغار.. فى حين أنهم يحتوونهم احتواء ليضمنوا لأنفسهم أماناً أو استمراراً.
وهكذا يتحمل صاحبنا ضياع والديه، كما يتحمل خوفهم ونقصهم، ويختلط الخوف بالوهم بالضياع ليصبح قالبا يصاغ فيه الأولاد، وهو قالب متين مضمون، يحفظ صاحبنا ويحافظ عليه.. يحافظ على حياته التى هى حياتهم التى هى “لا شىء” على قدر إدراكهم، أو قل على قدر عدم إدراكهم.
قال الفتى للحكيم:
- ولكنى أراك تصف الوالدين بلا رحمة.
قال الحكيم للفتى:
- بل أنا رحيم بهما قبل أولادهما، فإن المأساة فى أنهما “لا شىء” بإدراك أو بغيره، وهما فى خوف وحسن نية يحاولان أن يعددوا اللاشىء غير مدركين أن حاصل الضرب دائما هو لا شىء.
قال الفتى:
- ولكن الوالدين ليسا كل شىء.. فسرعان ما سيتكلم صاحبنا وينطلق ويعرف طريقه إلى العالم الأوسع.
قال الحكيم:
- نعم… ربما… وياليته فعل.
لقد كان خليقا به أن يجد القيود تخف عنه بعد أن أصبح ناطقا متحركا، فهو يستطيع التعبير عن نفسه فى المرحلة الجديدة، ولكن اللغة الجديدة فى صورة الألفاظ كانت عليه لا له، فقد سهلت سبيل تضييق الخناق، وبالتالى تحقيق الصياغة النموذجية “اجتماعيا” ولو عددت لك الأمثلة ما انتهى الحديث أبدا، ولكنى أعرض عليك بعض النماذج الرمزية لمعانى الألفاظ، فقد أصبح لفظ “الشارع” يعنى عنده “الموت تحت العجلات”، و”السلالم” “قصف الرقبة”، و”الظلام” هو “الجان” و”القذارة” هى “ابن البواب”… إلى آخر ذلك القاموس الذى تعرفه، وهو يعيش كل لفظ بمعناه المفروض عليه فى استسلام من لا يملك إلا الاستسلام، ولا تزال حصيلته تزداد بمرور الأيام لينمو قاموس المعانى بسرعة فائقة ويشمل أبوابا وفصولا جديدة تزيد حبكة الصنعة الاجتماعية فلا بد بعد أن تزدحم الصفحات من أن تصنف وتقسم: ففى فصل العيب، باب الحرام – مثلا – نجد ألفاظا تشير إلى أعضاء فى جسمه وأفكار فى رأسه، وعواطف فى صدره، وقد كانت تغلبه الحيرة، حتى وهو فى استسلام من لا يملك إلا الاستسلام، فيتساءل: لماذا خلقت هذه الأعضاء والعواطف ما دامت عيبا أو حراماً؟
ويوضع فى رأسه أنها إنما خلقت لنخفيها، أو حتى لنحاربها، فيخجل وينكمش، ويستسلم أكثر.
قال الفتى للحكيم:
- ولكن هذا يحدث لكل الناس.
قال الحكيم:
- وربما كان هذا هو: مأساة كل الناس.
قال الفتى:
- ولكن يبدو أنه لا بديل لذلك.
قال الحكيم:
- ها نحن نحاول أن نجد البديل، إذ نتدارس الحكمة الملقاة على الطريق فى صورة شظايا النفوس المتفجرة بدل أن نجمعها لمجرد لصقها لنمنع الأذى عن أنفسنا.
قال الفتى:
- ولكن ماذا فى الشظايا المتناثرة من حكمة.
قال الحكيم:
- إن لبابها الفطرة.. وهى أظهر ما تكون فى الشظايا عنها فى الكيان المغلق المتكامل، والفطرة هى الحقيقة.. فالمعرفة.. فالحياة.
قال الفتى:
- ولكنه طريق صعب.
قال الحكيم:
- ولكن حياتنا تستحق كل صعب، إذا كان لنا أن نحياها، ونطورها.. وإلا فإن المصير كله ألم وضياع.. مثل ما حدث لصاحبنا.
قال الفتى:
- وكيف كان ذلك؟
قال الحكيم؟
- حمل صاحبنا قاموس الألفاظ بمعانيها الضخمة الفخمة، ومضى مكبلا بلفافات المجتمع وكوافيله يتحدث بلغة مفروضة ليس من حقه أن يسأل عن مصدرها، ومضى فى سعيه على طريق أكثره ممهد رغم ما به من قلاقل، كان ممهداً لأنه قد سار عليه خلق كثيرون، ولا يعنى أنه مُمهِّدّ أو أنه طريق الكثرة.. أنه طريق الصواب..، ولعل أسهل الطرق هى أسرعها توصيلا إلى الضلال.
قال الفتى:
- ولكن أى قلاقل فى الطريق ما دام ممهدا.
قال الحكيم:
- خُذْ مثلا، حين ثارت وظائفه الحيوية فى سن المراهقة أدخلت فى القاموس الثقيل فى “باب العيب فصل الحرام”: وذلك أن غدده الصماء فى فورة إفرازها لهذه الهرمونات “العيب” لم يكن عندها خبر مسبق بما أحدثه الوالدان والأقربون فى مشاعره، فتقوم معركة عنيفة فيها آلام وتأنيب وتهديد وتكتم، ومن عجب أنه فى هذه المعركة كان يتبنى المعانى المحشورة فى رأسه، ويستعملها ضد الثورة العضوية الهرمونية، وكان بالنسبة لأعضائه مثلما كان الوالدان بالنسبة له سابقا، وتهدأ المعركة ظاهريا وتزداد السلاسل ثقلا والهدوء ظهوراًَ، ويصبح مثالا رائعاً “يُحتذى”.
ولا زال الأهل وغيرهم يعتبرونه من أجمل التحف التى يمتلكونها وأثمنها، ويعزون صفاته الممتازة: إما إلى طبعهم الذى أورثوه إياه، وإما إلى طرقهم “الحديثة” فى التربية والتوجيه، والجميع يتحدثون عنه – لا … معه-، وهم يتمنون، بين أنفسهم أو علانية، اقتناء مثله، أو صناعة تحفة على شاكلته.
****
وفى وسط هذا النجاح، والهدوء، والتباهى، تبدأ التجربة.
قال الفتى:
- فهو المرض.
قال الحكيم:
- أو هو بداية محاولة طرق باب طريق آخر للمعرفة
قال الفتى:
- فهى الصحة
قال الحكيم:
- لو أكمل الطريق…
ففى ذات يوم، أو قل ذات صباح بعد ليلة طويلة سوداء مثل ليال كثيرة فى الفترة الأخيرة، قام صاحبنا وفى رأسه دوار وفى عينيه زيغ، وفى أذنيه طنين، وكان للطنين وقع خاص، وحين ركز صاحبنا انتباهه سمع شيئا كالهمس آت من بعيد، وسرعان ما أخذ يقترب ويعلو ويتميز، حتى كأنه يقول شيئا ما.. نعم: إنه يكاد يتميز وسط الضجة الصاخبة، نعم إنه يسمعه يزداد وضوحا.. إن الهمس أصبح كلاما…. أصبح لفظا واضحا، إنه يقول “لا” وتلفت حوله فى ذعر ليقع نظره على الحائط فيراها مكتوبة بين النقوش “لا”، ويقوم مذهولا يطرد عن نفسه آثار النوم ليجد نعليه وقد تقاصا بجوار السرير على هيئة “لا”، ويحاول أن يقول إنه الحلم، أو ما بعد الحلم، ويحاول أن يغمض عينيه وأذنيه وفكره جميعاً، ولكنها كانت “لا” ثابتة واضحة أكيدة لم تكن مجرد اعتراض أو احتجاج عابر، كانت رفضا راسخا عنيدا، ليس مثل عصيان الطفولة أو عناد الصبية، ولا هى مثل معركة المراهقة حيث المعارضة والتطويع يسيران معا فى نفس الوقت، ولكنها كانت شيئا جديدا واثقا أكيدا، وأخذ يتحسس صدره يحاول أن يخفف ضيقه وضجره، فإذا به يعثر على ذلك السفر الضخم رازحا عليه كالهم الثقيل، إنه قاموس الألفاظ… حصيلة العمر… مفسر المعانى العظيم “المرشد الاجتماعى… فى حسن المساعى”.
وهو الذى قال لنفسه هذه المرة: ”لا”… لابد من تمزيقه إلى غير رجعة، وحين أخذ يمزقه صفحة صفحة وهو يعجب كيف تحمله كل هذا الزمن، أحس بالثقل ينزاح ليترك راحة شاملة، وعاد يتحسس موضعه ليطمئن إلى اختفائه فوجد فراغا هائلا، واطمأن… فالفراغ يعنى أنه زال فعلا، ولكن ما باله يحس بالفراغ يمتد إلى سائر أجزاء نفسه؟ بل جسده، ثم ما هذا التمزق؟ لماذا يحس هو ذاته بألم التمزق مع فراغ كيانه؟ وتساءل: هل مزق قاموس الألفاظ أم مزق ذاته؟ هل أزاح الثقل المعوق أم أزاح كيانه؟ أين هو وسط الحطام؟
لقد كان يريد أن يتخلص من الألفاظ فقط، فلماذا ذهبت المعانى معها؟ هل معنى ذلك أنه لم يعد هناك معنى لأى شىء؟ إنه يكره الألفاظ ولكنه لا غنى له عن المعانى، كيف يعيش بلا معنى ولكن كيف يحتفظ بالمعانى دون الألفاظ؟ هل لا بد أن تصاغ المعانى فى ألفاظ؟ ولكن الألفاظ ارتبطت بأشياء مفروضه فكيف تبقى- إن كان لا بد لها أن تبقى- دون ما يصاحبها من فرض وقهر وخوف وأوهام؟ هل يحتفظ بالألفاظ دون مصاحباتها؟ ولكن مصاحباتها هى التى جعلت لها معان بذاتها، إن اللفظ هو فى نفس اللحظة معناه، هل يمكن تفريغه ثم ملؤه من جديد؟
ووجد أنه لا يستطيع أن يحتفظ بالمعانى دون ألفاظ.
ولا يستطيع أن يحتفظ بالألفاظ دون معناها المفروض.
ووجد أنه لابد أن تبقى الألفاظ حتى يبحث لها عن معان جديدة، ولكن إلى أن تأتى المعانى الجديدة… ماذا يفعل؟ وكيف تأتى المعانى الجديدة؟
كيف يتلاشى وهو يبحث عن الوضوح؟
كيف تضيع معالمه وهو يحاول تحديد ذاته؟ أو تجديد ذاته؟
ووجد نفسه حلقة وسط حلقات متشابهة تلف بسرعة فائقه فى تداخل عجيب، ووجد الأشياء تختلط ببعضها… ودخل التجربة ليعيش الألم والضياع.
قال الفتى:
- وهل قال الناس عنه أنه مريض حينذاك.
وقال الحكيم:
- ليس بعد، الناس لا يهمهم ما فى صدور الناس بقدر ما يهمهم ما يظهر منهم فى مجالات احتكاكاتهم معهم، فلو أن كل الأفكار التى يقولون عنها أنها أفكار شاذة أو حتى مجنونة ظلت فى عقل صاحبها فإنهم لا يهتمون بها، ولا يعتبرونها خللا حتى ولوتأكدوا من وجودها، ولكن حين يطلقها صاحبها عليهم، حين تهددهم بكشف زيفهم، حين يشعرون فيها إغراء مواجهة حقيقتهم التى هربوا منها وراء جدران قيم تحميهم بقدر ما تحجب عنهم الرؤية، حينئذ فقط يبدأون فى الاعتراض والامتعاض، ثم التجمع والتحفز، ثم الهجوم والعدوان، وتنطلق صفات المرض، ونعوت الخبل على مصدر التهديد ذاك، وتخرج من القاموس ألفاظ التخريف والشذوذ والهوس والجنون.
ولم يكن صاحبنا حتى هذه اللحظة قد أعلن شيئا يخافون منه، كان مازال يناجى نفسه:
”إذا كان هذا زيف كله… فأين الصواب؟”.
وبنفس متمزقة مع قاموس الألفاظ حاول أن يلم أجزاءه ليدبر أمره، فلم يستطعْ، وسكت، وطال سكوته، ولم يكن هذا غريبا عليهم منه، ألم يكن من طبعه الهدوء، فلابد أنه زاد بالسن هدوءاً… وعقلا (!)، والهدوء عند واضعى القاموس ومؤرخى الصفات من علامات العقل الكامل. ثم جاء النذير:
انصرف صاحبنا عن الدرس والاجتهاد المعهود فيه، فابتدأ الانزعاج مع الدهشة، وتصوروا أنها عين حسود حاقد. ألم يكن تحفة غالية تعرض دون إذنها على الحبيب وغير الحبيب، ألم يكن وجهه يخطف الأبصار فى صالة العرض الاجتماعى؟ لماذا خفت البريق؟
حاولوا أن يزيحوا التراب حتى تزهو التحفة مرة ثانية أمامهم وأمام الضيوف، ولكنهم وجدوا أن الانطفاء ليس نتيجة تراب يزاح، لقد ذهب البريق فعلا من الجوهرة، هل يعقل أن تكون جوهرة مزيفة وقد خدعوا فيها؟ وحاولوا أن يعزوا ما كان لسبب من الأسباب غير الأسباب التى كانت مدعاة فخرهم حين كان موضع فخرهم، فهم السبب فى الوهج والأصالة والجمال… طالما هناك وهج وأصالة وجمال، وغيرهم هو السبب فى غير ذلك، وهم لن يعدموا أن يجدوا سببا يفسر استبدال نظرات الإعجاب بمصمصة الشفاه، فبعد الحسد يمكن اتهام المدرسة، أو إخوان السوء أو حتى العادة السرية – قالوها فى همس وتردد.
قال الفتى:
- وهل قالوا عنه حينئذ أنه مريض؟
قال الحكيم:
- لم يكن الأمر سهلا عليهم كما تظن، فلو أن حمى أصابته لأعلنوا النبأ بلا توان لأن السبب معروف، وهو خارج عن إرادتهم قد يجلب الشفقة أكثر مما يجلب اللوم، ولكنه بالنسبة لهذه الأمراض شئ آخر. فإن خشية اللوم – ولو حتى لوم أنفسهم – يجعلهم يترددون ويتلكأون فى إعلان ما يلاحظون، أو هم ينكرونه حتى يفرض نفسه عليهم فرضاً.
قال الفتى:
- وكيف فرض نفسه عليهم حتى اعترفوا به.
قال الحكيم:
- تجمد صاحبنا عند “لا” وأصبحت تلاحقه فى أفكاره ومشاعره جميعاً، ووقف عندها كل شىء… أو قل ذهبت هى بكل شىء حتى ما يعتبره الناس بديهيا.
وذات يوم جمع صاحبنا شتات نفسه وذهب إلى والده، وكان هذا ممسكا بمجلة دورية، وقد تمدد على مقعد طويل عريض فى شمس يوم دافىء من أيام شتاءٍ ما، وكان يجتر الكلمات بعينيه فى ذات الوقت التى تحاول معدته أن تقوم بالواجب إزاء الحمل الثقيل الذى ألقاه إليها من وقت قصير، وحين خف العمل الهضمى قليلا وصعدت بعض الدماء إلى الرأس، أحس أنه يستطيع التفكير بدرجة تسمح له بالانتقال إلى الصفحة الأخيرة من المجلة، حيث تكمن مسألة من مسائل الكلمات المتقاطعة، وانهمك يبحث عن كلمة تصلح للعمود الرأسى والأفقى فى آن واحد، وفى اللحظة التى شعر فيها أنه “وجدها” كان أنف صاحبنا فوق رأسه، وحين تنهد الولد تنهيدة عظيمة… فوجيء ببقية الرأس تطل عليه من أعلى كتفيه، وجه ٌ ثابت النظرات جامد التعبير، وخرجت منه “لا” وكأنها خرجت من جوفه مباشرة، فقد كانت شفتاه لا تزالان شبه مضمومتين؛ وقال الوالد فى تحد وانتصار:
- بل “نعم”، وأكمل: لأن الكلمة هى “الرباط”، وهى تكمل العامود الرأسى فهى اسم البلد العربى، وتتناسق مع العمود الأفقى حيث “رأس الحكمة” اسم الشاطئ بمرسى مطروح، وما إن سمع صاحبنا ألفاظ “الرباط” و”رأس الحكمة” حتى أحس بالرفض يتملك كل خلية من خلاياه؛ الرباط هو القيد الذى يكاد يخنقه، أما الحكمة التى علماه إياها فهى الخوف بلا حدود ولا سبب.
وقال وكأنه يتكلم من بطنه ثانياً: لا.
وأخذ الوالد يعيد دفاعه متحمسا أشد الحماس وأبلغه، ولكنه لم يجد استجابة لكل هذا الدفاع والحماس و سأل ابنه فى تحد:
- إذن ماذا؟ إذا لم تكن هى “الرباط” فما رأيك؟
قال صاحبنا:
– رأيى أنى لست أنا.
ورد الوالد بأن هذا ليس وقت المزاح، ولكنه لم يكن مطمئنا لما يدور.. فهو لم يتعود من ابنه هذا العبث الجامد، ونظر إلى الوجه ملياً يداخله شعور بالتوجس، لقد كان وجها ممسوحا أملس لم يتبين فيه ملامحه العادية، ففيما عدا النظرة العميقة الثابته التى تطل من العينين لم يعد يميز الأنف من الصدغين من الشفتين من غيرها، لقد كان أمامه عينان تطلان من شىء مسطح أملس من اللحم الشاحب كالموت، وحين عاود المحاولة لتخليق الوجه أمامه من هذه الكتلة الملساء كاد يرى الموت نفسه يزحف إليه، وانصرف صاحبنا وهو ينتفض ظاهراً وباطناً.
وبدا للوالد أن الأمر جد خطير.
****
قال الطبيب الباطنى:
– لا حمى ولا يحزنون لعله إرهاق الاستذكار أو قلة النوم، أنا لا أجد مبررا لكل هذا الانزعاج.
قال الوالد:
– ولكنه يقول:
ولم يكمل.
قال الطبيب:
– يقول ماذا؟.. ماذا يقول؟
قال الوالد:
– يقول “لا”
ولكن الوالد أدرك لتوه أنه تخطى الحدود التى اتفق عليها مع زوجته، وكما توقع… فقد كانت سهام نظراتها فى حلقه، وبطريقة ما انحرف الحديث عن مجراه.
وبعد مناقشة “ثلاثية” فى الأسعار والسياسة والقسمة والنصيب، انتهى فنجان القهوة.
وانصرف الطبيب.
****
قال الفتى:
- فهو المرض.
قال الحكيم:
- هو الفراغ بديلا عن الحشو الفارغ، وهو الرفض الكامل بديلا عن القبول الكامل. ثم امتلأ الفراغ بكتلة هائلة من المعانى الفطرية غير المميزة. كتلة لزجة ليس فيها تمييز وليس لها معالم، وبدا فى تصرفاته وديعا كالطفل.. حين يفرغ رأسه من كل شىء إلا الطبيعة المتصلة بأصل الوجود، ثم شابا يائسا حين يضيق عليه الخناق ويطالب بالسير فى الموكب القديم، ثم ثورا هائجا حين يتصارع مع ذاته.. أو مع الظلال التى تملؤها، الشىء الذى لم يتغير هو القوة الداخلية الدافعة له كى يحاول أن يجد شيئا.. وحتى يجد “شيئا” لا بد أن يكون هو شىء أولا، كانت هذه القوة -زمان- موجهة إلى الدرس والتحصيل، وأصبح ليجدها موجهة إلى الحقيقة داخل نفسه، ونفسه تكاد تتمزق تحت وطأة الضياع والضغط معا، فتكاد القوة تصبح عامل تحطيم لا دافع توجيه.
وحاول فى أوقات تصالحه مع أجزائه وتجميعه لها بجهد حاول أن يجد ألفاظا جديدة للمعانى القديمة، وأيضا: راح يبحث عن المعانى الحقيقية للألفاظ القديمة..
وحين بدأ يتحدث عن ذلك قالوا هم هذه المرة أنْ، “لا” وجاؤوا به إلىّ.
وهكذا رأيت صاحبنا لأول مرة.
****
جاء متردداً خائفاً من كل جديد أو قل من كل قديم، فما دمتُ من الطاقم الانسانى الاجتماعى التقليدى، فليس هناك فى الأمر جديد، فأنا أحمل نفس الخطر الذى يحمله الآخرون “فرض المعانى فى قالب ألفاظ فارغة لتصنع عقولا جوفاء” وأنا مثل الآخرين لأنى أعيش لهم ومعهم وبهم، ألستُ أرتزق من مسايرة أوهامهم؟ هكذا كان يفكر.
وبعد رواية الوالد المنزعج المسكين، والأم الولهى المشتتة عن “الحال”، وما كان مما “لا يصح” “ولا ينبغى”، ولا ”يجوز” دخل هو زانغاً ذاهلا، محصنا باللامبالاة، شاهراً حوله أسلحة الشك المضادة للواقع الذى رفضه.
وفجأة سألنى عما ألبس حول عنقى.
قلت:
– رباط عنق.
فضحك.
فضحكت.
وأحس أنى فهمتُ لماذا ضحك.
وأحسست أنه فهمَ أنى فهمتُ، إذن: فمازال هناك احتمال أن يوجد من يفهم ما فيه.. ولكن سرعان ما ثارت الأسلحة المضادة وأطلق نظرة حذرة طمست الطريق الذى انفتح بيننا، وتوقف الاتصال الذى ظل لحظة من زمان.
والتفت إلى والده الذى بدا عليه الحرج فجعل يعتذر بأن لابنه أسئلة لا معنى لها، ورفضت الاعتذار علانية وأعلنت أنه ربما: “نحن الذين لا نفهمها”.
واستأذنت أن يدَعونا معاً، وخرجا وهما مترددان، وزاد تحوصل صاحبنا فى قوقعة الشك واللامبالاة،
قلت:
- وبعد؟
- إذن ماذا؟
- نعم ماذا؟
- أنت تتصور أنك تعلم.. كل شىء
- بل أحاول أن أ تعلـَّم.. أى شىء
- تتعلم فىّ؟
- بل أتعلم منك
- ماذا ستجد فى الفراغ؟
- الفطرة التى تملأ الفراغ… أصل كل شىء
- لا بد أن يكون هناك شىء ليكون هناك أصل
- ولابد أن يكون هناك “أصل” ليكون هناك “شىء
سكتَ قليلا، ثم قال:
- وهل تبقّى شىء بعد أن تحطم كل شىء
- لابد أن نصنع من القديم جديدا…هذا هو الطريق
- وهل هناك جديد
-كل قديم جديد… ما دامت الحياة تسير
– ولكنها عندى لم تعد تسير
– بل أنت فى “محطة” تتأهب فيها للمسير
- يبدو أنك تحاول أن تفهم
- لنبدأ من الصفر
- ولكنى أنا الصفر ذاته، حين يصبح لا معنى لأى شىء، حين تفقد الألفاظ دلالاتها، حين تصبح العواطف فجة فجاجة الجبال والمحيط…. يضيع الطريق.. ويختلط كل شىء بكل شىء.
- فلنحاول أن نرى من حيث نحن، ونعرف من أين، حتى نعرف إلى أين.
استمر فى نظرته وكاد يصمت ولكنه قال فجأة:
- إذا كان الظلام… كان الخوف، وإذا كان الخوف كانت الطاعة… وإذا كانت الطاعة فى ظلام كان الضياع، وإذا كان الضياع كانت النهاية، وآه لو صحوتَ قبل نهاية النهاية… آه لو رأيت الموت وهو يزحف إليك.
- المهم أن يوجد من يفهم ويحس، أن يوجد طريق… ورفيق
- فأنت تدعى الفهم
- بل أحاوله
- ولكنك مثل الآخرين
- لا أختلف كثيرا ولكن…
- ولكن ماذا؟
- ألا تحس بهذه الـ “لكن”
- أنا لا أحس بشىء ولا أفهم شيئا ولا أريد شيئا غير حريتى، أنا سجين الألفاظ. لن أستعملها بعد ذلك… سوف ألزم الصمت. فلننه الحديث.
- فلننته منه أولاً.
- وماذا تعنى هذه الـ.. “لكن”؟
- إننا نحس بنبض الألفاظ دون حاجة إلى تعريفها بألفاظ أخرى ربما زادتها غموضا، بل إننا قد لا نحتاج إلى ألفاظ كثيرة إذا شعرنا بنبض القليل منها.
- وهل للألفاظ نبض؟
- هو نبض الحياة… إذا صدقت.
- وهل للحياة نبض؟
- هو نبض الحقيقة.
- وهل هناك حقيقة؟
- هناك طريق إلى الحقيقة
- وهل نصل؟
- لا أعرف، ولكنى آمل… المهم ألا نخاف السير… إنما علينا أن نخاف الوقوف
- فما الداعى.. أصلا
- ما أنت فيه: هذه القوة غير المُوجهة لابد أن تـُوجه
- كفى تـُوجيها
- ولكنك أنت الذى ستوجهها وإلا انفجرت فيك.
- ولكن أين أنا الذى سيوجــِّه، فلتقم القيامة.
- ولكنها لا تقوم الآن… ولابد أن نصنع شيئا لما أنت فيه.
- وما الذى أنا فيه؟ أنا صفر داخل كرة من الفراغ لا جدار لها.
- ولكنك تحس بهذا.
- أنا كتلة من التداخل، أنا الفراغ مليء بالضياع، أنا هو أنا الذى هو لست أنا.
- فلابد من إعادة التوازن
عادت إلى وجهه نظرة التوجس مترددة وقال:
- آه…دخلنا فى الاتزان والتوازن، والتعقل والأصول و الكافولة فالسلاسل. ”والذى يصح والذى لا يصح” أنت لا تفترق عنهم
- لا أختلف كثيرا ”ولكن”
- فما هذا الذى حول عنقك؟
- أنت تعرف
– ولماذا لا تضعه حول رأسك؟
فضحكت
فضحك
وعاد الطريق الذى كاد ينطمس للظهور، وقبل أن يختفى وراء دخان الشك مرة أخرى… قلت:
- هل نتفق؟
- على ماذا؟
- على رفقة الطريق
- لن أخسر شيئا.. فليس عندى شىء أخسره
- لكن عندك شيئا تكسبه
- ماذا يا تُرى ؟
– هذه القوة المهددة.. لو تجمعت هى كل شىء
- كنت دائما أحس بها أقوى مما يظنون، كانوا يوجهونها دون إرادتى كان هدفهم أن يعلمونى ليتباهوا بى أمام أصدقائهم وأعدائهم على حد سواء كانت قوة أرقام ومسابقات كانت طريقهم للزيادة بغير هدف. زيادة المجموع فى الدراسة، زيادة النقود، زيادة الزيادة، كنت كالسجادة – فى حجرة المقابلة – يزيد قدرها بزيادة عدد عقدها، وتزيد قيمتها بزيادة الدهس عليها، وهى فى النهاية رمز لطبقتهم ودليل ذكائهم – هذه القوة كانت لتجعلنى تلميذا مجتهدا، وموظفا نجيبا ورئيسا مهيبا، ثم شيخا محطما وجثه منسية، ولكن هذه القوة كانت أكبر مما يحسبون، ومن شدتها دخلتُ المنطقة المحظورة، وأكلت الفاكهة المحرمة، وحين قلت “لا” قامت القيامة.
قلت:
- ليس بعد
- هى الآن قوة مشتتة ضائعة بلا فاعلية، لقد استهلكتْها عملية الرفض والتحطيم.. حين رفضت واقعى حطمت فيما حطمت ذاتى، وحين عدت أبحث عنها وجدت حلقات الفراغ وأكوام التكاثف، قد أشعر بهزة هنا ورعشة هناك ولكنها تنزلق فى تشتت عجيب
- ولكنها متجددة دائما… هذه طبيعتها
- أنا لم أعد أحس بشىء غير الضياع
- ولكن هذا لا يعنى أنه ليس هناك شىء
- إذا كان هناك شىء آخر فلماذا لا أحس به
- سوف يتجمع. ثم تحس به ثم تنطلق… فقط لابد أن نعرف من أين وإلى أين.
- ماذا ينطلق؟
- أنت
- ولكنى لست أنا، لقد كنت كما أرادوا، وكان الدفع فى عكس اتجاه الطبيعة، وحين وقع الصدام تحطم كل شىء وأصيب الجميع بشظاياى.
- ولكنك “مازلت”
– لم يبقى إلا المسخ المزيـّف
- وراء الزيف: أصالتك “أنت”
- كان مشروع إنسان لم “يصبح” بعد
- بل “يصبح”
- وكيف أُصبح بعد ما تمزقت
- بأن تحس أنك أنت، وأنك لست وحدك
قال ولكنى وحدى، بل يا ليتهم تركونى وحدى.. فلا تخدعنى أنت أيضا
- فلنحاول
- ولكنى خائف
- من ماذا؟
- من أن تعلمنى ألفاظاً جديدة لا معنى لها
- بعد هذه التجربة لا يستطيع أحد أن يعلمك إلا ما تريد
- ولكنى لا أعرف ماذا أريد
- تريد أن “تكون” ثم “تصبح”
- ما أقسى التمزق والضياع
- ليس لطريق المراجعة والبناء بديل
- لماذا لا تدعنى فى هذا الفراغ بلا حدود
- لأنه “ما أقسى التمزق والضياع”
وهنا صاح بأعلى صوته:
- آه… آه
وحين دخل والده على صياحه ارتدى الشاب قناع اللامبالاة وعاد وجهه كتلة ملساء من اللحم البارد تطل منها نظرة فيها شعاع خافت قد يلمع من بعيد أحيانا، ثم ينطفئ.
وانصرف الجميع على موعد
ولكنه قبل أن يخرج التفت إلىّ فجأة ليقول:
“لا تكن واثقا من نفسك هكذا“.
****
قال الفتى للحكيم:
- لقد كان على حافة الهاوية
قال الحكيم:
- أو كان على حافة الانطلاق، فهما حافتان متقاربتان على كل حال وكثيراً ما يحدث الانطلاق حتى بعد التردى فى الهاوية، فالقوة الدافعة قادرة متجددة ابدا.
قال الفتى:
- ولكن ما هذه القوة التى تتحدث عنها وكأنها كل شىء فى الإنسان: الخير والشر، الانطلاق والتحطيم، الخلق والجنون
قال الحكيم:
- إنها قوة الإنسان الفطرية التى يطور بها ذاته وجنسه جميعاً
قال الفتى:
- ولكنها كثيرا ما تنزلق بنا إلى دائرة مغلقة أو طريق خطر.
قال الحكيم:
- ولهذا لا بد أن نفهم طبيعتها واحتمالات مسارها، وتوجهات مداراتها.
قال الفتى:
- فما هى طبيعتها واحتمالات توجهها
قال الحكيم:
- أما طبيعتها فهى قوة كل كائن حى. وهى متطورة وبناءة ما وجدت إلى ذلك سبيلا. وهى فى الإنسان أكثر قوة وتميزا، أما احتمال مساراتها فهذا يتوقف على أشياء وأشياء.
قال الفتى:
- مثل ماذا؟
قال الحكيم:
- مثل لزوجة المجتمع أو زيف الهدف
قال الفتى:
- فحدثنى عن شىء من هذا أو ذاك أو عنهما معاً.
– قال الحكيم:
- أما حديث الحياة اللزجة فهو حديث “المحترم” الذى التصق بكل شئ فالتصق به كل شئ فعاش كـ”لاشىء”.
قال الفتى:
وكيف كان ذلك؟