قصة قصيرة
هواء فاسد ولعنة تقتفى الأثر
آمال حسن عويضة
” لو أنك يوما احتفظت بمحبتى فى قلبك، فلتغب عنك السعادة لحظة. .
لتكن أنفاسك مصحوبة بالألم عندما تحكى فى هذه الدنيا القاسية . . قصتى.”
هاملت – شكسبير
هواء القاهرة فاسد يجعلنى ببساطة قابلة للاشتعال.
تتكوم ملامحى دفعة واحدة عند طرف أنفى عندما أرى -من مكاني- حمارا صغيرا تمرد وأصر ألا يقوم من عثرته.
صاحبه يقف عند رأسه ملوحا بسوط صنعه من عصا خيزران وحبل من اللوف قام بجدله جيدا، وصب عليه الزيت والقطران.
جلبابه الأزرق -المتدلى طرفه من فتحة الجانب المشقوقة عند خط الوسط- ينضح بقتامة ألوان الأتربة والعرق الجاف. يطل من فتحة الجلباب العلوية رأس ضخم وطاقية شبيكة بهت لونها. الأطفال العائدون من مدارسهم يتابعون المشهد بسعادة بلهاء ومرح غير مسبوق لا أجد لهما مبررا. أحدهم يقترب من الحمار ويدوس على ذيله بطرف حذائه. تفزع أسراب الذباب التى كانت قد استقرت فوق قروح الحمار الكثيرة والمختلفة ألوانها ما بين الأحمر المقرع فى منتصفها وشيء من قتامة اللون الأسود حول حوافها الخارجية.
من نافذة الأتوبيس أحدق فى جسد الحمار الممدد بلا حراك، وشك ما يساورنى فى إمكانية بقاء رمق من حياة فى فم هذا الحمار. سائق الأتوبيس يزأر بصوته وكلاكس مركبته لاعنا الأيام السوداء التى دفعت به سائقا فى هيئة النقل العام.
العربة الكارو تقف وحيدة على بعد خطوات تحمل بمفردها أكواما من حديد التسليح، بينما ذراعا العربة ممدودتان أمامها بلا حراك أيضا.
من موقعى بالكرسى الأول -والذى حاربت من أجله صبيا يافعا كى أجلس- بقيت أتابع الواقفين حول الحمار وهم يتصايحون بنصائح عقيمة. يضايقنى عرق يوليو اللزج، فأمد يدى تحت الحجاب أمسح قطراته النابتة فى جبهتى وأدفع بشعيراتى البيضاء النافرة التى تسللت إلى الخارج فى غفلة منى أسمع أحدهم ساخرآ يقول:
- والله حمار جدع . . إوعى تقوم.
هواء القاهرة فاسد يدفعنا إلى الاشتعال.
دخان السراب المتأرجح بين أسفلت شارع فيصل وسمائه يحتل نصف طول الشارع المتجة إلى الهرم، بينما النصف الآخر مكدس بالسيارات التى توقفت خلف جثة الحمار الممددة فى سكون عدا بطنه التى تعلو وتهبط فى حركتى زفير وشهيق هادئتين منتظمتين.
أحدهم يفقد أعصابه ويخرج رأسه من نافذة سيارته طالبا من الواقفين عمل شيء:
- إبعدوا الهباب ده.
السوط يجلد جسد الحمار قطعة قطعة، أما سكان فيصل فإنهم يكتفون فيما بينهم بتناول قصة الحمار الذى عصى عائلة بأكملها تقف فى إحدى الشرفات المطلة على الشارع. الأب ينفخ دخان سيجارته لأعلى، والبنات يتضاحكن مع أمهن، أما الصغرى فتغمز بعينها لطالب مازال يمسك بحقيبة كتبه المدرسية بين ذراعيه، ويقف بالقرب من منزل الفتاة يتابع مشهد الحمار بنصف اهتمام وبعض ألم.
أنشغل بعض الوقت بمتابعتهما. تتسلل الصغرى إلى الداخل وسرعان ما ألمحها بعد ثوان مطلة بجسدها من بوابة المنزل الحديدية. تمتد يدها بسرعة لتتسلم شيئا من الفتى الذى ظل واقفا لثوان بعدما سلمها ما يحمل. أبتسم لجرأتها ورومانسية الفتي.
هواء القاهرة فاسد يدفعهم إلى الاشتعال.
تصمت المركبات المكومة فى شارع فيصل: تماما. تزحف جلطة المرور إلى كوبرى فيصل -تتراكم السيارات فى ميادين الجيزة والتحرير ورمسيس، وتستشرى فى شوارع العتبة وعابدين حتى تصل إلى العباسية وروكسى ونفق العروبة. تتوقف الأتوبيسات النهرية عن العمل، بينما تتناقل وكالات الأنباء خبرا صغيرا عن اضطرار ملاحى ميناء القاهرة الجوى إلى إغلاق ممراته لسوء الأحوال الجوية. سكان حديقة الحيوان يهرعون إلى مخابئهم وتضج الأبراج السكنية المطلة على نيل القاهرة بتأففات ساكنيها. حول تمثال نهضة مصر نمت لافتات الشجب والإدانة بينما يتقافز الشباب -من أعضاء الجماعات الإسلامية وحورس والتجمع والحزب الناصري- يلقون بأوراق بيضاء على الجالسين داخل السيارات الباركة فى الميدان.
التليفونات ساكنة والكهرباء توقفت عن بث روحها فى الأسلاك الباردة، أما المياه فقد أصبح المورد الوحيد لها هو نهر النيل الذى قيل فيما بعد إنه توقف عن الجريان أعواما كاملة حدادا على الحمار الذى تمرد فعصى فمات.
القاهرة تشتعل.
يتوقف كل شيء -حتى القلوب عن ضخ الدماء- ويبقى الوضع على ما هو عليه لقرون طويلة تالية . . حتى تهجم عاصفة جائعة تأكل الميادين والأبراج السكنية والناس عدا الفتاة التى تزوجت الفتى الذى كتب لها قصيدة مكسورة الوزن. ينجبان أطفالا يأتى منهم علماء آثار وجيولوجيا بعد ملايين الأعوام للبحث عن حفريات حمار تقول الأسطورة إنه تمرد فعصى فجلب اللعنة على مدينة كانت تستمد بهجتها الوحيدة من ترثرة سكانها المتبلدين وتحيا على زفير أنوفهم الفاسد.
القاهرة سبتمبر 1995