الأخلاق الجامعية:
بين التنظير التجريدى والممارسة اليومية
ثمة ظواهر فى الحياة، لها فاعليتها، وحضورها، وعمقها، مع أنها غير قابلة للإثبات بالكلمات العاقـلة المصقولة، ولا بالبرهان الشائع والمنطق المعقلن، يسرى هذا التحفظ على بديهيات و”كليات” كثيرة مثل: الذات الإلهية، والجدل (الديالكتيك) والمعرفة، حتى يبدو أن الحديث عن أى منها قد يكون-فى النهاية-ضد طبيعتها أساسا.
نعترف أيضا أن ثمة ظواهر وحقائق تـعرف – على الأقل فى مستوى الممارسة اليومية-بآثارها أكثر مما تعرف بماهيتها، مثل السحاب والشمس.
بل إن تعريف الألفاظ فى كثير من المعاجم يكون بذكر أمثلة استعمالها فى سياقات مختلفة (أساس البلاغة مثلا للزمخشرى)
وقد خيل إلى أن المسألة الأخلاقية هى من بين هذه الكليات البديهية، التى لا ينبغى أن نتعرف عليها، أو حتى أن نناقشها إلا من خلال آثارها وتجلياتها السلوكية، لا من خلال محاولة النقاش فيها أو تعريفها أو شرحها*
أعلن ابتداء: إن الحديث عن الأخلاق فى مجال “الحياة الجامعية ” هو حديث حرج. وهام، وضرورى، لكنه خطر، ويمكن أن يكون خادعا ومعوقا فى آن.
لا أريد أن أتمادى فى تبرير هذه المعاذير التى قد تؤدى فى النهاية إلى الصمت فالتمادى فى الإنكار والتدهور معا. فإذا كان لا بد من فتح الملف، وإعادة النظر، فلنأخذ حذرنا حتى لا يحل الكلام عن الأخلاق محل ممارستها.
المصفاة الشخصية تحيرت حتى الإعاقة حين واجهت نفسى بسؤال يقول: من أى منطلق “أخلاقي” يمكن أن تساهم فى طرح هذه الإشكالة، وبأى مقياس سوف تقيس به موقفك؟
إن ممارساتى الشخصية ونشأتى المنغمسة فى الريف بشكل أو بآخر، والمتدينة تدينا مصريا بسيطا مباشرا، تنبهنى طول الوقت إلى أن ثقافتى الخاصة لها مواقف خاصة من مسألة الأخلاق والمعاملات، ثم إن انتقالى المتكرر فى أوقات النمو الحرجة من مواقع إلى أخرى (بلدان صغيرة فى الوجه البحرى حسب عمل والدى المدرس) جعلنى أنتبه-مؤخرا- إلى نسبية الأخلاق وضرورة أخذ الثقافات الفرعية، الأصغر منها فالأصغر، فى الاعتبار طول الوقت. فإذا أضفت إلى هذا البعد الجغرافى بعدا تاريخيا يتعلق بمراحل نموى شخصيا، بغض النظر عن أين كان ذلك، إذن لأمكن القول أننى انتقلت – مختارا أو مرغما- فى كثير من هذه المراحل من موقف خلقى كنت أحسبه غير قابل للنقاش، إلى نقيضه، وفى كلا الحالين كنت (وما زلت) أتصور أن كلا منهما (الموقف الأول ونقيضه اللاحق) كان موقفا أخلاقيا طول الوقت.
السؤال المطروح هو: هل يمكن أن يكتب (أو يتكلم) أحدنا عن الأخلاق دون أن يمر ما يقوله أو يكتبه بمصفاة أخلاقه شخصيا ؟
مع كل الاحترام للوصايا الدينية الأساسية بكل ما تعنى من إيجابيات، وهى البادئة بـ “لا” أبدا (لا تسرق، لا تزن، لا تقتل..إلخ) دعونا ننتقل إلى المستوى الأكثرتعقيدا، ودلالة، والأقرب إلى لغة العصر، وإلى أزمة هذه الندوة، فنتجول حول إشكالات أخرى يمكن أن تتضح من خلالها بعض المعالم الضرورية ونحن نتناول المسألة الأخلاقية من مدخل عام قد يكون أنسب لموقفنا هذا فى موقعنا هذا، وأضع لذلك بعض رؤس المواضيع على سبيل المثال لا الحصر:
1- الأخلاق والآخر
2- الأخلاق والإتقان
3- الأخلاق والتفكير السليم
(والمنطق البسيط، والحس العام، واللغة)
4-الأخلاق والحرية (وإشكالة أخلاق الصفوة)
5- الأخلاق والبحث العلمى (والنشر العلمي)
أولا: الأخلاق و”الآخر”
لا يوجد سلوك أخلاقى يمارس فى فراغ، حتى علاقة الإنسان بنفسه، أو مناجاة ضميره أو ملامته لذاته، أو حواره مع ربه، كل ذلك لا يخلو من آخر حقيقى وماثل بالمعنى النفسى المباشر، ذلك المعنى الذى أصبح مرادفا للمعنى البيولوجى التركيب ى، (من واقع نظريات تعدد الذوات، المقابلة لتعدد مستويات التنظيم الدماغى الهيراركي). إن حضور الآخر خلقيا لا يتوقف عند مبدأ “أحب لأخيك ما تحب لنفسك”، ولا “عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به”، إن معنى “حضور الآخر فى الواقع، و فى الوعي” يتجاوز المعاملة الظاهرة إلى تشكيل نوعية الوجود الفاعلة.
لاسبيل هنا إلى مراجعة تفصيلية لأشكال الممارسة الإيجابية والسلبية فى العلاقة بالآخر، إلا أن النشاط الجامعى بوجه خاص يجعل موقع الآخر فى الوعى الشخصى بمثابة حضور ماثل طول الوقت، ثم إن استقبال المعلومات المجردة باعتبارها “كيانات تمثل الآخر”، هى ممارسة أخلاقية شديدة الدلالة، فالمعلومة التى أقرؤها فى صورة نظرية ما، أو نظرة ما، هى نتاج فكر “آخر”، وهى تمثل تاريخا “آخر”، وهى مشروع حوار مع آخر (أنظر بعد: الأخلاق والبحث العلمي)
حين يختزل حضور الآخر فى التعليم من البداية للنهاية، وحين يغيب هذا الآخر عن وعى كل من الأستاذ والتلميذ، وتحل محله “المعلومات المجردة”، وكأنها “ليس لها صاحب”، تهتز القيمة الخلقية فى خفاء خطير.
إن “الخطاب”، أى “خطاب” هو موجه بالضرورة إلى الآخر.
نحن إذ نفكر، ونتكلم، ونكتب، ننسى أننا نفعل ذلك: متوجهين نحوغاية يتمحور الفكر فى اتجاهها، و أن هذه الغاية ليست مجردة أو منفصلة عن ما هو “آخر” ينتظر منا “رسالة”، وننتظر منه ردا (أنظرالأخلاق والتفكير)
مرة أخرى، أتصور أن هذه القضية (حضور الآخر موضوعيا فى وعينا)، على الرغم من بديهيتها، لا تمثل عندنا قيمة أخلاقية تذكر، وبالتالى فإن اختفاء الآخر (الداخلى والخارجي)، من وعى الطالب والأستاذ، هو بداية الطريق نحو اهتزاز الموقف الأخلاقي. وثمة مثالان من واقع الممارسة يصلحان لتأكيد محورية ماهو “آخر” فى المسألة الأخلاقية.
المثال الأول: علاقتنا بالمواعيد
شاعت بيننا الاستهانة بالتزام الدقة فى الحضور أو التواجد فى أى موعد محدد، مع أن التواعد هو عقد- أخلاقى بدرجة ما- بين اثنين فأكثر، وبالتالى فإن الانضباط من عدمه ليس سـمة شخصية تتعلـق بالعلاقة بالوقت لكنها إعلان لموقع “الآخر” الذى عقدنا معه هذا العقد للقاء الفلانى، الساعة كذا، فى المكان المحدد.
المثال الثانى: علاقتنا بالآخر كمصدر للمتعة أو المنفعـة
نحن نستعمل بعضنا البعض طول-أو معظم-الوقت، وهذا وارد لا عيب فيه، لكن إذا انقلب هذا الاستعمال إلى أن يشيئ الواحد منا الآخر، فيختزله فى حدود مطلبه منه، سواء كان ذلك لتسهيل مصلحة، أو إرواء لذة، أو سد حاجة، فإن الأمر يصبح تجاوزا لا أخلاقيا بشكل ما. يمكن أن يتضح لنا هذا التجاوز (بالتشييئ) إذا ما تذكرنا أن المطروح للعلاقة بالآخر هو تعاقد (أخلاقى) يسمح بتبادل الاعتمادية، وتحمل الاختلاف فى آن.
هل يمكن أن نـقيس السلوك الجامعى للأستاذ والطالب على حد سواء بهذا المقياس (الوعى الموضوعى بالآخر؟)
هل يمثل الطالب للأستاذ” آخرا” له معالمه المختلفة، وتوجهاته المتباينه، ووعود عمره الممتدة، بحيث يملأ الطالب بصفته آخرا وعى الأستاذ فيبرر أستاذيته بشكل إيجابى قبل، وبعد، ومع:ما يقدم الأستاذ لطلبته من مادة للحفظ والدرس والامتحان؟
هل يمثل الأستاذ للطالب حضورا متعينا لجيل سابق، ووعى مجرب، يجده فى المتناول بحيث يمكنه أن يستمع إليه (الأستاذ يستمع للطالب) جنبا إلى جنب مع ما يلقيه عليه (الأستاذ يلقى على الطالب) ؟ الإجابة سلبية على معظم هذه الأسئلة .
ثانيا: الأخلاق والإتقان
أصبحت قيمة الإتقان لدينا قيمة ثانوية، هذا إن وجدت أصلا، بل إنها كادت تصبح قيمة مستهجنة علانية، ولا تستثنى من ذلك الحياة الجامعية.
بل إنها (قيمة الاتقان) لكذلك (ثانوية ومستهجنة) بصفة خاصة فى الجامعة أكثرمن أى موقع آخر.
كان الاتقان (والمفروض أنه ما زال) قيمة دينية أساسية. ثم أضحى الإتقان قيمة علمية عصرية متحدية ، تتجلى فى حسابات رحلات الفضاء، وتكنولوجيا التواصل، وعلوم الشواش والتركيبية.، والمقاييس المتناهية فى الصغر. (حتى رصد التفاعل الكيميائى بالفيمتو ثانية . زويل).
هذا وذاك لهما تجلياتهما العملية التى يمكن أن تقاس فى الفعل اليومي. القيمة الخلقية لا تثبت أو تنفى بكثرة أو قلة الحديث عنها، بل بظهورها ماثلة وهى تـمارس.
من الناحية الدينية لا يكتفى بذكر فضل الإتقان بأن “الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه”، فى خطبة جمعة أو نصيحة موقوفة عن التنفيذ. وإنما يتأكد حين يصبح التفسير المباشر لمعنى “الإحسان” الذى ورد فى الحديث الذى وضع الإحسان فى مرتبة أعلى من الإسلام والإيمان.
ومن الناحية العلمية لا يكفى أن يكون البحث مليئا بالجداول والأرقام ومعادلات الإحصاء بديلا عن الجدية المطلقة فى الانتقاء، ورصد الملاحظات، بناء عن فرض محكم (أنظر بعد).
إن قيمة الإتقان قد تدهورت لدرجة قصوى فى كل مجال، بلا استثناء حتى شمل التدهور البحث العمل ى، الجامعة. بل إن الأمر تمادى إلى الاتجاه العكسى حتى أصبح عدم الإتقان يوصف بأنه صفة محمودة لأنه يندرج تحت قيم جديدة أصبحت تعنى سلبيات اتفق الوعى الجديد على تقريظها.
من ذلك: أنك إذا لم تتقن عملك، أو لغتك، أو بحثك فإنك تعد”طيبا”، ممن يسهل الأمور، من حيث أن من سهل سهل الله عليه. فى المقابل، فأنت لو أصررت على الإتقان، وفرضته على نفسك، وحاسبت غيرك بمقاييسه، فإنك توصف بأنك “كشري”، أو “محبكها”، أو محبظها”..إلخ.
حل محل قيم الدقة والإتقان قيم أساسية أخرى تجدها ليس فقط فى التعبير القديم الخالد المتجدد: “معلش”، وإنما هو يتأكد فى اللغة الجديدة (البيئة) فى تعبيرات مثل: “أى كلام”، “كله محصل بعضه”، “وكله على كله”، و”ما تفرقشي”..”كله ماشي”..إلخ.
تظهر دلالة هذا “العكس القـيمى على روح الجامعة بشكل مباشر، مما يتجلى فى:
(ا) الاستهانة بدقة نقل المعلومة. معظم مراجعة الأدبيات تتم من خلال موجزات الأبحاث وليس الأبحاث الأصلية. ثم أصبح الحصول على موجز الأبحاث من الإنترنت مصدرا آخر للاختزال وادعاء الاطلاع الموسوعى بغير وجه حق.
(ب)الاستهانة بتحديد التفاصيل فى سياق يستلزم ضرورتها.
(جـ)الاستهانة بتحديد نص المقتطف من متن الكاتب أو الباحث (لاحظ اختفاء علامات التنصيص فى أى بحث علمى للدلالة على نص ما اقتطف.
ثالثا: الأخلاق والتفكير السليم
يمكن تقييم سلامة التفكير بسلامة آلياته لتحقيق أغراضه، كما يمكن أن يتم تقييمه بنتائجه وغاياته. إن علاقة التفكير السليم بالأخلاق يرتبط بالبعد الأول دون الثانى. لا شك أن التفكير المنظم يمكن أن يحبك إتمام جريمة محكمة، لكننا فى هذه الحال إنما نحكم – أخلاقيا- على الناتج وليس على عملية التفكير ذاتها. إن ثمة بعدا أخلاقيا يمكن رصده فى عملية التفكير ذاتها*، قبل الوصول إلى مرحلة تقييم ما تحقق.
إن “تفكيك التفكير”و”غياب الغائية “عن عملية التفكير يؤديان إلى اختفاء الفكرة الضامة المحورية، وبالتالى إلى غموض المعرفة التى تميز الخير من الشر، والضرر من النفع.
إن هذا النوع من التفكير الغامض الفاقد للغائية هو وارد فى الشخص العاد ى، وهو يتزايد باضطراد فى مجتمعاتنا، دون استثناء مجتمع الجامعة، بل إن أى مصحح -جاد- لأوراق طلبة الجامعة، لا بد أن يكتشف غلبة هذا النوع من فقد الترابط حتى التفسخ الفكرى، الأمر الذى يجعل بعض المصححين المجتهدين يقومون هم أنفسهم -أثناء التصحيح – بإعادة تركيب الفكرة، بحثا عما يقصده الطالب حتى يمكن تقييم إجابته (هذا إذا كان الأستاذ المصحح لم يصب بنفس الدرجة من تفسخ التفكير).
وتقوم هذه الحيلة الدفاعية (تفكيك التفكير) بدور غير أخلاقى من حيث إسهامها فى كل من:
(ا) تمييع المسئولية .
(ب) إلغاء الالتزام بالوصول للهدف .
(جـ) إلغاء الآخر أو الاستهانة بدقة التوصيل له.
ويرتبط بهذه القيمة استهانتنا (فى الجامعة وغيرها) بكل من:
(ا) المنطق السليم،
(ب) الحس العام،
وكذلك بكل من:
(جـ) التفكيرالنقدى
(ء) الوعى الموضوعي.
قبل أن نشرح العلاقة بين الافتقار إلى المنطق السليم، وإغفال الحس العام وبين تدهور القيمة الأخلاقية، نؤكد أن المقصود بالمنطق السليم هنا هو أوضح أنواع المعاملات البسيطة والبديهية مثل: أن “الخير أبقى“، أو أن “بذل الجهد لابد أن يعود بفائدة”أو”أن الله لايرضى عن الشر والشرير”،أو”إننا سنموت إن آجلا أو عاجلا”.
لا نعنى بالمنطق السليم الاستسلام لحكم عشوائى شاع بين الناس، أو عقيدة مشهورة تربط بين الأحداث،
كذلك لا نقصد بالحس العام -كقيمة أخلاقية- أن يكون مرادفا للفكر الشائع بين عامة الناس (بغض النظر عن موضوعيته)، أو للإشاعة السائرة، أو للأغـلبية العابرة. إنما نقصد بالحس العام ما يتفق وبديهيات خير البشر، مثل “علانية الاتفاق“، أو “مسئولية الفاعل عن فعله أيا كان“، أو” فضل إزاحة الأذى عن الطريق” أو ضرورة تسهيل وتقديم تحقيق حاجة الأضعف (الطفل أو الكهل أو المعاق) قبل القادر.
لأسباب متعددة، ضعـفت علاقة الفرد المصرى بمثل بديهيات هذا المنطق السليم لدرجة تدعو للدهشة.
إننا نلاحظ أن بعض الأطفال يهتدون تلقائيا إلى مسايرة المنطق السليم واحترام الحس العام (بالمعنى الإيجابى)، ثم مع مرور الزمن، نفاجأ أن هذا الموقف يضعف رويدا رويدا مع التقدم فى السن. إن النضج أصبح مرادفا للتخلى عن أبسط قواعد المنطق السليم والحس العام. إن تعبير “كبر عقلك”، هو من أذكى التعبيرات الحديثة التى تربط الكبر بالتخلى عن المباشرة الفطرية النقية.
وبما أن الأخلاق فى غالبية الأقوال هى كشف عن الفطرة المتسقة، وتأكيد على تنمية الأصلح والأنفع، والأكثر اتساقا، فإن ذلك يرجع الحكم عليه- بشكل أوبآخر- إلى نقاء وصحة الحس العام والمنطق السليم، ومن هنا، ومع التحفظات اللازمة، وجب الانتباه إلى قوة ودلالة ما يسمى الرأى العام*.
رابعا: الأخلاق والحرية
يطول الحديث عن الأخلاق والحرية، فكلاهما صعب التعريف، حسن السمعة، مقول بالتشكك فى إمكانية حسن استعماله. إن الفحص الأعمق لكل من الأخلاق والحرية يظهر خطورة الاستسلام للإيحاء المبدئى بإمكانية توافرهما بالقدر المطمئن للتأكيد على إنسانية الإنسان.
قفزا فوق إشكالة تعريف الحرية نتساءل:
هل يمكن أن يكون الإنسان على خلق، إن لم يكن له حق الاختيار بين ما هو أخلاقى وما هو غير أخلاقى؟
إن المسألة معقدة. يبدو أن المجتمع (والسلطة والتاريخ) يمارس نوعا من الإلزام الأخلاقى الضرورى فى المراحل الأولى من النمو حيث يمكن فى هذه المراحل أن نصـف المجتمع ككل بأنه أخلاقى أو غير ذلك، ويرجع الفضل فى الالتزام الفردى بالأخلاق -فى هذه المرحلة البادئة- إلى دور المجتمع ومدى تماسكه وقدرته على توصيل الالتزام الصالح للمجتمع أساسا إلى عدد من أفراده.
ثم إنه باستمرار الحوار بين الفرد وبين مجتمعه، وكذلك بين الثابت والمتحرك، تنتقل المسئولية الأخلاقية تدريجيا للفرد تناسبا مع ما يكتسب من حرية حقيقية تسمح له بمواجهة قيم مجتمعه المفروضة، إما بتجاوزها أو بالارتقاء عنها أو بالارتقاء بها.
وبصفة عامة، فكلما قلت درجة وأصالة الحرية الحقيقية المتاحة للأفراد زادت مسئولية المؤسسة القامعة للحرية لتصبح هى المسؤولة، دون الفرد، عن أخلاق الناس. وكلمازادت فرص الفرد فى الحرية زادت مسئوليته فى اختيار موقفه.
تطبيقا لهذا المنطق فى مجتمع الجامعة -مثلا – يمكن أن نعزو الأزمة الأخلاقية إلى غياب هيبة ودور المؤسسة أكثر من أن نرجعـها إلى تسيب الأفراد ما دامت الحرية الحقيقية مفتقدة بشكل أو بآخر، ولنا أن نتوقع أنه بزيادة الحرية الحقيقية سوف تزداد المسئولية والالتزام بقيم خلقية (أخرى) أرقى وأنقي.
إن ممارسة الحرية الحقيقة يمكن أن تعتبر -بحذر شديد- أعلى مراتب الأخلاق.
إنه بقدر ما يتمتع الإنسان الناضج بهذا النوع من الحرية يمكن أن يستغنى عن كثير من القوانين التى تفرض عليه الأخلاق من خارجه، لأنه – من موقعه الحر- يمكن أن يختار ويعيد اختيار ما يتفق مع فطرته السليمة دون وصاية خارجية أو خوف ملاحق. هذا مدخل خطر وصعب، ومع ذلك فليس الحل أن نستبدله تماما ببعض القوانين المكتوبة ، والمواثيق المعلنة، ثم نطمئن إلى أننا أحرار وعلى خلق، لمجرد أننا نخاف العقاب، أو التجريس، إذا حدنا عن الحروف المكتوبة أو القواعد المعلنة.
خامسا: الأخلاق والبحث العلمى
على الرغم من أن الجامعة تعتبر مكانا تعليميا فى المقام الأول، إلا أن نظام الترقى لأعضاء هيئة التدريس، وكذا ضرورة ملاحقة التحديث اللاهث لمعطيات العلم، جعل البحث العلمى كقيمة (فاسدة أو صحيحة) يحتل مقاما أساسيا فى شعور، و”لا شعور” أفراد هيئة التدريس أساسا، يشاركهم فى ذلك (على قدم وساق، دارسو الدراسات العليا)، وفى رأيى أن السلبيات التى أحاطت بمسألة البحث العلمى ظاهرا وباطنا قد بلغت درجة أثرت على منظومة القيم الأخلاقية لهيئة التدريس والمعيدين والمدرسين المساعدين، الأمر الذى انعكس سلبيا -بالضرورة – على جو المؤسسة ككل، ووصل بطريق مباشر أو غير مباشر إلى وعى (و”لاوعي” الطلبة).
لست فى موقف يسمح لى أن أذكر تفاصيل أو أن أعدد أحداثا أو أن أقدم أمثلة، إلا أننى سوف أشير إلى بعض الافتراضات من واقع الممارسة، دون تعميم:
(ا) إن إرغام أغلب رجال الجامعة على القيام ببحث علمى سواء كان رجل الجامعة راغبا فى ذلك أم لا، قادرا عليه أم لا، يضطره فى كثير من الأحيان إلى تجاوزات غير أخلاقية (كثيرا ما ينكرها حتى لا يدرك أنها كذلك!!!) وإن هذا يخل من تركيبه المتزن، وبالتالى يخل من منظومته القيمية، مما يصل دون ألفاظ أو إعلان إلى طلبته، وإلى الزملاء الأصغر…وربما أهل بيته !
(ب) إن مثل هذا المضطر الذى تنازل عن منظومته القيمية (دون أن يدرى عادة)، تتكون عنده ما يشبه النقطة السوداء، وهو ما يعنى أنه “لكى لا يرى تجاوزاته هو، يضطر ألا يرى تجاوزات طلبته أو الدارسين معه”، بل إنه فى بعض الأحيان يفضل أن يراهم وهم (أو يدفعهم إلى أن) يحذوا حذوه حتى يصير الأمر (لا شعوريا أيضا فى أغلب الأحيان) بمثابة أنه “لا أحد أحسن من أحد“، فتتمادى موجة من اللاأخلاق بلا توقف، ولسان حاله يقول “إن تجاوزاتى التى اضطررت إليها (هكذا يزعم) هى القاعدة“. المصيبة الأكبر أن هذه التجاوزات تتسحب تدريجيا إلى الشعور بعد أن كانت تتم كآليات دفاعية من خلف الوع ى، ثم أصبحت تجد مبررات “عملية!!”، ثم أصبحت هى القاعدة التى يتبعها الشطار من الباحثين. ثم أصبح عدم اتباعها مأخذا يلام عليه من قصر فيه ويتهم بالخيبة، أو يصف بالحنبلة .
(جـ) الاستعمالات غيرالأخلاقية للإحصاء أصبحت فى حد ذاتها مجالا لنوع معين من البحث فى البحث، أو البحث الناقد، أو ما يسمى “التحليل البعدى Meta-analysis . وقد أثبتت هذه الأبحاث فى هذا المجال أن كثيرا من المعاملات الإحصائية ترتب بحيث تخرج نتائجها بما يحدده الباحث ويريده، وليس بالتنيوعات الممكنة والموضوعية . وهكذا تفتح أدق أدوات التعامل مع المعلومات بابا واسعا لأقذر أنواع التلاعب بالمعلومات.
(ء) إن ادعاء عدم التحيز، والمبالغة فى إلغاء الدور الشخصى للباحث، تحت زعم الحرص على موضوعية مستحيلة، قد جعل هذا الدور الشخصى يعمل بطريقة غير معلنة، حيث يتم انتقاء المنهج، أو الأداة، أو المعادلة الإحصائية (كما ذكرنا)، بشكل متحيز تماما على الرغم من إعلان الشخص لنفسه أنه يعمل تحت لافتة لامعة تدعى الموضوعية لمجرد أنه يرصد نتائج الأداة التى نسى أنه هو الذى اختارها “شخصيا”.
(هـ) إن الاقتصار على مناهج بحث اختزالية مميكنة تقلل من فرص الإبداع، والحرية، وبالتالى تـقلل من فرص الارتقاء بالأخلاق من مستوى الإلزام إلى مستوى الحرية الحقيقية (أو من أخلاق السكون إلى أخلاق الحركة ، بلغة بيرجسون)
(و) إن ما وصفناه بالإتقان الزائف يتجلى أكثر ما يتجلى فى مجال البحث العلمى من حيث استعمال المختصرات بديلا عن الأوراق (الأبحاث) الكاملة، وكذلك سهولة تزييف استعمال التسهيلات التقنية الأحدث لمراجعة أدبيات التراث (كما أشرنا). كل هذا يظهر الباحث المتعجل فى مظهر موسوعى كاذب. إن هذا الموقف “اللا أخلاقي” أصبح محل فخر الكثيرين.
(ز) إن تمويل البحث العلمى المشبوه (سواء على المستوى الشعورى أو اللاشعوري)، هو باب واسع ليس فقط للشك فى هدف ومصداقية نتائج الأبحاث الممولة، وإنما لتخريب الوعى وتلويث المنظومة القيمية للباحثين صغارا، وكبارا، بعلمهم أو بدون علمهم.
الأخلاق الفاسدة تكون أخطر إذا كانت لا شعورية،
وتكون أوقح إذا تمت ببجاحة واعية.
….. والنشر العلمى:
الأصل فى النشر العلمى أنه نتاج جانب ى، ضرور ى، يهدف لحفظ حق الباحث من ناحية ولإتاحة فرص التواصل والتبادل من ناحية أخر ى، لكنه رويدا رويدا كاد يصبح هدفا فى ذاته، وفى الدول النامية الفقيرة يحل النشر العلمى محل البحث العلمى من الأساس، وبالتالى تتضائل قيمة المعرفة العلمية كفضيلة وغاية محورية غائرة فى وجود المشتغلين بالبحث العلمى، وأيضا تتم الأبحاث ليس استجابة لحيرة معرفية مبدعة، ولا لحاجة مجتمعية عملية، وإنما لمطلب “نشري” “ذاتى”، أو للوفاء بشروط تمويلية مغتربة، ويا ليت الأمر يقتصر على هذا المجال، لأن هذا الموقف الاغترابى، والتسطيحى، الذى أحل الوسيلة محل الغاية، والذى جعل الوسيلة (النشر) هى غاية فى ذاتها، لا يتوقف تأثيره على مجال البحث العلمى وإنما يمتد -رويدا رويدا داخل نفس الباحث – حتى يصبح وجوده شخصيا مقلوبا. بمعنى أنه لا يسعى إلى نشر ما وصل إليه فى بحثه، لكنه يبحث، فيما يمكن نشره.
هل من حلول ؟
المسألة ليست فى اقتراحات حلول. إذا كان الانهيار الأخلاقى هو علامة على ما وراءه، وإذا كنا من الشجاعة بحيث نعتبره نذيرا لما بعده، فإن القضية تصبح أشمل وأعم، وربما يصبح الحل الجزئى مضيعة للوقت، أو تأجيلا للمواجهة ، أو خداعا للنفس. لا يحتاج الأمر أن أنبه أن الحل ليس فى عقد مؤتمر أو مناقشة فى ندوة. ولا هو فى كتابة مقال (مثل هذا المقال )، أو فتح ملف (مثل هذا الملف) أو وضع مناقشة فى كتاب أيا كان انتشار هذا الكتاب. ومع ذلك فكل هذا لازم للاسترشاد والتنبيه، لا أكثر.
الأخطر خداعا هو أن نضع ميثاقا أو نبتدع قسما بليغا (مثل قسم أبوقراط مثلا). لا يخفى على أحد أن أكثر المصائب التى حدثت وتحدث فى كليات الطب تتذرع بقسم أبو قراط الذى أوصى التلميذ أن يرد دينه لأستاذه بأن يعلم أبناءه (أبناء الأستاذ ) ما تعلم منه، ويضيف إليه. إن هذه الجزئية من القسم انقلبت لتصبح إلى تبريرا للمحاباة والتزوير.
فيما يلى بعض ما خطر لى من خطوط عريضة فى اتجاه الحل، ألقيها فى بحر وعى الناس، والسلطات، فإن لم تجد طريقا إلى التنفيذ الآن، فقد علمنا الوعى الشعبى ، أن نتركها فى بحر الزمن، وسوف يلتقطها أهلها ولو بعد حين.
(1) لا مفر من أن يبدأ الإصلاح من المجتمع الأوسع، حتى ولو بدا الطريق طويلا، فليبدأ كل فى موقعه، ولكن ليكن تطلعنا فى النهاية هو أن نصب فى المجتمع الأوسع لنغيره، فيحمينا .
(2) وحتى لا يبدو بند (1) مهربا تأجيليا، دعونا نعلن بداية أقل عمومية، لكنها أوسع أفقا، ولتكن من التربية والتعليم، ذلك أننى لا أرى حلا لمشكلة الأخلاق الجامعية والروح الجامعية منفصلا عن الأخلاق الثانوية والأخلاق الابتدائية والأخلاق الإعدادية (!!!)
(3) إذن: يكون التركيز على مدرس الابتدائي،(حتى ونحن نعرف أن أخلاقه الحالية ما هى إلا نتاج هذه الأزمة التى نصفها بكذا وكيت!!)، نعطيه عشرة أضعاف مرتبه، ونشترط عليه أن يشترك فى النشاطات(اليدوية والبدنية خاصة) مع طلبته خارج الفصل، وأن …وأن ……إلخ
(4) تجرم (حتى السجن وليس فقط “الفصل”) كل صور الغش، أعنى كل صور الغش على كافة المستويات !! مع مضاعفة العقوبة على الغش الجماع ى، والغش المدعوم بالسلطات ، أعنى: المدرس والمراقب، وأيضا تجرم السلطات التى توصى بالتساهل للسماح بالغش لتحسين النتائج .
ماذا ننتظر من طفل نشأ وأهله يتفاخرون بنجاحهم فى تغشيشه، بالذوق أو بالعافية، تأكيدا لمكانتهم الاجتماعية.
(جاءنى طالب – من الصعيد – فى الثالثة عشرة من عمره، تخلف فى مادتين فى السنة الثانية إعداد ى، وهو لا يشكو من إحباط نتيجة لرسوبه، لكنه يشكو من أن أهله أقل تأثيرا على الكنترول من أهل زميله الذى نجح فى كل المواد ، بما يدل على مكانة أهل هذا الزميل الأعل ى، فراحت الأم (الصعيدية الطيب المحجبة) تبرئ نفسها بأن تقسم – أمام ابنها، ولابنها- أنها عملت هى ووالد الطالب كل الاتصالات اللازمة، وأنهم ليسوا أقل من أهل زميله. وأنهم غيروا درجاته فى “الكنترول” فى أربع مواد على الأقل، والطالب يحتج أنه ” إشمعنى فلان غيروا كل درجات مواده” ؟ أخذت أتفرج على المنظر، وأنتظر أى حسرة على الجهد الذى بذله الطالب مثلا فى الاستذكار، أو حتى على النقود التى دفعتها الأم فى الدروس الخصوصية، ولم أجد أيا من ذاك. كل المشكلة كانت فى المقارنة بين مكانة العائلتين!!)
(5) تزاد جرعة الدين الممارسة، والدين المعاملة، والدين الإبداع، جنبا إلى جنب مع التعليمات التقليدية للعبادات، مع التأكيد على أن هذه النشاطات العباداتية الإيمانية لابد أن تصب فى السلوك اليوم ى، وأن الدين والتدين إنما يظهران فى الفعل اليومى جنبا إلى جنب مع العبادات، وهل يوجد منكر أكبر من تعديل قيمة الغش الذى يطرد
(ملحوظة شخصية (من العيادة، قد لا تكون قابلة للتعميم)
إن أعلى معدلات الغش التى لاحظتها بين التلاميذ والطلبة المترددين على بالعيادة هى فى ابتدائى وثانوى الأزهر بوجه خاص، وبموافقة أو تشجيع بعض المدرسين الذين يبررون ذلك أحيانا بأنهم حريصون أن يكون مستوى طلبة الأزهر أعلى من مستوى المدارس المدنية!!!)
(6) يعاد النظر فى منظومات القيم التقليدية (أنظرفقرة: الأخلاق قيم متجددة) مع التأكيد على الترويج لمنظومات قيم أخلاقية إيجابية مستحدثة تناسب العصر، يتم ذلك فى التعليم، والإعلام، والممارسة، بما فى ذلك إعادة استلهام النصوص المقدسة (أنظر المقال التالى ص 48 إلى ص 50).
(7) تؤخذ فى الاعتبار قيمة الإتقان لذاتها فى كل مجال دون استثناء باعتبارها قابلة للقياس من جهة، وأنها أساس الارتكاز من جهة أخري.
أبسط المداخل إلى ذلك الاهتمام بإتقان اللغة (العامية، والعربية، والتقنية -الكمبيوتر والإنترنت- وما تيسر من لغات أجنبية)، ولا مانع من أن تشمل تحسين الخط، والاعتناء بالهوامش (مثلا) . يبدأ ذلك من البداية ويحاسب عليه الطفل بعد أن يتدرب عليه بشكل جوهرى منفصل عن المحتوى .
يمكن-مثلا- تخصيص درجة مستقلة فى التصحيح للشكل يضاف إلى درجة المضمون.
(8) تجنب إغراءآت (أواضطرارات) التحايل مثلا ، فى الجامعة يمكن مراجعة نظام الترقى بأن تتناسب الوسيلة مع غرضها كالتالي:
(ا) يخير عضو هيئة التدريس بالجامعة بين مسيرة الترقى عن طريق البحث العلم ى، أوعن طريق تقييم المهارة التعليمية، بمحكات محددة أورد منها بعض الأمثلة:
(i) نتائج طلبته مقيمة موضوعيا دون تدخل منه.
(ii) استفتاءات طلبته ورأيهم فى أدائه .
(iii) تقييم دورى لمهاراته التعليمية والتدريبية بواسطة محكمين عدول
(vi) اقتراحاته وممارساته المجددة فى طرق التدريس
قد يكون مناسبا أن يستمر نظام آخر للترقى عن طريق البحث العلم ى، لكن لا بد أن يكون له مسار مواز ودرجات متقابلة لأستاذية التعليم مقابل أستاذية البحث..إلخ.
(ب) يلتزم الأستاذ الجامعى بممارسة نشاط جامعى مع طلبته خارج الجامعة، مثلا: بالإشتراك المباشر فى عمل جماعى مع الطلبة خارج المدرج أو خارج الجامعة.
الهوامش
*الاختلاف حول ماهية الأخلاق وطبيعتها قديم متجدد، أورد هنا بعض ما بلغنى حوله مما طمأننى إلى مشروعية حيرتى:
(1) الأخلاق فعل حى، والوحى يتجلى فى السيرة الذاتية: شاع عن أم المؤمنين عائشة أنها قالت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم”كان خلقه القرآن.
(2) الأخلاق معرفة هادفة:يقول أرسطو: إن المهمة الحقيقية لداعية الأخلاق فى عصر غير مستقر (مثل عصره وربما مثل عصرنا) هى: الترويج للسلوك الحسن باكتشاف وتفسير الهدف الذى تستهدفه الأشياء كما يقول والتر ليبمان:”….فالخير كما قال داعية الأخلاق الإغريقى هو: “ذلك الذى تستهدفه جميع الأشياء”
(3) الأخلاق اتساق المستويات متوجهة نحو الكمال: يبدو الكون لأرسطو: (بمثله الأعلى الثلاثى: القياس/العقل/ الجمال) كمستويات من الواقع ينتظمها تسلسل عظيم الاتساع تبطنه وتوجهه وتمتصه حركة جامعة نحو الكمال.
(4) الأخلاق المغلقة (الدفاعية) والأخلاق المتفتحة (الفاعلة): يقسم برجسون: الأخلاق إلى: مغلقة/ أخلاق السكون (وهى ليست سوى ضغط اجتماعى بسيط أو مجموعة من القواعد الخارجة عن الفرد والهادفة إلى تأمين توازن وضغط بقاء الجماعة) ومنفتحة/أخلاق الحركة (وهى أخلاق قائمة على الفاعلية تتجسد فى شكل اختراعات أخلاقية تدفع الإنسانية قدما إلى الأمام )
(5) من العبث إصدار أحكام أخلاقية،والمطلوب هو اختيار النشاط الحيوى بوجهه الصحيح: يقول: والتر ليبمان “…. حين تكون العادات غير ثابتة كما هى فى العالم الحديث بسبب التغير المستمر فى ظروف الحياة، … فإنه من العبث إصدار أحكام أخلاقية لأنه ليس لأحد فى الواقع سلطة إصدار الأوامر” ثم يضيف “…. فى عصر كهذا ليست مهمة داعية الأخلاق حث الناس على أن يكونوا صالحين بل تبيان ماهية الصالح، …ثم يوضح أن سبيل السلوك التى يدعو إليها (داعية الأخلاق) ليست نمطا جاهزا ينبغى أن يتحكم فى النشاط الحيو ى، بل هو ما يختاره النشاط الحيوى فيما يجرى لفهمه على وجهه الصحيح”
(6) الأخلاق منفعة الناس، والخير نشاط حيوى منتصر ا-:”أما ما ينفع الناس فيمكث فى الأرض ” (ومع ذلك فما أصعب تعريف وتقييم نفع الناس)
ب-(والتر ليبمان: ثالث مرة) إنه ينبغى أن يكون (داعية الأخلاق) قادرا على أن يكتشف أن الخير نشاط حيوى منتصر، وأن الشر نشاط منهزم.
(7) الأخلاق: تناسق بين المعقول والمقبول والمعلن [فيما يشاع أنه حديث شريف ،أو هو قول حسن أنه]: البر ما اطمأن إليه القلب ووافق عليه العقل وأقره الناس، والإثم هو ماحاك فى الصدر، ولم يقره العقل، وخشيت أن يطلع عليه الناس (من البديهى أن كلمات:العقل، والقلب، والناس تحتاج إلى تعريف إجرائى حذر)
* هذه النقطة تحتاج إلى شرح هذا التداخل بين سلامة الوظيفة العقلية، وبين الالتزام الأخلاقي. إن المسألة نابعة من فكرة تقييم سلامة الوظيفة ليس فقط بكفاءة آلياتها، وإنما بمدى اتساقها مع دوائر التوازن (الهارمونى) الممتدة. هذا يعنى أن كفاءة وظيفة ما يمكن أن تعتبر موضع شك إذا هى انغلقت دون امتداد إلى غايتها سواء كانت هذه الغاية هى “الآخر”، أم هى الاتساق مع الكون الأعظم.
إن ما تحتاجه هذه الفكرة من توضيح لا يمكن الوفاء به هنا. لكن يكفى أن نذكر بأن ما تقدمه هذه الأطروحة هو خطوط عامة تحتاج إلى عودة وتوضيح وتفصيل ليس هذا مجالهما.
* (شريطة ألا يكون متوجها تحت تأثير إعلام مزيف (مثل: الإعلام الصهيونى عالميا، وبالذات كما تعرى أثناء الانتفاضة حتى الآن يونيو 2001).
أو أن يكون رازحا تحت نير سلطة مغرضة (مثل: حكم العامة على الحلاج).
أو أن يكون المجتمع بأسره يمر بمرحلة تدهور عام يتحلل فيه المنطق الأعلى ليحل محله منطق بدائى متخلف شائع بما يتناسب مع التدهور الجارى على كل المستويات.