للتذكرة والتصحيح(1)
عن التشخيص والتصنيف
مقدمة:
يأتى المريض وأهله، ويتم الكشف، وتطول المقابلة، ويقفز السؤال الأول:
أنا عندى إيه يا دكتور؟ أو: هوه عنده إيه يا دكتور؟
ومن أبسط حقوق المريض عامة، وليس الطب النفسى استثناء، أن يعرف المريض مرضه (طبعا)
كيف؟ وبأى لغة؟ ولماذا؟
وهل إذا ذكرنا للمريض اسم مرضه تزداد الأمور وضوحا أم إبهاما، حتى لو كان اسم المرض شائعا وبسيطا وسهلا “القلق مثلا” ؟
ولكن هل سأل المريض نفسه، (وأيضا هل يعاود الطبيب سؤال نفسه) عن:
هل اسم كل مرض نفسى (أو عقلي) متفق على ما يعنيه.
بمعنى: هل هذا الاسم الفلانى (الفصام مثلا) دال على مفهوم جامع لصفات وأعراض خاصة، مانعـة لتداخل صفات وأعراض أخرى من مرض آخر؟
وهل يتفق الأطباء النفسيون فى قطر بذاته (مصر مثلا) أو على مستوى العالم على أسماء الأمراض النفسية، وعلى ما تفيد وتعنى، وعلى فائدة التسمية وجدواها؟
ولماذا تتغير أسماء الأمراض النفسية بالذات (دون أغلب الأمراض الأخري) كل فترة من الزمن؟
وإلى أى مدى يمكن أن يستفيد المريض النفسى من معرفة اسم مرضه؟
وهل يمكن أن يضار المريض النفسى إذا عرف اسم مرضه دون معلومات كافية عن طبيعته؟
وسوف نجيب على السؤال المحورى الذى يقول:
هل اسم كل مرض نفسى (أو عقلى) متفق على ما يعنيه.؟
ثم نعاود الإجابة على بقية الأسئلة فى أعداد قادمة:
إن الشائع – العلمى !!- هو أن نطلق اسم مرض ما على ما يتفق عليه أغلب المشتغلين به فى هذا التخصص الطبى فى قطر بذاته، أو على مستوى العالم أجمع، وهذا ما جرى فى الطب النفسى تماما، وعامة الأطباء، وعامة الناس يطمئنون لذلك بداهة.
ولكن هل اتفاق مجموعة من الأطباء (الرسميين فى العادة) على اسم معين، يعنى أنهم يعرفون بدرجة كافية طبيعة وأبعاد ما اتفقوا عليه؟
الإجابة بالنفى (تتصور؟!!)
ولا بد أنك تتعجب -عزيزى القارئ لهذه الإجابة بالنفى، فالأمر-إذن- يحتاج إلى تفصيل:
يقال عن التقسيم الأمريكى الرابع للتشخيص والإحصاء للأمراض النفسية DSM IV وأحيانا عن التقسيم العالمى العاشر للأمراض النفسية ICD 10 يقال: إن أيا منهما له ثبات عال High Reliability، ومصداقية ضعيفةPoor Validity، بمعنى أنه يمكن لمن يستعمل هذا التقسيم أو ذاك أن يصل إلى نفس النتيجة التى قد يصل إليها زميل آخر إذا استعمل نفس التقسيم، ويكون الاتفاق بدرجة عالية، وهذا ما يسمى الثبات بين المقيمينinter-rater reliability إلا أن هذا الاتفاق لا يعنى بالضرورة أنهم اتفقوا على طبيعة، وأبعاد، وتاريخ، ودلالة ما اتفقوا عليه.!!!
مرة أخرى أجد أن هذا الأمر غير مألوف عند الشخص العادى، وعند المريض خاصة، ذلك لأنه يتصور أن أطباء الطب النفسى مثلهم مثل سائر الأطباء يتعاملون مع أمراض معروفة الأسباب، محددة المعالم، واضحة الأعراض، وكل ذلك ليس صحيحا تماما. فأغلب الأمراض النفسية هى مجموعة من الأعراض لم يعرف سببها تحديدا، على الرغم من كل مزاعم التحليل النفسى وإشاعات العقد النفسية، وأيضا على الرغم من كل اكتشافات التغيرات الكيميائية فى هذه المادة أو تلك، مما يصاحب عادة الاضطرابات العقلية خاصة.
وقبل أن نضرب مثلا من الطب النفسى، دعونا نتذكر مثلا أبسط يوضح الفرق بين اتفاق عدد من الناس على أمر ما وبين ما يعنيه هذا الاتفاق من توضيح طبيعة هذا الأمر، وتحديد أبعاده:
فمثلا فى نظام المحلفين فى القضاء الإنجليزى، يقوم المحلفون بالاتفاق فيما بينهم على أن المتهم “مذنب” أو “غير مذنب”، إلا أن ذلك لا يفيد شيئا خاصا عن درجة ذنبه، ولا عن خطورة جريمته، ولا نوع وهدف عقوبته، والقاضى هو الذى يحدد -بعد رأى المحلفين فى مسأل إذنابه- كل ذلك من واقع نصوص القانون المناسبة فى كل حالة.
إذن فالاتفاق بين المحلفين، ليس له علاقة بطبيعة ما اتفقوا عليه تفصيلا، فقط هو يجيب على السؤال: “مذنب أم غير مذنب؟” أما مصداقية ما يعنيه ذلك فهى مرتبطة بما يمارسه القاضى من تحديد الأحكام، ودرجتها، بما يتناسب مع الجريمة وطبيعتها وظروفها ..إلخ.
بل دعونا نأخذ مثلا أعم، وأخطر، وأكثر إحراجا، لكنه أكثر دلالة، فكل المتدينين متفقون على وجود الآخرة، وصورتها مفصلة فى كل دين تفصيلا مناسبا، لكن هذا الاتفاق فى حد ذاته لا يثبت أو ينفى وجود الآخرة، فمصدر وطبيعة وجود الآخرة مستمد من أساس آخر، وهو الوحى فى الأغلب، وبالتالى فإن اتفاق أهل هذا الدين أو ذاك على وجود الآخرة، وتكرارهم لتفاصيل محتواها، ليس له علاقة بطبيعة الآخرة أو حتى بمصداقية وجودها.
فإذا طبقنا ذلك فى الطب النفسى فإننا يمكن أن نقول إن اتفاق مجموعة من الأطباء على علامات وأعراض ومحكات بذاتها لتسمية اضطراب من الاضطرابات باسم مرض بذاته، هو أمر مطلوب، لكنه ليس غاية المطاف، وهو لا يدل -بالضرورة- على حقيقة ما اتفقوا عليه، ولا على طبيعته.
معذور إذن المريض إذ يثق فى الأطباء هذه الثقة التى يتصور من خلالها أنهم بمجرد نطقهم لاسم المرض سوف يصلون إلى أحسن طريقة لمساعدته.
ومعذور أيضا الطبيب الذى يحرص على أن ينطق بالاسم الصحيح المتفق عليه وهو يتخاطب مع زملائه أو مرضاه (حتى لو لم يتحدد له شيء مفيد بهذا الإعلان). وعذر الطبيب يتضاعف إذا كان طبيبا صغيرا وكان الموقف موقف تقييم لقدراته (امتحان مثلا ).
ولكن لا عذر المريض، ولا حرج الأطباء (أو تورطهم) كافييين أن يفيدا بأن ما نطقوا به بوصفه اسما لمرض محدد يعنى مفهوما “جامعا مانعا” كما أسلفنا.
إن اسم مرض بذاته ينشأ من تاريخ تطور استعمال هذا الاسم، وأصل ملاحظته، وما شاع عنه، وما ثبت بعد ذلك من صلاحية هذا الاسم من عدمه، وما تطور به، وما آل إليه، وهل عاد يصلح هو هو أم أنه أسبح اسما على غير مسمى كمايقال.
ولنضرب مثلا مهما شارحا لهذه القضية، وهو ما يحيط باسم أشهر وأخطر مرض فى الطب النفسى، وهو الفصام، ذلك فى موضوع الباب التالى(2)
1- فى هذا العدد تعمّدنا أن يلحق باب “إعادة قراءة مصطلح قديم” هو “الفصام” بعد هذا الباب: للتذكرة والتصحيح كلا من “عن التشخيص والتصنيف”. مباشرة حتى نقيم دليلا من الأول على الثانى.
2- ملحوظة: فى العدد القادم سوف نواصل الإجابة على الأسئلة التى طرحت فى أول هذا الباب ، والتى تحاول توضيح مدى أثر هذا الإشكال على الممارسة الطبية، وعلى موقف المريض، وحتى على مستوى البحث العلمى .