تعتعة:
مركز دراسات التعامل مع الإدمان والتعاطى
فى دورته الأولى
د. إيهاب الخراط
مرت شهور عديدة على ختام الإقامة الدراسية الأولى، لتلك الدورة التى انعقدت لمدة خمس أسابيع مكثفة، فى دار نقاهة الحرية بوادى النطرون.
لكن لازالت أحداثها ومشاعرها حارة ومثيرة وقلقة وفخورة وفرحة فى داخلى.
الطلبة: ثمانية عشر طالبا وطالبة من مصر والولايات المتحدة وروسيا وغانا ونيجيرنا وباكستان ورمانيا واستراليا وسويسرا والعراق. سبعة أجانب أقاموا إقامة كاملة وأنهوا الدورة. وكذا خمسة مصريين. وأجنبيتان أتيتا خصيصا لحضور أسبوع واحد فقط، وخمسة مصريون، حضر كل منهم أسبوعا، جمعهم جميعا ألم وفرح العمل الطويل مع المدمنين، والخبرة الطويلة بهم ومعهم.
لكن لم يكونوا متفقين فى الجنس: 10 إناث و8 ذكور، أو الدين: 13 مسيحى و3 مسلمين أو المؤهل العلمي: 3 حاصلين على الدكتوراه أو ما يعادلها، و 43 حاصلين على الماجسيتر أو ما يعادلها، و 9 حاصلين على البكالوريوس أو الليسانس، وواحدة لم تحصل إلا على ما يوازى الإعدادية!. الدراسة باللغة الانجليزية والشرط الأكاديمى الوحيد للقبول، هو إكمال مقال من ألف كلمة باللغة الانجليزية، تقنع فيه هيئة التدريس باحتياجك لهذه الدراسة، وفائدتها لمستقبلك العلمى أو العملى، وبالتزامك الشخصى بعلاج الإدمان أو الوقاية منه.
المدرسون الأجانب يحضرون لمدة تتراوح بين أسبوع وأسبوعين، ويقيمون مع الطلبة إقامة كاملة. وأقيم أنا ثلاثة أو أربعة أيام أسبوعيا، وحضر د. أوسم لمدة يومين مرتين. وأقام مع الطلبة أيضا فى هذه الأيام الأربعة، مصريان وثلاثة مدرسين من الولايات المتحدة، وثلاثة من بريطانيا وواحد أمريكى – أسبانى.
40 ساعة تدريس أسبوعيا، تتضمن يوميا مجموعتين للتدريب التفاعلى الحى. لا نتبادل فيها المعلومات أو الخبرة الأكاديمية أو حتى العملية، بل نعيش صراعاتنا الداخلية معا، نشارك.. نواجه.. نحتج… وأحيانا نبكى (حدثت عدة مرات)..
لم أكن مدركا لحجم التحدى أو صعوبته.. تفاؤلى المعتاد وإقدامى والمغامرة والثقة (الحقيقية والزائفة) ساعدونى فى ألا أرى حجم التحدى. ولعل هذا كان مفيدا.
مجلس إدارة التجمع العالى للتعامل مع الإدمان والتعاطى، هو الهيئة الناشئة التى تضم 70 مؤسسة، من أكثر من عشرين دولة والتى روجت لمركز الدراسات، ومن خلالها اتصلنا بالأساتذة والطلبة.
انعقد مجلس إدارة هذه الهيئة الدولية فى مصر، فى أثناء انعقاد الدورة الدراسية، تقارير وقرارات وأحداث ومشاركات حضرت اجتماعاتها، وأنا فى حالة خدر. قبل انعقاد المجلس حضر مشرف رسالة الدكتوراة لجلسة تقييم لتقدم عملى فى البحث، وأيضا أقمنا حفل افتتاح رسمى حضره المحافظ، رئيس الكنيسة الإنجيلية (مالكة دارالنقاهة) ود. يحيى الرخاوى. د. نفيس جودة، وبعض الأساتذة الأكثر شهرة أو أعلى مكانة علمية فى المدرسين . هذا كله مع أحداث المدرسة!! لم يستطع جسمى تحمل الأثارة. فعانيت ارتفاع فى ضغط الدم، وما يشبه الانهاك الذى يؤدى إلى خمود.. Burn ont.
المدرسون:
الأساتذة حاصلون على مؤهلات متفاوتة. أستاذية أو دكتوراة أو ما يوازيها فى 3 منهم. أنا أحضر للدكتوراة، اثنان ماجستير أو ما يوازيه، وثلاثة مؤهلاتهم أقل من ذلك، ومحاضراتهم أو مجموعاتهم لا تحتسب فى احتساب ساعات التقييم.
واحد جذاب جدا فى إلقاءه سلس وبسيط، لكن مادته ليست جديدة على.
الآخر بطيء ومادته مختلطة. واحدة مادتها جديدة عميقة وقوية إلقاؤها ممتاز، وواحد مادته جديدة لكن توتر علاقتى معه لم يسمح لى بالاستفادة منها. وعدد تتراوح موادهم بين الرتابة والحيوية.
فلسفة المدرسة:
ألقيت محاضرة فى بداية المدرسة عن فلسفتنا الدراسية، استعرضت فيها طرق التعامل مع مشكلة الإدمان والتعاطى. فقلت يمكننا أن نقسم طرق التعامل إلى مجموعتين كبيرتين. مجموعة طرق نشأت فى أوساط العلم، الطب أو الطب النفسى أو علم النفس، مثل العلاج المعرفى، السلوكى أو المقابلات الدافعية أو العلاج الدوائى، والتناولات السيكوديناميكية، ومجموعة أخرى جذورها اجتماعية وشعبية بعيدا عن الأكاديمية. مثل المدمنون المجهولون (ال 12- خطوة) والمجتمعات العلاجية والمداخل الدينية.
وهناك قدر من الخلاف بين الفريقين. تجاوزه الكثيرون. لكن لازال هناك جانب نحتاج أن نعبره.
ومن جهة أخرى تضغط الحكومات، وحتى الهيئات الشعبية على كثيرين من معالجى الإدمان، فى الدوائر غير الطبية أو غير المتخصصة أكاديميا لكى يحصلوا على مؤهل علمى يضيف مصداقية على تناولهم للمشكلة.
ويميل كثير من الذين يمارسون العلاج فعلا فى المجتمعات العلاجية، وغيرها إلى الشك فى الأطباء والمتخصصون.
الشك فى دوافعهم وروحهم، وابتعادهم البارد عن المدمنين أو ترفعهم عليهم.
ويخشون أنهم إن خضعوا لتدريب يقوم به هؤلاء أن يفقدوا الحيوية والقرب والقدرة على المواجدة، والاختراق التى تميز ‘معالجي’ ال 12 – خطوة والمجتمعات العلاجية والبرامج الدينية.. الخ.
مدرستنا إذا ستسعى لتقديم مدخل علمى (ملاحظة منظمة وتوثيق دقيق), بدون أن تتنازل عن روح الهواية، أو حماسة المعالجين من المدمنين المتعافين، والذين يعملون فى العلاج بصفته رسالة روحية أو دينية لا بصفته مهنة.
هذا التفاعل بين الهواية والاحتراف بين العلم والرسالة الإنسانية هو أصلا ما كان يميز العلاج الطبى والنفسى فى جذوره، وهو ما يجب أن يظل مميزا له فى رأينا كمعهد علمى.
نمارس العلم ولا نطفيء الروح المستقرة. نمارس الهواية ولا نخشى الاحتراف. نتفاعل معا ولا نخشى التغيير.
مصر والعالم:
أشعر بالسخافة إذا قلت أننا فخورون بتقديم دراسة أكاديمية على مستوى عالمى.. الخ. لأن هذا يجب أن يكون أمرا مفروغا منه، كل المشاركين شهدوا على جودة ما نقدم.
لكن كنا ولازلنا نطمع فى خدمة أبناء العالم الثالث، الذين يعانون إذا درسوا فى الغرب من أشياء كثيرة لعل أفدحها هى قرارهم بعدم العودة لبلادهم، تحت غواية مجتمعات الوفرة، أو تحت غواية مجتمعات الإنجاز العلمى (إن صح اطلاق تسمية الغواية على هذا أو ذاك).
بالإضافة إلى التكاليف (المنخفضة نسبيا للإقامة والدراسة فى مصر). كما كنا نظن أن الدارسين سيكونوا فى معظمهم حاصلين على درجات علمية أقل من الذين تقدموا فعلا للدراسة، ولعلنا لا نزال نطمح لهذا. لكن ما حدث فعلا هو أن عدد الطلبة من العالم الأول استراليا، أمريكا، سويسرا.. الخ يكاد يقارب طلبة العالم الثالث. وعدد المؤهلين علميا يفوق كثيرا غير الموهلين. هذا تحد يجب أن نواجهه. كيف نحصل بصورة أفضل لجمهورنا المستهدف.
تحديات المستقبل كثيرة. لكن مرة أخرى كشف لى هذا التفاعل مع الدارسين من ثقافات متعددة، والمنتمين إلى بيئات مختلفة، والمهتمين أساسا بمواجهة تحدى علاج الإدمان عن آفاق جديدة فى التقارب الإنسانى، وأقول أيضا بلا تردد التقارب الإلهى.
ووضعنا مرة ثانية فى تحديدات العلم والشارع، الهواية والاحتراف، الروح والعقل، النظام والحرية، الانضباط والتلقائية، العالمية والمحلية. لعلنا ندرك كيف أنه لا يوجد تناقض أصلا بين هذه المتناقضات.