مثل وموال
الحب والكره فى الوعى الشعبي
قراءة فى الحب، وهامش عن الكره
مقدمة:
لا توجد كلمة شاع استعمالها بالحق والباطل مثل كلمة الحب، فما أسهل النطق بها، وما أجمل استعمالها، وما أكثر التوصية بضرورتها، وما أكثر أشكال تجلياتها، ومع ذلك كله فما أغمض حقيقتها وكنهها. أما لفظ الكره، وهو الوجه الآخر للحب (وليس بالضرورة نقيضه) فهو أقل استعمالا،وأيضا أهو أبعد عن النظر،ومحاولات قراءته عن قرب.
أولا : قراءة فى الحب
فى هذه الإطلالة سوف أحاول أن أقدم ملامح عابرة من بعض الإشارات التى وردت عن الحب فى المثل الشعبى المصرى أساسا،لأن تغطية هذا الموضوع الجوهرى أمر آخر،وبصفة عامة فقد لاحظت النظرة العملية للوعى الشعبى فى موضوع الحب، فى مقابل تلك النظرة الرومانسية المثالية التى تناولته بها أساليب أدبية أخري، وخاصة الشعر وبعض القص.
1- الحب ضرورة بشرية:
وبداية يعترف الوعى الشعبى أن الذى يعطى الإنسان إنسانيته هو أن يحب = الحب ضرورة لتأنيس الإنسان
”إيش قلتم فى جدع لا عشق ولا اتمعشق، قالوا يعيش حمار ويموت حمار”.
فنلاحظ ابتداء أن ثمة تداخلا، لا يصل إلى حد التطابق، بين العشق والحب، ويبدو أن العشق يؤكد على الجانب الحسى التواصلى للحب، ولم أستطع أن أتبين الفرق بين عشــق واتـمعشق، ومع ذلك فلم أستطع أيضا أن أعتبرهما مترادفين، فحين رفعت كلمة اتمعشق :باخ المثل وتسطح، فقدرت أن”اتمعشق” هى تأكيد للعشق من ناحية، وتنـغيم بديع يظهر ما فى العشق من بهجة حيوية راقصة. ثم قدرت ثانية أنها قد تعنى البناء للمجهول، أى أنه لم يعشق ولم يـعشـق. الخلاصة أن هذا المثل يعلن بلا مواربة أن من أمضى حياته لم يعشق (ولم يعشق) هو حمار لا أكثر ولا أقل. ولا بد بالطبع أن نأخذ صفة “حمار” هنا بالمعنى المجازى الذى يظلم به البشر الحمير، والمعنى هنا أنه غبى أضاع حياته هباء، مهما حقق.
2- الحب اختيار (صعب)
ا- يعلن المثل الشعبى أننا -فى مجال الحب- مهما حسبناها (أنظر بعد)، فإن المسألة خارجة قليلا أو كثيرا عن الإرادة الواعية، وأيضا فإن التأكيد على أن الحب اختيار حر تحت كل الظروف، هو نفى لأى احتمال أن يتم تحت قهر أو رشوة أو حيلة أو كذب. قد يشترى السلوك الـمحب، أو الجنس، وقد يتم الخضوع، أو التسليم، أو الرشوة، لكن “ما فى القلب فى القلب” لأن المثل الأساسى يقول: القلوب ما تتسخرش: تساعده أمثلة أخرى مثل : “كل شيء بالخناق، إلا الحب، بالاتفاق” وأيضا : “حبنى وخدلك زعبوط، قال هى المحبه بالنبوت”.
ويفرق الوعى الشعبى بين العلاقات المفروضة من خارج، مثل العلاقات التى تكتسب شرعيتها واستمرارها باللصق الخارجى (حتى لو كان لصقا بورقة رسمية)، وبين العلاقات المبنية على اختيار متجدد، وهو بذلك لا يهاجم الزواج مباشرة، وإنما هو ينبه ألا نستسلم لعلاقة اعتمادية، طفيلية، تستمر باللصق من الخارج، يقول المثل: ألف رفيقة، ولا لزيقة.
وفى نفس الوقت فإن الوعى الشعبى يعلم، ويعلم، أن للاختيار حدودا، صحيح أنه يوصى أن نحلم، ونأمل فى حب يستأهل: إعشق غزال ولا فــضــها، وأيضا: إن سرقت إسرق جمل، وان عشقت اعشق قمر، إلا أنه يحترم الحدود، والواقع، يقول المثل: لو كان الحب بالخاطر كنت حبـيت بنت السلطان.
3- الحب بالحساب
فى مسألة الحب تتواتر فى الوعى الشعبى الحسابات والتقديرات والشروط بشكل عملي:
ا- يبدأ التنبيه على الحذر من مسألة الحب من جانب واحد، وهذا المعنى وارد فى عديد من الأغانى والمواويل، ويلخصه المثل “من رادك ريده، ومن طلب بعدك زيده”.
ب- وتتأكد المعاملة بالمثل وزيادة: إللى يبص لى بعين أبصله باللتنين.
وينبغى أن ننتبه إلى أن هذا الموقف الحساباتى : واحدة بواحدة لا يقلل من قيمة الحب، بل إنه يجعله مبنيا على أرض صلبة من الاحتياجات الحقيقية للطرفين، وهنا ينبغى التنبيه على ضرورة أن تكون الصفقة متكافئة، ومدركة لوجود الآخر(بما هو آخر)، فيكون حبنا له هو المقابل لما يتقدم لناب ه من رؤية ورغبة وقبول، فلا يقتصر على مجرد حبنا لهذا الذى أبداه نحونا. وقد سبق أن عبرت شعرا عاميا عن هذا المعنى المرفوض يقول ” “أنا نفسى حد يعوزني، وأعوز عوزانه”، هذا المعنى الاحتياجاتى يلغى الآخر، والوعى الشعبى يؤكد على المعنى الناضج:: ” هات وخد” بشكل متكافئ وشريف ومعلن: إعطنى نفسك، أعطك نفسي، وليس إعطنى حبك أعطك حبى لحبــك لى (أعوز عوزانه).
جـ – ويصل الأمر فى مسألة قبول الصفقة لدرجة أن ينصح المثل بالتغاضى عن صفات المحب المخيفة أو المرذولة، مادام هذاالمحب صادقا فعلا، يقول المثل: ،”إن حبتك حيه اطوق بها”، بل إن هذا المثل يتضمن التأكيد على أن فى الحب نفسه تأمين لأى شر يحتمل أن يكون كامنا فى مصدره، فالحية التى تحب لن تــلدغ محبوبها بسمها أصلا.
ء- وأصعب ما فى الموقف الشعبى فى حكاية “صفقة الحب” هو التأكيد على “تكلفة” الحب، وإن كان ذلك أيضا هو من أشرف التنبيه على الواقع، يظهر ذلك فى الأمثال من أول: الراجل عيبه جيبه، إلي: “الحب عاوز كـــلفة عشان تدوم الألفة”
ويعترض مثل آخر على الحب الذى يهمل الجانب المادى فى الموضوع قائلا : زى الوز حــنية بـلا بــز، . وفى هذا المعنى : ثمن الحب ، يقول مثل آخر أكثر صراحة : إللى عايز الجميلة يدفع مهرها. وهو مثل يضرب فى مواقع بعيدة عن الحب باستعملا مجازى جيد.
هـ-وثمة تأكيد على التناسب (كجزء من مصداقية الصفقة) وإن كان هذا البعد الحساباتى يظهر فى أمثلة الزواج أكثر مما يظهر فى أمثلة الحب، مثلا:“صرصور وعشق خنفسة دار بها فى البلد محتار” أو “جوزوا مشكاح وريما، ما عاللتنين قيمة”، أو ” جوزوها له مالها الا له “
4- تعرى الواقعية وروعة النضج :
كثيرون لا يفرقون بين الأنانية وحب النفس، وإريك فروم هو من أهم علماء النفس الذى أفاض فى هذا الموضوع حتى أوفاه حقه ، والمسألة بسيطة رغم أنها غريبة على المثاليين والأخلاقيين السطحيين، وحب النفس هو قبولها، وتحديد معالمها، وهو أساس قدرتها على الحب أصلا، ويبدو أن المثل العامى قد أدرك هذا حين، يقول”أحبك أحبك، بس أحب روحى أكتر”، وهذا لا يتنافى مع الرومانسية الواعية أو احتمال التضحية، فإن التضحية هى تأكيد للوعى بحسابات أبعد مدي، تعود على صاحبها بنوع من الرضا والفخر بالعطاء، بما يجعل الصفقة رابحة فى النهاية.
5- ضبط الجرعة، والحفاظ على المسافة :
ولا ينسى المثل العامى التنبيه على ضبط جرعة الحب، والقسوة، والدلال، بل والاقتراب، ليكسر حدة الالتهام، والاحتواء، والاحتكار: يقول المثل “إن كان حبيبك عسل ما تلحسوش كله”، ثم ينبه على جرعة التدليل، والقسوة قائلا: “كتر الأسية تقطع خيوط المحبة”وفى المقابل “كتر الدلع يكره العاشق”، أما التنبيه على الحفاظ على المسافة فيحتاج لاستقصاء أكثر مما يعنيه المثل “قربوا تبقوا بصل، بعدوا تبقوا عسل “
ولا ينسى المثل أن يميز بين القرب، والحب، فهو إذ يقول ” لا احبك، ولا اقدر على بعدك”، يحاول أن يفيد معنى آخر غير ما يبدو فى ظاهر المثل من نهى عن التردد، وعدم الحسم، فقد يكون إشارة ضمنية إلى أن الاقتراب به من التبادل الأعمق ما لا تحتويه كلمة الحب.
6- نبل البعد :
لكن ثمة حبا نبيلا عن بعد، وهو الذى يرجو فيه المحب الخير والسعد وطول العمر للمحبوب، إن كان الواقع يحول دون اللقاء أو الاقتراب، أو حتى إن قست القلوب بالهجر أو بالنسيان، يقول المثل “أساوتهم ولا خلو بيوتهم”، والمعنى جميل، فماداموا ينعمون بالحياة، حتى لوقلت الزيارة، وقست القلوب، فهذا طيب وكاف للمحب الطيب، وهذا الموقف مختلف عن الحب من جانب واحد، وعن الحب العذرى ..إلخ، ونفس المعنى يؤكده مثل آخر يقول:” عيش يا حبيبي، ولو تبكيني، حسك فى الدنيا يكفيني”
ثانيا:هامش عن الكره
كما ذكرنا فى المقدمة، لم يحظ الكره بنصيب وافر فى المثل الشعبى مثلما حظى الحب، ولا توجد أمثلة تعطى للكره قيمته الإيجابية بشكل كاف، وهذا الأمر أيضا يحتاج إلى عودة مستفيضة، فأكتفى هنا بمايلى من هوامش:
1- يقول المثل : إللى يحب ما يكرهش
فإذا أخذنا المعنى بظاهره ،قفـز اعتراض (علمي) يقول، بل بالعكس: إن الذى لا يستطيع أن يكره لا يستطيع أن يحب، بل إننا فى الطب النفسى نميز عرض الاضطراب الوجداني، باختبار القدرة على الكره، مثل اختبار القدرة على الحب سواء بسواء. ففى الفصام يفقد المريض كلا من قدرته على الحب والكره معا، فى حين أن الاحتفاظ بالقدرة على الكره، حتى لو ضعفت القدرة على الحب، فيه إشارة إلى نوع الاضطراب الوجدانى دون الفصام، فهل يا ترى يشير المثـل إلى أن الذى يحب، يمكن أن يغفر للمحبوب أخطاءه، وتجاوزاته، وقسوته، فيسامحه، أويعاتبه، أو يوجهه دون كراهية ؟
وفى نفس المعنى يقول مثل آخر: ما تكرهنى عين تودني
2-أما الهامش الثانى فهو عن المثل القائل: “أحب الناس واكره طبعهم”
ويبدو هذا المثل وكأنه يحل مشكلة الاعتقاد بأن الكراهية يتبعها دائما رغبة فى الإبعاد والرفض والنفى وما إلى ذلك، فالمثل ينبه إلى ضرورة احتمال الغموض، ويؤكد على ضرورة التفرقة بين الشخص ككل ،وبين سلوكه فى بعض النواحي، وهو يحذر من التعميم، والحكم الفوقى الدامغ لمجرد خطأ قد يكون مؤقتا أو جزئيا. لكن المثل يتكلم عن الناس كافة، وليس عن حب فرد بذاته، وهذه خدعة أخري، فقد تحل مثل هذه العمومية محل الالتزام بعمل علاقة حميمة مسئولة، ومتشابكة مع شخص بذاته. وإن كان المثل لم ينـف أنه يمكن تطبيقه على الفرد المحبوب مثلما يطبق على الناس كافة. أى أحب فلان، وأكره طبعه (أي: بعض طبعه)
3– والهامش الأخير عن أمثلة الكره يقول : إكره ودارى وحب وواري،
وهو مثل غريب، إذ يبدو أنه يوحى بحرص لا يليق إلا فى مجتمع خائف من إبداء عواطفه، وقد ذكرنى هذا المثل ببدعة جديدة ظهرت فى الطب النفسى لقياس الأثر الذى ينتج عن صراحة مشاعر من يحيطون بالمريض أو خفائها، وهو مايسمى بقياس “المشاعر المعلنة” Expressed Emotions (E.E). وفى البداية قالوا إن المشاعر المعلنة ضارة الفصامى خاصة، ثم تعدل الأمر إلى التأكيد على أن المقصود هو المشاعر السلبية المعلنة، بمعنى الرفض والنهر واللوم والشفقة المتعالية،
وهذا المثل ينصح بإخفاء كل من الكره والحب، لماذا؟ هل لأن حقيقتهما أكبر من التعبير عنهما، أم لتجنب العداوة فى حالة الكره، وتجنب احتمال الصد فالإحباط، فى حالة الحب.؟
رجحت الإجابة بالإيجاب على كلا الفرضين .