نشرة “الإنسان والتطور“
31-8-2011
السنة الرابعة
العدد: 1461
كتاب جديد (قديم)
عندما يتعرى الإنسان (11 من 12)
“دروس للناس: فى الطب النفسى”
(أو) قبل البداية
قبل النهاية…
قبل البداية
قال الفتى:
- ولكنى وجدت بعد هذه المسيرة الطويلة أن هذه الحكايات جميعا تريد أن تقول شيئا واحدا:
يولد الإنسان على الفطرة، ثم يسعى فى الحياة، يحاول، وهو لا يسأل “لماذا” ولا.. ثم ”ماذا” وإذا سأل تلقى إجابات لا تغنى، بل ربما تزيد غموض الطريق، فيكف عن السؤال والتساؤل، ثم عن المحاولة، وينسى أو يتناسى، ويستمر هكذا فترة تطول أو تقصر ثم يصحو فجأة، وتبدأ المأساة، وتصبح حكاية، أو هو يستمر فى سباته فى ليل بلا نهاية… ويمضى بلا حكاية.
قال الحكيم:
- هو ذاك، أصبحت حكيما يا فتى، لكن إياك أن تسرع، صحيح أن مسيرة الحياة – فى أغلب الأحوال- واحدة مهما اختلفت الصور، حين نبحث عن خدعة أو عدة خدع متتالية تشغلنا حتى نموت، وكأننا بذلك نتعجل الموت خوفاً من اكتشاف الحقيقة قبل أن ينتهى الأجل، كأننا نريد أن نموت قبل أن نموت، لكن الصحيح أيضا هو تعلمناه معا من هذه الرحلة سويا
قال الفتى:
- لكن قل لى : كيف نموت قبل أن نموت؟ هل هذا قرار نحن الذين نصدره؟
قال الحكيم:
- أنت تعرف أنى استعمل الألفاظ استعمالا خاصا، فالإرادة هنا خفية، والإنسان إذا لم يستطع أن يعيش.. فليس أمامه إلا أن يموت بشكل ما.
قال الفتى:
- يموت؟
قال الحكيم:
- هناك من يشنق نفسه بحبل.. ومن يشنق نفسه برباط عنق
– هناك من يغرق فى النيل.. ومن يغرق فى بحر الحقد والحسد
– هناك من يموت بالتسمم الغذائى ببكتريا السلمونيلا.. ومن يموت بالإفراط الغذائى والجنسى
هناك من يلتهم الأقراص المنومة حتى الموت..
وهناك من يلتهم التحف ويغوص فى طبقات السجاد حتى الموت..
وكلهم يسعون للهلاك بجد وتصميم.
قال الفتى:
- ولكن أغلبهم راضون
قال الحكيم: ...
- من أدراك؟
قال الفتى:
- الاستمرار
قال الحكيم:
- بصراحة، أنت تنبهنى على أن مجرد الاستمرار قد يكون فضيلة، الانتحار هو إنهاء الحياة إراديا بطريقة علنية، وهو يقضى على الحياة والإنسان معا، ولكن الحياة إياها موت سرى مثل النزيف الداخلى.
قال الفتى:
- أفليس هناك فرق بين الانتحار وهذه الحياة التى كشفتها بكل هذه التعرية؟
قال الحكيم:
بل أنا ضد الانتحار الفعلى أكثر لأن مجرد البقاء على هذه الأرض بأى صورة هو مكسب للحياة، من يدرى؟ أليس هذا هو ما أسميته “الاستمرار؟”!
قال الفتى:
- أى مكسب إذا كان الفرد حيا ميتا؟
قال الحكيم:
- هل ترجع فى كلامك وأنا أتعلّم منك، دعنى أعترف لك بدورى، فقد مرت على فترات كنت أتساءل فيها عن هؤلاء الأحياء الموتى “لماذا يعيشون”؟ وخاصة إذا أصروا على ألا يشوهوا حياتهم فحسب، بل أن يعوقوا المسيرة بوجه عام، ولكنى بعد فترة أصبحت أحترم مجرد وجودهم، لعل أحد ذريتهم يثور ويكمل الطريق كما رأيت.
قال الفتى:
- إذن فالكل يساهم بشكل ما
قال الحكيم:
- نعم نحن نحتاج للكم كما نحتاج للكيف
قال الفتى:
- كيف؟
قال الحكيم:
- لابد للحياة أن تستمر، وحتى تستمر لا بد أن تضاء البيوت بالليل، وأن تطبع الكتب، وأن تغطى جلودنا بالأقمشة الصوفية فى البرد، وأن نأكل وأن تصحّ أجسادنا، فلا شك أن الانسان الآلة يقوم بدور لا غنى عنه وهو يهييء الفرصة للانسان الانسان أن يجد ذاته الجديدة ويصنع غده.
قال الفتى:
- فهى تفرقة أو عنصرية
قال الحكيم:
- أبدا. فالفرصة ستكون واحدة أمام الجميع بالعدل، وعلى كل فرد بعد ذلك أن يختار طريقه، فالذى يرضى “بالميكنة” ليتجنب آلام الولادة من جديد يصبح آلة عظيمة تخدم مجرد البقاء، والذى يقبل الألم ويمارس الحب والفضيلة، يسلك سبيل التطور ويعيش السعادة الحقيقية.
قال الفتى:
- ولكن الذين تسميهم الإنسان الآلة ينعمون بأهدافهم ويفرحون بها لذاتها… فلماذا نوقظهم
قال الحكيم:
- أن يجد هذا الانسان شيئا يشغله حتى يأتى أجله، فهذه نعمة جزيلة، حتى قيل أن هذه الأهداف اللامعة التى عرتها تجارب المرض هكذا، وبرغم زيفها، قد تكون أعظم من الأقراص المهدئة.
قال الفتى:
- فلماذا نوقظهم ونهاجم أهدافهم وننتقص من شأنها، وأنت لا تتردد فى استعمال الكيمياء للتهدئة، فى حين تعترف أن هذه المهدئات الزائفة هى الافضل.
قال الحكيم:
- إننا نستعمل المهدئات لتنظيم جرعة الطاقة المفاجئة، أو للحيلولة دون سحبنا إلى الوراء بنفس الطاقة إذا توجهت إلى النكوص، وعلى ذلك، فينبغى أن يكون استعمال المهدئات بجرعات متغيرة حسب الغرض من استعمالها فى كل مرحلة، أما المهدئات الطبيعية الزائفة فى نفس الوقت، فأن الشخص العادى يضبط جرعتها أيضا بتلقائية فريدة، فهى تساعده على أن يهرب من رؤية الحقيقة بجرعات متزايدة أكثر من قدرته على استيعابها، وكلما زاد توتره وقلقه التهم تحفه من التحف، أو تكالب على منصب أفخم، أو أطلق شره على غيره، حتى يهدأ، ولكن – كما تعلم – فإن الإفراط فى كل ذلك ينتج عنه إدمان الزيف، وبناء جدار من التبلد الواحد تلو الآخر، وهذا هو الموت الذى عنيته فى بداية الكلام.
قال الفتى:
- أهكذا قرب النهاية تزينه لى وكأنه موت لذيذ وله فوائد أيضا.. فلماذا كان كل هذا المشوار، ولماذا نوقظهم منه أصلا ؟
قال الحكيم:
– إذا استسلمنا جميعا لهذه اللذه.. ورضينا بهذه المرحلة كنهاية.. فإن الانسان يكون قد ارتضى لجنسه التوقف عند ما نعشيه من شقاء وجشع وضياع فى دنيا الحقد والتنافس، وهذا ضد كل الطبيعة كما خلقها الله.. وضد الأمل.. وضد الغد وضد كل تاريخ التطور.
قال الفتى:
- ولكنك تقول إن التطور حتمى لا محالة.
قال الحكيم:
- رغم أن التطور حتمى إلا أن التدهور محتمل لفترات قد تطول، وكلما اتسعت دائرة اليقظة، دنت فرصة الوصول إلى حياة أفضل، ومن ثم فرصة خلق نوع من البشر أحسن.
قال الفتى:
- نوع من البشر أحسن؟
قال الحكيم:
- ولم لا؟
قال الفتى:
- فلنترك الناس فى سباتهم، ونساعد من يستيقظ بمحض الصدفة
قال الحكيم:
- الصدفة؟! ربما، لكننا حتى لو تركنا الأحياء الموتى فى حالهم، فهم لن يتركوا الباقين فى حالهم، إن التهام التحف والتفاخر بالمظهر والتملك المستعر يتم على حساب آخرين من الذين يمكن أن يكونوا هم أقرب إلى مشروع الانسان الجديد، فلماذا نضحى بهم فى سبيل هؤلاء الجشعين الذين يغطون فى نومهم بعد أكلة هنية من لحم الآخرين، ألا ترى مضاعفات هذا التكالب الوحشى من ضحايا تداس بالأقدام وتموت من الجوع وتهلك بالحروب، وياليت هذا الوحش الآدمى الآلة المدمرة يكسب هو شخصيا مما يفعل شيئا، إن واقع الحال يقول إنه ينحط بذلك إلى مرتبة أدنى من الحيوانية رغم الشعور باللذة والارتواء.. فلماذا لا نوقظه مهما تألم – ليرحم نفسه ونرحم الآخرين منه.
قال الفتى:
– نحن الذين نوقظه، هل وظيفة الطب أن يحيى هؤلاء الموتى، فيأتون إليك ممزقين مشتتين، ويا ترى؟
قال الحكيم:
– لا طبعا، الطب يحوّل مسار من استيقظ وعجز عن أن يكمل وحده، أما الإبداع، والفن، والتشكيل، فهى الوسائل الطبيعية لإحياء الموتى، والتلويح فالحفز إلى استكمال مسيرة التطور
قال الفتى:
– كيف بالله عليك
قال الحكيم:
– ما هذا؟ بعد كل ما قلنا يا رجل، هذا هو صراع التدهور والتطور، بمسئوليتك ومسئوليتى، أنت يابنى هو كل الناس، والناس هم أنت، والمعرفة الحقيقية هى رؤية كل الأشياء فى نسق واحد متصل، وما ينطبق على الفلسفة يصلح للطب، وما يسرى فى الطب ينطبق على ما وراء الطبيعة مهما اختلفت اللغة وتنوعت الأساليب، هذه هى مسيرة الحياه
قال الفتى:
- وهل لا بد للانسان أن ينكسر حتى يتطور؟
قال الحكيم:
- فى يقينى أن تاريخ التطور الطويل يقول أن النوع إذ ينتقل إلى نوع أرقى يتنازل عن صفات قديمة ويكتسب صفات جديدة، وأثناء هذه العملية التى تتم عبر ملايين من السنين، تستمر تلك المجموعة التى قاومت التطور ورفضت الانتقال إلى أعلى كما هى، ولا تنس أن القردة مازالت على الأرض، وأن هذا الصنف الحالى منها ليس هو جدنا مباشرة وإن كنا غالبا نلتقى معه فى جد بعيد، أما المجموعة الأخرى فهى تتحدى الظروف القديمة، ثم تخلق ظروفا جديدة أفضل ثم تتكيف فى صورتها الجديدة مع الأفضل، ثم يصبح الجديد قديما وتتكرر القصة، وأثناء هذه المحاولات يبلغ الألم مبلغا يعرض المحاولة للاجهاض، الذى أحد صوره المآل السلبى لخبرة المرض، بل إنه قد يعرض الجنس كله للهلاك.
قال الفتى:
- على ذلك فإن انكسار الانسان فى هذه المحاولة خطير ومخيف.
قال الحكيم:
- يبدو أن الانسان هو الكائن الوحيد – فيما نعرف – الذى يتطور وهو يعرف أنه يفعل ذلك، بل إنى أكاد أقول أنه الكائن الوحيد الذى يتطور بإرادته الواعية، ولو جزئيا، وليس فقط بقانون الحياة الطبيعة، إلا أن تكون إرادته الواعية هى بعض قانون الحياة الطبيعية.. وأظنها كذلك.
قال الفتى:
- ولكن ألا يوجد ما يساعده على نفسه فى هذه المعركة
قال الحكيم:
- أن تتسع دائرة اليقظة، فلا يترك الانسان الثاثر وحيدا
قال الفتى:
- إذن… فلتتسع دائرة اليقظة.. ولتعلن الحقيقة.. وليعش الناس الألم كله.. ليلدوا أنفسهم من جديد، وليستمر من يستطيع.. وليتضاعف عدد الشباب والأطفال من كل الأعمار، وليمض الكهول من كل الأعمار أيضا مغمضى العينين وليغطوا فى نومهم حتى يموتوا.. وليكن ما يكون
قال الحيكم:
- ما هذا؟ ما هذا؟ واحدة واحدة، إياك والتعميم أو الاستعجال، الوقت من أهم ما ينبغى أن نحرص على أن يأخذ حقه، إياك أن تحرم أحد من الفرصة بحكم فوقى هكذا
قال الفتى:
- ولكن لا بد من وضوح البديل.. لقد لوّحت لى بخيوط الفجر فى كل مرة، ثم تركتنى أنتظر طلوع الشمس فى كل مرة
قال الحكيم:
- ولكن الشمس تطلع دائما بعد نور الفجر
قال الفتى:
- فحدثنى عن ذلك… وليملأ النور والدفء الحياة
قال الحكيم:
- فاسمع بنى هذه الأغنية للحياة