مقال فى المنهج:
نحو المواجدة: استخدامات الدهشة(1)
تأليف: ألفرد مارجيوليز
ترجمة وتعليق: د. إيهاب الخراط
مقدمة:
هذا المقال يطرح قضية ساخنة فى العلاج النفسى فى ولاف نافذ مع نفس القضية وذات السخونة، فى مجال الإبداع الفني. وهذان الهمان - فهم الإنسان من منظور المرض والصحة النفسية وفهم الإنسان من منظور الشعر والإبداع الفني- يشكلان معا أيضا محورا لهذه المجلة بتوجهيها الطبنفسى والثقافى فى آن واحد.
والمقال منشور فى واحدة من أهم و أعرق مجلات الطب النفسى العلمية ومن أكثرها رصانة وتمسكا بالمعايير العلمية الصارمة، المجلة الأمريكية للطب النفسي، وهى مجلة توصف أحيانا، بالانحياز لتناول وفهم كيميائى دوائى للمرض والعلاج النفسي، أو قل هى تتهم به وبما يمارسه من اختزال للظاهرة الإنسانية، ومن جهة أخرى يستشهد بهذا التناول من هذه المجلة كمرجع ضد التناول الكلى أو ذلك التناول الذى يأخذ فى الاعتبار جانب “السر” والدينامية السيكولوجية فى كيان الإنسان وبالتالى فى علاج مرضه النفسى أو السعى لتحققه أو نموه الإنساني.
والمقال ولا شك قديم بعض الشيء، فهو منشور عام 1984, لكن هذا التاريخ نفسه يمكن اعتباره رصيدا لرسالة هذا المقال; فكاتبه رجل أكاديمى وإكلينيكى من الوزن الثقيل -أستاذ الطب النفسى بجامعة هارفارد الشهيرة، ولم يكتبه فى زمن الثلاثينيات أو الأربعينيات -زمن عمالقة التحليل النفسي- ولا فى زمن الخمسينيات والستينيات زمن كتائب الوجوديين المتمردة فى الطب النفسي، بل كتب فى أعوام بداية انتشار العقاقير الأحدث بكل ما اكتسبته من شهرة ورواج، و هى أيضا أعوام القمة بالنسبة لممارسة العلاج المعرفى ولنشر دراسات منهجية لقياس فعالية التعلم الذهنى المباشر فى عملية العلاج النفسي. وتصورى أن المناهج الدينامية فى التناول لاتزال فعالة ولم تخفت قط كما يحاول كثيرون أن يوحوا إلينا، وهى لا تزال تشكل محاور أساسية مكملة للعلاج الدوائى والعلاج المعرفي، بل لعل العلاج الدوائى والمعرفى هو المكمل لهذا التناول الكلى النافذ فى العلاج النفسي.
فى هذا المقال نقترح ترجمة كلمة empathy بالكلمة العربية “مواجدة ” حيث إن empathy أكبر من مجرد ” التعاطف “” بما تحمله هذه الكلمة من ظلال الاستعلاء أو الرعاية الأبوية، ولعل كلمة تعاطف تصح فى ترجمة كلمة sympathy التى تترجم عادة شفقة، حيث تعدت كلمة شفقة الآن معنى الرعاية الأبوية أو النظر من أعلى إلى معانى صريحة فى إهانتها أو تحقيرها للأفراد موضع “الشفقة” وأيضا تحمل الكلمة اتهاما بالعمى والخيلاء المزيفة لأولئك الذين “يشفقون ” على الآخرين. “والتعاطف ” لا يمكن تبرئته بسهولة من هذه الظلال كذلك مع كونه تعبيرا أقل حدة من “الشفقة”.
المواجدة لفظ عربى صحيح على وزن مفاعلة. والوجد -أصلها- هو المعاناة الشعورية، و قد تصح مرادفته “بالمكابدة” أى أن الوجود هو الشعور الغائر الشديد أو التعلق العاطفى حتى الألم أو المرض.
وأتصور أن الوجد قد يكون أدق التعبيرات العربية، لترجمة الكلمة الإنجليزية passion بل هو أدق منها فى ترجمة الأصل اليونانىpathos الذى يعنى الوجدان الغائر والمستغرق لكل الكيان والذى يعنى أيضا المرض حيث باثولوجى pathology هو علم الأمراض أى أن الكلمة وجد تترجم معنى pathos اليونانية أفضل من الكلمة passion الإنجليزية.
وempathy اصطلاح إنجليزى ازدهر فى الأربعينيات من القرن العشرين وصيغ حول هذا الوقت ليعبر عن “الدخول إلى وجود” إنسان آخر، أى أن تدخل إلى العالم العميق من الشعور والوجدان لإنسان آخر وأن تخبر العالم أو الوجد ونفسك من داخل هذا الإنسان فالسابقة em باليونانية يعنى “الدخول” أو “من داخل شيء ما”.
إذن فالمواجدة تعنى الدخول إلى وجد إنسان آخر، التواجد معه فى هذا الوجد، مشاركته وجده. كما تعنى “المواكبة” مشاركة الموكب وتعنى مواعدة المشاركة فى وعد أو ميعاد ما، بل إن كلمة “المشاركة” ذاتها تأتى على وزن ” مفاعلة” نفسه.
ولعل تتبع الصلة بين ” الوجد ” و “الوجدان” و “الوجود” فى العربية، أمر يستحق الاهتمام، ويستحق الإشارة أيضا إلى جهد الفيلسوف السورى تيسير شيخ الأرض فى فلسفته التى أسماها الفلسفة “الأجدوانية”.
ومع أن المقصود بالمواجدة هو الولوج إلى وجد إنسان آخر ومشاركته فيه والحياة معه من داخله، فإن فهم أحدهم اللفظ بأنه “التواجد مع” أى الوجود مع انسان آخر، لا يشكل خطرا كبيرا على هذا التأويل أيضا، بشرط أن يشمل الوجود مع: التقمص، والتقمص الإسقاطى بدرجات الوعى المختلفة.
هذا وسأحاول التعقيب على المقالة بعد انتهاء ترجمتها الكاملة.
الملخص:
كيف يبدأ المرء فى الاقتراب من الخبرة الداخلية لإنسان آخر؟ الاستكشاف الذى يسعى للتوحد مع الخبرة الداخلية لشخص آخر يتطلب من الباحث أن تكون لديه مقدرة خلاقة على أن يعلـق الإغلاق النهائى لملف البحث. وقد قام مؤسسا كل من الظاهراتية (الفنمونولوجيا) والتحليل النفسى بوضع أساليب تساعد على عملية تجنب وضع خاتمة نهائية، أساليب تساعد على إبقاء الذهن مفتوحا أمام الاحتمالات الجديدة.
كما أن كلا من الاختزال الظاهراتى عند هوسرل. والتداعى الحر عند فرويد يحمل أوجه شبه ملفتة للنظر مع صياغة كيتس لطبيعة قدرة الفنان على الملاحظة. إن سعى كيتس نحو قلب الخبرة الحياتية يضيء سبيلا نحو المواجدة الحقة عبر الخيال.
”لا يمكن الاستغناء عن كلمة ” الرائد” فى قاموس النقد بل علينا أن ننقى هذه الكلمة من كل دلالة سجالية أو تنافسية، فالحق أن كل كاتب ” يبدع ” من يدين لهم بالريادة، من حيث أن أعماله تجعلنا نعدل مفاهيمنا عن الماضى كما تعدل المستقبل. ” بورجس ( 1:صـ 243)
إن متابعة التوازيات بين كتاب مختلفين تثبت أنها عملية محفوفة بالمفاجآت. كما لو أن التوازيات ذاتها تكتسب حياة خاصة بها. فطريقة المرء فى القراءة تتغير، والكلمات المألوفة تأخذ معان جديدة مع تطور سياق القراءة والبحث. وفهم الأشياء يتوثب فى رحلة جدلية إذ يستمد طاقة جديدة من التناقضات ويكتسب لذاته تعريفا من خلال حركته نفسها بين مشكلة وأخري.
بدأت هذه الدراسة كمقارنة بين طريقتين استبطانيتين فى البحث، الظاهراتية من حيث هى ذلك الفرع الفلسفى الذى “يتناول بالدراسة الخبرات التى يصفها الإنسان بوعيه بها ” (2: ص 2599) والتحليل النفسى الذى يبدو أن الظاهراتية يمكن أن تكون عنصرا مكملا له حيث يركز بدوره على اللاوعي.
كما يتشابه المنهجان فى روح الاستكشاف الكامنة فى الهيكل الأساسى لتوصياتهما حول طرق البحث. لقد حرص مؤسسا المدرستين هوسرل وفرويد على تزويد الباحث بأدوات من شأنها تنقية المجال الإدراكى ومد عملية اكتساب المعطيات بطاقة فعالة. ينبغى لمناهج البحث بطبيعتها أن تستعصى على التنميط إذ تجدد ذاتها فى جدة الملاحظة.
والخبرة المتجددة هى أيضا هم من هموم الفنان التقنية، إن جاز التعبير، كيف يتأتى للشاعر أن يستمر فى رؤية العالم رؤية جديدة ويتفادى مخاطر ركود الملاحظة وطغيان المفاهيم واختزالية القوالب والحيل الفنية؟ يقدم لنا جون كيتس فى رسائله وملاحظاته الشخصية عونا خاصا فى هذا المضمار، فصراعه للتعبير عن العملية الإبداعية يلقى الضوء على مشكلة جوهرية هى مشكلة البحث عن حقيقة الآخر، فتقصى كيتس عن الخبرة الداخلية للآخر يحمل أهمية خاصة للباحث النفسى وسيقودنا فى نهاية هذا المقال إلى مسألة المواجدة والخيال الخلاق.
كتب فرويد عن المواجدة “إنها تلعب أكبر دور فى فهمنا النفسى لما هو أجنبى بطبيعته عن ذواتنا” (3ص 108) فهى السبيل الذى “يمكننا من أخذ موقف، أيا كان تجاه حياة الآخرين الذهنية” (3ص 110). ولكن فرويد أيضا تنبه إلى أن عملية المواجدة نفسها إشكالية نظرية مهملة لم تحل. احتلت المواجدة لفترة طويلة مكانا مميزا كعنصر أساسى من عناصر فعالية العلاج النفسى لدى كثير من ممارسى هذا العلاج، بالرغم من الغموض والسر الذى يكتنف كيفية حدوثها ولم تأخذ حظا كبيرا من الدراسة فى أدبيات العلاج النفسى إلا حديثا، كأن أهميتها قد اكتشفت من جديد.
وصارت المواجدة حجر الزواية فى علم نفس الذات عند كوهوت إذ يقول إن مجرد التفكير فى الحياة الداخلية للإنسان وبالتالى فى علم نفس للحالات الذهنية المركبة يصبح مستحيلا إذا استبعدنا قدرتنا على المعرفة من خلال الاستبطان بالنيابة(2)vicarious عن الآخرين، تعريفى الخاص للمواجدة” (4 ص 306). كما بدأ آخرون فى توضيح الطبيعة المركبة للمواجدة كعملية علاجية (5 – 8).
والواقع إن هذه المقالة لم يكن مقصودا بها أن تكون دراسة عن المواجدة، بل بزغت المواجدة بصورة مفاجئة كنتيجة غير متوقعة لعملية استكشاف ودراسة توصيات ثلاثة من أكبر مراقبى الخبرة الحياتية، حيث يبدأ المقال بدراسة الظاهراتية وتشابهها الغريب مع التحليل النفسى ثم ينتقل إلى كيتس وتلمسه “للمقدرة السلبية”, ومن ثم تواصل الرحلة إلى فحص طبيعة وضع المواجدة.
تنقية مجال الإدراك
فى تاريخ الفكر يوجد معول كبير على الوجود فى المكان المناسب فى الوقت المناسب. فى الموجز الرائع الذى قدمه للظاهراتية فى الطب النفسى وللتحليل الوجودى (9) لاحظ إلنبرجر أن حياة هوسرل وفرويد تتفقان فى أشياء خارجية كثيرة، فقد عاشا بين خمسينيات القرن التاسع عشر وأواخر ثلاثينيات القرن العشرين، ونشرا عمليهما الرئيسين فى عام 1900، “تفسير الأحلام” و”البحوث المنطقية”, كما كان لهما أستاذ مشترك هو فرانز برينتانو، الفيلسوف المهتم بالكيفية التى يبنى بها الذهن “الواقع” ويشير إلنبرجر إلى إمكانية مقارنة منهج هوسرل فى الاختزال الظاهراتي، بقاعدة فرويد الأساسية: التداعى الحر، فكلا التقنيتين تعملان على إعداد الفرد وتدريبه على وضع التحيزات المعتادة موضع الملاحظة وكلا الباحثين أدرك أن من طبيعة الذهن البشرى أن يقاوم عمليات استكشافية بعينها.
إلا أنه تبقى بطبيعة الحال اختلافات جوهرية فى التناول بين هاتين المدرستين. الظاهراتية نشأت كتجاوب مباشر مع المعلومات الخام للخبرة، بالرغم من تحولها بعد ذلك إلى تخصص عقلانى شديد التركيب له رطانته الخاصة التى تستعصى على فهم الإنسان العادي، ميرلو – بونتي، وهو أحد دارسى هوسرل يشرح الظاهراتية بقوله:-
”الالتفات إلى الأشياء فى ذاتها هو العودة إلى ذلك العالم السابق للمعرفة، ذلك الذى تتحدث عنه المعرفة، العالم الذى يقوم عليه كل مسعى علمى ويعتبر العلم بالنسبة له نوعا من التجريد أو ضربا من الإشارة أو الرمز، العلاقة هنا تماثل علاقة الجغرافيا بالمشهد الطبيعى الذى عرفنا فيه لأول مرة ما هو النهر وما هى الغابات وما هى السهول” (10 ص 84)
وكان أحد عوامل جاذبية الظاهراتية بالنسبة للممارس الإكلينيكى كونها مدخلا إلى معرفة تنوع الخبرات الإنسانية. معرفة ما هو عالم الفصامى أو عالم مريض الوسواس القهرى أو الانتحاري؟ وكيف يتغير الزمن وتتغير الألوان فى حياة الاكتئابى أو القاتل ؟
لقد ظلت هذه العوالم كلها مناطق غير مكتشفة بسبب التناولات العلمية التى فرضت “أفكارا” مسبقة عن الشخص الذى يعانى هذه الخبرات، بل لقد زادت هذه المفاهيم من القتامة والإبهام اللذين كانا يكتنفان هذه العوالم قبل الظاهراتية، حيث يسهل أن تزوغ منا حياة الآخر الداخلية فى خضم كل هذه المعلومات ”
يصف إلنبرجر منهج هوسرل فى الاختزال الظاهراتى كما يلى :
” فى محضر ظاهرة ما -سواء كانت شيئا خارجيا أو حالة ذهنية- يستخدم الظاهراتى تناولا غير متحيز على الإطلاق، فهو إنما يراقب الظواهر كما تعلن عن نفسها فحسب… فعلى المراقب أن يستبعد من ذهنه تماما كل حكم قيمى على الظاهرة وأيضا كل تأكيد أيا كان عن سبب أو أساس الظاهرة، بل هو حتى يسعى إلى استبعاد أى فصل بين الذات والموضوع.. ومن خلال هذا المنهج يتم تعزيز واتساع مجال الملاحظة جدا، وتبرز العناصر الأقل وضوحا فى ثراء وتنوع بالغ، كما يتضح تباين درجات الوضوح والغموض فى الظاهرة ومن ثم يمكن أن تتضح أبنية وتركيبات للظواهر كانت خافية علينا قبل ممارسة الملاحظة بهذا المنهج ” (9 ص 96).
تحرك فرويد تجاه حدود الذهن الداخلية، منطقة التقاء الشعور باللاشعور، بينما تحرك هوسرل نحو الحدود الخارجية منطقة التقاء العقل الواعى بمملكة الحواس.
وواجه فرويد مقاومات داخلية حينما حاول سبر غور الشعور أو العقل الواعي، وأسماها بالميكانيزمات الدفاعية كما وضعها كمجموعة تحت تصنيف “الكبت” وعلى نفس المنوال فى أثناء استكشافه للوعى وجه هوسرل قاعدته الأساسية قاعدة الاختزال الظاهراتى إلى الإعاقات التى تعوق الإدراك “النقي” هنا كان فرويد سيشير إلى الدفاعات الموجهة ضد الإدراك أو الاستقبال الحسى بصورة عامة. أى ميكانزمات الإنكار، وهنا أيضا يمكن اقتباس ميرلو-بونتى مرة أخرى إذ يقول ما معناه ( 10 ص 83) إن كل مسعى الظاهراتية هو استعادة ذلك التلامس الساذج مع العالم، كيف يمكننا الاقتراب من ذلك الجوهر العارى والمراوغ للأشياء ؟.
وتحاول كل مدرسة من مدارس علم النفس أن تستنفذ كل الاحتمالات لافتراضاتها المبدئية عما هو مهم. من هنا نرى الأهمية العظمى لعمل (11) فى دراسته للمناهج والمعلومات التى تقوم عليها مدارس الطب النفسى الأساسية، حيث يؤكد على التشابه المتبادل والتضافر بين المنهج المستخدم وبين الحقائق التى يتم الوصول إليها: كلاهما يسير جنبا إلى جنب، وكل مدرسة تحدد مجال اهتمامها الأول كما يحددها هذا المجال، وتصل فى النهاية إلى نوعيتها الخاصة من “الحقيقة”. تتشارك الظاهراتية مع الوجودية فى مجال الاهتمام : الخبرة الذاتية والكلية للفرد، فالوجودية بتأكيدها على علاقة الفرد الفريدة بالحرية والمسؤولية والمعنى تجد جذروها فى الشغف الظاهراتى بالوعى الفردى ورؤية العالم فإذا أخذنا فى الاعتبار التمثل الوجودى للظاهراتية، سنجد أن “حقائقهما” تندمج فى خط متصل واحد. وتنوع الأساليب التى بها نرفض أن نخبر العالم أو أنفسنا – سواء خداع الذات أو الإنكار- هو أحد هذه “الحقائق” الراسخة، ولعل التشابه بين هذا وبين مدرسة أخرى للطب النفسى يعيننا على فهم هذه العملية. فقد كان هافنز (اتصال شخصي) هو أول من أشار إلى أن الوجوديين يقفون من “الإنكار” نفس موقف سوليفان وسائر التأويليين من “التحويل” Transference لقد كان هارى ستاك سوليفان (12) شغوفا بالكيفية التى يشوه بها الناس بعضهم البعض، كيف نأتى بقوالب شخصية حاضرة دائما ونفرضها على تفاعلاتنا الاجتماعية فنقذف بها فى وجه جيراننا الآمنين، لقد كان شغف سوليفان بهذا التشويه نبتا حتميا خارجا من اكتشاف فرويد للتحويل، حيث انزعج فرويد أثناء تحليله لمرضاه من تكرار رؤيتهم له بصورة تحددها علاقاتهم الباكرة فى حياتهم الشخصية أكثر مما يحددها كيانه هو كإنسان ومعالج، وكانت عبقرية فرويد فى استخدام هذه التجاوبات التحويلية كوعاء يمارس من خلاله العلاج بينما عبقرية سوليفان فى دفع حدود مفهوم التحويل للوراء وتوسيع تضميناته ليشمل الحياة اليومية أيضا. فمفهوم التشويهات الجانبية المحملة على العلاقات parataxic distortions قائم على أساس أن “التحويل” يحدث أيضا خارج غرفة العيادة النفسية وعلى نفس المنوال قام الوجوديون بتوسيع تضمينات الإنكار لتشمل الحياة اليومية، فالإنكار على حد تعريفه هو “ميكانيزم دفاعى يتم من خلاله رفض وجه من وجوه الحقيقة الخارجية” (2ص 2582)، أى بعبارة أخرى الإنكار هو أن يرفض الفرد بصورة لاشعورية التصديق على إدراك أو استقبال حقيقة خارجية مهددة أو مؤلمة، فى الصياغات الوجودية للحرية والمسؤلية والموت نجد مفاهيم الإنكار والدفاعات الأخرى متضمنة فى قلب المعادلات الوجودية التى تؤكد أن حقائق الوجود هذه يتم إنكارها فى كل مكان فى العالم. فعلى سبيل المثال، الصدود عن حقيقة زوال الفرد هو جزء من الحالة الإنسانية، فنحن لا نستطيع تحمل هذه الحقيقة ونصرف جزءا من حياتنا فى إنكار حتمية الموت الشخصي. الإنكار يتغلغل فى كل حياتنا بهذا المعنى كتغلغل التشويهات الجانبية المحملة على العلاقات بين الأفراد.
عادة ما تخفى علينا حالات الإنكار الجماعية تلك بطبيعة كونها حالات جماعية، فيسهل غض الرأس أمام رفض إنسان آخر لمواجهة الحقائق بينما يصعب علينا استقبال واستيعاب الإنكار الموجود فى تكوين ثقافة أو حضارة بعينها أو ذلك الإنكار القائم فى صميم الوجود البشرى المشترك. إنكار الموت هو الوضع المعتاد بالنسبة لمعظمنا وحينما يتأمل أحد الكتاب فى الموت طويلا يبدو لنا ذلك أمر شاذ خارج عن المألوف ولعل معارضة الوجوديين القوية للاتفاق الجماعى ورفضهم اعتباره دليلا على صحة الموقف هو ما يعطى لرأى بعض الوجوديين تلك الصبغة الحادة والصوت المزعج، كما لو كانوا يحاولون إيقاظنا من سباتنا بإصرارهم على التأكيد على حرية الاختيار وحتميته وعلى عدم وجود مفر من الموت، وكذلك يمكننا أيضا أن نفهم لماذا أتت بعض أقوى الأصوات الوجودية من أفواه أولئك الذين عاشوا ظروفا بالغة القسوة، فى معسكرات التعذيب النازية أو تحت وطأة مرض عضال مثلا، ففى ذات قسوة هذه الخبرات الحياتية وخروجها عن المألوف تكمن قدرتها على أن تخترق بلا رأفة انشغالاتنا العصابية اليومية ورضانا الزائف عن الذات. الظاهراتيون من جهة أخري، قاموا بدفع حدود مفهوم الإنكار وراء الإنكارات الكونية تلك التى كشفها الوجوديون، فهناك ما يقترب من الإنكار نجده متغلغلا فى استقبالنا وإدراكنا حتى للأحداث التى لا تحمل أى شحنة عاطفية، فجهاز استقبالنا لها ذاته يصير مكبلا إلى الأبد بقيود خبراتنا السابقة “ومعارفنا” ولا يمكننا الفكاك من عملية تشويه الواقع التى تحدث لنا بفعل معارفنا السابقة. الظاهراتيون سعوا إلى الخبرة المباشرة المجردة من أى تأويل أو تفسير، وكان مقدرا للظاهراتية أن تكون بمثابة علم نفس وصفى وليس علما ” تبريريا” ولا “وراثيا” ( 13)
أشار وردزورث إلى “العقل المتطفل” أى الذى يتدخل فيما لا يعنيه ( 14)
”فالمعرفة” تغير علاقتنا بالكون فنخبر الأشياء بشكل مختلف فور تعلمنا لما يجب أن نكون عليه ونفقد إلى الأبد قدرتنا على الخبرة المباشرة لها. النضوج إنما يضع حجابا من تعتيم وقتامة الفهم بيننا وبين العالم.
الفنانون يعون هذه العبودية المعرفية بصورة حدسية. صدر حديثا كتاب شعبى يدعى القدرة على تدريب القراء على الرسم باستخدام الجانب الأيمن من المخ، الجانب الذى لا يعرف بصورة منطقية خطية، أن نستقبل وندرك بدون تفكير فيما أدركناه. صرح بيكاسو تصريحا شهيرا أدعى فيه أنه صرف عدة سنوات لكى يتعلم أن يرسم مثل رافاييل وباقى عمره قضاه فى تعلم كيف يرسم مثل طفل. عيون الأطفال طازجة والفنانون البدائيون استمدوا قيمة أعمالهم من قدرتهم على الإمساك بالعالم بصورة جديدة. إن “معرفتنا” بشكل شيء ما تحول ما نراه فعلا إلى شيء آخر.
لقد كان هدف هوسرل هو زعزعة الإدراكات النمطية وتنقية الرؤية المعتادة. فعلى المراقب الظاهراتى أن يزيح جانبا كل المفاهيم وكل المعرفة للأشياء التى يراقبها، مقاوما فى ذلك كل ميل طبيعى لديه يدفعه فى الطريق المضاد إن محاولة تقويض هذه المعرفة هى ما يسميه هوسرل وضع العالم بين قوسين، محاولة عزل الخبرة عن تدخلات التشتيتات المعرفية ( 15) وصف ماكلويد هذا بأنه “توجه السذاجة المنضبطة “, رؤية بدائى تم تدريبه على البدائية (16 ص 21) كان ينبغى أن يتم اختزال العالم إلى استقبال صرف وهذا هو “الاختزال الظاهراتي”. قاعدة هوسرل إذن بسيطة وصارمة “فى محضر أى ظاهرة.. يستخدم الظاهراتى تناولا خاليا تماما من التحيزات، هو يراقب الظواهر كما تعلن عن نفسها وكما تعلن عن نفسها فقط” (9 ص 96) لعل القاريء يريد الاعتراض على هذه القاعدة : – أليس هذا هو مفهوم لوك عن “اللوح الممسوح” مرتديا ثياب الحملان. لقد شبه لوك العقل بلوح كتابة نظيف، تتم الكتابة عليه من خلال الخبرات المختلفة، فى مفهوم عن الذهن يعتبره مجرد مستقبل سلبى ومنظم للخبرات يبدو كما لو كان هوسرل يريد أن يقنعنا بأنه حتى لو لم يكن العقل عبارة عن لوح كتابة نظيف فعلينا أن نتصرف كما لو كان كذلك، أى يجب تطليق الاستقبال من المعارف، وقد قام كثير من الباحثين بدحض هذا المفهوم بشكل مانع. فعلى سبيل المثال أوضح بياجيه ( 17) أن التفاعل المتبادل بين هضم معلومات جديدة وتكوين أبنية ذهنية داخلية هو الذى يؤدى إلى اكتساب الأطفال القدرة على التفكير المنطقي. أى أن هضم المعلومات والتكيف بها وإدراكها واستقبالها والأنماط Schemata المعرفية كلها تشكل بعضها البعض ولا يوجد ما يسمى استقبال “طبيعي” منفصل عن الذهن الذى ينظمه. كما قدم كارل بوبر (19) أدلة قوية حول خاصية الذهن التنظيمية، التى تنظم استقبالنا للعالم وتعمل على تقدم المعرفة العلمية من خلال صياغة فرضيات قابلة للدحض.
لم يكن هوسرل ساذجا إلى درجة تصور له إمكانية حدوث الاختزال الظاهراتى فعلا، بل كان هذا الاختزال عنده بمثابة مثل أعلي، منارة تهدى الباحث الذى يمخر عباب بحور لا خرائط لها لقد تولدت هذه الطريقة بسبب حدة وعى هوسرل بأننا كمشاركين فعالين فى الاستقبال مجبرين أن نصنع لأنفسنا بصورة مستمرة واقعا ذاتيا (أى نوع من القصدية) لقد كان يسعى إلى تفكيك مساهمة الشخص فى استقبال الواقع وهدم هذا البنيان الذاتى حجرا وراء حجر، ليصل إلى تعرية منهجية للخبرة المباشرة. شبه هوسرل عملية وضع العالم بين قوسين بمحاولة الشك عند ديكارت، الشك حتى عندما تخبرنا كل معارفنا بأنه لا مجال للشك، على الإنسان أن يجاهد فى سبيل ذلك، وأن يحدد كل الفرضيات التى تؤثر على الاستقبال والإدراك”.. وهذه مطالب عسيرة، أن ننحى جانبا كل عادات تفكيرنا المسبقة وأن نرى عبر الحواجز الذهنية بل أن نهدم هذه الحواجز التى أحاطت بآفاق تفكيرنا أن نتحرك بحرية فى هذا الطريق الجديد فعلينا بذل مجهود دراسى شاق لكى نتعلم أن نرى ما هو ماثل أمام عيوننا وأن نميزه، ونصفه كما هو” (19 ص 8) ولعل أفضل ما يستطيعه المرء هو أن يضع فرضياته بين قوسين، بنفس الطريقة التى نعزل بها متغيرات التجارب المعملية فى تقنيات المعامل. وهنا يقول ميرلو-بونتى واصفا توجيهات هوسرل فى هذا المجال: “الاختزال هو القرار بتعليق كل الإقرارات التى تتولد من تلقاء ذاتها وتحيط بى من كل جهة، لا أن أقمع هذه الإقرارات بل أن أوقفها مؤقتا عن العمل، ولا أن أتنكر لها أو أنكرها بل أن أفهمها وأعلنها أو أفضحها” (20 ص 56) فجهاد الباحث هنا يجب أن يظل بلا نهاية: إن أعظم تعاليم الاختزال الظاهراتي، فى رأى ميرلو-بونتى هو فى الواقع استحالة الوصول إليه (10) فى مساعيه الأولى استعار هوسرل مقولة ديكارت “محاولة الشك” ولكنه استخدمها هنا كخطوة داخل المنهج ونصب عينيه غرض جديد هو “إيقاف عالم النظريات المسبقة عن العمل، بكل ما تحمله من تعتيم على رؤية الظواهر كما هي” (10 ص 99 : 100) فهوسرل على النقيض من ديكارت لم يكن يشك فى العالم إطلاقا، بل كان يحاول أن يعود إلى واقعية الخبرة المباشرة للعالم.
ويمكن للمرء فى هذه الروح أن يرتاب ويختزل حتى الظواهر الملموسة والعينية تماما، لكى يجبر خياله على أن يأخذ فى الاعتبار أمورا كانت تعتبر مستحيلة من قبل. كما يقول هوسرل إن محاولة الشك فى كل شيء تحتل مكانها فى مملكة حريتنا المطلقة. فيمكننا أن نرتاب فى أى شيء وفى كل شيء، مهما كانت درجة اقتناعنا بالأمور التى نرتاب فيها وحتى إن كان البرهان الذى يختم على يقيننا هذا كافيا تماما (15 ص 97) بما يذكرنا بمفهوم أينشتاين غير المعتاد عن الجيدانكن gedanken “الأفكار” أو تجارب أسفار الذهن التى تتناقض مع كل ما نعرفه من المباديء الطبيعية.
ربما يعترض القاريء على هذا التسلسل الفكرى فالإنكار هو دفاع ضد عاطفة ما، آلية مقصود بها منع الألم، بينما الاختزال الظاهراتى يتعامل مع الاستقبال والإدراك، أمر أقل عاطفية. ومن الخطأ أن نقول بأن أنماط الاستقبال أو الإدراك، حتى إن كانت غير مرنة، هى امتداد لميكانيزم الإنكار بالمعنى المعتاد للكلمة.
وهذا صحيح بطبيعة الحال، اللهم إلا فى حالة مشكلة مميزة هى إدراك الذات أو استقبالنا لذواتنا. فحينما تموضع الذات نفسها، نواجه مشكلة التصلب الإدراكى المشابهة لمشكلة الإنكار، والتى لها بعد معرفى كما أن لها بعد دفاعي; هى مشكلة تشكل أهمية لا يستهان بها للمعالجين المهتمين بتغيير الذات فصورة الشخص عن نفسه أو إدراكه لها يجب أن يوصف بمنظومة معرفية ومنظومة عاطفية فى آن واحد، حتى عند أكثر العلاجات النفسية ميلا إلى التدعيم وابتعادا عن المباشرة.
لقد ناقش كل من فرويد (21) وإديث جاكبسون، مشاكل تفتيت الذات الناتجة عن استخدام الأنا لمكيانيزم الإنكار. فاستخدام ميكاينزم الإنكار يضع الذات الشاعرة فى مقابل الذات المستقبلة أو المدركة بما يؤدى إلى توزع الوعى فى حجرات منفصلة، إلى تقسيم الأنا. وما يهمنى هنا هو مشاكل الإدراك المتجدد، وبشكل خاص الفرص المتاحة للذات لكى تفهم نفسها بصورة جديدة أو بعبارة أخري، التطبيق العلاجى للإبداع على صورة النفس، وتفتح احتمالات جديدة لاستقبال النفس.
وأعود الآن إلى فرويد ومفهومه الثورى عن أداة التداعى الحر.
التداعى الحر
لقد صمم منهج فرويد فى التداعى الحر أصلا لأسباب مختلفة تماما عن الأسباب التى كانت وراء نشوء الاختزال الظاهراتي. فقد كان فرويد مهتما بنسيج اللاشعور وكان يطلب أسلوبا يكشف به تشابكات هذا النسيج. فقد أثبت التنويم الإيحائيhypnosis(3)] أنه لا يمكن الاعتماد عليه، كما أثبت أنه لا ضرورة له مع ظهور هذا الأسلوب الجديد. سيكشف اللاشعور خطوطه العريضة إذا ما قال المرضى “أى شيء يخطر على بالهم، حتى إذا اعتقدوا أنه غيرمهم أو غير ذى معنى أو لا صلة له بالموضوع بدون أن يحذفوا أى خاطر أو فكرة من قصصهم مهما سببت لهم من إحراج أو انزعاج (23 ص 251).
القاعدة الأساسية للتحليل النفسى هى أيضا مثل أعلي، مستحيل إدراكه.
وقيل إنه حينما يتمكن المريض حقا من التداعى الحر فعلا فإن هذا يكون إيذانا بإنهاء العلاج، ولعل معظم عمل التحليل النفسى يتعلق بتحليل علة عدم قدرة المريض على التداعى الحر، أى تحليل المقاومات أمام قول كل ما يخطر على البال. على المريض أن يقول كل شيء وينحى جانبا ما يعرف أو يظن أنه مهم، المثل الأعلى هو تعليق الحكم مؤقتا.
لابد أن مقارنتى الآن أصبحت جلية أمام القاريء ففى تعليقه للحكم على محتويات ذهنه يطلب من الخاضع للتحليل النفسى أن”يختزل” ذاته، أن يضع نفسه كمراقب لنفسه “بين قوسين”. إن المطلب الأساس لقاعدة التحليل النفسي: التداعى الحر، يتشابه مع الاختزال الظاهراتى تشابها بالغا: فعلى المرء أن يوقف مؤقتا ما يعرفه حتى يتمكن من اكتشاف مالم يكن يراه من قبل، المنهجان يهيئان المسرح لاستقبال الأشياء المألوفة بطرق جديدة جذريا، والمنهجان يرفعان من احتمالات حدوث فهم جديد.
يمد فرويد دائرة مقولته عن التداعى الحر لتشمل المعالج أيضا فلم يكن على المحللين أن يدربوا أنفسهم على التداعى الحر جنبا إلى جنب مع مرضاهم فى حالة من “الانتباه المحلق” فحسب، بل كان عليهم أيضا أن يمارسوا توجها فى الملاحظة شديد التطابق مع الاختزال الظاهراتي، هو موقف لا يضع خاتمة نهائية. يقدم لنا فرويد نصيحة مذهلة : -
”ليس من الجيد أن نعمل على حالة ما بصورة علمية بينما العلاج لازال مستمرا – فالانشغال العلمى يتطلب وضع مكونات الحالة جنب إلى جنب، ومحاولة التنبوء بكيفية تطورها، ووضع تصور ما من حين لآخر عن مجريات سير الأمور. الحالات التى تخصص من البداية للأغراض العلمية ويتم علاجها على هذا الأساس، تعانى من جراء ذلك من حيث النتيجة النهائية، الحالات الأكثر نجاحا هى تلك التى يتعامل معها المرء بدون أن يضع نصب عينيه أى قصد، ويسمح لنفسه بأن تفاجأ بأى تحول جديد ويتعامل بذهن مفتوح، حر من أى افتراضات مسبقة. السلوك الصائب للمحلل النفسى يكمن فى التأرجح حسب الحاجة من موقف ذهنى لآخر، وفى تجنب أى تخمينات وتجنب أى سكون إلى تأملات فكرية عن الحالات حال كونها لاتزال تحت التحليل، وألا يخضع المحلل المعلومات التى يحصل عليها لأى عملية ولاف فكرى قبل أن ينتهى التحليل (24 ص 114).
يحذر على المحلل وضع أى استنتاجات قبل نهاية التحليل، فعليه أو عليها أن يحتفظ “بذهن مفتوح، حر من أى افتراضات مسبقة”.
أى موجز بليغ لمنهج هوسرل! توجه المحلل ينبغى أن يتساوى تقريبا مع قاعدة المريض فى التداعى الحر أو كما يعبر ريكور: “الاستماع الكامل من قبل المحلل يتوازى مع الاتصال الكامل من قبل المريض ” (25 ص 409).
ويسعنا الآن أن نصف كلا من التداعى الحر والاختزال الظاهراتى فى علاقتهما بالإبداعى أو التخيلي; فالعمليتان تضعان نصب أعينهما فتح الاحتمالات، وكلاهما يتطلب تعليق المفاهيم المسبقة أو توقيفها مؤقتا لصالح الاكتشاف، هذا التعليق أو التوقيف هو طابع مميز لمحاولات وصف العملية الإبداعية، بالإضافة إلى ذلك، تتميز هذه العمليات بكونها خالية من القسر، ومبدعة بصورة تخلو من مراقبة الذات، هى عمليات غير مخطط لها.
منذ فترة قريبة، فيما كان أحد المرضى ينهى علاجا استمر عدة سنوات قال لي، وهو يذكرنى بأن نقطة التحول فى علاجه كانت حينما أخبرنى بحلم معين، ثم أعاد سرد هذا الحلم بكل تصويراته ورموزه النابضة بالحياة، كان هذا فى اللحظات الأخيرة من علاقة حميمة نشأت بيننا، قبض الحلم فيها مرة أخرى على مواضيع حياة المريض المحورية، وفيها أدركت، بحماس بالغ، أن الحلم الذى يعيد سرده الآن بحيوية كان مختلفا، اختلافا ذا دلالة، عن النسخة التى حكاها بصورة واضحة منذ عدة سنوات، وكنت قد دونتها كتابة، بحرص، فى حينها. لقد كانت هذه النسخة الجديدة طبعة مراجعة وأكثر ثراء من نفس الحلم الظاهر، والأهم من ذلك، فقد تغيرت عناصر الحلم بحيث تزودنا باستبصارات جديدة لم تكن ظاهرة لنا من قبل، وقادتنا تداعياته وتداعياتى لمناطق جديدة، مع تطور العلاج تطورت “حقائقنا” أيضا(4).
أقصد أنه لم تكن هناك حقيقة ساكنة يمكن أن تكتشفها فحوصاتنا، الحقيقة العلاجية كانت جدلا، إبداعا ناتجا من العلاقة نفسها، صيرورة مستمرة من احتمالات تتطلب مزيدا من الاستكشاف، حتى حقائقنا العلاجية التى فزنا بها بمشقة شديدة كانت تتحول باستمرار.
فإذا استخدمنا كلمات ريكور: “المحلل بالكاد يساير قدما تقدم الذاتية التى يساعد فى عملية التعرف عليها فكلا الظاهراتى والمحلل يدركان أنه لا نهاية للحوار” (25 ص 388) ويقتبس دى وايلهانز “من وجهة نظر المحلل، المعرفه المطلقة لا معنى لها” (25 ص 388)
على كل مدرسة بطبيعة الحال أن ترعى وتنمى الخلفية الإكلينكية لمعطياتها الفريدة وطرحى هو أن المناهج العملية للظاهرتية والتحليل النفسية متماثلة فى علاقتها بالعملية الإبداعية; فهى مناهج تؤدى إلى تهيئة أفضل وضع لإمكانية استقبالات وإدراكات وأفكار جديدة، هى تسمح بالتشكيلات المباغتة للجديد فى انبعاثه من القديم.
لعل الانفتاح على المفاجأة هو أخص ما يميز المثل الأعلى لمباحث المدرستين، فبدلا من فرض نظام ما، نخلى السبيل من كل تصور مسبق وعلى حد قول فرويد عن التوازى بين التوجه الذهنى للمعالج والتوجه الذهنى للمريض، المعالج “يسمح [لنفسه] بأن يؤخذ على حين غرة بتحول جديد”. إن وصف ماى للقاء الوجودى مليء بالإحساس بالدهشة فثمة “لقاء لحظى بشخص آخر تدب فيه الحياة، بالنسبة لنا، على مستوى مختلف عن كل ماكنا نعرفه عنه “ما يسعى إليه هو” خبرة مباغتة وأحيانا قوية، أن هاهنا شخصا جديدا، خبرة عادة ما تحمل معها عنصرا من عناصر المفاجأة” (26 ص 37) هذا العنصر جوهرى فى الاختزال الظاهراتى والتداعى الحر – فهما منهجان قد وضعا كخطوات أولى فى عملية استكشاف احتمالات لم تخطر على البال وبهذا المعنى هما منهجان إكلينيكيان يعززان الإبداع فى علاقته بالذات، تناولان يمكناننا من النمو من خلال المفاجأة، ذلك الانفتاح على التلقى يتطلب قدرة على تحمل عدم اليقين، وتأملات جون كيتس وثيقة الصلة بهذه النقطة.
المقدرة السلبية
فى خطاب صار شهيرا الآن بعثه كيتس لإخوانه، كتب أن شكسبير كانت له “مقدرة سلبية وهى خبرة إنسان قادر على الوجود فى عدم اليقين والسر والشكوك بدون أدنى محاولة مهتاجة إلى الوصول للواقع أو العقل” (27 ص 193) أى دقة تلك التى استطاع كيتس أن يضع يده بها على معضلة كل من المعالج النفسى والشاعر هذه “المحاولة المهتاجة للوصول إلي” هى ماكان فرويد وهوسرل يحذران منه، القدرة على الاحتفاظ بانتباه محلق، أو تعليق العالم مؤقتا، تتطلب مقدرة سلبية، إمكانية التحول للوقوف ضد بذرة الاحتياج للمعرفة.
الوظيفة التنظيمية الولافية للإدراك (الاستقبال) هى من ملامح الذهن الأساسية ولعل هذا الاحتياج إلى الإكمال جزء من صميم تكوين آلة الأعصاب. فى تساؤله عن “نماذج يونج الأولية” أو البدائية والرموز الكونية، قام كينيت وايس (مخطوط غير منشور) بمراجعة ماكتب عن “فن” الثدييات العليا (الرئيسيات) هل الدوائر والصلبان والأطواق المحيطة بالمربعات كلها جزء من تراثنا التطوري، “وعى جماعي” للثدييات العليا؟ هل ستنتج حيوانات الشمبانزى أشكالا تخضع “لنماذج بدائية” إذا ما أتيحت لها فرصة للتدرب على أعمال الإبرة (الكانفاه)؟
لقد قامت حيوانات الشمبانزى فعلا بإغلاق الدوائر وتسويد الفراغات وتحقيق رسومات متساوقة، لقد حاولت هذه القردة دائما أن تتمم الأنساق وتنتج حسا من الاتزان والشكل كما يعرفه البشر، أيا كانت تفسيرات معطيات هذه التجارب; فوفقا لتصميم داخلى تقوم ذواتنا وأمخاخنا بتنظيم خبرتنا وتأسيس أنساق من الاستقبال، وتوصيات هوسرل وفرويد تقف بالمرصاد لهذا الميل الولافى الطبيعي.
توصيات فرويد وهوسرل تتشابه مع تناول الفنانين والشعراء التى تقوم أولا بتمزيع الأشكال المألوفة وتفكيك ما نعرفه حسب ملاحظة بيكاسو القائلة: “كل فعل إبداع هو فعل تدمير” ولعل هذا سبب من أسباب خوف المجتمع دائما من الفنانين، الحكومات الشمولية تولى انتباها خاصا لما يسمح لفنانيها باستكشافه، لئلا يدمروا نظاما لا ينبغى لهم أن يدمروه.
تعبير التحليل النفسى الغريب “النكوص فى خدمة الأنا” (28) هو محاولة فى علم دلالات الألفاظ للإمساك بهذا الخلف (القلب أو الانعكاس) للوظيفة الولافية للمعرفة التى تتولد عن العملية التخيلية والإمكانية التدميرية الناتجة عن ذلك حيث تفسح العمليات الثانوية، بنظامها الكونى المنطقي، المجال للفوضوية النسبية للعمليات الأولية. لكن أن نسمى هذا الفعل نكوصا يبدو تسمية مضللة فالنكوص هنا يصل إلى البدائي، غير المستحدث، والإبداعية تتطلب ازدياد الاحتمالات وتجربة حلول لم تجرب من قبل. الإبداعية تدلف يقينا إلى نمط لاشعورى من التفكير ولكن هل هذا نكوص؟ إن نفى ماهو معروف، المقدرة السلبية والإطاحة بالمألوف، هو بهذا المعني، فعل إرادى بل هو عدوان. بيكاسو مجدد أسس تيارات فى الفن تبنى على ما سبقه وتدمره فى ذات الوقت، إن مما يدعو للسخرية أنه قد قام بوضع السياق الذى عمل هو نفسه فيما بعد ضده; ففى استمراره مبدعا قام بالتخلى عن والتضحية بعمله الخاص أيضا، فحطم ما كان قد عرف وأنجز من قبل. إن فعل العدوان على الذات من خلال النفى لهو من تكاليف النمو المستمر للخيال الإبداعي.
كتب كيتس عن الشاعر : -
”الشاعر هو أبعد شيء فى الوجود عن الشاعرية، لأنه بلا هوية فهو دائما متورط فى شيء آخر وشاغل لحيز هذا الجسم الآخر. الشمس القمر البحر والرجال والنساء كلها مخلوقات نابضة شاعرية، ولكل منها صفة خاصة لا تتغير أما الشاعر فلا صفة له ولا هوية – هو يقينا أقل مخلوقات الله شاعرية فلا ذات له” (27 ص 387).
فى “عدم وجود هوية” كتب روجرز عن المعالج بوصفه “لوح زجاج” يكاد يكون لا وجود له والمعالج التحليلى أيضا يجاهد من أجل الحيدة، أملا ألا يلوث العلاج بإدخال عناصر شخصية لا ضرورة لها. المحلل يطلب من نفسه (أو تطلب المحللة من نفسها) إخضاع الأنماط العادية من التفاعل الإنساني، فى كف تفرضه متطلبات المنهج.
هذا النفى للذات من قبل المعالج، يتضمن نوعا من العدوان على الذات، أن يقوم المرء بغمر أو تغطيس ذاته، بالخضوع لعدم المعرفة، بتنحية النفس جانبا، ولعل هذا أحد مكونات الطبيعة المرهقة أحيانا للعمل العلاجي، فعلى المعالج لا أن يتحمل مشاعر حادة فحسب; بل أن ينكر نفسه فى سعيه للآخر. أشار كيتس لإزاحة الذات عند الشاعر فى قوله: -
”عندما أكون فى ذات الغرفة مع الناس، يقدر لى أن أتحرر من مخلوقات ذهنى الخاصة لا تعود نفسى إلى ذاتها، بل تبدأ هوية كل شخص فى الغرفة تضغطنى [حتي] إننى فى وقت قصير جدا أفنى تماما” (30 ص 260 – 261) بما يذكرنا بوصف إلنبرجر للاختزال الظاهراتى حيث “يجاهد الظاهراتى لاستبعاد التفرقة بين الذات والموضوع” (9 ص 69).
(بعدما فرغت من كتابة هذا المقال وقعت على مقال ساحر لراسل ميرز (31) يستكشف فيه الصراع بين “الحيدة التقنية” والمواجدة. يبنى على ملاحظات كيتس مقارنة بين توجهات المعالج النفسى “غير الشخصي” والشاعر “المجرد من الذات”. وأطروحته، مع كونها مختلفة عن أطروحتي، تتفق مع العديد من أفكاري)
إن توصيات كل من فرويد وهوسرل هى خطوات أولية للعملية الإبداعية فى علاقتها بالاستبطان: فعلى كل من المعالج والفنان أن يسمح للعالم بأن يتمزع، ثم يعيش مع شظايا فكرية سامحا بانعدام اليقين، قبلما يتاح لهما إعادة تجميع أبنية جديدة وإلا “إذا ما اقتفى إثر توقعاته يتعرض لخطر عدم العثور إلا على أشياء كان يعرفها من قبل” (24 ص 112) أكد فرويد على أن التحليل النفسى هو فى ذات الوقت ثلاثة أشياء: منهج للبحث، منظومة من النظريات، وعلاج (32) ولعله كان محتاجا أن يذكرنا أن هويات التحليل النفسى الثلاثة ليست مترادفات ولا حتى بالضرورة متوافقة مع بعضها. المنهج البحثى يجب أن يقوم، بطبيعة تكوينه، بالاستقلال عن، وأحيانا بالمعارضة مع، ما هو مقبول نظريا. لقد صمم كل من فرويد وهوسرل مناهج ينبغى أن تخلق توترا جدليا فى قلب أنظمة المعرفة التى وصلت إليها بمشقة بالغة فى روح الأمانة البحثية. الاختلاف كان مضمونا. مايدعو للسخرية هو أنه كلما تعلم المرء كان عليه أن يضع جانبا مقدارا أكبر من المعرفة. إن هذين المنهجين بطبيعة تكوينهما يهيئان المراقب -المتمسك بهما- للجدة الإدراكية، إنهما بطبيعتهما إبداعيان ولهما طابع فني.
المواجدة التخيلية والمنظر الطبيعى الداخلي
مقدرة كيتس السلبية، كانت خطوته الأولى نحو انفتاح ذهنه على مدركات جديدة: “لحياة الحس بدلا من حياة الأفكار” (27 ص 185) كم يبدو كلامه قريب الشبه من كلام الظاهراتى “ما ينادى به الظاهراتيون باستمرار هو أن معرفة ما نقوم به معرفة كاملة، الإحساس به، خبرته بكل كياننا، أهم بكثير من معرفة لماذا. لأنهم يتمسكون بأنه إذا عرفنا “ماذا” تماما “فلماذا” ستأتى من تلقاء ذاتها” (26 ص 83) ولم يكن لكيتس أن يخبر خبرة طازجة إن لم يحرر نفسه مما “يعرف”.
لكن هناك المزيد، مما تضيئه لنا بشكل خاص دراسة و. جاكسون بيت الثرية لحياة وأعمال كيتس (30) فالتأكيد على العبارة الشعرية “المقدرة السلبية” يهمل مرحلة ثانية، لعلنا نجد فى أحد الخطابات المفقودة لكيتس عبارة لاتقل غنائية، لكنى سأقنع الآن بعبارة “المقدرة الإيجابية”. الكلمة الألمانية لهذه العبارة الموجبة هى Einfuhlung بمعنى “فى الإحساس” أو “الإحساس النافذ إلى شيء ما” (14, 30) لم يكن هناك ترجمة إنجليزية معادلة لهذه الكلمة فى زمن كيتس، ولاحقا ترجمت Einfuhlung إلى empathy أو المواجدة، والتى صارت منذئذ كلمة مبهمة جدا وشديدة التقنية فى الطب النفسي.
لقد كان شغف كيتس بالمواجدة متعلقا بالإبستمولوجى (علم إمكانية المعرفة وكيفيتها) كيف يتأتى للشاعر أن “يعرف” الحق والجمال، لقد كان مراد كيتس تلمس النفاذ إلى داخل واقع الآخر من خلال الإحساس به، كما لو كان ينير موضوع تأمله من الداخل.
لقد كان غرض الخيال الشاعرى هو رسم خريطة للتضاريس الداخلية تأسيسا “للمنظر الطبيعى الداخلي” inscape (33) وصف صديق قدرة كيتس على التخيل المتعاطف “أكد أن باستطاعته تفهم كرة البلياردو، لعلها كانت تبتهج بإحساسها باستدارتها ونعومتها ولفها الخاطف وسرعة حركتها” (27 ص 389) وقال كيتس نفسه ذات مرة “لو أن عصفورا حط مقابل نافذتى أشاركه وجوده (كذا) وألتقط الحصي” (27 ص 186) وتعجب صديق آخر من التفاصيل التى قد يلحظها كيتس “يبدو أنه لم يدع شيئا يفلت منه أغنية طائر، النبرة الخافية فى الكلام من المراوغة أو التغطية، حفيف حيوان ما، تغير النور الأخضر أو البنى فى ظلال مسترقة، حركة الريح وكيف تهب على زهور طويلة أو نباتات بعينها، مسارات السحب، حتى ملامح وإيماءات المتشردين من عابرى السبيل أو لون شعر امرأة ما، ابتسامة على وجه طفل، الحيوانية الخافية تحت إنسانية خادعة للمتسكعين حتى القبعات والملابس والأحذية، أينما ألمحت هذه الأشياء ولو من أبعد طرف لحقيقة نفس مرتديها” (30 ص 255) “المنظر الطبيعى الداخلي” – لفظ كان حريا بالظاهراتيين أن يدعوه – هو ما يصيب قلب هدف عمل العلاج النفسى الوجودى : الدخول إلى ومشاركة عالم الآخر. المعالج الوجودى يجاهد أن يحيا ولو للحظة داخل وجود الآخر، مثله مثل هذا الشاعر الشاب.
وروجرز يسمى هذا “إطار المرجعية الداخلي” (29) فى موضع آخر كتبت أنا وهافنز عن خطوتين واسعتين تجاه مشاركة عالم الآخر (34) الخطوة الأولى هى “انتفاء تنحية التوقعات والافتراضات المسبقة جانبا، تفادى الاستنتاج حول المريض” (ص 423) الخطوة الثانية هى المواجدة “الإسقاط التخيلى لوعى المرء الشخصى إلى داخل وجود الآخر” (قاموس وبستر الجامعى الجديد، الطبعة الخامسة), التقاربات بين هذه المفاهيم وعملية كيتس الإبداعية والشعرية مذهلة لي، الخطوة الأولى تقابل المقدرة السلبية والثانية تقابل الــEinfuhlung أو التخيل المتعاطف والخلاق، والأهداف أيضا متوازية. يصف انجل مواجدة الشاعر بأنها تذيب “الحد بين الموضوعي، العالم الخارجى والنفس الذاتية، يمكن للخيال، بفضل عملية التقمص أن ينطلق إلى العالم الخارجى وإلى داخل الناس والنتيجة لا تكون موضوعية تماما ولا ذاتية تماما بل دمج للاثنين (14 ص 159).
المقدرة السلبية عند كيتس خطوة مبدئية للمواجدة. وظيفة إيقاف الذات عن العمل هى إفساح مجال الإدراك من تلك العناصر النفسية داخل المراقب التى قد تفرض بنية مسبقة.
وعلى الرغم من ضرورة سعى الشاعر الإكلينيكى إلى هذه الحالة سعيا نشطا، وعلى الرغم من كونها تتطلب يقظة للاحتفاظ بها، فإن المقدرة السلبية ليست إلا حالة إعدادية، شرطا مسبقا للعملية التخيلية والمواجدة، كما لو كان على المرء أن ينظف أو يضبط أوتار آلته النفسية قبل أن يواصل العمل (34).
الاستبصار صعب المنال يبدو سهلا واضحا إذا تأملناه بعد حصولنا عليه، لماذا نرى الإبداعية المتضمنة فى المواجدة مفاجأة ؟ عبقرية شكسبير وجوتة تكمن، فى رأى كثيرين، فى ملكتهما غير المعتادة فى المواجدة. كتب الناقد هازليت فى عصر كيتس عن شكسبير:
”فى ذاته كان لاشيء، لكنه كان كل ما كانه الآخرون أو ما يمكن أن يكونوه، لم يملك فى ذاته بذار كل صفة وشعور فحسب ولكنه كان قادرا على تتبع هذه الصفات والمشاعر، حدسيا بقدرة على التوقيع إلى كل تفريعاتهم الممكن تصورها وعبر كل تغير فى الطالع أو صراع للوجد أو تحول فى الفكر. لم يكن عليه إلا أن يفكر فى شيء ما فيصير هو نفسه هذا الشيء، بكل الملابسات المتعلقة به” (30 ص 259 – 260) تتطلب المواجدة الشاعرية، بطبيعة تكوينها، مواهب تخيلية وإبداعية. علاوة على ذلك فمع أن المواجدة موهبة أو ملكة إما أن تكون موجودة بدرجة أو أخرى أو لا تكون; فإنها أيضا تتطلب التطوير والتدريب، على الفنان أن يتدرب عليها.
لمرات عديدة، فى أثناء تدربى كمعالج، شعرت بالأهمية الحيوية للمواجدة، ومع ذلك فقد بدت لى كجانب متلقى من جوانب العملية العلاجية، كوظيفة تهيوء أو “إمساك” أكثر من كونها عملية نشطة أو فاحصة أو تخيلية ولعل سوء فهمى هذا استتبع ندرة المكتوب فى العلاج النفسى عن التخيل المواجدي، حتى الكتابات الحالية فى علم نفس الذات تنزل من مرتبة المواجدة إلى مكانة ثانوية، على اعتبار أنها ليست إلا مقدمة للفاعلية الحقيقية أى التأويل.
أحد عباقرة المواجدة فى مجالنا، إلفن، الذى قدم نفسه باعتبار أنه رجل بسيط قليل الشغف بالأفكار العظيمة، كان فتى قرويا من نبراسكا. ونصيحته فى اليوم الأول من تدريب الأطباء المقيمين المبتدئين والمتحمسين النفسيين كانت تجفلهم: لا تزعج نفسك كثيرا فى أول سنة أو سنتين من تدريبك، بالمذاكرة. لقد كان توقعه صحيحا فى كون المشكلة الأساسية أمام معظمنا ليست فى مقدار ما نعرف بل فيما إذا كنا قادرين على التوقف والاستماع. لقد جعلنا نبدأ بالمقدرة السلبية، وقتها طبعا لم يكن عندى وصف لفظى لما يحدث، إن ما نعتقد أننا نعرف يقف فى طريق مواجدتنا أكثر من اللازم، معرفتا يمكن أن تستخدم بصورة دفاعية كوقاية مما لا نستطيع تحمله. أسلوبه نفسه، على الرغم من أنه كان يصدنا عن تقمص الجوانب الإبداعية والتخيلية من عبقريته بما فيها من جوانب رنانة، وضعنا على أول الطريق الملكى للمواجدة، طريق الجلوس والاستماع للمرضي.
لقد خبرت سمرد بصورة سحرية، وقد كان ككل الفنانين العظام كذلك فعلا فلتسمها “Einfuhlung” , مواجدة، مقدرة إيجابية، إنسانية أو ما شئت لكنه كون لنفسه قدرة غير عادية على تلمس طريقه حدسيا إلى داخل أرواح الآخرين، متابعته فى أثناء مقابلته للمرضي، حتى حينما كان يخفق فى التلامس معهم، كانت فرصة لمراقبة روح مبدعة حقا.
لم يكن هناك كلام بغير لزوم، كلماته كانت ثاقبة كالأقوال المأثورة، كلها تصلح للاقتباس وتخاطب القلب مباشرة كما قال فلوبير. كيف نحصل على سطر من الشعر كلما ضغطنا أفكارنا إلى أقصى درجة؟
سياق المواجدة التخيلية
انتقلت بشيء من الإحساس بالمفاجأة من اختزال هوسرل الظاهراتى وقاعدة فرويد الأساسية إلى كيتس والمقدرة السلبية، ومن هناك تحرك الطريق إلى Einfuhlung والمنظر الطبيعى الداخلى أو المواجدة وأكدت على الجوانب التخيلية والإبداعية للمواجدة. وهى منطقة مهملة فى أدبيات العلاج النفسي.
المواجدة عملية ذهنية وبين شخصية مركبة، تضم تحت مظلتها ظواهر عديدة.
يمكننا تشريح المواجدة كما أشار بيوى (5) إلى أربعة مكونات: المواجدة الفكرية (التى تنبر على الفهم المعرفى للمريض) مواجدة خبرة الذات (التى تشير إلى الذكريات قليلة الحدة والمشاعر والتداعيات التى يخبرها المعالج) المواجدة التخيلية المحاكاتية (تخيل ومحاكاة لنموذج مصنوع لهذا الغرض من عالم المريض الداخلي) والمواجدة المرددة للصدى (نوع من “العدوي” الوجدانية).
وقد حذر بيوى عن حكمة من التعسف فى هذا التقسيم وأوضح أن الحياة الواقعية تحمل مزيجا من هذه النوعيات المختلفة من المواجدة.
إلا أن المواجدة التخيلية المحاكاتية قد تكون أقرب هذه الأنواع لمثل كيتس الأعلى ولنوع المواجدة التى حاولنا التعامل معه فى هذه المقالة. كما أشار بيوى أن استخدام هذا النوع يتضمن أكبر قدر من مط القدرات التخيلية وله خاصية إبداعية.
ويمكننا أيضا أن نقسم المواجدة إلى نمط ساكن ونمط نشط. المواجدة “المرددة للصدي” يمكن أن توضع على حد النقيض من “المواجدة التخيلية”, ترديد الصدى كرنين وتر الآلة موسيقية عند الطرق عليها، يدين بوجوده لآخر، وفى المقابل تؤكد المواجدة التخيلية على الخاصية الساعية بنشاط لولوج عالم الآخر، التخيل يشيد عالما جديدا، عالما ليس مفتوحا لدخول المراقب على الفور. كارل روجرز أكد على المكون السلبى المردد للصدي، وصف المعالج بكونه لوح زجاج بينما دعا مارتن بوبر، المعالج الوجودي، الأكثر تفعيلا إلى “تأرجح جسور، يتطلب تحريك كيان المرء إلى داخل حياة الآخر”, على المرء أن “يتخيل الحقيقي”, إن يكتسب الحس “بذلك الشخص المحدد والحقيقى الذى يواجهني… فى كليته وفرادته ووحدته”. (35 ص 110) والوقفة المواجدية المركبة هى ساكنة تردد صدى الخبرة، وفى ذات الوقت فاعلة فى تخيلها لما هو مستعصى على المعرفة فى الآخر. المواجدة تبزغ من ذلك التشابك المتصاعد لهاتين القوتين المتنافستين واللتين يعزز أحدهما الآخر.
وبعد كل ما يمكن أن يقال ويصنع، تبقى المواجدة التخيلية تخيلية. وعلى المواجدة أن تخضع للفحص وإعادة الفحص بمقياس الخبرة الواقعية، إذا أردنا تجنب أن نحول الآخر إلى كائن من نسج الخيال. فى وصفه لخوف كيتس المماثل، كتب إنجل (14) عن “خيانة الخيال” وحاجة الشاعر إلى تصحيح النفس باستمرار. وكذلك يمكن للمعالج أن يسقط خبرته الشخصية على المريض. وما يظهر فى صورة المنظر الطبيعى الداخلى للمريض قد يكون أقرب إلى التعبير عن حياة المراقب الداخلية.
وها أنا أعود فى دائرة كاملة إلى توصيات هوسرل وفرويد. إن توجيهاتهما الخاصة بالمقدرة السلبية تحمل فى طياتها ميكانيزمات للفدبكة ضد هذه التشوهات. على المرء أن يواصل تنحية ذاته جانبا، وأن يحاول الارتياب حتى فيما يبدو جليا وواضحا. يجب الإبقاء على يقظة دائمة أو تحويل مضاد بالمعنى الأوسع للكلمة. فعلى المعالج أن يجاهد من أجل وضع من التوتر بين المعرفة وعدم المعرفة. المواجدة ليست مجرد ترديد صدى مع الآخر، بل هى فعل إرادى وإبداع. كما قال هازليت (30 ص 262) “تـستدعى أقصى موارد التخيل من أجل فتح أعمق تحركات القلب”.
REFERENCES
.1 Borges JL: Borges, A Reader. Edited by Monegal E. Reid A. New York, EP Dutton & co, 1981
.2 Freedman AM, Kaplan Hl, Sadock Bj (eds): Comprehensive Textboook of Psychiatry, 2nd ed, vol .2 Baltimore, Williams & Wilkins Co, 1975
.3 Freud S: Group psychology and the analysis of the ego ( 1921), in Complete psychological Works, standard ed, vol .18 London, Hogarth press, 1955
.4 Kohut H: The Restoration of the Self, New York, International Universities press, 1977
.5 Buie DH: Empathy: its nature and limitations. J Am psychoanal Assoc 29: 281- 307, 1981
.6 Schwaber E: Empathy: a mode of analytic listening. psychoanalytic Inquiry 1: 357 – 392, 1981
.7 Havens LL: The existential use of the self. Am J psychiatry 131: 1 – 10, 1974
.8 Havens LL: Explorations in the uses of language in psychotherapy: simple empathic statements. Psychiatry 41 : 336 – 345, 1978
.9 Ellenberger HF: A clinical introduction to psychiatric phenomenology and existential analysis, in Existence. Edited by May R, Angel E, Ellenberger HF, New York, Simon and Schuster, 1958
.10 Merleau – Ponty M: what is phenomenology in the Worlds of Existentialism. Edited by Friedman M. Chicago, University of Chicago press, 1964
.11 Havens LL: Approaches to the mind. Boston. little, Brown and Co, 1973
.12 Sullivan HS: The Psychiatric Interview. New York, WW Norton & Co, 1970
.13 Wyss D: psychoanalytic Schools from the Beginning to the present, New York, Jason Aronson, 1973
.14 Engell J: The Creative Imagination : Enlightenment to Romanticism. Cambridge, Harvard University Press, 1981
.15 Husserl E: ldeas, General Introduction to Pure Phenomenlolgy. New york, Collier Books, 1962
.16 May R: The emergence of existential psychology, in Existential psychology. Edited by May R. New york, Random House, 1969
.17 Piaget J: The Construction of Reality in the Child. New York, Basic Books, 1954
.18 Popper K: The Logic of Scientific Discovery. New York, Harper & Row, 1968
.19 Misiak H, Sexton VS: Phenomenological, Existential, and Humanistic Psychologies: A Historical Survey. New York, Grune & Stratton, 1973
.20 merleau – Ponty M: The Primacy of Perception. Edited By Edie J. Chicago, Northwestern University press, 1964
.21 Freud S: An outline of psycho – analysis ( 1940 ), in Complete psychological Works, standard ed, vol .23 London, Hogarth press, 1964
.22 Jacobson E: Denial and repression. J Am psychoanal Assoc 5: 61 – 92, 1957
.23 Freud S: Freud’s psycho – analytic procedure (1904), in complete psychological works, standard ed, vol .7 London, Hogarth press, 1953
.24 Freud S: Recommendations to physicians practising psychoanalysis ( 1912), in Complete psychological works, standard ed, vol .12 London, Hogarth press, 1958
.25 Ricoeur P: Freud and Philosoppy: An Essay on Interpretation. New Haven, Yale University press, 1970
.26 May R: Contributions of existential psychotherapy, in Existence. Edited by May R, Angel E, Ellenberger HF. New York, Simon and Schuster, 1958
.27 Keats J: The Letters of John Keats, vol .1 Ddited by Rollins HE. Cambridge, Harvard university press, 1958
.28 Kris E: Psychoanalytic Explorations in Art. New York, International Universities press, 1952
.29 Rogers C: Client – Centered Therapy,. Boston, Houghton – Mifflin, 1965
.30 Bate WJ: John Keats. Cambridge, Harvard University press, 1964
.31 Meares R: Keats and the زimpersonal ز therapist: a note on empathy and the therapeutic screen. psychiatry 46: 73- 82, 1983
.32 Freud S: Two encyclopaedia articles (1923), in Complete Psychological Works, standard ed, vol 18, London, Hogarth Press, 1955
.33 Bate WJ: An examination of imaginption. New York Review of books, Nov 18, 1982, PP 71 – 73
.34 Margulies A, Havens LL: The initial encounter: what to do First? Am J Psychiatry 138: 421 – 428, 1981
.35 Buber M: Elements of the interhuman. Psychiatry 20: 105 – 113, 1957
تعقيب وتعليق
تدريب علاجى أم تدريب إبداعي؟
أرى فى هذا المقال مادة “تدريبية” عالية القيمة. تدريب لنفسى ولزملائى الأصغر (والأكبر أحيانا!) تدريب على التشخيص وتدريب على الفهم للآخر وتدريب على أخذ موقف نابض بالحياة ومن ثم تدريب على الإبداع أحيانا أو العلاج فى أحيان أخري.
” التعليق” ليس المحايد لكن المفتوح على كل الاحتمالات دائما. الموقف العلاجى هو عكس التربص بالآخر وراء التحصينات العلمية أو الأخلاقية أو الفلسفية. وأيضا عكس الميوعة والترهل، وهنا يلمس المقال ببراعة فائقة عمق الموقف العلاجى الذى هو نفسه عمق الموقف العلمى السليم أو الموقف الإبداعي/ الفني.
العميل (المريض) يشعر دائما وفورا بالمعالج إذا أخذ منه موقفا حكميا أو استعلائيا ويشعر أيضا به إذا انحشر فى عالم دفاعات المريض، سواء بقبولها كما هى والغرق فيها أو برفضها ووصمها واحتقارها. إن هذا المقال يقدم لنا “تقنية” أو “مهارة” من مهارات التواصل الحق و المسؤولية – مهارة من مهارات الحب، إن جاز التعبير.
الاستكشاف للمنهج قاد الفريد مارجيوليز إلى القول بأن عمق المنهج – عند فرويد وهوسرل وكيتس هو روح الاستكشاف نفسها.
تجنب الوهم أو الخيال أو الرومانسية المقحمة من أعلى هو ما يميز التشخيص الحق كما يميز العلاج الناجع.
خطوات نحو البحث العلمي؟
المجهود المبذول هنا يصح اعتباره أساسا لبناء ملاحظات منهجية فى العلاج قد نمتلك بها منهجا للبحث العلمي، فى مجال يصعب فيه البحث العلمي، مجال العلاج النفسي، فههنا أساس محتمل لمراجعة عدد من البنود (مثل هل حكمت حكما نهائيا، أو هل تجمدت فى حكمك على المريض؟ هل تشعر به؟ هل لازال المريض قادرا على مباغتتك بما هو جديد أو طازج؟.. إلخ. أو صياغة الأسئلة بحيث يجيب عليها المريض نفسه؟
هل شعرت أن المعالح حكم عليك حكما نهائيا.. إلخ)؟
وبالتالى تصميم استبيانات لقياس العلاج النفسى كاستبيانات قياس الشخصية (مينيسوتا متعدد الأوجه مثلا) أو الذكاء (ويكسلر أو بنييه مثلا). ثم مقارنة نتائج هذه “البطاريات” بنتائج العلاج طويلة المدي. لكن إلى جوار ذلك نجد أيضا أساسا محتملا لأبعاد البحث العلمى من حيث هو ملاحظة منهجية مبنية على محاولة اختبار فرضيات متتالية.
نصيحة إلفن سمرد أستاذ كاتب المقال بألا يهتم تلاميذه كثيرا بالمذاكرة فى بداية تدريبهم على العلاج النفسي، مع كون هذا الأستاذ العظيم رجلا بسيطا من منطقة فلاحية أمريكية -نبراسكا- يذكرنى بأننا سمعنا نفس النصيحة من أستاذ طب نفسى آخر، عظيم أيضا من فلاحى المنوفية. بما يعضد صحة هذه النصيحة ويجعلنا نتسائل عن صلة هذه الصحة بالاتصال المباشر بالزراعة الفلاحية فى صبا كلا الأستاذين.
عظمة فرويد وإخفاقه؟
إن العظمة الحقيقية لفرويد لا تكمن فى كونه اكتشف فرضيات لم يثبت خطؤها بعد أو أسس نظريات طبقت على مستوى واسع وحازت رضا كثير من المعالجين والمرضي… والجمهور، لكن عظمته هو أنه أسس منهجا للاستكشاف، لقد توقف كثيرون من أرثوذكسيى التحليل النفسى عند التفسيرات الجنسية الطفلية والترميز المكثف المنمط أحيانا. لكن عظمة فرويد هى فى منهجه الذى شجع توليد مناهج علاجية مختلفة انشقت عنه عليه وتأسست بعد ذلك “رغما منه” ومع ذلك هو صاحب فضل عليها. يعرف عدد كبير أن يونج وأدلر وسوليفان وهورنى منشقون عن التحليل النفسي، بل إن من أصحاب المدارس الأحدث من خرجوا من هذه المدرسة أيضا ومنهم إريك برن مثلا، بل إن هذا التدريب على التداعى الحر والتحليق الذهنى اليقظ، المحايد والفعال فى آن واحد هو الذى أدى إلى اكتشاف العلاج المعرفي، مثلا عند أرون بيك. فقد كان محللا نفسيا من تلاميذ فرويد حينما وقع على اكتشاف أنماط التفكير السلبية وأسس مدرسته التى انتشرت انتشارا هائلا. فلم يخرج بيك من عباءة المدرسة السلوكية كما يظن كثيرون خطأ بل خرج من عباءة فرويد.
إتهم أيزنك فرويد بأنه لا يختلف عن ميسمر فى كونهما أسسا نظريتين لا يمكن دحضهما بالملاحظة العلمية، ميسمر فى نظرية القوة المغناطيسية الحيوانية و فرويد بتحليله النفسي. لكن الواقع هو أنه لا يمكن اعتبار فرويد دجالا مثل ميسمر، (مع تحفظى على وصف ميسمر بالدجل) لأن فرويد أسس منهجا يتبنى الملاحظة المنهجية والتدوين و الانفتاح على النقد والمراقبة ولم يؤسس “جمعية سرية للمغناطيسية الحيوانية”. إن عظمة فرويد لاتكمن فى اكتمال أركان العقيدة العلاجية عنده ,بل فى انفتاحها للنقد مع تجاسرها على استكشاف المجهول. هنا أيضا “الحيرة هى شرف اليقين”.
التشخيص والمواجدة:
لأى مدى تؤدى الصياغة التشخيصية إلى اختزال حجم المواجدة عند المعالج أو تحجيمها؟
التشخيص لابد أن يظل مفتوحا لا بمعنى أن نشك هل هذا “فصام” أم “وسواس قهري” بل بمعنى أن نشك فى أننا عرفنا هذا “الفصامي” بالذات أو صاحب هذا الوسواس القهرى بالذات كما يستحق المعرفة، كما أن هذا الانفتاح لا يعنى أن “نعذر” المدمن أو الهستيرى بل فى أن نخبره، نشعر به، نعيش وجده بما فيه من مخاوف وأطماع وتهاويم وما يحده من أكاذيب ودفاعات نفسية.
التشخيص قد يحد المواجدة. وقد لا يؤثر عليها إطلاقا أو ربما حتى يكون قاعدة انطلاق لتحقيقها.
ولأى مدى يتوازى السعى إلى بلورة سيكوباثولوجى ثابت مع ذلك “السعى المهتاج إلى الحقيقة”؟ ربما يتوقف هذا على مدى لجوء المعالج إلى تحجيم وجود المريض داخل سيكوباثولوجى ثابت ليتفادى ألم المواجدة أو يخفف منه قدر الإمكان، يتوقف على مدى كون السعى إلى بلورة السيكوباثولوجى دفاعا من دفاعات المعالج عن نفسه أوحيلة من حيل التحويل المضاد.
هل تؤدى كثرة “المرورات” و “النظريات العلاجية” فى زوغان المواجدة منا؟ ناهيك عن تهكمنا على مرضانا أو سخريتنا منهم أو استخفاف كلماتنا بهم. الكسل العلمى والمنهجى المتمثل فى أن تقول بنمطية “فلان كويس” أو “فلان وحش النهاردة”, النمو الشخصى للمعالج وتجاوزه المستمر لدفاعاته الشخصية أو صراعه المستمر معها، مرتبط ارتباطا لا ينفصم بكفاءته كمعالج وباستقبال المرضى له كمعالج جيد أو غير ذلك.
المواجدة والمجتمع العلاجي:
يفقد المجتمع العلاجى فعاليته كمجتمع علاجى إذا فقد القدرة على المواجدة، أى إذا سادت بين المعالجين فيه روح استعلاء على المرضى أو استخفاف بهم أو تنميطهم فى كسل نظرى متسرع. لذا علينا أن نراجع دائما لا اللغة التى نكلم بها أنفسنا فقط حينما نتعامل مع المرضى بل اللغة التى نكلم بها بعضنا بعضا. المواجدة لا تولد فقط فى أثناء ساعة العلاج النفسى الفردى أو الجمعى بل فى طبيعة علاقات كل معالج بنفسه وبزملائه.
هل نجد فى قوالبنا الجامدة أسبابا لخوف المرضى منا أو كذبهم علينا أو تجنبهم لمفاتحتنا فى مواطن وجدهم الحق؟
لأى مدى تتمتع المجتمعات العلاجية التى نشارك فى تحمل مسئوليتها بروح الانفتاح على رؤى طازجة وحية لكل فرد فيها ولكل مجموعة أو فئة؟
فى حرية الفكر والسياسة والاقتصاد
المجتمع الذى يقبل أن يضع معتقداته، كل معتقداته موضع الشك، أو المراجعة، هو وحده المجتمع القادر أن يخلق “علما” أو يبدع “فنا”, حقيقيا، مجتمع يغلق ملفاته سريعا ويتجنب كل تعليق للأحكام، مجتمع محكوم عليه بالعجز عن البحث العلمى الحق والعجز عن الإبداع الفنى الحق، أى مجتمع محكوم عليه بالتخلف.
إن موضع المراجعة أو الشك المنهجى لا ينفى اتخاذ موقف ولا يعنى بالضرورة تغيير هذا الموقف بصورة متكررة أو سريعة بل يعنى نوعا من التفتح والنمو لا يتأتى إلا عبر شجاعة تحمل إمكانية الخطأ.
القمع الذى نعانيه ليس سياسيا أو اقتصاديا أو طبنفسيا فحسب، فموروثات التنميط والقولبة أسس لا يمكن تجنبها للكسل الفكرى والتبلد واللامبالاة السياسية القاتلة السائدة فى مجتمعنا.
ما يدور على مقعد العلاج النفسى لا ينفصل عما يدور فى مرسم الفنان أو ورقة الشاعر أو مختبرات العلماء، ولا يختلف كثيرا فى جوهره أيضا عما تنتجه أروقة البرلمان أو أعمدة الصحف الحزبية.
لقد افتقدنا فى كل هذا المقدرة السلبية، القدرة على تعليق الحكم، وافتقدنا المقدرة الإيجابية أيضا، القدرة على النفاذ من خلال “تأرجح كل الوجود” إلى الواقع الحي، تجمدت أفكارنا فنضبت المعامل من علم حي، وسكتت شوراع السياسيين من فعل شعبى حي.
[1] – (Al Fred Margiliz Towards empathy: the uses of wonder, Am. J. Psychiatry 141: 1025-1033, 1984).
[2] – الكلمة Vicarious تحمل معنى دينى فى تراث اللغة الغربية. إشارة إلى آلام المسيح نيابة عن البشر. وهذا هو المعنى مشار إليه هنا فى الأغلب (المترجم).
[3]- فضلنا هذه الترجمة على “التنويم المغناطيسى” الشائعة لقربها من المعنى وتأكيدها على الطبيعة العملية لهذه الأداة العلاجية والتشخيصية. (المترجم).
[4] – هل تطورت حقائقهما فعلا، أم أن ما حدث مجرد نسيان وتحوير عادى للذكريات؟ أم أن ما نسميه تحويرا للذكريات هو هو تطور الحقائق نموا أو تدهور؟ كل هذا يجب أن نحتفظ فيه بملف البحث مفتوحا أيضا . (المترجم).