الافتتاحية II
الأخلاق بين الضرورة الاجتماعية والنزعة الإنسانية
فريد زهران
كنت قد بدأت فى العدد الماضى من الإنسان والتطور محاولة طموحة لمناقشة الأخلاق بين مذاهب الانحطاط وسقف الضروة الاجتماعية, واستعرضنا فى هذه المحاولة آراء الاتجاهين الأساسيين اللذين قدما إسهامات فكرية فى النظر إلى الأخلاق, وهما الحدسيين والتجريبيين, وأوضحنا أن الحدسيين قد اعتبروا أن علم الأخلاق معيارى ويسعى إلى وضع مثل عليا للسلوك الإنسانى، بينما دخل التجريبيون بالأخلاق إلى رحاب علم النفس والأنثربولوجيا ورفضوا رؤية الأخلاق كعلم معيارى استنباطى واتجهوا إلى اعتماد منهاج استقرائى قد تقدم مذاهبه رؤى تصلح لحدود زمانية ومكانية معينة لكنها لا تزعم لنفسها القدرة على صياغة أنساق معيارية-أو مثل مطلقة -تصلح لكل زمان ومكان, ولاحظنا من خلال ما تقدم أربع ملاحظات:
الملاحظة الأولى: إن علم الأخلاق نفسه قد بدأ رحلة احتضاره فى نفس اللحظة التى تخلى فيها عن وضع مثل عليا مطلقة للسلوك الإنسانى، عندما بدأ البشر تحديدا يردون المثل العليا إلى التجربة الإنسانية, واعتبروا أن تحديد ما إذا كان هذا السلوك الإنسانى خيرا أو شرا هو أمر مرتبط بما يمكن أن يترتب على هذا السلوك من نفع أو ضرر, ولأن هذا النفع أو ذاك الضرر هما أمران نسبيان فإن الناس اتجهت إلى رد هذه النسبية إلى أصولها, أى إلى المجتمع نفسه, وازدادت بالتالى .وتوثقت العلاقة بين الأخلاق وبين علوم الاجتماع والنفس والأنثربولوجيا وباعدت الأيام بينه وبين الفلسفة, وتخلى الفلاسفة والمفكرين – أو بالأحرى معظمهم – عن وضع مثل أعلى أخلاقي.
الملاحظة الثانية: إن أغلب المصريين الآن أسرى الرؤية الحدسية ويعتمدون – كمثل أعلي- نوعا من النسق القيمى الأخلاقى الدينى الذى يعتبر الخير خيرا لأن الله – أو النص – قد أمر به, ومن ثم فإن ما يفتى به الناطق باسم النص – لأن النص لا ينطق بالأصالة عن نفسه – يصبح هو المعيار المقدس للأخلاق, وقد اتضح لنا – فى ظل ما نعيش من تردى أخلاقى لا تخطئه العين – أن هذا المقدس الأخلاقى الذى يتأرجح حسب الحال والأحوال يتطابق فى ملامحه وسماته العامة مع أكثر المذاهب انحطاطا, مذهب الطاقة الأنانى الذى يرفع شعار ‘أنا ومن بعدى الطوفان’, وهذه الأنا فى طبعتها العلمانية تجعل من اللذة – المبنية على الاستهلاك والتشيؤ – هى غايتها الكبرى تأكيدا على اغتراب الإنسان الذى يزداد مع وحشة وخواء الفردية الذى يزداد بدوره فى ظل تجريم وتحريم العمل الجماعى منذ نصف قرن.
الملاحظة الثالثة: انتهينا بخصوص مصر إلى أن الخروج من دوامة الانحطاط الأخلاقى لن ينجح بدون تأكيد انتماء الإنسان المصرى الاجتماعى، وهو التأييد الذى يحتاج إلى إعادة إحياء كافة البنى الاجتماعية المذبوحة على عتبات الاستبداد من نقابات وأحزاب وجمعيات.. الخ, ذلك أن صحوة الأخلاق تبدأ من إعادة الاعتبار للعمل الاجتماعى الجماعي.
الملاحظة الرابعة: إن الغرب يعيش تناقضا واضحا بين معايير الضرورة الاجتماعية والنزعة الغيرية – وما تفرضه من ملامح إيجابية – وبين النزعة الفردية والبحث عن اللذة وما يرسمه ذلك من ملامح سلبية.
وكنت قد وعدت بمواصلة الحديث فى الموضوع حول ما إذا كان من الممكن أن نطرح مثلا عليا أخلاقية فى هذه اللحظة أم لا انطلاقا من أرض عقلانية وتجريبية, ولكن ضيق ذات الوقت بسبب أحداث الانتفاضة وما فرضته من واجب الدعم والمساندة لم يمكننا من تقديم ما ننشده من جهد, ومع ذلك فإننا سنحاول هنا تقديم مساهمة محدودة فى اتجاه إثارة نقاش واسع فى هذا الموضوع كخطوة أرجو أن تتلوها خطوات أخرى بإذن الله.
ودعونا نبدأ هنا من النقطة التى انتهينا إليها العدد الماضى، ونعنى بذلك التناقض القائم بين مبدأ الضرورة الاجتماعية, ومبدأ اللذة, وبالذات فى المجتمعات الغربية التى تتميز بأوضاع أخلاقية أفضل مما نعيش وتدين بذلك إلى ما يفرضه مبدأ الضرورة الاجتماعية الغيرى من نتائج وتداعيات إيجابية, لكن دعونا نذهب إلى أن سقف الضرورة الاجتماعية ذاته لم يعد هو غاية ما يمكننا أن نطمح إليه, ذلك أنه منذ اكتشف ماركس – منذ ما يزيد عن 150 سنة فى المانفستو – كيف أن الرأسمالية ظاهرة عالمية تسعى من خلال آليات السوق إلى توحيد العالم, ومنذ قدم البشر فى خضم الثورات – التى بدأت بالثورة الفرنسية – أول مشروعات إنسانية لا تبنى على أساس إرثى عرقى أو دينى أو مذهبى، منذ ذلك الوقت تنامى ما يعرف بالنزعة الإنسانية حتى أصبح من حقنا الآن أن نعلن أن الأخلاق ينبغى أن تتجاوز الضرورة الاجتماعية إلى الضرورة الإنسانية, ولعل ذلك وحده هو ما يمكن أن يفسر كيف رفع المتظاهرون الإنجليز والفرنسيون ضد العولمة – أو بالأحرى الأمركة – فى أول مايو شعارات تطالب بإلغاء ديون العالم الثالث, ولو كانت دوافع مثل هؤلاء المتظاهرين الأخلاقية مجرد دوافع محكومة بسقف الضرورة الاجتماعية لعالمهم الغربى المرفه لما كان لهم أن يرفعوا مثل هذا الشعار أو غيره, إن تحررهم من هذا السقف وقدرتهم على تجاوزه إلى آفاق الضرورة الإنسانية هو الذى ساعدهم على مثل هذا التجاوز, وينبغى أن نشدد وبوضوح على أن سقف الضرورة الاجتماعية الذى نشيد هنا بتجاوزه من قبل البعض فى الغرب هو سقف أرقى بكثير من انحطاط الأخلاق المقدسة المفروضة بقراءات المشايخ وأمراء الذبح للنصوص والمفروضة علينا هنا.
إن آفاق الضرورة الإنسانية التى تطرحها الطلائع المثقفة والمستنيرة فى الغرب – على قلتها ومحدودية تأثيرها الآن -إنما تبشر- ومنذ فترة تاريخية طويلة – بأنساق ومثل أخلاقية يتجاوز فيها الإنسان مصالح وضوابط ومعايير عالم ضيق إلى آفاق مصالح وضوابط ومعايير أكثر عمقا وارتباطا بمستقبل الإنسان بصرف النظر عن لونه أو جنسه أو عقيدته, ويقينا فإن هذا الفهم للأخلاق – والشيء بالشئ يذكر – يتناقض كلية مع الفهم المحدود الذى ينتقد مشروعات الغرب الإنسانية لأنها تتضمن بعض الملامح العنصرية (الدينية أو العرقية) لكى ينتهى من ذلك – كما فعل د. عبد الوهاب المسيرى فى كاتبه ‘العالم من منظور غربي’ – إلى تقديم بديل إرثى عقائدى عنصرى يبدأ من الإسلام والمسلمين.
فى سياق التأكيد على النزعة الإنسانية الأخلاقية يجدر بنا أن نشير أيضا إلى مقال الكاتبة اليهودية يهوديت هاريل الذى نشرته على الإنترنت وأعادت جريدة الأهرام نشره فى 28 / 4 ففى مواجهة الانحطاط الأخلاقى المروع والمتصل لــ ‘الإسرائيليين’ والدوائر المتعاطفة معهم داخل المجتمع الأمريكى والعالم الغربى، وجهت الكاتبة اليهودية الإسرائيلية رسالتها إلى شارون وحركات السلام وحملتها كل المسئولية الأخلاقية وتمنت أن ‘يظهر بعض أصحاب الضمير من اليهود ..’ وقالت بالحرف الواحد أنها تفكر ‘فى اليهود مثلى ومثلك ممن يعرفون ما يحدث ولا يقومون بأى عمل لوقفه .. إننا لسنا فى خطر حقيقى ومع ذلك ما زلنا غير قادرين على تجميع قوانا المعنوية لوقف جرائم الحرب التى يرتكبها إخواننا وأزواجنا وأبناؤنا ضد الشعب الفلسطينى لتنفيذ الحصار والتجويع وإطلاق النار والهدم ومنع المرضى الفسلطينيين من الوصول إلى المستشفيات .. إن كل هذه الفظائع والقسوة ترتكب أمامنا وباسمنا .. إننا لسنا الضحايا بل المجرمين .. إننا مسئولون عن كارثة شعب آخر اقتلع من أرضه وبعد 51 عاما من النكبة وتأسيس دولة إسرائيل فإننا نستمر فى قمع وحشى للشعب الفلسطينى .. ليس أمامنا إلا المطالبة بحماية دولية للفلسطينيين لأن هذا هو السبيل الوحيد لوقف الوحشية الإسرائيلية’.
إن حديث يهوديت هاريل عن الضمير يعود بذاكرتنا إلى برستيد وحديثه عن الضمير كمرادف للنسق الأخلاقى، والكاتبة اليهودية مستفيدة من اقتلاع الشعب الفلسطينى من أرضه ولكن ضميرها – أخلاقها – تأبى عليها ذلك, فليست الضرورة الاجتماعية ومنطق المصالح المباشرة وحده هو الذى يرسم لها ملامح ما تتبناه من أخلاق لكنها النزعة الإنسانية أيضا, ولعل موقف هذه الكاتبة اليهودية وموقف المتظاهرين الأوروبيين فى عيد العمال يدعونا إلى تساؤلات تتعلق بجدوى مخاطبة الضمير العالمى فى قضايانا العادلة, وهل يمكن لبعض المستفيدين من تردى أوضاعنا أن ينحازوا ضد مصالحهم المباشرة اتساقا مع ما تمليه النزعة الأخلاقية الإنسانية؟! ولعل ذلك يقودنا أيضا إلى سؤال مشابه يتعلق بالطريق الذى سيفضى إلى انتشال المصريين من التردى الأخلاقى الراهن, أهو توجيه خطاب مباشر إلى ضميرهم؟ أم تغيير الأوضاع التى أدت إلى هذا التردى الأخلاقي؟
طبعا أنا لست فى حاجة إلى من يشرح لى أن الأخلاق هى جزء من البناء الفوقى الذى ترتسم قسماته وملامحه بناء على تطور البنى التحتية, أى العلاقات الاقتصادية – الاجتماعية, فأنا لا أعرف ذلك فحسب ولكننى لازلت أعتقد فى صحته أيضا, ولكننى أعتقد أن ذلك صحيح من منظور تجريدى وتاريخى، يضع فى حسبانه أن العلاقات بين البنى التحتية والفوقية فى المسار الاجتماعى الحى هى علاقة جدلية تبنى على التأثير والتأثر وأن لحظات محدودة قد تجعل من السبب نتيجة بينما تجعل لحظات أخرى النتيجة سببا, وبهذا المعنى فأنا أعتقد أنه بقدر ما يمكننا أن نعتبر التردى الأخلاقى الراهن نتيجة لأوضاع اقتصادية – اجتماعية محددة, بقدر ما يمكننا أن نعتبر أيضا وبنفس القوة أن هذا التردى الأخلاقى نفسه قد بات أحد دعائم استمرار هذه الأوضاع الاقتصادية – الاجتماعية المحددة, بل وسببا فى استمرار تردى هذه الأوضاع نفسها, وبهذا المعنى فأنا على يقين – مثلا – من أن انتشال مصر من الانهيار الأخلاقى الذى يأخذ بخناق معظم أبنائها يقتضى تغيرات اقتصادية اجتماعية كبيرة تنتشل المصريين من الفقر واليأس الذى يفضى بهم إلى التردى الأخلاقى أو الانحطاط الفكرى، ولكن لكى تبدأ مصر رحلة هذا التغيير المنشود لابد لها من طلائع تتسلح من أجل هذا التغيير نفسه بمثل أخلاقية تنتمى إلى مجتمع المستقبل المنشود وتقطع كل ما يربطها بالتردى الأخلاقى والانحطاط الفكرى للمجتمع القائم.
الأخلاق هى غاية لكل نضال يستهدف تغيير الواقع الاقتصادى – الاجتماعى، والأخلاق أيضا هى وسيلة لأحداث مثل هذا التغيير المنشود, وبالذات فى تلك المراحل التى تتجمع فيها الطلائع وتبدأ رحلة بناء تكوينها الفكري.
فى الأراضى المحتلة – مثلا – تدور رحى المعارك اليومية العنيفة بين الطرفين لأسباب لا تخفى على أحد, وداخل كل طرف تموج عدة اتجاهات متباينة تتفاوت من حيث أهدافها السياسيه المعلنه, وتتفاوت أيضا – وهذا ما يهمنا هنا – من حيث النسق القيمى والأخلاقى الذى تتمثله وتسعى إلى تجسيده, الطرف الإسرائيلى وصل – بمعظم تياراته – كما أوضحت الكاتبة اليهودية نفسها (شاهد من أهلها) إلى الدرك الأخلاقى الأسفل وجسد أداؤه الوحشى قمة نسق أخلاقى وقيمى عنصرى وفى هذا الحضيض الآسن أخلاقيا سقطت وإلى الأبد أحزاب وحركات كانت تزعم حتى وقت قريب أنها تسعى إلى إقرار سلام وتعايش مبنى على قيم التسامح والقبول بالآخر فإذا ببعضها يشارك فى إطلاق نيران دباباته على أطفال مسلحين بالحجارة! وإذا ببعضها الآخر يلوذ ‘بالفرجة’ ومناشدة الطرفين وقف العنف!!
من أى مستنقع آسن تنبع الأخلاق الإسرائيلية؟! إنها تنبع بكل تأكيد من أعمق أعماق وجود إسرائيل نفسه, من مبرر وجودها ذاته, بالتحديد: من عنصرية إسرائيل الدينية التى تسبغ عليها كل الشرعية. هذا الكيان المصطنع والمؤسس على معتقدات دينية – لا تخص إلا معتنقيها وليس لها أى قداسة إلا عندهم وحدهم – يريد أن يحول معتقداته إلى وجود يحقر الآخرين ويستبيح ممتلكاتهم ودمائهم.
ونحن لن نكون مبالغين إذا قلنا إن الانحطاط الأخلاقى الذى تواكب مع التطرف الإسلامى عندنا وفى الجزائر ووصل إلى ذروته فى المذابح البشعة التى كان من بينها مثلا مذبحة الأقصر قد ارتوى من نفس النبع الآسن: التطرف الدينى، وكان مدينا بجزء كبير من وجوده – ولو بصورة غير مباشرة – إلى التطرف اليهودى، حيث ظهر التطرف عندنا كرد فعل عنصرى للوجود اليهودى – الصهيونى العنصري.
الجزء التالى من الملف كثير منه نشر – فى صورته الأولى – فى موقع آحر، وبعضه نشر فى هذه المجلة، وقد رأينا أن نضمه إلى هذا الملف، حتى لو كان فيه بعض الإعادة. ربما يكون له فائدة تتواكب مع النقلة النوعية التى تحاولها المجلة.
يبدأ هذا الجزء بتلخيص شديد لمقال سامح عبود الذى نشر فى العدد الماضى، باعتبار أنه أساس مهم يثير ما ينبغى أن يثار حول القضية المعروضة. أما سائر المقالات فهى بدون توقيع مما ينطبق عليه التنويه المتكرر فى الصفحات الأولى من كل عدد (إنها مجلة الصوت الواحد!). سوف يظل الأمر كذلك لحين يفتح الله علينا بالانتظام، فيفتح على الناس بالثقة فينا والمشاركة.
يا رب سهل