عن العولمة والأخلاق
وحضور الله فى الوعى الفردى والفعل اليومى
كثر الحديث عن العولمة, وعن العالم الذى أصبح قرية صغيرة, وعن ثورة الاتصالات التى سمحت للإنسان المعاصر بأكبر قدر من الحرية (حرية ماذا ؟).
كما كثر الحديث عن الشفافية التى يزعمون أنها جعلت كل ش ئ متاح لكل أحد, وعن النظام العالمى الجديد الذى به حلت “نهاية التاريخ”!!!, وعن “صراع الحضارات” الذى لا بد بالتالى أن ينتهى لصالح الحضارة المنتصرة, (على فرض أن الحضارة الأمريكية قد انتصرت جدا. إذا كانت قد وجدت أصلا !!)
يبدو أن كل ذلك قد شغلنا عن الأهم والأولى بالنظر, وهو محاولة التساؤل بعد كل هذا, ومع كل هذا عن: إلى أين..؟ (و) إذن ماذا؟ .
نحن إذ نتساءل عن ذلك لا نعترض ولا نتحفظ ولانضع شروطا لاستفادتنا من إنجازات العولمة, لكننا نحاول أن نرتقى بوعينا وفعلنا إلى مسئوليتنا عن وجودنا, وعن نوعيته, هذا إذا كان لنا أن نختار ما فضلنا به الله, وهو الوعى بما هو نحن, ومن ثم الإسهام فى اختيار ما يمكن أن نكونه .
لقد أنهى بيل جيتس كتابه “الطريق يمتد قدما” (The Road Ahead 1995) المترجم باسم “المعلوماتية بعد الإنترنت” (فى سلسلة عالم المعرفة-ترجمة عبد السلام رضوان – مارس 1998) بأمل واعد يقول “… ويمكننا بالتأكيد أن نواصل توفير برمجيات أفضل وأفضل من أجل جعل الكمبيوترالشخصى أداة تمكين معممة فى كل مكان…” ولم يقل, ولا يبدو أنه شغله أن يقول لنا , “أداة تمكين من ماذا؟ ولا أداة تمكين للوصول إلى أين ..؟” اللهم إلا إشارة عابرة لإنشاء شركات جديدة, وعلوم جديدة تحقق ما يتصوره عن تحسين نوع الحياة.
هل يوجد تعريف إجرائى لنوعية الحياة التى نريد أن نحسنها؟ أهى إطالة العمر, أم مجتمع الرفاهية, أم أوهام الحرية, أم تعميق الوعى والامتداد الإيماني, أم مزيد من تأنيس الإنسان ؟
كذلك أنهى الكاتبان هانز بيترمان, وهارالد شومان كتابهما “فخ العولمة” (المترجم أيضا فى نفس السلسلة أكتوبر 1998-ترجمة د,عدنان عباس على) برص عشرة أفكار رائعة لإنقاذ أوربا من غباء العولمة (الأمريكية), وليس لإنقاذ الجنس البشرى من الانقراض المحتمل. وقد بدت لى هذه الأفكار الأوربية التى لوح بها المؤلفان,, بدت لى أفكارا مثالية. خاصة بأوربا,كذلك بدت لى أفكارا آملة, وقصيرة الأجل. .
كذلك تتبعت -مقدرا- اجتهادات أ.د.زقزوق, وأيضا د. محمد رؤوف حامد (أهرام الجمعة 7 مايو 1999,) فى محاولة التوفيق بين الإسلام والعولمة من جهة, وبين الوطنية والعولمة من جهة أخري,إلا أننى شعرت-بعد الامتنان لهما-أن الأمر قد يحتاج إلى خطوة أبعد مما ذهبا إليه مشكورين.
وسوف أتجنب الدخول فى تفاصيل محتوى ملف الفروق بين ثقافة الشرق (المتخلف أو الوجدانى أو الإشراقى) وثقافة الغرب -والشمال (المتقدم , البالغ الوفرة, المحقق للرفاهية) فهو ملف مفتوح دائما, والنقاش فيه مغلوط عادة, (مثلا بالمعايرة أو التشفى بذكر مذبحة كولورادو الأخيرة على أنها نذير تدهور الغرب كله لا محالة..إلخ).
كذلك لن أحاول أن أعدد فضائل الأخلاق (المنقرضة) التى كنا نتمتع بها, أو التى يمكن أن نفخر بها, أو التى ينبغى أن نتصف بها, فمثل هذه الدعوات لا جدال حول وجاهتها, من حيث أنه على الإنسان أن يكون على خلق عظيم, سواء بإحياء تعاليم دينه أو باتباع مواثيق حقوق الإنسان, (إلخ). إن المطلوب ليس مباريات الفخر والهجاء, ولا حتى محاولات التوفيق والتزام قدر من الموضوعية, وإنما المطلوب هو الوقوف عند تساؤل مبدئي(حتى لو نجد له إجابة جاهزة) يقول:
هل توجد فروق جوهرية فيما يتعلق بـ”نوعية الحياة” التى يلوحون لنا بها , وبين نوعية الحياة التى تصلح لنا من وحى اختلافنا التاريخى والآني, والتى قد يكونون هم أحوج ما يكونون إليها (إلينا) إذا نجحنا فى إثبات جودة وصلاحية ما ندعو إليه ونحققه ؟ أم أن العولمة قد أزالت هذه الفروق ووحدت القيم والأخلاق وهى تحاول توحيد معاملات السوق ولغة الحوار ؟
يقول بطرس غالى فى شأن العولمة-حالة كونه سكرتيرا للأمم المتحدة:” ليست هناك عولمة واحدة, بل ثمة عولمات عديدة, فعلى سبيل المثال, هناك عولمة فى مجال المعلومات, والمخدرات, والأوبئة والبيئة, وطبعا,وقبل هذا وذاك, فى مجال المال أيضا” ثم يتكلم غالى عن “الجرائم العابرة للحدود” كما يتكلم عن “الأموال العابرة للحدود”.
إن د. بطرس غالى لم يشر - ربما من باب الحذر لا من قبيل الغفلة- إلى احتمال عولمة التدين بشقيه: الشق التعصبى الذى يريد به صاحب كل دين أن ينشره دون غيره باعتباره الدين الوحيد الصحيح, والشق الإيمانى: الذى يتفق فيه أصحاب الأديان على التوحيد وخير الناس, وحرية الاعتقاد مع السماح بالحوار ليدعو كل واحد إلى دينه بالحكمة والموعظة الحسنة تاركا الحساب النهائى إلى الله سبحانه.
إن محاولة عولمة التدين التعصبى تنتشر أسرع وأخطر من عولمة الإيمان الحوارى المتسامح. إن ظهور الأصولية اليهومسيحية التى تمثلها إسرائيل فى وسط وجودنا هى النمودج الأوضح لعولمة التدين المتعصب . مع أن الناظر بتأن لا بد أن يكتشف أن ثم تعارضا بين التعصب, وبين ادعاء العولمة . اللهم إلا إن كان الأمل الأبعد أن يعتنق كل من له الحق فى أن يظل تحت مسمى “إنسان” دين الأقوى والأقدر, ثم ينفى الباقون من حظيرة البشر تحت أى مسمى آخر (راجع افتتاحية فريد زهران هذا العدد)
حضور الله فى الوعى
تناول ديستويفسكى حضور الله سبحانه فى وعى الإخوة كارامازوف واحدا واحدا ليعلن بطريق مباشر أو غير مباشر أن هذا المتغير -حضور الله فى الوعى – هو أساسى فى بناء الشخصية الإنسانية, ومن ثم فى تحديد نوعية الحياة, بحضورها الآنى فى الفعل اليومى , يستوى فى ذلك تسليم إيفان كارامازوف الملحد بأنه “..إذا فقدت الإنسانية هذا الاعتقاد بالخلود فسرعان ما ستغيض جميع ينابيع الحب..(و) أكثر من ذلك أنه لن يبقى شيء, يعد منافيا للأخلاق. وسيكون كل ش ئ مباحا”, أو رأى ديمترى كارامازوف إنه: إنك إذا أنكرت الله تنتهى إلى زيادة سعر اللحم” …إلخ
كذلك ظل نجيب محفوظ يلح حول هذه القضية بكل إصرار ومثابرة من أول زعبلاوى حتى الحرافيش إلى أصداء السيرة, مارين بالطريق دون استبعاد أولاد حارتنا, ومن أنصت إلى عمر الحمزاوي-فى الشحاذ -وهو يستمع لذلك الصوت يعاتبه فى نهاية الرواية “إن كنت تريدني,فلم هجرتني”, لا بد أن يدرك أين وضع محفوظ قضية حضور الله فى الوعى البشرى محورا فى تحديد نوعية الوجود الإنساني.
إن كل ذلك خليق بأن يلح علينا لاكتشاف حقيقة تميز الوجود البشرى وهى تقول:
“إن وجود الله – وليس مجرد الاعتقاد بوجوده – هو ضرورة حيوية ليكون البشر بشرا”. إن هذه القضية يستحيل أن تكون مجرد مسألة منطقية شبه-عقلية, أو حتى أن تختزل إلى استسلام دينى غيبي.
إننا ونحن نتناول هذا التمادى المضطرد فيما هو “أدوات التمكين” التى تتيحها وسائل الحياة المعولمة, لا بد أن نضع هذا المتغير الأساسى فى حسباننا, وإلا فسوف نستدرج إلى التسليم ضمنا بموقع العقيدة والإيمان كإضافات اختيارية (مثل كماليات السيارات) يمكن أن يتحلى بها من يشاء بعض الوقت تحت زعم أن الدين لله والوطن للجميع, أو أن ما لقيصر لقيصر وما لله لله وكلام من هذا, مما يخدعنا تحت وهم تسامح كاذب لا يصل إلى عمق حقيقة التواصل البشرى تحت مظلة الله سبحانه وتعالى طول الوقت ؟
إننى أزعم أن هذه المسألة -وجود الله سبحانه كمتغير فاعل طول الوقت- هى الجوهر الذى ينبغى أن نعتنى باستعمال الأدوات الأحدث لبرمجته بطريقة تميزنا نحن, وفى نفس الوقت قد تضيف إلى احتياجاتهم ما يمكن أن ينقذهم من أوهامهم حول الاكتفاء بالحرص على الرفاهية والتنافس الكمى المتنامي, وهى أيضا خليقة بأن تبرر الاستغناء عن الله وعيا ماثلا فى إبداعهم, الأمر الذى لم يحدث, وربما لن يحدث, لأنه لا يكون الإبداع إبداعا إلا به. إن الله سبحانه ما زال يتجلى فى إبداعهم ربما بالرغم منه, وهم يتحايلون على ذلك بتسميات أخرى.
إن الحياة البشرية تختلف نوعيا إذا كان الله موجودا عنها إذا ما أنكرناه أو أبعدناه أو حددنا أوقات لقائه أثناء العبادات أو أيام الآحاد أو الجمع! ولعل هذا, فى رأيي, هو الفرق بين الإسلام الموقف الوجودي, وبين الإسلام المغترب, أو المختــزل, أو الاسلام المستعمل من الظاهر لتولى سلطة, أو إعلان وصاية , وكذلك بين الإسلام الفطرة وبين التشويهات التى لحقت بممارسات الإسلام المؤسسة, والأديان الأخرى التى تمارس باعتبارها إضافة طيبة للحياة “لا مانع منها ” بعض الوقت!!!
إن تجلى هذه القضية فى الإبداع المعاصر , من كل حدب وصوب, ينبهنا بوضوح إلى موقعها المحورى فى الوجود البشرى, وكيف أنها تشوهت بالممارسات الخاطئة من المتدينين خاصة. إن اختزل الدين إلى موقف أخلاقى تطوعى, أو إلى موقف فردى انعزالي, أو إلى موقف تسكينى مطمئن, أو إلى موقف صفقاتى نفعى, كل ذلك يحرم الإنسان المؤمن من أن يطور ذاته إبداعا خلقيا تكامليا فى سعيه إلى التوازن الخلاق الذى هو جوهر وحقيقة الأخلاق.
إن التاريخ الحيوى للتطور يعلمنا أن أى نوع من الأحياء ينقرض إذا تمادى “عدم التناسب” بين “مجالات وجوده”, و”نوعيات قدراته”, و”طبيعة فطرته”.
ينقرض النوع أيضا نتيجة عدم التناسب بين “احتياجاته” و”معطيات الوسط” المحيط.
هذا ما تعلمناه من دروس انقراض الديناصور -مثلا- حين تمادى عدم التناسب بين ضخامة جسده وصغر حجم مخه وسرعة حركته.
إن ما تعرضه علينا الآن أدوات العولمة يكاد يضعنا فى موقف مشابه إذ نتهدد بدرجة من عدم التناسب بين:
(ا) سرعة الحصول على المعلومات وإمكانية استيعابها من جهة,
وكذلك عدم التناسب بين
(ب) غلبة الحسابات الظاهرة (الدينية وغير الدينية) على الحس الإيمانى الممتد.
فهل عندنا أى موقف أو تاريخ أو اختلاف يمكن أن يسهم فى تحقيق إعادة التوازن المطلوب هذا؟
الإجابة عندى بكل عناد (أو غفلة) “نعم”
إن الحياة تختلف كل الاختلاف إذا كان الله موجودا عنها إن لم يكن موجودا.
إننى أتصور أن المسألة كالآتي:
هناك نوعان أساسيان من الوجود البشرى يمكن أن نتحقق منهما عند المتدين (أومن يدعى ذلك, أو يتصوره), وأيضا عند غير المتدين (أو الذى يتخيل ذلك):
النوع الأول: هو النوع الذى يقف فيه الإنسان شامخا فخورا(أو مغرورا) ينتهى امتداده عند أعلى نقطة فوق هامة هرم التطور البشري, وقد وقف الإنسان أعلاه يزينه عقله وهو يلوح بأدواته المصقولة الحسابية الكمية الرائعة . (هذا الموقف تمثله الحضارة الغربية الشمالية التكنولوجية ,,إلخ)
والنوع الثانى: هو الذى تمثله الحضارات الإيمانية التوحيدية التواصلية النابضة والتى يقف أيضا فيها الإنسان متطلعا (المفروض: دون غرور), يمد وعيه بكل توازنات وجوده إلى الأفق الممتد من حيث أتي, وهو يتكامل معه بما تيسر له من أدوات شحذ الوعى بالفن والعبادة والعلم الكلى.
إن هذين النوعين من الوجود يختلفان اختلافا جوهريا, بحيث تصطبغ الحياة بطعم مغاير عند من يعيش هذا النوع من ذاك, على الرغم من تشابه الأدوات والإمكانات المتاحة.
هذا الموقف الأخير هو ما تمثله دعوة الأديان المتعاقبة فى جوهرها قبل تشويهها وتكميتها, كما يتجلى فى بعض أنواع الإبداع, وكثير من ممارسات التصوف غير الهروبي.
أين الله؟
إن ثمة حقائق وإشارات إذا جمعت إلى بعضها, يمكن أن تكون بداية طيبة تعرفنا اتجاه أسهم التعرف على حقيقة وجود الله فى كل مكان وزمان, (1) إنه – سبحانه- ليس كمثله شيء, و(2) أنه – تعالي- لا تأخده سنة ولا نوم, و(3) أن كرسيه وسع السماوات والأرض, ثم كونه, تبارك وتنزه, (4) أقرب من حبل الوريد.
كل ذلك مجتمعا يشير إلى حقائق موضوعية لا تتجلى فعلا يوميا إلا إذا ملأت الوعى البشرى طول الوقت. بل إننى أذهب إلى أقصى الحد حين أزعم أن الإنسان لا يكون إنسانا إلا من خلال هذا الامتلاء بهذه الحقائق, ثم الامتداد إلى ما تعد به.
لا أتصور أن يظل الإنسان إنسانا إذا هو تمادى فى صياغة حياته المعاصرة بمزيد من التقنيات والإمكانات الجديدة, وفى نفس الوقت راح يهمش هذه الحقيقة -أن الله موجود- تهميشا يهدد بفقد التوازن فالإنقراض؟
أما آن الأوان لإفاقة شاملة فى الوقت المناسب لكى نعد برمجياتنا ونحن نضع هذا المتغير الرائع (أن الله موجود) فى الحساب؟
المصيبة أننى حين أعتقد ذلك, أو أعلن ذلك, يقفز إلى الساحة أهل الاختصاص من المتدينين الذين ليس لهم علاقة بما أقول , يقفزون شاكرين مقدرين, أو محذرين مهددين, ولسان حالهم يقول “خل عنك”, نحن أدرى بما تريد. لكن نتيجة هذه الوصاية والشرح الذى لا أحتاجه هو أن تسود نفس قيم الحضارة الكمية المغتربة, تحت مسميات دينية (إسلامية أوغير إسلامية).
إننى أتصور أن التمادى فى تقديس الحضارة الكتابية قد أدى إلى سجن الأديان فى نصوص الشارحين , دون استلهام النص, بنفس القدر الذى أدى به إلى احترام مواثيق حقوق الإنسان المكتوبة, بديلا عن احترام كلية الإنسان المعاشة فى تناغم ممتد.
إن وجود الله سبحانه وتعالي-كحقيقة يومية آنية حاضرة موضوعية طول الوقت- هو الذى يمكن أن يميز الوجود البشرى بشكل أو بآخر. هذا موقف مختلف نوعيا عن ذلك الموقف الذى يقرن التدين – حتى الترادف – بالخلق الحسن.
الأخلاق, من منطلق الموقف الإيمانى, هى موقف إبداعى تناغمى له تجليات سلوكية, وأدوات فنية وعلمية, كما أن له مظاهر عباداتية لا يمكن فصلها, وهو موقف فردى أساسا, لكنه يصبح موقفا صفريا إن لم يكن ممثلا للمجوع, نابعا منه ليصب فيه.
إن التحدى الجديد لا يكمن فقط فى إحلال حضارة الاتصالات والتواصل والشفافية محل الحضارة الكتابية, وإنما هو يهدد بعرض عدم تناسب جديد بين كم المعلومات المتاحة وإمكانيات البيولوجيا البشرية لاستيعابها لما يفيدها.
نحن نتهدد من جديد بتضخم الأداة عن قدرة استعمالها.
ليس عندى اقتراحات محددة, ولا أشعر بأى اعتراض على أدوات نحن -كبشر- ينبغى أن نفخر باختراعها وتملك ناصيتها, فقط أنبه إلى أن علينا أن نتحمل مسئولية الحصول عليها, أولا على مستوانا المحدود, ثم على مستوى العالم.
صحيح أن مثل هذه الآراء, والمقالات, والآراء, والاجتهادات لن تقدم ولن تؤخر مهما صدق محتواها, فأصحابها لا يملكون تسخير أدوات تمكين كافية لنشرها وتسويقها (!!), إذن فنحن أحوج ما نكون إلى “برامج”, ومبرمجين يضعون ماهية الإنسان الممتد فى الاعتبار , فيصيغون لنا أدوات اختبار تصنف إنجازاتنا الفردية والجماعية لنعرف بها أولا بأول إن كانت تسير فى الاتجاه الصحيح الذى يعمق إنسانية الإنسان بالامتلاء والامتداد الذى يتجلى خـلـقا وإبداعا أم لا .
إننى أتصور أن هذه البرامج ربما تشبه برامج كشف فيروسات الكمبيوتر, التى تختبر أى تداخلات غريبة يمكن أن “تضرب” المحتوي, أو العتاد أو البرامج الصالحة, والشاطر هو الذى يختبر كل ما يعمل وما يخزن وما يبرمج أولا بأول بهذا البرنامج الكاشف للفيروس ثم يبطل مفعوله ببرنامج مضاد.
على هذ القياس دعونى آمل أن نصنع برمجيات تقيس إنجازنا اليومى فردا فردا, ثم جماعة جماعة, وتخبرنا أولا بأول , من منا , أو أى جزء منا , أصبح جسما غريبا عن نفسه وعن الكون, ويا حبذا لو تخبرنا كيف نعود إلى دوائر التوازن المتصلة فالممتدة.
إن تعريف الأخلاق من هذا المنطلق يمكن أن يصاغ فيما يتفق مع تجليات السلوك الدال على هارمونية الامتلاء فالامتداد مفتوح النهاية , الأمر الذى لا يتم إلا بالناس وفى الناس إليه تعالى نحو النهاية الموضوعية المفتوحة (الغيب). إن المروجين للنفس المطمـئنة بالمعنى التسكينى لم يعتنوا أن ينظروا فيما قبلها , ولا فيما بعدها, إنها عملية إعادة السعى للالتحام بالهارمونية الأعظم, وهى تقاس بـ “أدخلى فى عبادي”, التى تسبق مباشرة “أدخلى جنتي”.
أنا لا أنتظر من الحاسوب أو الإنترنت أن يحل لنا مشاكل وجودنا, وأخلاقنا, وإيماننا, لكننى فقط أردت أن أذكر أن المسألة لا ينبغى أن تتناول بهذا الاختزال, ولا بتلك السطحية, فرحين بأرقام, وشعارات, لا تمثل جميعها إلا اغتراب متمادي.
ليس عندى حل بديل , وإن كان الأنبياء والرسل عليهم السلام قد قاموا بتوصيل رسالات ربهم بشكل مباشر – دون برامج حاسوبية – بما دفع البشرية إلى ما تستحقه لفترات طالت أم قصرت, فإن المسألة الآن أصبحت بيد الناس فردا فردا, بعد حملنا الله هذه المسؤولية بختم الأنبياء.
لم يعد هناك مجال لهبوط الوحى على نبى جديد على الرغم من ظهور ديانات شاذة ومريبة كل يوم فى كل مكان يسمح بذلك , وما تم من تشويه فى أغلب الأديان العظيمة ينذر بخطر عظيم , فما الحل؟
إن الزجاج المكسور, وبقايا الوعى المتناثر فى سلة الإيمان, ليسوا مبررات لإلقاء السلة بالطفل الذى بداخلها.
سيظل الإنسان يسعي, طالما هو إنسان, حتى يجد حلا غير الإنكار, والاختزال, والتبعية, والانشقاق.
كيف ؟ لست أدري, ولن أيأس وأنا أستلهم, وأحاول, وأدعو للسعى حتى ندري.
لقد أبعد المنغلقين أغلب الأديان القائمة -بالجمود أو بالإنكار- حتى لم تعد تمارس فعلا يوميا نحدد به نوعية الحياة ونوعية الأخلاق.
إن علينا أن نجتهد ونبدع حتى نستعيد حقنا فى الإيمان وشرفنا بما هو خـلـق متسق متوازن هارمون ممتد.
إن استبعاد حضور الله سبحانه بعيدا عن وعى البشر طول الوقت ليس فقط خطيئة وخسارة من أنكروه, أو من همشوه, سبحانه وتعالي, بل هو (الاستبعاد) نتيجة إسهامات الممارسات الدينية السطحية الوصية المغتربة.
الأخلاق ليست إلا تجليات أنغام التوازن البشرى الكونى فى سلوك لخير البشر
واللاأخلاق هى النشاز النافر, مهما برق لمعانه, ووعدت إنجازاته الكمية.