مقتطف وموقف
محمد يحيى الرخاوى
(1) عن الجمال والنظام والكلام والعظمة:
المقتطف
من قصيدة “مرثية رجل عظيم” لـصلاح عبد الصبور:
”كان يريد أن يرى النظام فى الفوضى،
وأن يرى الجمال فى النظام
وكان نادر الكلام
كأنه يبصر بين كل لفظتين
أكذوبة ميتة يخاف أن يبعثها كلامه”
الموقف
قد باتت التيارات الغالبة تشير إلى أزمة حقيقية فى المعرفة، أزمة تؤمن بـ، وترسخ لـ، استحالة المعنى بوصفه الضام للفوضى فى نظام قابل للتواصل (غائى كضرورة للمعنى، وجماله محك صدقه [[1]] )،
ولعل فى جمال هذه المرثية ما يذكرنا بجواز صدقها حتى فى أيامنا هذه، فإذا كانت التيارات الغالبة المشار إليها (وبخاصة تلك التوجهات الدريداوية التفكيكية والتى غالبا ما يمارس قارئوها إساءة فهم عدمية التوجه) تشير عن حق إلى “استحالة أن تقبض اللغة على المعني” لتثبته كما أملت الفلسفة الغربية، التى انبنت عليها الحضارة الغربية (لاحظ هذه العلاقة)، أقول إذا كانت الإشارة فى ذاتها عن حق، فإن خطأ فهمها ليس من حقه أن ينفى إمكان المعنى ذاته، حتى ولو كان دون لغة بالمفهوم المستحيل للغة، أى بوصفها قادرة على الإمساك بالحقيقة إمساكا قارا ونهائيا. لقد سعى العلم، سلاح الغرب الأهم والأول إلى القبض على العالم والسيطرة عليه، وفرضت اللغة المسماة بالعلمية نفسها كسلطة عظيمة التماسك على الرغم من كونها شديدة التجزيء، إلا أن البحث عن المعنى الكلى ما زال واردا، ذلك الجميل الذى يطرح نفسه بوصفه حقيقة وراء الحقائق، أو كما يضعها عبد الصبور فى نفس القصيدة: ثم ينادى الله قبل أن ينام: / الله، هب لى المقلة التى ترى / خلف تشتت الشكول والصور / تغير الألوان والظلال / خلف اشتباه الوهم والمجاز والخيال / وخلف ما تسدله الشمس على الدينا / وما ينسجه القمر / حقائق الأشياء والأحوال.
وليس معنى الكشف عن فشل اللغة كما يطرحها النموذج العلمى، أن “المعني” الذى سعت إليه دائما، وما زالت، هو وهم وضلال.
وينبهنا هذا المقتطف إلى ذلك بجمال نادر، فنادر الكلام هذا، العظيم المرثى، كان يعرف هذه المشكلة حين كان “يبصر بين كل لفظتين أكذوبة ميتة “، ولكنه لم يكف عن البحث عن النظام فى الفوضى وعن الجمال فى النظام، لم يكف عن البحث عن “المعني”. إن إدراك أن المعنى لا يتوقف انتظارا للغة لا تستطيع القبض عليه، لا يعنى أنه غير موجود كمشروع قيد التحقق، حتى ولو لم يتحقق أبدا فى صورة ثابتة تسمح بالدوران حولها (لا عبادة ولا تأملا). إن صفة العظمة لم تأت نتيجة البحث عن المعنى أو النظام أو الجمال، ولكنها تأتى حيث لم يؤد ذلك إلى التسرع بتسكين ما يدرك داخل ألفاظ لا تواكب حراك الحقيقة. إن الحراك لا يعنى غياب الحقيقة، تماما كما لا يعنى غياب الحقيقة غيابا للحركة.
ليس “الثابت” من أسماء الله الحسنى، وهو تعالى يغضب وينتقم ويرحم ويغفر، فلماذا كان ذلك لو أنه كان يريد الثبات والسكون، ولماذا يستغرق زمنا لخلق الكون وهو القادر على قول “كن فيكون”.
أم ترى أن “الكون” أيضا، ذلك الكون الذى قيل له “كن” فكان; ليس كما نفهمه بوصفه القار فى الكينونة ولكنه الصائر المتحرك المتوجه أبدا، يقول النفري:
” أوقفنى وراء المواقف وقال لى الكون موقف / وقال لى كل جزئية فى الكون موقف”.
إذن فهذا هو هو موقف ذلك العظيم المرثى الذى يخشى خطر اللغة إذ تقدر على سجنه فى حرف علمى (بلغة النفري) كاذب أو أكذوبة (بلغة عبد الصبور)، فيصبر على الحقيقة ولا يتركها و “ينزل السوق ولا يقعد متاجرا” كما يقول النفرى أيضا.
إن السعى للالتحام بالحركة هو هو النظام وهو هو الجمال، والسعى للقبض عليها باللغة هو استعارة فاشلة حتما، وها هو النفرى يفرض لغته مرة أخرى إذ يقول: “وقال لى أصمت لى الصامت منك ينطق الناطق ضرورة”، ويقول أيضا: وقال لى الباطل يستعير الألسنة ولا يوردها موردها كالسهم تستعيره ولا تصيب به / وقال لى الحق لا يستعير لسانا من غيره”.
هل هى دعوة للصمت لعله يحمل الحركة؟ لا بد من التأكيد -مرة أخري- على أن هذا المقتطف (هذه المقتطفات) إنما يوضح أن خطر اللغة لا يعنى استحالتها، أوليس هذا المقتطف ذاته، الذى ينبهنا لكل ذلك، لغة أيضا؟
(2) حتى فى البحث العلمي: الشاطرة تغزل برجل حمار.
أشرنا فى الافتتاحية إلى صدور العدد الأول من أحوال مصرية قابضا على لحظة خطيرة وهم مشترك، وها نحن نقتطف من مقدمة ملف “أحوال الطبقة الوسطي”، والتى كتبها رئيس التحرير د. محمد السيد سعيد، ففى تقديمه للمنهج الذى اتبع فى جمع معلومات الملف يقول:
المقتطف:
”وقد قنعنا بأسلوب إجراء المقابلات مع أعداد كبيرة نسبيا من عناصر الطبقة الوسطى كبديل لبحوث واستقصاءات الرأى العام. والسبب أن هذه البحوث مكلفة للغاية، وتتطلب فرقا بحثية كبيرة، وفترات زمنية طويلة حتى تخرج بنتائج منضبطة إحصائيا ومعنوية من حيث المضمون. هذا فوق الشكوك المحيطة بسلامة الاستنتاجات التى تخرج بها بحوث واستطلاعات الرأى العام فى بلادنا لأسباب معروفة.
ثم: ” ومن جديد، لا يدعى هذا الملف أكثر من تقديم “معلومات” طازجة وإن كانت عشوائية ولا يمكن تعميمها على جميع الحالات فى عموم القطر، أو بالنسبة لكامل جسم الطبقة الوسطى فى مصر. وعلى القارئ نفسه أن يعمل ذهنه ويبحث بنفسه فى دقة ودلالة هذه المعلومات والانطباعات، وأن يستنبط لنفسه المعانى والأطروحات التى قد تقيس تحولات الطبقة الوسطى ومكانتها وأدوارها فى المجتمع،”
الموقف:
يعيرنا الغرب والواثقون فى الغرب بضعفنا العلمى، وهو أمر حقيقى ومهين، إلا أن قراءة وضعنا الحالى لا يمكن بحال أن تنفصل عن قراءتنا لإمكانياتنا، والتى هى ما يمكن أن نفعل، لا ما نمتلك ولا ما بدأنا نفعل، ولا هى تعرف بما لم نفعل كما اعتدنا أن نهين أنفسنا ويهينوننا.
والذين وثقوا فى إمكانياتنا العلمية بالطريقة الغربية، وأعنى هنا “بالطريقة الغربية بحذافيرها”، أصروا على اتباع خطوات تفصيلية وتكنيكات معقدة، خاصة فيما يتعلق بحجم ادعاء الضبط فى التجارب العلمية وكذلك فيما يتعلق باستخدام الإحصاء كأداة تحقق من احتمالات الصدق.
وينطوى هذا على أكثر من مغالطة ذكرها المقتطف بوضوح شديد، ونضيف عليها مغالطتين أساسيتين:
(1) فظروفنا لا تحتمل تنفيذ أحلام هؤلاء فى ملاحقة تفوق الغرب فى قدرته على أداء مثل هذه البحوث المدققة. إن الوظيفة الأساسية لمثل هذا التدقيق، فى صورتها المثالية التى تدعيها فلسفات العلوم ومناهج البحث الواقفة وراءها، هى أن ترفع احتمال صدق الفروض المختبرة، وبغض النظر عن صدق ذلك من عدمه (وهو أقرب إلى العدم فى أغلب الأحوال)، فإن حقيقة الأمر أن مثل هذه المناهج والبحوث تقف وراءها مؤسسات تمويلية تمارس نوعا من التنظيم وحسابات الجدوى لا نفعله هنا، وهنا يصبح من الخطورة بمكان إرهاق ميزانيات لا تحتمل الإرهاق لمجرد السعى لتأكد (ضعيف ومشكوك فيه مرة أخرى للتأكيد) من فروض شديدة التجزيء لا تندرج فى مشروعات متكاملة ومدروسة جدواها، مما يجعلها عقيمة فى أقل ما يقال عنها، فما بالنا بخطورة الصرف هنا على صلابة ضمائر الباحثين أنفسهم، وعلى فتح باب تجاهل محكات الصدق الأخرى الأكثر أهمية من أجل بتصوير أهمية مزيفة للأرقام والنتائج حتى يقوم الضمير بتبرير ما فعل أمام نفسه وأمام الآخرين.
(2) إن المناهج الإحصائية والتجريبية، تمارس -بوعى أو بدونه- نوعا من الإرهاب التسلطى تدعى به أن خطابها هو الخطاب الوحيد المتحقق منه، ومن مدى مصداقيته التى اختبرت احتماليا (أى بالإحصاء التى تعتمد أساسا على نظرية الاحتمالات)، وهى بذلك تحرم المعرفة من مصادر شديدة الثراء لملاحظة الواقع ودراسته ومحاورته معرفيا، وقد تم ذلك على مستوى الممارسة حتى فى ظل السماح النظرى بغيره، إلا أنه يظل سماحا شكليا لا يساهم فى التقليل من عزل تلك المناهج الأخرى إلا عن مناطق التأريخ والتجميل، لا الفعل، سياسيا كان أو اقتصاديا. يؤدى هذا الإهاب التسلطى بكل صاحب مدخل آخر إلى أن يتخذ موقفا دفاعيا يضطر فيه إلى الاندفاع فى دفاع وهجوم غير موضوعيين تماما، فيبالغ فى التشكيك فى قيمة التجريب والإحصاء، كما يبالغ فى تصوير جدوى ومصداقية منهجه دون التبصر بممكنات الواقع وضرورات التواصل الحقيقية. والرائع فى المقتطف السابق هو أنه لم يستدرج إلى غير ساحته، فأعلن ما فعل دون تقليل أو إعلاء من قيمته.
وتؤدى هاتان المغاطتين مع ما جاء فى المقتطف من تنبيهات وتحذيرات، خاصة حينما نستسلم ونتخذ من معايير الغرب معايير لنا، ويقرضونها هم علينا كمعايير قياس وتقييم، إلى أن نفقد الأمل فى إسهام حقيقى فى المعرفة البشرية، وبما هى “تطور” لنا ولها، وهو أمر انتحارى ليس له ما يبرره إلا الجبن والاحتقار المسبق للذات والاستهانة بها.
تتبقى الإشارة إلى ذلك الحل الذى تبناه د. السعيد فى الملف، وهو يندرج فى الإطار المنهجى الواسع للملاحظة، أساس كل منهج. إن ابتداع أساليب ملاحظة مناسبة أمر وارد منهجيا بشكل دائم، والتركيز على ثراء الموضوع بما هو ثرى ويما هو ولاد لتفاصيل وعلاقات تسهم فى تقديم معلومات دالة ومفسرة ومشتبكة مع الظواهر أمر دال على امتلاء الباحث بموضوع بحثه وبأسئلته امتلاء ناجزا. أما الوقوف عند تفصيلات هامشية ليست حاسمة فى حد ذاتها واستغلال الضوضاء التى تحدثها فى التعتيم على الحركة الحرة لعقل القارئ (راجع الفقرة الأخيرة من المقتطف)، والتعامل مع كل هذه الضوضاء بوصفها أساسا وشرطا للمعرفة العلمية فهو علامة خواء وإفلاس فيما يتعلق بعلاقة الباحث بموضوع بحثه.
إن عجز الحركة العلمية وفقرها فى مصر لا يرجع إلى ضعف فى الإمكانيات بقدر ما يرجع إلى غياب المشروع المعرفى الحقيقى، الذى قد يرجع بدوره إلى احتقار مسبق للدور قد يكون مبنيا على تصديق متخاذل لإشاعات منتشرة عن لزوم ما لا يلزم. أما أصحاب “أحوال مصرية” فهم لم يصدقوا ذلك، ولم يكتفوا به، وكفى بهم صادقين أمناء فيما إعلان وضعهم المنهجى بصدق.
تبقى إشارة أخيرة إلى دور القارئ الذى نبه إليه المقتطف فى آخر فقراته، ولعل موقفنا هنا يقتصر على إعادة التأكيد على أن الأرقام والإحصاءات التى لم يوفرها الملف موضوع المقتطف لم تكن لتعفى القارئ، أى قارئ، لهذا الملف أو لغيره، من مسؤوليته عن ممارسة حسه النقدى فى كل قراءة وكل بحث، فلا الأرقام ولا التجارب بمستطيعة أن تنفى دور الحس النابض السليم.
وللحديث بقية.
[1] – انظر : مقال “لغوية الوجود المؤمنة”، للكاتب، منشور فى الإنسان والتطور، العدد 57، 1994 ، ص 61 – 89 .