نشرت فى الأهرام
22-5-2006
عدل الله ورحمته بلا حدود
شاع استعمال تعبير “أطباء بلا حدود”، و”صحفيون بلا حدود”…الخ فلماذا نسينا أن الأصل هو أن عدل الله ورحمته هما بلا حدود؟ لماذا ننسى بديهيات تعيننا على تصحيح ما يلقى فى أدمغتنا مما يخالف فطرتنا التى فطرنا الله عليها، فيخالف المنطق والصالح والصحة؟
حين تسرقنى مشاعرى إلى حيث لم أعتَدْ، أتركها دون وصاية لعلى أعرف آخرتها، تجرنى هذه المشاعر أحيانا إلى أفكار وتساؤلات جديدة غريبة، تماما مثل مرضاى فى بداياتهم، خاصة الذين تسمونهم “مجانين” تلصقون بهم ما تيسر مما نعجز عن تفسيره، مع أن بعضهم ما جُنَّ إلا لأنه اكتشف التفسير الأعمق، لكنه للأسف عجز عن حمل مسؤوليته.
كنت أجلس وزوجتى فى مطعم ما على شاطئ الإسكندرية، بدأت أسهم بعيدا عنها، فظنّت– كعادتها- أننى نسيت أنها معى، نبهتنى أننى أطيل النظر إلى مائدة بجوارنا، وهذا غير لائق، رددت بأننى فعلا رأيت منظرا عجيبا بجوارنا، لم تسألنى عما رأيت. أنا الذى طلبت منها أن تلتفت لترى ما أرى، فرفضتْ حتى لا تجرح الآخرين، واصلتُ أنبهها إلى أننى أعرف غرابة، وخطأ ما سأقوله :” تصَّورِى أن جارنا يمسك بلفافة عجيبة المنظر، يسحب منها دخانا أسودا إلى رئتيه، ثم يعود ينفثه فى الهواء”، ابتسمتْ ولم تعقب. “الرجل يدخن سيجارة، ماذا فى هذا؟”-أنا الذى أقول- ؟!!”. أعرف كل تبريرات وتأويلات المدخنين وحججهم، وأتابعها علما وممارسة (فالتدخين –علما-أصبح من صريح الإدمان). لم أفلح أبدا أن أكون مدخنا برغم أننى دخنت سيجارة أو أكثر يوميا من سنة 1954 إلى سنة 1974، كان تأثير أول سيجارة مثل آخر سيجارة. حتى سقطت من يدى وأنا استغرب ماذا أفعل. لم أتمادَ فى إزعاج زوجتى لكننى سألت نفسى دون حرج: كيف يُجمع الناس على عمل كهذا طوال هذه السنين بكل هذا الانتشار ثم أعيد اكتشاف أننى لم أفهمه أبدا، أنا أعرف كيف أروض هذه المشاعر والأفكار حتى لا تكون نهايتى مثلهم (مرضاى).
نحن لا نندهش ينبغى أن يُدْهِش لمجرد أنه انتشر وشاع، مهما اضر وسخُـفَ. كسل العقل، وخوف المراجعة، يجعلنا نستسلم لما هو أولى بالدهشة، وهو كثير، خذ مثلا: هذا العاقل جدا الذى هو “مِلء ملابسه”، وهو يفترض فى الله سبحانه وتعالى ما لا يليق بقاض عادل، أو حتى ما لا يليق، مع أن مثل هذا الافتراض الذى أتعجب منه يردده معظم فقهاء الدين، وأغلب أئمة المساجد، وقساوسة الكنائس. هؤلاء وأولئك يرددونه بينهم وبين ناسهم، مع أنهم يتشدقون بقبول الآخر علانية وأحضاناً!. كيف يفترض كل هؤلاء أن الله سبحانه بكل رحمته وعدله سيدخل أحد مخلوقاته النار، لمجرد أنه لم يقتنع برأى يخالف ما وُلِدَ فوجد نفسه فيه؟ بل إن بعض هؤلاء العقلاء جدا يتمادى حتى يصدق فتوى تقول: إن من كان يعتقد معتقده ثم عدل عنه: جزاؤه القتل!!! أستغفر الله لى ولهم، ثم ألملم نفسى بتذكر فتاوى فى اتجاه طيب معاكس، وأنا أستدعى يقيناً لا يتزعزع بعدل الله ورحمته.
تمر بى مشاعر مشابهة تجاه من يجمع مالا لن يصرفه (مثلى غالبا)، أو تجاه من يقوم بـبحث علمى جدا هو على يقين بعدم جدواه، خصوصا بعد أن يكون قد ترقى فى المناصب الأكاديمية فلم يعد يحتاجه لمزيد من الترقى، كذلك أتعجب حتى الشفقة من ذلك الذى يحرص على سلطة مهولة لا يكف عن الاستزادة منها، مع أنها لا تدعه ينام نوما هادئا ولا ليلة واحدة .. إلخ إلخ.
إعادة النظر فى الشائع، حتى لو أجمع عليه كل الناس، هو بداية طيبة نحو توثيق علاقتنا بالحق الموضوعى إلى وجه العدل سبحانه وتعالى بكل رحمته: وسِعَتْ كلَّ الناس طول الدهر.