قرابة الأربعين عاما!
د. إيناس طه
كنت أسير على كوبرى الجلاء
وأنا أفكر فى كيفية الجلاء عن هذا العالم
من منا يتعين عليه أن يموت قبل الآخر
هذا السؤال جاءت الإجابة عليه
بعد نحو أسبوعين
لا. . بعد قرابة أربعين عاما
مات هو قبلى . . رأيت موته
وكنت آخر من غادر حجرته
قبل أن يدخل فى غيبوبته الأخيرة .
كان وديعا فى يومه الأخير
بدا طفلا كهلا عجوزا
ساعات وكان سيعبر عالمنا
إلى اللغز
لغز الموت
الآن مر عام على رحيله
البيت اكتسب شخصية أخرى
شخصيتى
ورغم ذلك فوجوده باق
فهذا الكرسى كان كرسيه
وهذا الفراش كان فراشه
وهذا الجرس لم يلمسه أحد منذ تركيبه سوى أصابعه هو . .
وهذا الزرع زرعه . . وهذه الأجهزة أجهزته
وهذه العلبة احتوت أدواته
وهذه الحقيبة السوداء احتوت أوراقه
كنت أسير على كوبرى الجلاء
وأنا أفكر فى كيفية الجلاء عن هذا العالم
الآن مر عام على رحيله
أول عام أقضيه فى حياتى دونه
صحيح أثناء إقامتى فى أمريكا بعدت عنه ما يقرب من عام ونصف
إلا إنه كان موجودا . . شهورا . .وآراه :
بأنفه الطويل
بنظرته الثاقبة
وبلسانه اللاذع
كنت أسير فوق كوبرى الجلاء
وأنا أفكر فى كيفية الجلاء عن هذا العالم
من منا يتعين عليه أن يرحل أولا . . قبل الآخر
رحل هو
جاءت الإجابة على السؤال بعد أسبوعين
لأ بعد قرابة نحو أربعين عاما
كيف يتعذر على بشر عاشرا بعضهما
نحو أربعين عاما أن يتواصلا
كيف يتعذر على بشر تعاشرا نحو
أربعين عاما أن يتحابا
لا أعرف كنه شعورى
فكان أمر قدر لا مفر منه
ولكنى لا أذيع سرا إذا قلت أنى كنت أتوق للفرار منه
كانت قبضته حديدية
وأنا عصفور . .
كان سجانا . .
وأنا عصفور
كان قفصا
ترباسا
سدا
وأنا عصفور
كان سدا . . وأنا أهوى اجتياز السدود
الآن مر عام على رحيله
سحب شيئا من الحياة معه حين رحل
سحب جزءا منى
سحب المبرر
نعم المبرر
والعذر
فكان وجوده فى حياتى أمرا يجب أن اعتذر عنه
فلم يكن لى خيار أخر سوى الاعتذار عن النفس
عن الوجود
لماذا لم يحبنى ؟
سؤال دام قرابة أربعين عاما
لماذا لم أحبه ؟
سؤال دام قرابة أربعين عاما
كنت أسير فوق كوبرى الجلاء
وأنا أفكر فى كيفية الجلاء عن هذا العالم
كان يموت . . كان . . يموت
بعدها بشهور
وأنا أدخل عمارة بيتنا
وأرجلى تلامس سلالم قليلة على بوابة العمارة
كنت أقول . . معقول . . معقول . . بابى مات؟!
الأسئلة الحائرة كانت أحد المقومات
الحاضرة أبدا فى علاقتنا
مات ومعه السر
كما سأموت ومعى سرى
مات ومعه سر لم أفهمه قرابة أربعين عاما
لماذا لم يحبنى؟
لقد كلفتنى هذه الكراهية عمرى
فلا تجدوه سؤالا لا معنى له
فكأنكم تقولون أنى عشت حياة لا معنى لها .
مات ومعه سرى
أهم أسرارى
أخطرها على الإطلاق
كنت أسير فوق كوبرى الجلاء
وأنا أفكر فى كيفية الجلاء عن هذا العالم
يبدو أن كلا منا أحب الآخر بطريقته الخاصة جدا
حب ملمح أساسى فيه هو هذه الرغبة
العارمة فى الاستقلال عنه، فى الانفصال عنه
فى التحرر من قبضته ونفوذه
وكما قلت . . فأنا عصفور
ولدت فى قفص
قفصه !
إجابات تأتى أو لا تأتى بعد قرابة أربعين عاما
تغيرت فيها أشياء
وفى أشياء
لم يتغير هو
كان قوى البنيان
تعلمت الشجاعة لأنى قويت على الخوف منه ..
شببت رغم الخوف منه
نعم خفت منه طفلة
خوفا .. جعلنى مع الوقت مع التراكم , أشعر أنى خفت أعظم الأشياء , أغلظها
وأتفهها على الإطلاق
ولذا. . فحين فكرت فى الموت لم أخف
مثله
لم يكن هو فى حياة نفسه كما كان فى حياتى.
لماذا لم يحينى
سؤال دام قرابة أربعين عاما
ظل دون إجابة
ولعله سيبقى كذلك
كان على أن أبذل مجهودا مضنيا لأعيش معه وكان على أن أبذل مجهودا مضنيا لأعيش بدونه
كنا نغما قدر له أن يعزف سويا
كل شئ كان سويا
وشاذا
منطقيا وعبثيا
أنا بنت العشرين
أنا بنت الثلاثين
أنا بنت الأربعين
لمم أجد إجابة
كل منا سيعيش ويموت بسره
كان أكبر أسرارى
قدر لى أن أواجه مشكلة واحدة مع أبى وإبنى . . نفس المشكلة
قال أبى: إثبتى أنك إبنة
وقال إبنى: إثبتى أنك أم
لقد أمضيت حياتى بأكملها تحت وطأة الإثبات
لن أثبت
سأكف عن الإثبات
لأعيش لأول مرة فى حياتى . .
حياتى وأنا تجاوزت
بأعوامى الأربعين
أذنى لا أسمع بها . . وأسنانى تساقطت
كما تساقط عمرى موجعا
الآن . . والآن فقط سأعيش
قدر لى أن أتهم مرتين . . أن أنكر مرتين
مره من أبى
ومرة من إبنى
قدر لى أن أحرم مرتين
مره من أمى
ومره من أمومتى
قدر لى أن اصرخ مرتين
أنا فوضوية وخليط
خليط طبقه لفظتنى لأنها لا تعرف سوى الأقوياء
قد رلى أن أختبر مرتين
أن أذبح مرتين
أن أقتل مرتين
أن أنكر مرتين
مرتين
كنت أسير فوق كوبرى الجلاء
وأنا أفكر فى كيفية الجلاء عن هذا العالم
قرار تأخر قرابة أربعين عاما
أنا عصفور . . ولد فى قفص
هو القفص
هو القفص
هو السجان
وأنا عصفور . . حلم بالطيران
عشت اليتم مرتين
مرة طفلة
ومرة امرأة فى الأربعين
كانت طلقات ابنى تندفع نحوى فى نفس السن الذى ماتت فيه أمى
كانت فى التاسعة والثلاثين
وكنت فى التاسعة والثلاثين
مت فى نظر ابنى . . وأنا فى التاسعة والثلاثين
وكان أبى يموت وأنا فى الأربعين
مات ومت . . وإبنى يدين
قدر لى . . أن أسمع دقات جنارتى
على لسان ابنى
قدر لى أن أموت وتسحب منى أمومتى وأنا فى التاسعة والثلاثين
عرفت اليتم مرتين
مرة طفلة . . لا أم لها
ومرة امرأة فى الأربعين . . يقول لها ابنها لست أما
لست أما
وهو يقول لست بنتا
لا امتداد
ولا جذور
لاشئ . .
كيان هش فى الفضاء
أفكر فى كل مرة أزعم فيها حقى فى أن أعيش . . حقى فى الوجود
لا امتداد
لا جذور
لا جذور
كنت أسير فوق كوبرى الجلاء
وأنا أفكر فى كيفية الجلاء عن هذا الوجود
الظالم
الظالم
إلى أبعد حدود . . .
إلى أبعد حدود . . .
إلى أبعد حدود . . !