نشرة “الإنسان والتطور“
7-9-2011
السنة الرابعة
العدد: 1468
كتاب جديد (قديم)
عندما يتعرى الإنسان (12 من 12)
“دروس للناس: فى الطب النفسى”
أغنية للحياة
هى مدرسة تعمل فى رياض الأطفال، جاءتنى بعد غيبة طويلة، رغم أن صورتها كانت تخايلنى فى كل لحظة، فتاة فى أوج شبابها ترقص بعينيها إذ ينبعث منهما بريق بجذب ويطمئن، وتلمع قسماتها بنور هادىء مخترق.
فرحت برؤيتها فرحة هائلة ظهرت آثارها على قفزتى من مقعدى وطريقتى فى السلام
****
قلت لها:
- أين أنت؟
قالت:
- فى كل مكان
- عشر سنوات أم عشرون؟
- ولكنى كنت دائما معك
- أحيانا كنت أشك أنك اختفيت إلى الأبد
- علمتـَـنى ألا نيأس
- كانت المقاومة رهيبة والظلام حالك
- ولكنى دائما هناك - هنا– هنالك…،
****
سألتها:
- ما أخبارك؟
قالت:
- كل خير
- كل هذه السنوات! لم تغيرك الأيام
- أنا لا أكبر بمرور الزمن
- إذن… ”حقيقة” ما تصورت
- أنا الحقيقة مجسمة
- ولكنك أقرب إلى الخيال
- بل قدمى على الأرض
- لم تنس تاريخك
- وأتطلع للمستقبل
****
– ما تصنعين هذه الأيام؟
- أعمل وأحب
- ما أروع ذلك!… وزوجك؟
- معى على الطريق
- والأولاد؟ كانوا أربعة على ما أذكر
- أصبحوا ملايين
- أهى ألغاز؟
- بل الحقيقة..!! هل نسيت؟
****
– وماذا عن جاركم الشاب.. الذى كاد يغرق فى بحر الألفاظ
- وجد لها معان جديدة..، وانطلق يكتب الشعر بالمدفع
- وزوج خالتك ”المحترم”؟
- أحيل إلى المعاش.. وذهب إلى قريته يعلـِّم الفلاحين القراءة والكتابة
- الدنيا تغيرت؟
- هذا هو قانونها
- وأولاد عمك؟
- خرجوا من المعتقل
- وخالك – صاحب المصنع؟
- افتتح معهدا لراسبى الثانوية العامة، يتعلمون فيه مهنة جديدة
- مهنة جديدة؟
- صناعة حديثة
- ماذا يصنعون؟
- يصنعون ألواحاً ضخمة تحتفظ بالدفء الحيوى، يبنون منها بيوتا كاملة فى ساعات، فيها تتماوج نبضات الناس فى دفع مضطرد، ويتخلق الحنان البديع
- الدفء نعم، ولكن كيف يتخلق الحنان؟
- يعيدون الثقة للرجال فتتحرر النساء، فيطمئن الرجال، وتتعلم البنات الأمومة، فيكبر الأطفال بشراً بحق
- …..
– …..
- حدث..! أخيرا..!
- كان لا بد أن يحدث
****
- ومشاكلك مع “أبلة” الناظرة؟
- ماتت فى عنفوانها.. كانت تريد أن تعمل شيئا
- يرحمها الله
- .. والله؟
- يملأ وجدانى
- مازلت مؤمنة
- حين يتحرر الإنسان، ينبض كيانه مع الوجود كله، ويخفق وجدانه مع أصله، وتتردد فى أرجاء الكون أنغام الصحة العذبة كدحا إليه
- إيمانك راسخ
- ويزيد كل يوم
****
– وأخبارك مع العِلم؟
- أقرأ كل شئ حى
- وهل هناك بين الكتب موتى
- الصفحات مليئة بالتوابيت والموميات
- فكيف حال الأحياء؟
- سخروا الكيمياء لخدمة التطور
- كانت اقراصاً تقمع الإنطلاق وتعيد الثائر إلى حظيرة المجموع بالضربة القاضية
- أصبحت تنظم الطاقة فقط، ثم يولد الإنسان من جديد
- ولادة جديدة! كيف والخلايا ثابتة بالوراثة؟
- يعاد تشكيلها وتنظيمها لتنطلق معاً توكد ما هو إنسان ينمو أبدا
- بالكيمياء أيضا؟
- بالكيمياء والحب والطبيعة
- لا أكاد أصدق
- هل سمعت آخر الأخبار؟
- خيرا؟
- زادت الحواس عددا
- الحواس طول عمرها خمسة
- ألم تعلم أنها زادت على وجه التأكيد
- أهو ارتفاع فى “البورصة”
- صدقنى… العلم الحقيقى الحديث يقول أن الحواس زادت عددا، وأن كل التأخر والاضطرابات اللذين كانا… لم يكونا إلا نتيجة لنقص الحواس
- وسيطرة العقل الحسابى؟… والألفاظ؟
- أصبحت مجرد وسائل للحواس الجديدة
- أكاد لا أفهم… ولكن وجهكِ ينطق بالصدق
- المسألة فى غاية الوضوح.. والبساطة
– أصبحتِ مطلعة أكثر منى.. وما أنت إلا مدرسة فى روضة أطفال
- نور المعرفة يشرق على الجميع
- وصراع العلم مع الإيمان؟
- كان صراعا صوريا، لم تعد ثمة وصاية لأيهما على الآخر
- وما السبب فيما كان من حشر هذا فى ذاك؟
- رجال الطائفتين
- كلهم أفاضل
- كانوا سجناء الحواس الخمسة، والمهزوز منهم حشر هذا فى ذاك
- أصبحتِ عالمة ومؤمنة
- ليس هناك فرق
- والطقوس التى أرهقتك وحيرتك
- التزام واجب، ومفيد
****
– ومشاكل الميراث.. هل مازالت المحكمة تؤجل القضية؟
- عندى ما يكفينى
- ماذا تعنين؟
- عندى ما يكفينى
- أكاد لا أصدق عينى
- عائدى من عملى يكفينى وزيادة
- أكاد لا أصدق
- هى الحقيقة
- أهى الجنة؟
- ربما.. ولكن لا بد للوصول إليها أن تمشى على الصراط
- أهى الصحة؟
- سمها ما تشاء
- ولكن السنين تمضى
- الأطفال يولدون كل يوم
- ألا تخشين الشيخوخة؟
- قلت لك أنا لا أكبر بالزمن، هل نسيت؟
- والموت.
- ولا أموت.
- اسمعى.. إلا هذا.. كل حى سيموت
– قد يتوقف القلب عن الخفقان وتتوقف الخلايا عن التمثيل الغذائى، ولكن ما أنا فيه يقول أنى لا يمكن أن أموت.
- وكيف جاءك كل هذا اليقين؟
– لأن الموت هو ولادة فى نفس الوقت
– من أين لك كل هذه الثقة؟
- من الماضى نحكم على المستقبل
- كل إنسان يتغير
- أنا أيضا أتغير، أزداد ثقة وإنتاجا وحبا
- أهو الخلود؟
- لا.. الخلود الساكن وجه آخر للموت الخامد
- وماذا عن الغد؟
- دائما أرحب وأغنى
- مهما تكاثف الظلام!
– مهما طال الأمد
- أملك لا ينتهى، فيم تأملين الآن؟
- أن يشعر كل الناس بما أنا فيه أن يصدقونى، أن يعيشوا معنا: زوجى وأولادى الذين لا حصر لهم؟
– ربما لك وضع خاص.. ربما أنت هكذا بسبب طيبتك
- الطيبة وحدها لا تكفى..
- إذن ما الذى يكفى ؟
- القوة مع الطيبة.. الضعف يشوه كل خير ويعوق الانطلاق
- أكاد لا أصدق
- ولكنك أنت الذى صنعتنى هكذا
- أنا؟ فاقت التلميذة أستاذها، قسوة الزيف كادت تنسينى
- لا تصدق، ليس أنت أنت، الزيف فى كل مكان.. ولكن الحق والخير أيضا فى كل مكان
- ألا تخافين؟
- أنا أتقن الجودو.. وأتمرن عليه مرتين فى الأسبوع
- المسألة صعبة
- أنا لا أيأس
- أبداً؟
- أبداً
- وهل تجدين من يسمع لك؟
- أكثر ممن عندك.. مئات وألوف وملايين يتزايدون باستمرار
- الناس بخير رغم كل هذا؟
- طبعا
- فرط التفاؤل يخيفنى
- التفاؤل لا يمنع الحذر، وهو مسئولية لا تسمح إلا بتحقيق أهدافها، وإلا فهو ألعن من المخدرات
- هل أنت متأكدة أن هذا واقع فعلا.. أم أنها لحظات وتنتهى؟
- ماذا جرى لك؟ أنا هكذا منذ كنت
- ولكن أين تركتنِى كل هذا الزمن
- كُنت معك فى كل مكان..
- كنت ألمحك فى الطريق وأنا أسير أحيانا، ولكنك كنت تختفين بسرعة مذهلة قبل أن ألحقك
- بل إن زحمة الطريق كانت تشكك فى وجودى
- العمارات شاهقة والمواصلات صعبة، وحوادث المرور فى زيادة، والعربات تسحق الانسان فى كل الشوارع والحارات، ووجه الطبيعة يختفى فى سحابات الدخان والغبار
- ولكن الزهور ما زالت تتفتح فى كل مكان
- حقا؟!
- والطيور تغنى
- حقا؟!
- والإنسان كذلك
- الانسان يغنى؟!
- فى كل مكان.. وغناؤه يتردد فى أرجاء الكون
- وسط حطام الحوادث وبين أشلاء الموتى؟
- فى كل مكان
- لمن يغنى الانسان!
- للحياة
وذهبْت
ولم تذهبْ.