نشرت فى الاهرام
19-11-1997
عذرا شيخنا الجليل:
ولكن دعنا ندعو الله لك- لمصر- بدوام الإبداع
قرر شيخنا الجليل نجيب محفوظ ألا يحتفل بعيد ميلاده هذا العام, وهو ليس قرارا جديدا, فهو لم يحتفل أبدا بعيد ميلاده, ولكنه كان دائما من الرقة ورحابة الصدر بحيث يسمح لمن يفرح باستمرار وجوده أن يدعو الله له بسنة جديدة, “وهو طيب”, وقد عاصرت معه مؤخرا ثلاثة أيام تاريخها 11 ديسمبر, وكانت أول مرة خرج فيها بعد ما كان من البيت فى 11 ديسمبر 1994, خرجنا مع زكى سالم وجمال الغيطاني, ويوسف القعيد إلى الهرم, كان ذلك عقب الحادث القدر بحوالى شهرين، ولست أدرى أى حدس جعلنا نتوجه إلى الأهرامات مباشرة, وكان جمال الغيطانى يوثق علاقته بالزمن من خلال متون الأهرام, وكنا نشعر جميعا أن ثمة رابطة بين هذا الهرم الحى الذى يسير معنا وهو يتلفع بعباءة لم يعتد ارتداءها, والجو أقرب إلى البرودة، وبين الأهرامات الثلاث بما تهمس به لنا وهى تلوم, وتعد, وتحيط, ولا تتوعد, ثم انتقلنا نشرب قهوة الصباح فى فندق “مينا هاوس العريق”, ونحن – وشيخنا يشاركنا – لا نصدق أنه خرج من جديد: يقول وينصت ويقهقه بقدر ما كان يسمح صوته حينذاك. منذ ذلك الحين وأنا أعلم أنه لا علاقة له بأعياد الميلاد, ومع ذلك لم يكن يرفضه مثل كامل الشناوى: عدت يا أيها الشقى،وإنما كان يعتبره يوما مثل الأيام، ثم يسمح لنا أن نفرح به، لا أكثر.
ثم يأتى عيد الميلاد اليوم (1997) ومصر تئن من هول ما حدث فى الأقصر, فيضطر شيخنا إلى أن يعلنها صراحة أن:”لا”, ولا حتى فطيرة من “نصف الدنيا”, ولا صورة, ولا شيء, لأن مصر تئن, لأن بعض الشاردين من أبنائها -أو المفروض أنهم كذلك- قد خانوها فلطخوا وجهها النبيل, وأتذكر وصفه للاعتداء عليه, وكيف كان الألم فى رقبته هو نهش أسنان وحش حي, حقيقة لا مجازا, وأشاهد نفس الألم وأكثر على وجهه من حادث الأقصر, وأكاد أجزم أن أستاذنا كان يفضل أن يكرروا الاعتداء عليه شخصيا -بعيد الشر- ولا أن يعتدوا هكذا على مصر, ونشاركه الألم، ونعيش الأسى معه ومع كل من عاشه من الناس المصريين الطيبين المدهوشين الرافضين الصابرين, ونحترم رغبته, ونقرر ألا احتفال هذا العام إلا بالمشاركة فى الجاري: فى الألم، والشعور بالمسئولية, والدعاء لله، وإسداء النصح, ورفض اليأس.
وكنت قبل هذا الحظر قد كتبت ما وصلنى من معاشرتى لشيخنا هذا الرائع الجميل طوال ما يقرب من أربعين أسبوعا, ووجدت أن إبلاغ الناس بعض ذلك من أكثر من منفذ, هو احتفال آخر بهذه المناسبة إذ يقدم لهم نوعا من الإبداع الحى الذى يمكن أن يمارسه الناس بمجرد وجودهم.
فى أصداء السيرة الذاتية يقول نجيب محفوظ: “…تذكرت كلمات بسيطة, لا وزن لها فى ذاتها، مثل “أنت”, “فيم تفكر”, “طيب”, “يالك من ماكر”.., ولكن لسحرها الغريب الغامض جن أناس, وثمل آخرون بسعادة لا توصف”.
كانت تلك بداية الانتباه إلى فضل الله علينا بمعاشرته بعد ما كان, فكانت مفتاح نوع تهنئتى هذه الجديدة بعيد ميلاده السادس والثمانين, ذلك أننى حين أستعيد كيف اخترق شيخنا -بعد الحادث- كل الصعوبات و التهديد بالتوقف, والتلويح باليأس,، أحمد الله, وأتعلم منه أكثر فأكثر, فقد رحت أتابعه وهو يروض الـقدر بفعل هادئ طيب صبور, ساعة بعد ساعة, يوما بعد يوم, جلسة بعد صحبة, حديثا بعد نكتة, فعاينته وعايشته وهو يبنى معمارا جديدا من البشر المحيطين به, كما تيقنت من خلال صحبته أن الحياة نفسها، حين تكون صادقة وحقيقية ونابضة ومشاركة، هى الأصل فى كل إبداع قبل، وبعد، وبدون: أن يصاغ ناتج ذلك فى رموز خارج ذات صاحبها.
أكرمنى الله بصحبة هذا الإنسان المصرى الطيب الرائع كل هذا الوقت, صاحبته وقد كف عن القراءة والكتابة, ووهن سمعه, وخفت بصره, لكنه لم ينهزم ثانية وحدة, فمنذ البداية حين وقفت متألما منزعجا أتساءل بكل ألم: إذن ماذا ؟ أفاء الله علينا برحمته فألهم شيخنا هذا أن يمسك بيدى يقودنى إلى معايشة هذا النوع من الإبداع اليومى الذى لا يحتاج من الأدوات إلا صدق الوعى وعمق اللحظة, وبعد أن شكلنا معا حركة جدول الأسبوع، وبعد أن سمح لى حظى أن ألقاه عدة مرات كل أسبوع ما بين جلسات مفتوحة, وحرفشة خاصة، تركت نفسى أستوعب ما يمارسه شيخنا فينا إذ نتشكل -هكذا- فى حضوره الحى المبدع, فإذا بنا نتعرف على مقاييس أخرى للإبداع, مثل أن يخرج الواحد منا – من جلسته- غير ما دخل, أو أن يكتشف الواحد منا- وهو يتحدث إليه- غير ما قصد, أو أن يتذوق الواحد منا طعم الهواء الداخل إلى صدره غير ما ألـف, كل ذلك من واقع هذه المعايشة البسيطة الصادقة العميقة, إذ راح شيخنا يقرؤنا ويكتبنا ثم يعيد كتابتنا, وهو لا يكتفى بهذا, بل يسمح لنا أن نعيد قراءته واستقبالنا له, أى خبرة وأى تجربة !!!
وكأن هذا الإبداع العادى هو الأرضية الأصل التى يمارس مثل هذا المبدع من خلالها حضوره الإيجابى فى الحياة, فيصبح أحد مظاهر إبداعه -لا كلها- هو الناتج الإبداعى الذى يظهر فى الأسواق عن طريق دور النشر, لكن أدوات هذا الإبداع الأصل المحيط تختلف عن تلك الأدوات الذائعة الصيت, فمحفوظ يقرؤنا ويكتبنا بكل اللغات, وكل من عاشره أكثر من مرة لا بد أن يلاحظ لغات تحاوره المتعددة من أول الكلام السهل الممتنع فعلا, حتى الصمت الـمـفعم، مارا بالإيماءة والتفويت، منحرفا إلى القفشة والنكتة, عائدا إلى المباشرة الشجاعة فى الاختلاف وإعلان الرأى ورفض أية رشوة لمسايرة الأعلى صوتا أو الأكثر تشنجا, مع أنه لو ساير ووافق وشجب لرفعوه على الأعناق بطلا قوميا لا مأخذ عليه, والعياذ بالله.
وبعد.
يا شيخنا الجليل أرجو ألا أكون بهذه الكلمة قد تجاوزت رغبتك فى عدم الاحتفال بعيد مولدك, فقد انتهزتها فرصة أن أنقل للناس بعض ما وصلنى منك، وهو أن أسعد ما يسعدك هو أن نحمل مسئولية هذا البلد مجتمعين, مهما كان, ومهما حدث, ومهما كانوا، ومهما كنا, ولك كل الحق: فمصر تستحق كل ذلك وأكثر, مادامت قد أقرزت مثلك, أطال الله عمرك.