الافتتاحية
نشاهد أحيانا على بعض حافلات الجيش الكبيرة, أو النقل العام, لافتة مكتوب عليها “وقوف متكرر”, تنبه السائق القادم من خلف أن هذه الحافلة سوف تتوقف فى أى محطة قادمة, أو حتى فى وسط الشارع, أو تنبهه: أن السائق تحت التمرين. هذه المجلة كذلك, أولى بنا بدلا من تكرار الاعتذار, بهذه الصورة المرفوضة من قبل القارئ, أن نكتب على الغلاف “توقف متكرر”. نحن نلتمس هذه المرة عذرا من حق القارئ ألا يقبله.
حين تتكلم الحجارة، ويقتل الأبرياء, ويتحيز الرأى العام فى معظم أنحاء العالم (وليس حكوماته فحسب) كل هذا التحيز, على الرغم من الشعارات المرفوعة, والضغط على إسرائيل الأكثر إهانة وهو أشبه بالدغدغة, حين يكون الأمر كذلك, يصبح الصمت أشرف من أى كلمات ترص بجوار بعضها, لعل الصمت يدفع لفعل آخر, له أثر آخر.
لكن إلى متى الصمت, وهو هرب مضاعف لمن لا يحمل السلاح الآن ؟
لن نعتذر عن التوقف, ولن نعـد بالانتظام.
الأمور العامة أصعب ثقلا, والكلمة أخطر عجزا, و المصيبة تبدو أكبر من قدراتنا, ومع ذلك, أو لذلك, نعاود الظهور. يالسخف كل هذا, هكذا.
فى هذه الفترة التى احتجبنا فيها مؤخرا, لن أحددها مدعيا الخجل, حدثت أمور كثيرة كثيرة, خطيرة خطيرة, بدت لخطورتها أنه لا يصلح معها إلا أن نتوقف, حتى لو كان ذلك من قبيل اليأس الذى رفضنا الاستسلام له فى أى لحظة منذ قررنا أن نقولها والسلام, “الكلمة”، ربما تجد يوما من هو أهل أن يجعلها فعلا يمشى على الأرض. نحن نحاول والله العظيم !!
لا نعرف بأى وجه نلقى القارئ من جديد. لقد زودناها خلال عشرين عاما وواحد. ثم ها نحن نعود مرة أخري, وهكذا. ننظر سويا فى بعض أحداث ما كان, لعلنا نجد فيها ما يبرر الصمت, وأيضا ما يبرر العودة.
1- استشرت العولمة وكشفت عن وجهها: تبين بما لا يدع مجالا للشك أنها أمركة رأسمالية, استعمارية, جديدة. رأسمالية متوحشة لم تعد تحتاج حتى أن تتخفى وراء تبرير أو تنظير. فى نفس الوقت ظهرت حركات مقابلة, ليس لها أية قوة فاعلة إلا التذكرة بأن المسألة (مسألة الاستعمار المالى المعلوماتى العالمى) لن تـمر سهلة إلا على حساب كل البشر, المتعولم, والمتعولــم، ولا عزاء للديناصور.
الإرهاصات الشعبية عبر العالم (من سياتل حتى إيطاليا؟؟)، رغم عدم جدواها, وخفوت صوتها, تصيح صيحة غريق معاند, يأبى أن يستسلم لموج المحيط رغم كل شيء. تصيح تنبهنا إلى أن أمور العالم تسير فى اتجاه خاطئ, كما تلوح -فى نفس الوقت- بعناد المتشبث بالحياة, أن الناس لن تسمح, طال الزمن أم قصر.
إذا نجح هذا الاتجاه الخاطئ المتغطرس المحتكر أن يتمادى فى قيادة العالم بحسابات منفردة, فقد انتهى الجنس البشرى تماما. إن الجنس البشرى كان قادرا طول تاريخه أن يتخطى مثل هذه الانحرافات, فلماذا نشك الآن أنه تراجع عن قبول التحديات.
2 – وجدت العولمة أدواتها جاهزة فيما يـعرف بثورة الاتصالات والمعلومات, إضافة إلى صك بعض المفاهيم المصاحــبة, (مثل الشفافية)، ثم التمادى فى تقديس مفاهيم قديمة كانت ومازالت ملتبسة (مثل الديمقراطية). إن سوء استعمال هذه المفاهيم البراقة لصالح الخطأ المتمادى الذى أشرنا إليه حالا, أدي, ويؤدى إلى عدد من المضاعفات التى تتزايد باستمرار, لهذا يجدرالانتباه إلى أن مضاعفات أى مرض (أو دواء) لا بد أن تؤخذ واحدة واحدة بنفس الاهتمام الذى نقاوم به المرض الأصلي.
قد يكون من الممكن أن نقلل من المضاعفات حتى لو لم نستطع أن نقضى على المرض, أو لو تأجل القضاء عليه. وقد يكون من الممكن أن نخفف من الآثار الجانبية لدواء معين لو لم يكن له بديل أسلم. لهذا وذاك, فإن التركيز على إظهار مضاعفات هذا الإنجاز البشرى الأحدث لا يعنى رفضه. إن ما يسمى عصر المعلومات يحمل فى طياته – للأسف – احتمالات سلبية، بقدر ما يعد بقفزة رائعة.
لا أحد يريد, ولا أحد يستطيع أن يوقف هذا الطوفان الهائل مما يسمى المعلومات, ومع ذلك فإن الاستسلام له بلا شروط هو إعلان بانتهاء النوع البشري.
إن المسألة أشبه بطوفان نوح عليه السلام, ولا أتصور أن الحل هو أن نفعل مثلما فعل, بمعنى أننا لا نتصور أن علينا, وقد فاض بنا الحال, أن ننتقى من الحياة ما يمثلها من كل زوجين اثنين (من إيجابيات الإنتاج البشرى), لنهرب به على سفين عزلتنا ونحن نتفرج وندعى الحكمة بالانتظار. نوهم أنفسنا أنه إذا غرق الجميع بغبائهم, فى “مستنقع اللذة” (الاسم الحركى له هو : مجتمع الرفاهية والاستهلاك), بدأنا نحن من جديد. هذا حل قديم يستحيل تكراره,. إن طوفان المعلومات والعولمة يبدو أسرع وأخطر من طوفان نوح عليه السلام.
لا مفر من ابتداع آلية جديدة للتعامل مع هذه المعلومات بما يجعلها إيجابية.
لا بد من بديل لهذه الأمركة المتخفية تحت اسم العولمة, نريد أن نكون “أمة واحدة”, لكن بشروطنا نحن البشر, كل البشر,أغلب البشر, وليس بشروط النخاسة والفوقيين.
أخطر الخطر من هذه الهيجة المعلوماتية لا يكمن فى سحق هوية الأضعف, وتكهين لغته, وتأكيد تبعيته, هذا كله كان واردا عبر التاريخ من خلال الإقطاع, فالاستعمار, فالقهر الشمولى لابسا قناع الاشتراكية, فحكم العسكر …إلخ. الخطر كل الخطر, هو فى “اختزال الإنسان إلى معلوماته”.
الإنسان كل تاريخى رائع, والمعلومات المعروفة والمتاحة لمخازنه الإلكترونية الحديثة هى مجرد جزء من وجوده, لأنها جزء من تاريخه.
الخطأ التطورى الذى يقع فيه الإنسان حاليا هو أن يعطى هذا الجزء الإلكترونى المتضخم أكثر من حقه, بل أكثر مما يستطيع أن يحيط به. هذا العملاق الإلكترونى أعجز من أن يحيط بتاريخ الإنسان الحيوي, ناهيك عن تاريخ الحياة, علما بأن هذا وذاك (تاريخ الحياة, وتاريخ الإنسان هو ماثل حالا فى خلايانا (لا ننسى أن هذه المجلة اسمها “الإنسان, والتطور!!) .
إن ثمة زعم يقول إن الديناصور قدانقرض لأن جسمه نمى أسرع من مخه. على نفس القياس, فإن الإنسان المعاصر مهدد بالانقراض إذا ترك قشرة دماغه, الإلكترونية الهوي, تنمو على حساب بقية وجوده الحيوى لتاريخه البيولوجى والكيانى “هنا والآن”.
الرفض المتشنج لهذه الإنجازات لن يترتب عليه إلا تأجيل خائب ثم تبعية متأخرة, أما الاستيعاب للتمكن فالتجاوز, فهو الأمل المنشود.
إن التأثير الذى أحدثه هذا الطوفان المعلوماتى هو أخطر من أن نعدده فى هذه الافتتاحية, لكنه هو هو ما جعلنا نعاود الصدور.
إن الحل لن يأتى من صراع “بل جيتس” مع منافسيه, ولا من “تـعلمة” العالم العربى ليلحق الركب لاهثا محملا بأرقام لا يعرف مصدرها, ولا هو واثق من مصداقيتها.
إن الحل أيضا لن يأتى من سباق حرب االصواريخ والصواريخ المضادة بين روسيا أو الصين وأمريكا, ولا من إعادة قراءة كتب التراث دون النصوص الأصلية التى سجنوها فى تفاسير وصية كادت تنفى نبضها, وتعكس وظيفتها, تفاسير لا تصلح – إن صلحت- إلا لزمان غير هذا الزمان.
إن إرهاصات الحل أو توجهاته, قد تأتينا من إنسان متواضع, لا يستحق إحدى الجوائز العالمية ولا المحلية, لا نعرف اسمه (فى الأغلب) لكننا ننتظره طول الوقت, ننتظره انتظار الباحث العامل الجاد طول الوقت, لا المتفرج مدعى الحكمة.إنه لن يهبط علينا من السماء, وإنما هو سوف يقفز من بيننا حالة كوننا نحاول.
قد تأتينا إشارة الحل من لمحة من مجنون قالها وانتحر, يرحمه الله.
وقد تأتينا من إفاقة تجليات متصوف قالها مدوية, ثم انسحب أو لم ينسحب.
وقد تأتينا من مراجع ناقد من بين أهل التقدم والمعلومات أنفسهم. من يدري, لعلهم يفيقون فى وقت مناسب, وقد أدركوا أن الطوفان سيغمرهم أول من يغمر.
فى انتظار بعض ذلك نعاود الصدور, آملين ألا يثبت بعض ما يخطر لنا أحيانا من أن هذه المجلة ليست إلا صوتا ذاتيا مسكـنا أشبه بضلالات المهدى المنتظر.
3- حدث أيضا خلال هذه الفترة أن طالت ذراع أمريكا طولا قبيحا, فأصبحت وصايتها فاجرة مكشوفة, وأصبحت مصداقيتها مهلهلة بالية, وأصبح غباؤها تكلسا مفضوحا. امتدت الوصاية إلى الانفراد بتحديد من هم الأقليات, وما هى الديمقراطية, وما هى الحرية, وما هى الحقوق, وما هى الواجبات, بل ما هى الأخلاق. ومع انتشار الأصولية اليهومسيحية قد تتفضل أمريكا بإصدار فرمان قريب يحدد لنا من هو الله. (أنظر فصل ندوات الجمعية، وخاصة فيما يتعلق بمناقشة كتاب رضا هلال عن المسيحى اليهودي, ونهاية العالم ص 241).
4- قامت انتفاضة الأقصي, وما كان لها إلا أن تقوم, تأخرت كثيرا. لكن هذا هو ما حدث. لكل أجل كتاب, ولكل وقت أذان. أذن مؤذن الجهاد, فتصورنا أن كل شيء ينبغى أن يتغير, ليس فى فلسطين فحسب, ولكن فى كل قلب عربى ومسلم ومسيحى ويهودى وبوذى وأى إنسان على أى دين, وأى إنسان بلا أى دين. لكن شيئا من هذا لم يحدث حتى الآن.
هذا ليس حديثا فى السياسة. تعريف السياسة عندنا أشمل من أن يحده تعريف. السياسة هى حمل الهم العام هما شخصيا, فالمشاركة من موقعك بما يمكنك, السياسة هى الوعى الفردى المسئول الذى يجعل الفرد يقوم بممارسة الفعل اليومى مرتبطا طول الوقت بعموم الناس. الإنسان حيوان سياسي. نقترح هذا التعريف ليواكب العصر.
من فضائل الانتفاضة أن كشفت لنا- للأسف- ما آلت إليه “حالة” جمهرة العالم الغربى . هى قد عرت أيضا أغلب دعاة السلام (لا كلهم) فى إسرائيل, و غير إسرائيل. هذا الأمر قد أوصلنى إلى منطقة تغرى بالاقتصار على الرفض, فالكراهية وقد حلا محل النقد واللوم والأمل فى الحوار. أنا أتجنب ذلك طول عمري, وما زلت قادرا على التوقى من هذا الانسحاب الحقير. أنا, أنت, نحن, مسئولون عن أخطائهم.
إن ما آلمنى ويؤلمنى هو موقف الناس هناك, ناس الغرب لا حكوماته ولا بورصاته. أخذت أرفض تصور اختفاء العدل والمنطق السليم من وعى عامة ناسهم, لكننى أرفض أكثر هذا الخداع اللغوى وهم يتحدثون عن مفاهيم مغلوطة يضلوننا بها, وربما يضلون أنفسهم أيضا, قبلا, بها. هأنذا ألتمس لهم العذر بالعافية. عذر لا يبرر غفلتنا حتى لو كانوا هم الأسبق بالغفلة. مجرد قراءة تعبيرات تتحدث عن “وقف العنف”,أو “وقف إطلاق النار”, أو التوصية بعدم “الإفراط فى العنف”, أو الحديث عن “المعتدين الفلسطينيين”, أو الموافقة الضمنية على سياسة الاغتيالات دون محاكمة. هو أمر جدير بأن ينبهنا كيف وصلت الإهانة والتفريغ إلى كل المفاهيم والألفاظ والتاريخ والمعني.
فى هذه الفترة التى توقفت فيها المجلة أتيحت لى الفرصة أن أكتب فى عدد من الدوريات والصحف بشكل أكثر رحابة وبفرص أكثر سماحا (كانت أهم هذه الفرص: الصفحة الأخيرة من الوفد, ثم الوطن السعودي, و مجلة “الكتب وجهات نظر”)، كما اشتركت فى عدد من البرامج “الديمقراطية”(!!!) الجديدة “على الهواء”, فتيقنت من كل ذلك, وبعد اعتراف حقيقى لأصحاب الفضل بالفضل, أن مساحة السماح أوسع فعلا. لكننى توقفت, أو تصادف أننى وقفت فرحت أنظر فى كل ما كتبت فى هذه الفترة (ما يربو على ثلاثين مقالا, كلها -كما أتصور- فيها آراء كنت أحسب أنها مفيدة). رحت أحاسب نفسي: من الذى استفاد من أى كلمة من كل هذا, أين هو ؟ ثم ماذا؟ أنا شخصيا استفدت, إننى أكتشف ما أريد أن أقوله أو أكونه أثناء كتابته لا قبلها, وأحيانا أكتشف هذا وذاك وأنا أقرأ ما كتبت. لكن السؤال يظل كما هو: إلى من؟ ثم ماذا؟
حين صدرت هذه المجلة من أكثر من عشرين عاما كنا نتصور أننا يمكن أن نضيف قطرة فى بحر, والآن تبينا أننا قد لا نكون أكثر من دمعـة فى محيط, دمعة تنساب على صفحة وجه أصحابها وبضع مئات ممن ما زالوا يحتملون تذبذبها, لكننى تبينت أنه حتى هذه الدمعة قد تتطاير قبل أن تصل أصلا إلى لمس وجه المحيط, ثم عدت أقول : لكنها قد تتجمع مع مثيلاتها لتصبح سحابا فمطرا ..إلى آخر هذا الشعر الذى لا ينفع, ولكن، من يدرى؟ لعله ينفع !
يفنى كل شيء، ويبقى السؤال يتردد ونحن وقوف بين يدى العدل الرحيم, سؤال يوجهه كل واحد لنفسه : لماذا لم تقلها؟ أنت لست صاحبها, لست ولى أمرها, لست مسئولا عن مسارها أو مصيرها, فلماذا لم تقلها ؟ ربما لهذا عدنا.
المصيبة أن المؤشرات السلبية لا تظهر فى مجال السياسة بشكل مباشر. لغة السياسة أصبحت خطابا محفوظا عن ظهر قلب, تصريحات, وأرقام, ووعود، ومباهاة, ومديح، وديمقراطية تدور فى دائرة مغلقة, آخرها يلتقى بأولها كل صباح, وكل وزارة, وكل تصريح, وكل وعد.
المصيبة الأكبر والأكثر دلالة أن منظومة القيم اهتزت بحيث أصبحت، لمن يحسن الإنصات, من أخطر نذر الإفلاس الذى لا يقتصر على الإفلاس القيمي. دخلنا إلى الدائرة الجهنمية, أو وجدنا أنفسنا بداخلها حيث يصب التدهور القيمى فى الخراب الاقتصادى، ومن ثم اللغو السياسي, فمزيد من التدهور القيمي, وهكذا. ثم تتفتح حلقات جهنمية جانبية فى كل مجال لتصب فى الحلقة الجهنمية الأساسية.
فى حديث مع مفيد فوزى فى برنامج “حديث المدينة” سألنى عن تفسير لثقافة العنف (بعد الحوادث الأخيرة إياها) التى سادت مجتمعنا, فأنكرت أننا وصلنا إلى مرحلة تسمح أن نطلق على هذه الحوادث التى أعتقد أنها ما زالت فردية اسم “ثقافة العنف” أو حتى “ظاهرة العنف”. ومع ذلك فإنها جزء لا يتجزأ من ثقافة سلبية أخطر وأكثر دلالة على التراجع والتدهور ألا وهى ثقافة الزيف, وثقافة الكذب, وثقافة الغش. الأصل فى أحاديثنا وصحفنا وأرقامنا الآن هو الكذب, والأصل فى أبحاثنا وترقياتنا وتقييمنا لجهود المجتهدين هو المجاملات والشلل وتزييف الحقائق بوعى أو بغير وعي. والأصل فى امتحاناتنا, وتوظيفـنا, وتصنيعنا، هو الغش بكل أنواعه على كل المستويات.
ثقافة الغش والكذب أخطر من ثقافة العنف. هى أخفى وأسرع سريانا، ثم إنها أخفى وأخبث, وبالتالى فهى أبعد عن التعرية فالمواجهة أولا بأول.
التعميم ظلم بين تحت كل الظروف, لهذا لا نملك إلا التحفظ بالإشارة إلى استثناءات مشرقة هنا وهناك, لكنها تظل استثناءات.
هل هذا الانهيار الأخلاقى هو نتيجة أم سبب ما نحن فيه ؟ هذا أمر يكاد يصبح ثانويا حين تصبح النتيجة سببا والسبب نتيجة (أنظر افتتاحية فريد زهران فى هذا العدد, ثم “ملف” هذا العدد عن أزمة القيم وإشكالة الأخلاق).
إن ما وصلنا إليه هكذا هو أمر لا يصلحه مقال فى صحيفة, ولا حوار فى برنامج تلفزيوني, ولا نشاط حزبي, ولا نقاش نيابي, ولا تعليمات وزير التربية والتعليم, ولا قرارات النائب العام, هذا أمر له دلالة تدهورية لا مفر من مواجهتها سياسيا, وتربويا ودينيا, من كل واحد دون استثناء, فرض عين, الآن وليس بعد.
الأخلاق لا تتكون وترسخ وجودها بمقالات أو استجوابات أو خطب الوعظ والإرشاد. الأخلاق يبدأ زرعها منذ الولادة من خلال ممارسات منتظمة, ليس أقلها العبادات الراتبة, مع أقل قدر من التعليمات المباشرة، والأصوات العالية.
سألنى مفيد فوزى -فى برنامج حديث المدينة السابق الإشارة إليه- عن الحل: قلت له إن الحل يكمن فى الداخل فى الإحسان (“أن نعبد الله كأننا نراه فإن لم نكن نراه فإنه يرانا”), وفى الخارج فى (ا) جندى (مرور أو مرافق أو أى جندى متواجد فى الشارع بين الناس ليمثل السلطة) محترم وقادر على أن يصبح رمز الدولة فى وعى الناس, و (ب) “مدرس: قدوة رسول”.
حين يصبح “العسكري” محترما من رئيسه ومن الناس ويقبض عشرة أضعاف ما يقبض, ويمثل رئيس الجمهورية شخصيا, وحين يصبح المدرس والدا وراعيا ذا ضمير ويقبض عشرة أضعاف ما يقبض, وحين يصبح الحق تبارك وتعالى مختلطا بالوعى الذاتى معظم الوقت, سوف تظهر بارقة أمل أننا يمكن أن نعدل قليلا أو كثيرا فى منظومة القيم ومسار الأخلاق إلى أحسن. هذا وارد مهما تدهور الحال. التاريخ يعدنا بمثل هذه الإفاقات.
عدنا للظهور, وأطفال الفلسطينيين لا يجدون غازا, ولا كهرباء, ولا ماء, ولا طعاما, حتى أصبح الاستشهاد أرحم حتى من الناحية العملية البحتة.عدنا وحكومة إسرائيل تمثل أسفل إرهاب عرفه التاريخ، الحكومة هى المافيا, والعالم يتفرج, ويشير من تحت المائدة بإبهامه بعلامات النصر على البربرية المتخلفة.
عادت المجلة للظهور وعمداء ووكلاء الكليات يقــدمون للمحاكمة بتهمة التزوير.
عادت المجلة والكساد على أشده، فى نفس الوقت الذى تفرض فيه الحكومة ضريبة المبيعات, وتقول إنها لن تضر لا التاجر ولا المستهلك !! (ملحوظة : هذا ليس كلاما فى السياسة ولكنه فى التربية والتعليم، و… ربما علم النفس, أو حتى الطب النفسى !!).
حين تقول لطفل فى الثامنة من عمره إننى سآخذ من مصروفك ربع جنيه من كل جنيه, لكن مصروفك لن ينقص, ولن تشترى أقل مما كنت تشتري, لأننى سآخذ أيضا من البائع الذى يبيع لك المصاصة جنيها كاملا. ماذا تظن يكون موقف هذا الطفل ؟ هل يمكن أن تتجاهل ابتسامته الساخرة وهو يضحك عليك شفقة أو استهانة؟ هل هذا كلام فى السياسة أم هى مسألة حساب فى كراسة الواجب المنزلي. أليس هذا بعض ما صرح به السيد وزير ضريبة المبيعات أو أى وزير من وزراء التصريحات، ولو أثناء المراحل الأولى لتمريرها: يقول صاحب التصريح الرفيع “إنه سيحصل الشيء الفلانى من خلال هذه الضريبة، لكن المستهلك لن يضار, ولا التاجر ولا أحد”. (لعل إسرائيل هى الخاسر فى النهاية لأن حصيلة ضريبة المبيعات سوف تزيد فى قدراتنا الدفاعية جدا، شكرا).
هذا لغز لا يحله إلا تحضير الجان أو عكس المنطق, وكلاهما أصبح واردا فى مرحلتنا الراهنة. أعرف أنه لا وقت للسخرية. هذه ليست سخرية .
فى هذه الفترة أيضا تحول موقف وزارة الثقافة، وكثير من المثقفين الذين ينتمون إلى فصيلة عباد الشمس, من أقصى الحرية إلى أقصى الأخلاق، وكأن الأخلاق ضد الحرية !!! (أنظر مرة أخرى ملف الأخلاق فى هذا العدد).
كذلك ظهر مؤخرا نجم جديد اسمه الدكتور” زغلول النجار”, ويبدو أنه رجل فاضل, يريد أن يفيض علينا من إيمانه العلمى الكونى الجيولوجي, ما يطمئننا إلى ديننا ومتانته, وهو بذلك يكرر فضل (وخطأ) الصديق الجليل د. مصطفى محمود. يا سادتى حسنى النية: إن المدخل إلى الإيمان وإلى الله له باب آخر غير هذه الدعاية الطيبة المتحمسة لمعلومات تبدو براقة، وكأنها قادرة أن تعيد جذب من تحول من عبادة الله إلى عبادة الأصنام المعاصرة. (العلم المتغطرس, والأرقام الصماء, والمعلومات الكمية الخانقة..إلخ). صحيح أن الناس, والشباب خاصة، فى أشد الحاجة إلى من يطمئنهم أن تدينهم ليس كفرا بالعلم, ولا استهانة بالعقل, لكن الصحيح أيضا أن هذا الاهتزاز جاء نتيجة خلط المناهج, وضيق الأفق. إن هذه المحاولات التى لا نشك فى حسن نية من يحاولونها, قد تفيد بعض الذين يعبدون الله على حرف. لكن مخاطرها على المدى الطويل أكبر من أى تصور, ليس فقط على الدين الحقيقي, ولكن على المنهج, وعلى المنطق السليم, وعلى العلم. إن الطريق إلى الله تعالى لا يمر بتليسكوب فلكي, ولا بمعمل كيميائي, هو طريق يعرفه من سار فيه، لا أكثر ولا أقل, فإن كان لا بد له من عون جنبا إلى جنب مع ما أنزله الله – حقيقة وفعلا-علـى أنبيائه عليهم الصلاة والسلام, فلا يوجد عون غير مباشر إلا ما يتجلى فى الإبداع الحقيقى الذى هو فى عمق أعماقه قبس من فيض البديع السميع العليم.
لا يهدى إلى الكشف “الداخلى <==>الخارجي”, الهارمونى الأعظم, بعد كلام الله سبحانه ,وعباداته, مثل زعبلاوي, أو عاشور الناجى فى حرافيش محفوظ, أو حتى قنديل محمد العنابى الشهير بابن فطومة (محفوظ), أو عطر زوسكند, أو سيميائى (ساحرالصحراء) كويلهو, أو السيمفونية الخامسة لبيتهوفن, أو لوحة عباد الشمس لفان جوخ. هذه كلها طرق جانبية توصل من أراد شحذ وعيه، إلى الله سبحانه وتعالي. أما تفاصيل العلوم البراقة فهى مهما حشرت فى النص المقدس حشرا, لا تثبت النص ولا تضيف إليه. الله سبحانه ليس خاضعا لهذا الاختزال الخائب ” إثبت لى وأثبت لك,”. هذه مضيعة للوقت, وابتعاد عن الحق سبحانه وتعالي, مع كل احترامى لحسن النية وسلامة القصد وفرط الجهد. إن الله سبحانه وتعالى يطلب منا أن “ننظر” فى الكون وفى أنفسنا, لا أن “نبحث” فيهما بأدوات أدنى من “النظر” البشرى النقي, مهما قيل ويقال.
ظهرت أيضا موجة من الانجذاب نحو واعظ شاب اسمه عمرو خالد يروج لإسلام “دمث”, فيحيى فينا أمل أن يرتبط الدين بالأخلاق على أرض الفعل اليومي, لكننا نخشى عليه, وعلى من ينجذبون إليه من استغلال حسن نيتهم لغير ما أرادوا, نخشى أن ينتهى بهم الأمر ليصبحوا مجرد مرددين, تابعين, هادئين, ذاهلين عن الكدح إلى وجه الله, الجهاد فى مواجهة الظلم, وأن يكتفوا بما يسمعون دون الاجتهاد فى إعادة تفسير النص.
* هذا العدد:
قد يكون هذا العدد علامة فارقة فى تاريخ هذه المجلة, ذلك أنه يشمل اختراقات متعددة, فى المادة والمنهج على حد سواء.
الاختراق الأول: هو تخصيص ملف بأكمله عن موضوع واحد, صحيح أننا لم نعد لذلك العدة من قبل فنستكتب من يهمه الأمر حتى نثرى الاختلاف, لكن الافتتاحية رقم (2) بقلم فريد زهران هى التى أوحت لنا بهذه الفرصة, حتى لو بدا الكلام معادا.
عاد فريد زهران بحذقه وأمانته وانتمائه وتفاؤله إلى تناول الموضوع الذى لا يكف عن الإسهام فى تحديد مفاهيمه بشكل نأمل معه أن ينتبه أى منسحب فردي, أو مغرور مثالي, أو متبلد منسحب, إلى استحالة تجنبه. تواكبت افتتاحية زهران مع الانتباه المتزايد إلى الانهيار الأخلاقى الذى أشرنا إليه فى بداية هذه الفقرة. إن تدهور الأخلاق يتمادى بشكل أسى (وليس باضطراد عددى) يكاد ينذر بعجزنا عن إيقافه. هذا الهم المسئول بدأنا التعرض له – فى أعداد سابقة – بما يشبه الحوار الضمنى بين رئيس التحرير وسكرتير التحرير, وخاصة فى موقع علاقة التدين والإيمان بالأخلاق, وبالذات عما إذا كان الإيمان قيمة موضوعية فى ذاته, أم هو تجل أخلاقى مفيد, ثم ساهم سامح سعيد عبود بإضافة منهجية محددة فى مقاله الوافى “الأساس الأخلاقى للاشتراكية العلمية” (العدد 68,67 سنة 2000 ص 82-96), ثم هذه الظاهرة الجديدة التى نسميها “الدين الدمث” والذى يمثله ذلك الشاب “عمرو خالد” تضيف بعدا أخلاقيا طيبا يحتاج لمناقشة دون رفض. فكان هذا الملف (الذى شمل أيضا تجميع بعض ما كتبه المشاركون فى الملف هنا وهناك).
الاختراق الثانى: فى هذا العدد هو عرض جانب من “حالة” مرضية من خلال تفاعلها فى بعض جلسات العلاج النفسي, نعود من خلال ذلك إلى فتح منهج آخر يضيف إلى باب”حالات وأحوال”, الذى ظهر ت منه فصول كثيرة فى الأعداد الأولى لهذه المجلة. فى ذلك عودة للتأكيد على أهمية منهج”الحكي”, والتناول النوعى لماهية الإنسان فى الصحة والمرض. الجديد فى هذا الأمر-مما اعتبرناه اختراقا- هو أننا حاولنا هذه المرة أن نستفيد مما أصبح فى حوزتنا من عطاء التكنولوجيا الأحدث لنسخرها فى مجال نشر الخبرة النوعية لتكون فى متناول القارئ العادى. ذلك أنه قد أتيحت للجمعية التى تصدر هذه المجلة وسائل لتسجيل خبرات المرضى بالصوت والصورة, كما أتيح لها أيضا تدبير موقع على الإنترنت سوف نعلـن عن بدء تشغيله قريبا. إن هذا وذاك قد يكون سبيلنا للتوسع فى عرض المادة النفسية كما هى, وخاصة فيما يتعلق بخبرات المرضي, وبنص كلامهم. نحن نكتشف, دون جديد, أن أحدث إنجازات التكنولوجيا يمكن أن تسهم فيما نريده, إذا أحسنا استعمالها, فتصبح أداة لنا تمنع التمادى فى استقبالها باعتبارها أداة كمية صرفة تخدم أغراضا مجهولة بشكل دائم. إن هذه التكنولوجيا هى هى التى تفتح آفاقا جديدة لمناهج التسجيل “الحكى/ الحضور المصور المسموع”, ومن ثم إعادة قيمة منهج الحكي, ثم القراءة النقدية من واقع عرض المادة المتاحة مرة ومرات, أمام أكثر من وعي, سعيا لأكثر من قراءة.
إن ما دأبت هذه المجلة على توضيحه هو أنها مجلة للنقد على كل المستويات (الأدبى, والعلمى, والحياتى), وباعتبار كل إنسان فرد, وخاصة المريض النفسى “نصا” يحتاج إلى قراءة أكثر من حاجته إلى تفسير, فإننا نعتبر هذا الباب بهذه الصورة “قراءة نقدية نفسية فى نص إنسانى مريض “. صعب أن ندعو لتعميم هذا المنهج دون إعداد كاف, وشروط ضرورية, لكننا نبدأ هذا السبيل بحذر ونحن نرى المجلة وهى تتحول أخيرا إلى غايتها التخصصية, حتى لو ظلت لفترة أخرى “مجلة الصوت الواحد”. إن الإشارات تلوح بأنها سوف تكون أكثر فأكثر مجلة لنقد أحوال المرضى باعتبارهم نصوصا حية, دون التخلى عن نقد أحوال المعالجين والأطباء, وأيضا دون التراجع عن موقفها النقدى العام.
باب حالات وأحوال يقدم فى هذا العدد حالة من واقع مقاطع فى العلاج الجمعي, مع تعليق مفصل على عرض الحالة كما تم تقديمه بالصوت والصورة فى الندوة العلمية الشهرية لشهر يونيو 2001.
نحن نشعر بخطورة إغارة شركات الدواء ليس فقط على جيوب المرضى (إن تبقى فيها شيء) وإنما على أدمغة الأطباء. نحن -كما ألمحنا – ننتظر حلا منهجيا إبداعيا من شخص مجهول (حتى لو كانت شطحة مجنون). إن من أهم واجباتنا, وهمومنا, وآمالنا فى هذه المجلة هو أن نتمكن من تقديم بعض ما لا يستطيع غيرنا أن يقدمه. وهذه الحالة, بهذه الصورة, فى هذا الباب, فى هذا العدد، هى بداية بعض ذلك.
الاختراق الثالث: هو أننا أدمجنا باب مقتطفات علمية الذى كان ينشر باللغتين الإنجليزية والعربية، مع باب إعادة قراءة فى مصطلح قديم، لنقدم فصول عمل نأمل أن يتم، وهو مراجعة منهجية من منطلق ثقافتنا المحلية, لأساسيات الطب النفسى، كعلم وفن فى آن. وقد أقدمنا على هذه المخاطرة متعللين بالأسباب التالية:
1- إنه بعد إغارة شركات الدواء على أدمغة أغلب الأطباء فى العالم أجمع, أصبح من الواجب أن يكون الخطاب موجها مباشرة و فى المقام الأول ,لأصحاب المصلحة : المرضى وأسرهم أساسا, ثم عامة الناس, ولا يكون الأمر كذلك إلا بلغة أغلبية أصحاب المصلحة هؤلاء.
2- إن النشر باللغتين الإنجليزية والعربية معا, يؤدى خدمة نحو تسهيل مهمة الانتقال الواجب من رطان اللغة الأجنبية إلى أصالة لغتنا القادرة. هى مرحلة انتقالية بالضرورة, لكننا رأينا أنها أصلح – بالنسبة للأطباء خاصة – من القفز إلى اللغة العربية مباشرة.
3- إن هذا النشر على حلقات سوف يـلزم كاتب العمل أن يتمه, الأمر الذى أصبح يشك فيه لأسباب لا تخفي.
4- إن فى ضخامة المسودات الجاهزة و المتاحة من هذا العمل ما يضمن انتظام صدور المجلة, حتى لو لم تقم إلا بنشره بانتظام رتيب.
أما العيب الأساسى لهذه المغامرة, والذى لم يعد يـعتبر عيبا لكثرة ما غلب وتمادي, هو أن المجلة بدلا من سعيها إلى تعدد الأصوات زادت تركيزا على الصوت الواحد, وهو صوت رئيس التحرير, ولا مؤاخذة. هذا قدر استثنائى على أى حال حتى يحلها القراء والزملاء وكل من يهمه الأمر, بالإسهام بحوار مناسب ولو حول هذا النص الاجتهادى الثنائى اللغة.
الاختراق الرابع هو إعادة إحياء باب قديم جديد على الرغم من أنه لم ينتظم أبدا, كما أنه لم يكن ثابتا كباب مستقل, وهو باب عرض”ندوات الجمعية “, وسوف نلتزم بدءا من هذا العدد بأن نقدم موجزا للندوات التى تعرضها الجمعية شهريا, منذ ما يناهز ثلث قرن، وبالتالى فسوف نقدم ثلاثة موضوعات كل عدد, وهو ما عرض فى الثلاثة أشهر بين صدور عددين) . نأمل بذلك أن نعرف الناس نشاط الجمعية من جهة, وأيضا أن يشاركنا عدد أكبر فى مناقشة هذه الموضوعات التى نتصور أنها من صميم ما يصب فى هدف هذه المجلة “الإنسان والتطور”. كما أننا نأمل أن يكون فى طريقة عرض الندوة المتعددة الأصوات ما يخفف ولو قليلا من حكاية الصوت الواحد, ولو أنه, حتى فى الندوات, يظل هذا الصوت أيضا عاليا على مساحة ممتدة. وسوف نكتفى بالندوات الثلاث الأخيرة وهى على الوجه التالى : فيلم ” مدينة الملائكة” (إبريل 2001), ثم كتاب”المسيح الهيودي, ونهاية العالم” تأليف رضا هلال (مايو 2001), ثم قراءة فى بعض قصائد من ديوانى شجن شجر الشوارع, والبراكين الطيبة شعر د.أحمد تيمور (يونيو 2001), يعقبه نقد نفسى تركيبى لقصيد درامى، هو ما تصدر ديوان البراكين الطيبة ,باسم “مونودراما الممثل”، فيكون هذا بمثابة الإسهام النقدى فى هذا العدد، جنبا إلى جنب مع قراءة الصديق يوسف فى رواية “حديث الصباح والمساء” (وقد كانت موضوع ندوة شهر 9/1999) لعل هذا النقد, فى رحاب محفوظ, ومن أحد مريديه, قد يصبر القارئ على توقف القراءة النقدية فى أصداء السيرة الذاتية, التى لا مفر من إكمالها إن كان فى العمر بقية.
أما العينات التاريخية التى تمثل أبوابا أخرى كانت ثابتة، فهى تشمل أبوابا متعددة تداخل أغلبها فيما تجدد من تقسيم, فمثلا نجد أن باب “مثل وموال” وباب متقطف وموقف قد تضمنهما ملف الأخلاق, كما أن باب الموسوعة النفسية الذى أصبح اسمه “إعادة قراءة فى مصطلح (قديم/ حديث)” قد تداخل مع باب “مقتطفات علمية” ليقدم لنا هذا الكتاب الثنائى اللغة فى حلقات, (كما أشرنا).
وأخيرا, فنحن نشعر بخجل حقيقى ونحن نعاود الطلب من أصحاب هذه المجلة القدامى أن يستعيدوا ثقتهم فينا بعد كل ما اقترفناه فى حقهم, فيعاودون الكتابة إذا بلغهم أننا عدنا.
كما نرحب بخبرات ضيوف جدد, بالإضافة إلى خبرات الذين مروا بأزمات يحسبونها مرضية، لعلنا نستطيع أن نحاورهم احتراما, إن لم نستطع أن نمد لهم يد العون عجزا.
كذلك نحن نرحب كل الترحيب بتعقيبات, واعتراضات, وإضافات نقدية، على كل مواد هذا العدد بوجه خاص, باعتباره نقلة نوعية, اضطر رئيس التحرير أن يقوم بمسئولية تقديم أغلب مادتها, وهو أمر نرجو أن يكون مرحلة (وقد طالت أكثر من عشرين سنة) يتجاوزها إلى حوار مشارك بشكل أو بآخر.
ولا يحرمنا د. أحمد صبحى منصور من اختراقاته الرائعة (التجاوزية) التى تفتح الآفاق دائما إلى الاطمئنان إلى أن ديننا ليس حكرا لأحد, وأن المناهج المتجددة، هى الجهاد الأكبر, أخطأت أم أصابت. فيكتب ليؤكد أن ” الإسلام يناقض الاحتراف الديني”
وتعود د. يسرية أمين – وهى من أولى من أسهمن فى الكتابة فى هذه المجلة منذ أنشئت- تعود لتكتب لنا من غربتها فى الممملكة المتحدة (بريطانيا) ما يجعلنا نشعر أنها أقرب كثيرا من كثير من القريبين منا جسديا. القرب والبعد لهما مقاييس أخرى غير الأحضان والقبلات الجديدة الغريبة على مجتمعنا, خاصة بين الرجال, تعود د.يسرية لتوجز لنا كتابا يتناول موضوعا نحن ننتمى إليه طول الوقت, وإن كنا أعجز من أن نوفيه حقه. الكتاب هو, The Consolation of Philosophy” “مواساة بالفلسفة” و المؤلف قديم (جديد) هو “بثيوس” Boethius .إن عودة الفلسفة ترياقا للحياة الطازجة المتفرجة هو من بين أحلام هذه المجلة منذ صدورها.