الحوار وتنمية التفكير الناقد
هما الحل…
د. إلهام عبد الحميد
للوهلة الأولى يتصور القارئ أن افتتاحية العدد السابق التى كتبها يحيى الرخاوى تتسم بالسخرية والتهكم، وأنها لهجة لاذعة استفزازية، إلا أن القراءة العقلانية النقدية تكشف عن فلسفة سقراطية وراءها تدفع القارئ للاشتباك العقلى معها حول القضايا المتعددة والمفاهيم والمشكلات الخلافية التى طرحتها من خلال حوار يستند على أسس موضوعية ويبتعد عن إملاء الأفكار والمعلومات، ويحقق نوعا من التفاعل والإيجابية والمشاركة.
ولعل ذلك يذكرنا بالحوار السقراطى الذى كان يوقع بالخصم فى حيرة وتشتت لبعض الوقت حتى يصل لجهد التناقض والصراع الذى يثير عقله، ويحفزه على التفكير والبحث والدراسة إلى أن يصل للحقيقة التى كان يراها سقراط ثابتة مطلقة داخل النفس البشرية.
وإن كنا نختلف فى كون الحقيقة ثابتة مطلقة إلا أننا نجزم بضرورة وأهمية هذا الحوار السقراطى الذى يمكن أن يحقق درجة عالية من الجدل ويثير القضايا والمشكلات الخلافية من خلال تصادم الأفكار وصراعها وتعارضها، ومن ثم ينتقل العقل الإنسانى من حالة من الخمول والكسل والسلبية إلى حالة إيجابية فعالة . كما أن هذا الحوار الذى يخلق مجموعة من المتناقضات يستفز نزعة الفهم والتغير، ويجعل العقل الإنسانى فى حالة من الشك الدائم، والبعد عن التصديق الساذج والخضوع للتصورات الكاذبة عن الذات والعالم .
وإن كانت الافتتاحية الأولى قد اعتمدت على الحوار فى تناولها للقضايا التى أثارتها فإن الافتتاحية الثانية لنفس العدد قد أثارت قضية الحوار بشكل مباشر موضحة افتقارنا للحوار المثمر على كافة المستويات ولذا فإن الحديث عن الحوار وإن كان قد احتل مكانة أكثر أهمية وأكثر ضرورة لكل مجالات حياتنا، بل يمكن القول إنه الأمل الذى يمكن من خلاله الخروج من حالة اللامبالاة والفردية والتقوقع إلى حالة من المشاركة والإيجابية والتفاعل .. ولعل ماكتبه فريد زهران بعنوان”الحوار هو الطريق” يكشف بوضوح عن أهمية الحوار وضرورته فى تلك المرحلة بالذات إذ أنه يؤكد على أن صياغة أى مشروع أو عمل جماعى يحتاج إلى حوار خصب، ويشير إلى أن هذا الحوار الخصب مفتقد لأن الحوار الدائر الآن بين النخب المصرية حوار ماضوى وليس مستقبليا ويستهدف تحقير الآخر واستبعاده، ومن ثم فإنه يستهدف محاصرة الخصم وهزيمته لا التأثير فيه .
وتكشف العبارات السابقة عن أزمة حقيقية يواجهها المجتمع المصرى من خلال افتقاده للحوار المثمر واستناده على حوار أطلق عليه “حوار طرشان”.
ولعل هذا يثير الفزع والخوف من المستقبل ذلك لأن من لا يمتلك القدرة على إدارة حوار مثمر عقلانى لا يمكن أن يتسم بالوعى أو بالديمقراطية ومن لا يمتلك الوعى والديمقراطية لا يمتلك القدرة على التعامل مع متغيرات العصر ولا يتمكن من مواكبة التحولات السريعة ومن ثم يصعب عليه الدخول فى القرن الجديد والتعامل مع الحضارة الجديدة.
ما أحوجنا فى تلك المرحلة لتعلم الحوار المثمر وقواعده ومقومات نجاحه لكى يساعدنا على تكوين رؤية نقدية لكل ما يدور حولنا وليساعدنا على اتخاذ قرار نحو المشكلات المحيطة بنا ويساعدنا على فهم وإدارك واستيعاب كل المتغيرات السريعة المتلاحقة، فالعالم شهد فى نهاية هذا العقد مجموعة من المتغيرات على المستوى المحلى وعلى المستوى العالمى لم يشهدها منذ نهاية الحرب العمالية الثانية، إذ تعرضت الشيوعية فى الاتحاد السوفيتى وشرق أوروبا للانهيار، وظهرت أمة البلقان وحرب أفغانستان، وبرز ما يسمى بالنظام العالمى الجديد الذى لم يتحدد بعد موقفنا منه ولا الدور المنوط لنا فيه.
وعلى المستوى القومى شهد العالم العربى العديد من الصراعات والمتغيرات وربما كانت حرب الخليج من أخطر تلك المتغيرات، كما أخذت قضية فلسطين أبعادا جديدة وتطورات سريعة، وأثرت ظاهرة الإرهاب والتطرف على مسار التطور الاجتماعى والاقتصادى فى المنطقة العربية .
أما بالنسبة لمجتمعنا المصرى وهو بالطبع لا بنفصل عن ظروف المجتمع الدولى ولا المجتمع الإقليمى فقد تعرض أيضا لمجموعة من المتغيرات كان أهمها تنامى التيار الأصولى وانتشار حركات الإرهاب والعنف، والتغيرات الاقتصادية والاجتماعية من خلال ما اصطلح على تسميته بالخصخصة والإصلاح الاقتصادي.
باختصار شديد يمكن القول إن العالم كله تعرض لهزة عنيفة أدت به إلى الانتقال إلى حضارة جديدة أو كما أطلق عليها توفلر بالموجة الثالثة وهو عصر جديد سمى يعصر المعلومات والتكنولوجيا . . وترتبت على ذلك ظهور تغيرات سياسية واجتماعية وثقافية . . فعلى المستوى السياسى ظهر كما ذكرنا نظام عالمى جديد، وعلى المستوى الاقتصادى اتجه العالم نحو الانفتاح والخصخصة، وعلى المستوى الثقافى ظهرت قيم وأفكار ومبادئ وفلسفات جديدة تعكس عصرا جديدا.
والسؤال الذى يطرحه العديد من المتهمين هو:
أين نحن من تلك المتغيرات؟ وهل نحن قادرون على استيعابها والمشاركة فيها والتعامل معها ؟
كتب باولو فرير أن مجتمعات العالم الثالث تعيش على هامش العالم وليست بداخله وذلك لأنها لا تملك إلا الوعى الزائف الذى يجعلها جامدة غير قادرة على التفاعل مع الأحداث والمشاركة فيها، وقد أرجع فرير ذلك إلى عقدة الخوف من الحرية حيث أن تلك المجتمعات تخشى الحرية وتعيش فى غربة وازدواجية متفرجة غير قادرة على أن تلعب دورا حقيقيا يعبر عنها، وقد عاشت تلك المجتمعات زمنا طويلا فى صمت كبل طاقاتها الإبداعية وجعلها فريسة للقهر والصمت، وأفقدها الإحساس بالواقع والقدرة على المشاركة فى أحداثه.
إن الهوة كانت واسعة جدا بين العالم الثالث والعالم الأول للدرجة التى جعلت العالم الثالث كما ذكر فرير يعيش على الهامش مقهورا لا يمتلك سوى ثقافة الصمت إلا أن هذه الهوة قد ازدادت اتساعا للدرجة التى يمكن أن تجعل العديد من المجتمعات الفقيرة ليست على هامش ما يحدث بل خارجه تماما، وربما يحدث، كما ذكر بعض من الباحثين، تصدع كامل لبنية العديد من تلك المجتمعات لعدم قدرتها على مواجهة التحديات والمتغيرات السريعة المتلاحقة.
لقد توهمت بعض من المجتمعات أن التحديات والمتغيرات المعاصرة يمكن مواجهتها من خلال تصريحات لفظية تعلن فى المناسبات وغير المناسبات عن إمكانية دخولها القرن القادم واستيعاب المتغيرات والقدرة على التعامل معها. على حين توجهت مجتمعات أخرى بفرض العزلة والرقابة على شعوبها بحجة التخلص من التبعية متناسين أن العالم أصبح بالفعل قرية صغيرة وأن الانفتاح على العالم لم يعد اختياريا وإنما هو أحد التحديات التى يجب أن تستعد له جميع المجتمعات. وباختصار يمكن القول إن التحديات العظيمة التى تواجه العالم من منطلق الانتقال من الحضارة الصناعية إلى الحضارة التكنولوجية والدخول فى قرن جديد تتطلب استعدادات عظيمة أيضا، ولعل أهم تلك الاستعدادات هى الاهتمام بتكوين العقل الإنسانى القادر على الفرز النقدى وإصدار الأحكام بدقة دون تعصب وانفعال وبرؤية عقلانية وتفكير علمى منطقى وقادر على مواجهة التغيرات بانطلاق، ذلك لأن الثروة الحقيقية أصبحت هى الثروة البشرية فالشعوب لن تقاس بما تمتلكه من ثروات طبيعة كما كان الحال فى عصر التصنيع وإنما بما لديها من علم وعلماء ولن يتحقق تنمية الثروة البشرية إلا من خلال تفجير الطاقات الإبداعية وهذا يتطلب بالضرورة تغير فى النظم التعليمية وسياستها وتوجهاتها وأهدافها .
والحديث عن تغير النظم التعليمية وأهدافها وتوجهاتها يجعلنا نعود مرة أخرى لباولو فرير وسقراط ومواقفهما من الحوار ورفضهما للتلقين كطريقة تعليمية تساهم فى تكوين عقول جامدة مستهجنة لا تمتلك سوى وعيا زائفا وذلك من خلال عقد مقارنة بين طريقتى التلقين والحوار حتى يتضح لدينا بما لا يدع مجالا للشك كيف أن الشروع فى تغيير طريقة التعليم السائدة ولاسيما فى مجتمعنا من طريقة التلقين إلى طريقة الحوار قد بات أمرا تفرضه علينا رغبتنا المخلصة فى تحديث مجتمعنا وتطوير قدراته وإمكاناته بالصورة التى تمكنه من اللحاق بركب العصر. ولعل ذلك ليس بالأمر السهل البسيط لأن التراث الثقافى الموروث والقائم على الطاعة وقبول ما هو كائن قد أدى إلى سيادة ثقافة الصمت والخوف والتلقين واستمرارها لزمن طويل وباسم المحافظة على الثقافة والمعرفة أصبحنا إزاء نظام يتنكر للثقافة المبدعة … وباسم ثقافة التلقين … أصبحنا غير قادرين على فهم الآخر واستيعابه والتسامح معه وباسم هذه الثقافة أصبح حوارنا غير عقلانى وغير نقدى لا يصل غالبا إلى نتائج إيجابية لأنه يتمحور حول الذات ويتجه نحو الماضى أكثر من كونه صياغة للمستقبل لا يسمع كل طرف إلا صوت نفسه .. ويرى كل طرف أن الآخر عدو له يحب هزيمته والعصف به ومن ثم لا يصل الحوار إلا لمزيد من الاختلاف والكراهية والعداء هذا الحوار السلبى لا يفجر المتناقضات من أجل الوصول إلى فكرة جديدة أو إيجاد مساحة من الاتفاق كمحاولة للتعايش وإنما يزيد من هوة الخلاف بينهما . . هذا الحوار السلبى نراه فى كل لحظة من حولنا، حوار الأب مع أسرته وحوار المعلم مع تلاميذه وحوار المذيع مع مستمعيه . . وحوار المثقفين والسياسيين بعضهم مع البعض، كل هذه النماذج تكشف عن علاقة غير ندية دائما بين قاهر ومقهور ومنتصر ومهزوم وبالطبع الانتصار لصالح القوة السلطوية وليست القوة الإقناعية.
أعتقد أن البرامج الثقافية فى التليفزيون التى تحرص على تقديم آراء ووجهات نظر متباينة ومتعارضة من خلال حوار بين تيارات ثقافية أو سياسية مختلفة تكشف عن عدم إدراك لمفهوم الحوار وأسسه ومقوماته ولذا نرى حوارا هزليا ضعيفا يتبادل كل طرف فيه الشتائم ويعلن حربه على الطرف الآخر ورفض أفكاره تماما.
كل هذا يجعلنا نقول مرارا وتكرارا إن هناك ضرورة لنتعلم لغة الحوار وفهمه ليكون الوسيلة لفهم الآخر واكتساب مهارات التفكير الناقد الذى يجعلنا قادرين على الخروج من دائرة الصمت والقهر والتبعية .
ومن منظور تربوى نعود لنحدد الملامح العامة لطريقة التلقين السائدة. وكيف يمكن التخلص منها لصالح طريقة حوارية انسانية .
وبمعنى آخر نحدد
ترى كيف يمكن التحول من الجمود إلى المرونة ومن محدودية التفكير إلى سعة الأفق ومن النمطية إلى التمايز ومن الاختيار الواحد إلى الخيارات المتعددة ومن النقل إلى الابداع.
الملامح العامة للتلقين أو” التعليم البنكى”
يعتبر التلقين هو حجر الزواية فى البناء النظرى التربوى لأغلبية دول العالم الثالث، ويمكننا أن نقول عن يقين وثقة أن سيادة التلقين فى هذه الدول غير منقطع الصلة بدرجة تطورها السياسى والاقتصادى والاجتماعى والثقافى، بل إننا نؤكد أن الطريقة التلقينية هى الطريقة الوحيدة التى تتفق وحالة تلك المجتمعات فى تخلفها وتبعيتها حيث تتلخص العملية التربوية فى تلقين التلاميذ وتحفيظهم مجموعة مختارة من النظريات والكتابات وهكذا تقدم الأفكار والنظريات بوصفها مقولات نهائية غير قابلة للمناقشة أو النقد، وغير مطلوب من التلاميذ سوى حفظ هذه النظريات والأفكار واعتبارها نهائية كما أنه غير مطلوب من المعلمين سوى تلقين التلاميذ هذه النظريات – أو بالأحرى القوالب كما هى دون أى ابتكار أو تطوير يسعى من خلال النقد إلى تجاوز هذه النظريات والأفكار إلى ما هو أرقى، ولذلك فيس صدفة أن تحتكر البلدان المتقدمة فى عملية التطوير والتحديث المستمرة بلا توقف منذ عصر النهضة وحتى الآن، لأن النقد والتعامل النقدى مع المسلمات الذى بدأ بشك ديكارت الأب الروحى للتفكير العلمى الحديث هو أحد أركان الحضارة الغربية الحديثة وهو ركن يتحقق فى كافة مجالات الحياة بما فيها المجال التربوى .
إن تخلف البنى الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية لبلدان العالم الثالث تعود لأسباب متنوعة من بينها بالطبع أن تلك المجتمعات تعرضت للاستعمار لزمن طويل مما أدى إلى تخلفها واعتمادها على النقل والتقليد وقد انعكست هذه الظروف على العملية التعليمية التى اعتمدت على التلقين كطريقة للتعليم، وتستند هذه الطريقة التلقينية – كما وضعها فريرى فى كتابة الشهير”تربية المقهورين’ على :
1- معلم يقوم بالتلقين ومتعلمون يتلقون ما يقوله المعلم.
2- معلم يفكر ومتعلمون يستمعون ولا يفكرون.
3- معلم يعرف كل شئ ومتعلم لا يعرف شيئا.
4- معلم هو قوام العملية التعليمية والمتعلم هو نتاجها.
ولذلك فإن الطريقة التلقينية تجعل من عقول التلاميذ مخازن للمعلومات دون وعى بعلاقة هذه المعلومات بالعالم المحيط بها، كما تزيد من سلبية التلميذ وتجعله إنسانا صامتا سلبيا غير قادر على التغير أو التكيف مع ما يحيط به من متغيرات فى عالم تتزايد معدلات تغيره فى كل لحظة، وفى نفس الوقت تتسم أحكامه بالميل إلى الحزم والتأكد القاطع فلا يؤمن بتعدد الطرق للوصول إلى الحقيقة بل دائما يريد رأيا واحدا وإجابة نهائية يتوقف عندها، وبذلك تطمس الروح النقدية وتهدم القدرة على الابتكار ويصبح الإبداع بدعة لابد من محاربتها. ويطلق”فريري’ على هذا التعليم اسم التعليم البنكى فالعملية التعليمية هى عملية إبداع للمعلومات فى عقل التلاميذ ويكون المعلم آنذاك هو المودع وعقل التلميذ هو البنك أو المودع فيه ووقفا لهذا التصور البنكى يرى فريرى أن التعليم يصبح وكأنه منحة من هؤلاء الذين يعتبرون أنفسهم يعرفون إلى أولئك الذين يعتبرونهم لاشئ ولعل من أهم سمات هذا النوع من التعليم التلقينى أو البنكى هو لهجته المتعالية وقدرته على تحويل الإنسان إلى كائن سلبى فارغ مفتوح لتلقى ما يودع فيه فالإنسان نتيجة لهذه الطريقة يصبح داخل العالم وليس معه مجرد شاهد غير قادر على تحليل ما يشاهده وعلى إبداع دوره .
ولكل ما تقدم فإنه يتضح ما لطريقة التلقين من عواقب وخيمة تهدد مستقبل مجتمعات العالم وتزيد من تخلفها وعدم قدرتها على النضج والتقدم على اعتبار أننا نعتبر هذه الطريقة العقيمة نتيجة لتخلف هذه المجتمعات من ناحية، وسببا لاستمرار هذا التخلف أيضا من ناحية أخرى، والبدء بتغيير هذه الطريقة سيجعلنا قادرين على تزويد عالمنا العربى -الذى ينتمى إلى العالم الثالث بصفة عامة- بأجيال جديدة مبدعة من الشباب ستكون قادرة على إحداث التطوير المنشود ولذلك تعتبر دراسات فريرى هامة فى نقد الطريقة التلقينية أو الطريقة البنكية كما يطلق عليها ويتضح لنا مدى أهمية أن تكتشف بلدان العالم الثالث ماهو أنسب وأكثر ملاءمة لتحرير العقل البشرى من الجمود الذى أصابه لسنوات طويلة وإطلاق الطاقات الفكرية والبعد عن جمع النتائج والمعارف ومنجزات التكنولوجيا وتلقينها دون فهم أو تحليل، أى أن المطلوب بالدقة هو الاستفادة من منجزات الأمم التى سبقتنا ولكن بعد فهم وتحديد مدى ملاءمتها لنا ويقتضى ذلك بالضرورة أن نتناول هذه المنجزات بروح النقد والابتكار وليس التكرار أو الجمود”فلبس ما ينشأ فى أوروبا وأمريكا يمكن أن ينقل بلا حساب أو بلا وعى وكأنهما ممثلان للإنسانية كلها” على حد تعبير باولو فريرى .
طريقة الحوار تفتح للإنسان أبواب التفكير
تزايد الاستياء من أسلوب المعرفة (اليقينية) فى التعليم والذى يعتمد على التلقين كطريقة فى نقل هذه المعارف ولذلك ظهرت محاولات عديدة لحل هذه المشكلة على أساس رؤية جديدة فى التعليم وانتهت هذه المحاولات إلى طريقة الحوار وتعتمد هذه الطريقة على المشاركة والتساؤل أكثر من كونها طريقة التخزين للمعارف فى عقول سلبية وتكمن أهمية الحوار كطريقة فى التعليم بأنها تساعد التليمذ على تحقيق التفاعل والإيجابية والثقة بالنفس وتساهم فى تكوين الإنسان المتقدم حيث تكمن أحد الفروق الهامة بين الإنسان المتقدم والإنسان المتخلف فى أن الأول يملك القدرة على التفكير والابتكار والتفاعل مع الأحداث فى حين يتميز الثانى بكونه سلبيا وكثيرا ما ينتظر الآخرين ليفكروا له حتى يعتمد على نتائج تفكيرهم والحوار يمكن أن يساعد على توضيح الأفكار المتقدمة للتلاميذ وذلك بتحليل هذه الأفكار والتعبير عنها بطريقتهم كما أنه يساعد التلميذ على الاهتمام بما يدرسه بدافع نفسى ورغبة فى المشاركة الإيجابية، والفاعلية تعنى إحساس المتعلم بمشكلة معينة تلح على تفكيره وتجعله فى حالة عدم اتزان وتثير هذه الحالة عددا من التساؤلات تستحوذ على تفكيره وتجعله يسعى بنفسه إلى الإجابة وبذلك فإن الأفكار يصل إليها تصبح أقوى أثرا فى النفس وأثبت فى الذهن من تلك التى يصل إليها عن طريق التلقين من الآباء والمدرسين.
وتكمن أهمية الحوار كطريقة فى التعليم والتعامل فى أنها تساعد المتعلم على تحقيق التفاعل والإيجابية والثقة بالنفس، وتساهم فى تكوين الإنسان المتقدم حقا. إن أهم الفروق بين الإنسان المتقدم والمتخلف هى أن الأول لديه القدرة على التفاعل مع الأحداث بإيجابية على حين أن الآخر يتسم بالسلبية والانفعالية، فالحوار يساهم فى تنمية التفكير الناقد ويعلم الصبر وسعة الأفق والثقة واحترام الآخر والقدرة على التعبير عن الذات، ولقد أثبتت الدراسات أن التعليم الذى يستند على الحوار يكسب المتعلم الثبات الانفعالى والقدرة على مناقشة المسملمات والافتراضات ويقود إلى التسلسل المنطقى العقلى ويدرب المتعلم على إصدار الأحكام بموضوعية ويبتعد عن الأحكام القطعية والتحيز والتعصب ومن ثم يمكن أن يكسب الحوار المثمر المتعلم منهجية التفكير العقلانى مما يجعله لا يقبل الأحكام المسبقة والآراء المتسرعة وذلك من خلال التدريب على الاستنتاج المنطقى وعدم القفز إلى النتائج، ويكتسب الإنسان المحاور العديد من المهارات العقلية مثل القدرة على الربط بين العناصر والجزئيات والقدرة على التفسير والتحليل والتركيب وإصدار الأحكام المحايدة الموضوعية، كما يمكن أن يكسب الحوار المثمر الإيجابى المحاور سعة الأفق والقدرة على الاتصال والعطاء: والحوار عملية جدلية تستند على تلك الأسس السابق ذكرها وهى فى نفس الوقت تكسب هذه الأسس لمتحاوريها.
واستناد لكل ما سبق يمكن أن نستنتج أسس الحوار كما يلى :
أولا: يعتمد الحوار على فكرة الجدل أو التفاعل التى تعنى رفض الجمود عند حالة واحدة أو طرف واحد بل يعنى التحرك دائما من حالة إلى حالة ومن طرف إلى طرف. فالحوار الناجح لا يطرح الفكرة على اعتبار أنها مسلمة أو بديهية وإنما يتم تناول الفكرة بالتحليل والنقد بما يساعد على إكسابها أبعادا جديدة أكثر عمقا. كما يعتمد أى حوار على صراع حقيقى وغير مفتعل ومما يساعد على نجاح الحوار وإثرائه للأفكار هو كون الفكرة جدلية بطبيعتها، أى تحمل العديد من التناقضات ولذا فإن تناولها من طرف واحد لا يبرز تناقضاتها وثراءها الداخلي. وقد انتهى” هيجل” إلى أن الفكر الجدلى شديد الثراء، وأنه يسير على إيقاع ثلاثى من إيجابى وسلبى إلى تأليف بينهما، والفكرة لا تسير على هذا الإيقاع إلا من خلال الصراع بين أفكار التلاميذ واتجاهاتهم المتعددة وهذا الصراع لا يثرى الفكر فحسب بل يثرى العلاقة بين التلاميذ بعضهم والبعض وبينهم وبين المعلم كما يكسب التلميذ ثقة وإدراكا عميقا لحق الآخرين فى الاختلاف مثلما يتمتع هو بهذا الحق .
ثانيا: لا يصبح الحوار حقيقيا دون إعطاء كل الأطراف حق الحوار مع احترام وجهات النظر المتعارضة غير أن حرية إبداء الرأى لا تعنى الهجوم على الأطراف المتعارضة لمجرد الاختلاف. أى يجب أن يعرف التلاميذ بوضوح أن واجب كل منهم أن يستمع إلى زملائه حينما يتحدثون ويعبرون عن أفكارهم. فنجاح العملية التعليمية هنا يعتمد على ما يتم من جدل حر بين المعلم وتلاميذه وبين التلاميذ بعضهم البعض بحيث يساعد المعلم التلاميذ على أن يفكروا أو يحاولوا أو يفسروا معتمدين على معرفتهم ومعلوماتهم السابقة وخبراتهم بالحياة على أن يكون المعلم من خلال مداركه الأوسع وتدريبه الجيد قادرا على إدارة دفة الحوار وتوقع ما يمكن أن يوجه له من أسئلة وعلى استعداد دائم لتقديم أجوبة مناسبة. ومن الهام أيضا أن يكون المعلم على قدر عال من التسامح فانطلاق الفكر نحو آفاق جديدة لا يمكن أن يتم فى غياب قدر مناسب من الحرية والتسامح لأن إحساس التلميذ بحقه فى التعبير عن رأيه يشجعه على الاستمرار فى التعبير كما يشجعه على التفكير فإذا لم تتوفر فى الموقف التعليمى حرية التفكير فلا يمكن للأفكار أن تتطور وتنضج ومن ثم فالحوار الذى لا يستند إلى الديمقراطية يهدم أهم أسس الحوار لآن حركة الفكرة وتطورها تعتمد على حرية التعبير التى تتيح لجميع التلاميذ الفرصة لاختبار صحة أو خطأ الأفكار الكامنة فى عقولهم .
ثالثا: تتسم العملية التعليمية بوجود طرفين: التلميذ والمعلم والعلاقة بينهما تتسم بالجمود فى الطريقة التلقينية لأن هناك عقل واحد يفكر وليست عقولا متعددة. فالتلقى لا يعطل عقل التلميذ فحسب بل قد يعطل أيضا عقل المعلم إذ أن الطرفين عليهما أن يتبنيا رؤية الأفكار المقدمة من خلال الكتاب المدرسى ويمكن الحكم على كليهما بعدم التفكير، أما فى طريقة الحوار فإنه يسمح للأطراف بالتفسير والشرح والتحليل من الرؤية الخاصة وهذا يعنى إثراء المعلومة واكتشاف كل أبعادها من خلال التفكير الجماعي.
رابعا: لا يصبح الحوار ذا أهمية إذا لم يستند على عقلية ناضجة وواعية وقادرة على تحليل المواقف بشكل مرن ومتحرر من التمسك المتعصب بالأفكار المسبقة وقادرة على تقديم الحقائق وتناولها بدلا من القفز إلى النتائج المباشرة. كما ينبغى على العقلية المتحاورة أن تتحرر من الانفعال أو الخوف الذى قد يحول الحوار إلى شكل من أشكال العراك وبدون عقلية ناضجة ومعرفة مسبقة عن الموضوع يصبح من الصعب على المتحاور أن يدافع عن وجهة نظر خاصة به، وقد يعوقه ذلك عن الاشتراك الفعال فى الحوار الجارى طالما أنه لا يملك إلماما أوليا بالموضوع.
خامسا: ينبغى أن يتوفر فى الحوار الجيد التفكير الموضوعى والعلمى والقائم على ربط الأسباب بالمسببات والذى يعتمد على النقد الذاتى ويبتعد عن العواصف والانفعالات التى تبعد بالحوار عن الموضوعية فإذا كان الخصمان يلجآن إلى الحوار الذاتى البعيد عن الموضوعية فإن كلا منهما سيسئ فهم الآخر ويصبح الحوار مجرد خصومة أكثر منه فحصا للموضوع، بل إنه قد ينتهى بتبادل الاتهامات.
سادسا: يقول فريرى إن الحوار الجيد ينبغى أن يستند على الحب فلا يمكن أن يتواجد الحوار فى غيبة عن الحب القوى للعالم وللبشر كما يصعب تواجده فى جو من اليأس أو عدم الإيمان بقدرة الإنسان فى الابتكار والتعبير فالخصومة الفكرية لا تعنى الكراهية أو عدم الاحترام المتبادل ولذلك فإن الحوار الجيد ينبغى أن يولد وينمو ويتطور فى ظل مناخ يحترم آراء الجميع ولا يسخر منه ويحافظ على جو من الهدوء ويبتعد بالحوار عن العنف والانفعال من جهة وعن المجاملة والأساليب الإنشائية الطنانة من جهة أخري. ويذكر فريرى أن الحوار لا يتم إلا بالتواضع، فهو كعمل إنسانى يهدم إذا فقد المتحاورون الحوار، فى هذه الحالة إلى نزاع بين الأطراف المتحاورة ويفقد الحوار جدليته ويصبح مجرد صيحات وصراخ وقد ينتهى بمشاعر العداء والكراهية والإحباط كما سيتم الحوار فى هذه الحالة أيضا بالعنف وتبادل الاتهامات ومحاولة الانتصار على الخصم والتعالى والغرور وقد ينتهى بمشاعر العداء والكراهية والإحباط. أما إذا حاول كل خصم أن يبتعد عن العنف والانفعال ويلجأ إلى الصبر والهدوء والتواضع وفهم الآخرين فإن هذا قد يمكن الحوار من السير إلى تحقيق أهدافه وهو خلق فريق متعاون يتبادل أفراده الحب ويفهم كل منهم الآخر وهذا ما يستند عليه ويحققه الحوار الناجح.
أخيرا ربما يكون تعلم لغة الحوار هو الحل ذلك إن افتقاده يعنى افتقاد العقلية الناقدة والمبدعة فالحوار وحده هو الذى يحتاج التفكير الناقد وهو وحده القادر على توليد التفكير المبدع وبدونه لا يوجد اتصال ولا تواصل وبدونه لن يتحقق حلم الدخول فى القرن الحادى والعشرين.
التعليق:
أثار هذا المقال الهام عدة أسئلة، وملاحظات جديرة بالنظر، لعلها تستثر مواصلة الحوار، ونوجز أهمها كما يلى :
1-رغم اتفاقنا جميعا على أن النقد والتفكير الناقد هو المطلوب والأهم والأساس ..إلخ، (وإلا لما صدرت هذه المجلة) تساءلنا عن جدوى تكرار تعبير”أن كيت أو كيت هو الحل’ وتصورنا أن هذا فى ذاته يمكن أن يكون ضد التفكير النقدي؟
2- بدأ المقال بسؤال شديد الجاذبية يقول”أين نحن من تلك المتغيرات؟ وهل نحن قادرون على استيعابها؟ …إلخ، ثم افتقدنا فى سطوره ما تصورنا أنه وعدنا به ،(أين نحن ..؟ إلخ) ذلك لأننا لم نجد بالمقال مواجهة، أو حتى إشارة إلى أن أخطر ما منع الحوار، وجمد التفكير، هو تلك المصيبة المنظمة التى تجرى فى مدارسنا تحديدا مستهدية بالنكسة القمعية للتفكير عامة، لا من جانب السلطة التنفيذية فحسب، وإنما من جانب الوعى الدينى التقليدى السائد بين الناس، فالقهر الآن يأتى من وعى الشعب المتجمد أكثر مما يأتى من سلطة بذاتها، ولعل بعض درجات القضاء قد أسهمت- ربما من خندق تشريعي- فى مسايرة هذا الوعى القاهر السائد.
3- تناول المقال مصيبة ما نتخيله حوارا، وهو أبعد ما يكون عن ذلك، هذا على المستوى العام، ثم أعلن تفاقم هذه المصيبة نفسها، بشكل آخر، على مستوى التعليم، ولكن من أين نبدأ؟
4- إن المدرس الآن يعانى – مثل المواطن المصرى عامة – ليس فقط باختفاء فرص الحوار، وإنما باختفاء معنى، ودلالة، ومضمون، كلمة”حوار’ . فهويخلط بينه وبين النقاش، والعناد، والمناظرة، والتعصب، وهو لا يعرف ما هى أدوات الحوار أصلا، وليس فقط ما هى قواعده .
5-إن المقال، بعد طرح المسلمة البديهية التى تقول بتفضيل التدريس المحاور على الملء التخزينى، وتفضيل التفكير النقدى على التلقين، لم يواجه التحدى الذى يتمثل فى السؤال عمن يقوم بهذه المهمة، وهل تجرؤ مدرسة أو مدرس أن يطرح أيهما على نفسه سؤالا واحدا لا يعرف إجابته مسبقا، فى ظل ما شاع فى مجتمعنا أخيرا؟؟ أليس هؤلاء هم الذين نتوجه إليهم برجاء تنمية الفكر الناقد والحوار الخلاق ؟ وكيف نطلب من فاقد الشئ أ ن يعطيه
6- أعادنا المقال إلى ما نبهنا-طوال صدور هذه المجلة – إلى ضرورة تجنبه، وهو ضرورة الانسياق إلى معارك تقليدية مستوردة، حول تفسير معظم السلبيات بما زعمته القيم الغربية/الشمالية، حين اختزلت علاقات البشر إلى صراع تفضيلى تبريرى بين”قاهر ومقهور’، [الكلاب الفوق، والكلاب التحت، العبد والسيد، والسلطة والتابعين ..إلخ] فتساءلنا : ألم نصدرلنعمق النظر فى جدل آخر، نابع من تاريخ آخر، متوجه نحو كل آخر، وإن لم نفعل، فأى فضل لهذه المجلة فى هذا السبيل؟
7- وإذا كان هذا المقال -مثل سابقه- ينبهنا بكل وسيلة ولغة وإشارة إلى أنه لا يمكن إصلاح التعليم (والتفكير والحياة ..) إلا بتوجه اجتماعى، اقتصادى إبداعى متكامل، فمن أين نبدأ؟ من المدرسة ؟ أم من السياسة ؟ أم من الاقتصاد؟ أم من الإعلام ؟
ثم إننا لاحظنا حكاية القرن الحادى والعشرين (فانظر معنا تقديم مقالى التربية )
ونحن ندعو القراء والكاتبة معا إلى مواصلة الحوار، بعد طمعنا -بداهة – فى سعة الصدر وحركية الفكر.
نحن فى أشد الحاجة إلى اقتراح صغير جدا، عملى جدا، فورى تماما : يقول لنا”هنا، والآن’ : ماذا يمكن؟ دعونا نبدأ بأنفسنا هكذا.