رؤية إسلامية
القضاء والمجتمع المدنى
د. أحمد صبحى منصور
مقدمة:
أؤمن بأن الإسلام دين ودولة، وهذا معتقدى الذى أرجو أن أقابل الله تعالى عليه. ولكننى أخالف فى ذلك أكبر طائفتين متصارعتين سياسيا وفكريا، وهما العلمانيون والسلفيون المتطرفون.
أخالف العلمانيين الذين يفصلون الدين عن الدولة، ويقطعون كل أواصر الصلة بين الدين والسياسة، وأقصد بالدين تحديدا هنا دين الإسلام. وهم بذلك يتجاهلون أن الإسلام أقام دولة فى العصور الوسطى أحدثت تغييرا هائلا فى تاريخ العالم حربيا وسياسيا وحضاريا.
كما أخالف التيار السلفى الدينى، صحيح أن الإسلام دين ودولة، ولكن أى دين وأى دولة؟ هنا نختلف ليس فى الفروع، ولكن فى الأصول والجذور. هم يرون الإسلام كهنوتا ويرون دولته دولة دينية كهنوتية يملكها الخليفة والملأ التابع له، ومن يخالفه فهو مرتد مباح الدم، لأنه خالف الراعى الذى يملك الرعية، فالناس هم رعية، وحيوانات أليفة يملكها الخليفة، ويتحكم فيها كيف يشاء، ولديه جيش من مرتزقة العلماء يحلل له الحرام ويحرم له الحلال.
هذه هى طبيعة التدين السائد فى العصور الوسطى منذ الخلافة الأموية وحتى الخلافة العثمانية. وتلك هى الدولة المثلى التى يطمح التيار الدينى فى إقامتها باسم الإسلام فى عصرنا، ومن الطبيعى أن تلك المفاهيم عن الإسلام ودولته الإسلامية تتناقض تماما مع الإسلام الذى جاء فى القرآن والذى طبقه خاتم النبيين عليهم السلام. والموضوع طويل، ولكن نكتفى بعقد مقارنة سريعة لتوضيح التناقض بين الدولة الإسلامية فى عصر النبى وبعض الخلفاء الراشدين، والدولة الدينية فى عصر الخلفاء غير الراشدين من الأمويين الى العثمانيين، ثم نسير مع نظام القضاء بين الدولة الإسلامية والدولة الدينية لنوضح ارتباط الدولة الإسلامية بالمجتمع المدنى ونظامة القضائى.
موضوع التناقض | الدولة الإسلامية | الدولة الدينية |
فى وظيفة الدولة | إقامة القسط بين الناس: “لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط.: الحديد، 25″.”وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم: الشورى، 15″.”إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله: النساء، 105”..فإقامة القسط هدف كل الرسالات السماوية، ووظيفة النبى المدنية فى دولة المدينة كانت إقامة العدل بحسب إمكاناته البشرية، أما وظيفته الدينية فكانت تبليغ الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة. | إدخال الناس الجنة وهدايتهم: وذلك بالإكراه وحد الردة وتغيير المنكر.التعليق: هذا يفوق طاقة أى دولة وأى شخص، لأن الإيمان والهداية مسئولية شخصية “من اهتدى فإنما يهتدى لنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها، ولا تزر وازرة وزر أخري: الإسراء 15” “ليس عليك هداهم: البقرة 272” “إنك لا تهدى من أحببت: القصص 56” “لا إكراه فى الدين” “أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين: يونس 99”. |
فى مصدر السلطة | من الأمة مصدر السلطات أى من الناس والمجتمع: يقول تعالى للنبى حين كان حاكما “فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم فى الأمر: آل عمران 159”.أى بسبب رحمة من الله جعلك لينا معهم، ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك وحينئذ فلن تكون لك دولة ولن تكون لك سلطة، إذن فهم مصدر السلطة والقوة، وبهم تكونت لك دولة وانتهت قصة اضطهادك فى مكة. ولأنهم مصدر السلطة فاعف عنهم إذا أساءوا اليك واستغفر لهم إذا أذنبوا فى حقك وشاورهم فى الأمر لأنهم أصحاب الأمر وأصحاب الشأن والسلطة، فإذا عزمت على التنفيذ، تنفيذ الأمر فتوكل على الله. | من الخليفة الذى يزعم أنه يستمدها من الله باعتباره خليفة الله وظل الله على الأرض، لذلك قال عبد الملك بن مروان “والله لا يأمرنى أحد بتقوى الله بعد مقامى هذا إلا ضربت عنقه” وقال أبو جعفر المنصور “إنما أنا خليفة الله فى أرضه وأمينه عل خلقه” ويكون بذلك راعيا والناس رعية، ويكون مسئولا عنهم أمام الله فقط. ويحق له أن يقتل ثلث الرعية لإصلاح حال الثلثين طبقا لفتوى فقهية مشهورة. وفى كل الأحوال فهو لا يسأل عما يفعل فى الدنيا. ويكون أقرب إلى نموذج فرعون فى القرآن الكريم. |
فى حقوق المواطنة | المسلم فى مفهوم الدولة الإسلامية هو المسالم والمؤمن هو المؤمون الجانب. فكل من يعيش مسالما فى الوطن فهو مسلم مؤمن مهما كانت عقيدته، لأن الذى يحكم فى العقائد والمذاهب هو الله تعالى يوم القيامة. باختصار: “الدين لله والوطن للجميع”
|
تقسيم المواطنين إلى طبقات: أعلاهم الخليفة وبيته ثم أسرته وعائلته والقواد ومراكز القوى، ثم أرباب الوظائف. وبعدها عموم المسلمين بالدين. أما غير المسلمين فهم فى الدرجة السفلى كأهل ذمة، وأعداء الدولة هم من يخالفونها فى المذهب الفكرى والفقهى والسياسى، وتعاملهم الدولة بحد الردة والحسبة، أى بالقتل. |
فى حقوق الأفراد وحقوق المجتمع | لكل فرد فى الدولة الإسلامية الحق المطلق فى شيئين: (1) العدل (2) حرية الرأى والفكر والعقيدة.
ولكل فرد فى الدولة الإسلامية الحق النسبى فى ثلاثة اشياء:- (1) الثروة (2) المشاركة فى السياسة، أى الحكم (3) الأمن. وهذه الأشياء الثلاثة هى حق مطلق للمجتمع. فالمجتمع هو الذى يملك الثروة وهو الذى ينبغى أن يدافع عنه الجميع، وهو مصدر السلطات، وكل فرد يأخذ نصيبه من هذه الحقوق على حسب كفاءته مع مراعاة تكافؤ الفرص. |
الخليفة هو الذى يملك الأرض ومن عليها. وهو الذى يملك خزينة الدولة يمنح ويمنع، وهو الذى يقتل من يشاء ويرفع من يشاء. قال أبو جعفر المنصور: أيها الناس أنما أنا خليفة الله فى أرضه وأمينه على خلقه وقد جعلنى قفلا على خزائنه أن شاء فتحنى لإعطائكم..” وقال هارون الرشيد لسحابة فى السماء”سيرى حيثما شئت فأينما هطلت مطرا فسيأتينى خراجك”. |
فى العلاقة مع الدول المجاورة | القاعدة هى السلام وعدم الاعتداء.والحرب لا تكون إلا لرد الاعتداء بمثله”
”وقاتلوا فى سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين”. “فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله: البقرة 190، 194” وحين تعتدى دولة ما على الدولة الإسلامية وتهزمها الدولة الإسلامية فإن من حق الدولة الإسلامية أن تفرض على الدولة المعتدية الجزية غرامة حربية إذا كانت هذه الدولة يهودية أو نصرانية (التوبة 29). |
القاعدة هى نشر الإسلام أو المذهب الذى تتبعه الدولة بالقوة تطبيقا للحديث الذى اخترعوه: “أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله..” وبعد احتلال الدولة يتم فرض الجزية على أهلها حتى لو أسلموا كما حدث فى العصر الأموى والعباسى والعثماني.والنظرة الأساسية للدول غير الإسلامية أو المخالفة فى المذهب أنها دار حرب أو دار كفر، حتى فى أوقات السلم، إذ تكون مجرد هدنة حربية إلى أن يقوى المسلمون على غزوها. |
فى المرجعية الفكرية والتشريعة | القرآن الكريم الذى يصلح لكل زمان ومكان والاجتهاد فى تطبيق نصوصه، والاجتهاد فى تدبره وفقا لمصطلحاته ومفاهيمه هو، والاحتكام إليه فى كل ما ينسب للنبى من أحاديث.
|
خلال عصر الخلفاء غير الراشدين تم تدوين التراث ليكون مرجعية فكرية للتشريع. وبسبب الفجوة الهائلة بينهم وبين تشريع القرآن، فإن ما يريدون تطبيقه خارج القرآن اخترعوا له أحاديث، وما لا يعجبهم فى تشريع القرآن أبطلوا العمل به تحت دعوى النسخ، مع أن مفهوم النسخ فى القرآن وفى اللغة العربية يعنى الإثبات والتدوين والكتابة وليس الحذف والإلغاء. |
فى الظروف التاريخية فى إقامة وانهيار الدولة | أقام النبى عليه السلام دولته الإسلامية، وحافظ أبو بكر وعمر على ملامحها الأساسية، ثم بدأت تتصدع فى أواخر خلافة عثمان، وبمقتله ثارت الفتنة الكبرى وأقيمت الدول المستبدة تحت مسمى الخلافة الأموية، العباسية الفاطمية، العثمانية. | كانت الخلافة غير الرشيدة تعبيرا صادقا عن فكر العصور الوسطى وتعصبها وتطرفها وتخلفها، سواء فى أوربا أو فى الشرق الإسلامي. ونهضت أوربا وخلعت عنها الكهنوت وأقامت الدول الحديثة تحت مسمى العلمانية وفصل الدين عن الدولة. وسقطت الخلافة العثمانية وتحولت تركيا إلى العلمانية الأوربية دون أن تعرف ماهية الدولة الإسلامية. وهذا التطرف العلمانى فى تركيا واجهه تطرف دينى سياسى لدينا إذ قامت جميعات دينية سلفية وحركية كان أبرزها الإخوان المسلمون، وكلهم عملوا فى الدعوة لإقامة دولة دينية على مثال الدول العباسية والعثمانية والأموية. |
فى احتمالات النجاح والفشل فى عصرنا | نموذج الدولة الإسلامية هو الأمثل فى عصر حقوق الإنسان والليبرالية وايثار السلام، ولكن الترويج لها يستلزم اجتهادا وصبرا ومعاناة واصلاحا دينيا ووعيا بحقائق الرسلام، وإن لم يحدث ذلك فسينجح المتطرفون فى اقامة دولتهم. |
تنجح اجهزة الأمن فى تحجيم التطرف، ولكن ثقافة التطرف تظل سارية برعاية أجهزة الدولة الاخرى التى تصادر الفكر الاسلامى المستنير. واذا استمر الحال على ما هو عليه فإن التطرف هو الذى سيكسب فى النهاية، مع أن الدولة الدينية لا تلائم عصرنا أو العصر القادم، أى أن الدولة الدينية اذا قامت فسترجع بالمجتمع الى الوراء كى يتناسب مع تراثها!! |
ثانيا: القضاء فى الدولة الإسلامية
إذن فالدولة الإسلامية دولة مدنية، تقوم على العدل والقسط، والمجتمع الإسلامى مجتمع مدنى وهو الذى يملك السلطة والثروة والأمن، ويتمتع أفراده بحقوق متساوية ضمن منظومة للتكافل الاجتماعى، وذلك موضوع طويل يستحق بحثا مستقلا عن الملامح السياسية والاقتصادية والاجتماعية للدولة ومجتمعها المدني.
ولكن نتوقف هنا مع الملمح الأساسى للدولة الإسلامية المدنية وهو القضاء. وفى القضاء بالذات تتجلى بقية الملامح التى تتميز بها الدولة الإسلامية المدنية عن بقية النظم السياسية سواء، ما كان منها دينيا أو علمانيا.
وبدون الدخول فى تعقيدات فكرية أو فقهية فإننا نبسط الموضوع على الوجه التالي: فمجلس القضاء الذى يتربع فيه القاضى ليحكم بين الناس له ثلاثة أركان: (1) سلطة سياسية متمثلة فى الدولة التى تعين القاضى والتى تقوم بتنفيذ أحكامه وتحقق العدل، (2) قانون أو تشريع يحكم به القاضى فى القضية التى ينظرها، (3) ثم ضمير القاضى نفسه الذى يختار الحكم المناسب للحالة المطروحة أمامه، والذى يتحرى العدل فى أحكامه على الناس. ونتحدث عن الأركان الثلاثة معا بشيء من التفصيل: -
أ – ليس فى الدولة الإسلامية حاكم بالمفهوم العادى، حيث أن المجتمع أو الأمة هى مصدر السلطة والحكم، ولهم فى الحكم مسئولية مشتركة وبالتساوى، وحيث تعنى الشورى فى المفهوم القرآنى فن ممارسة السلطة والحكم. وإذا كانت أمور الناس يديرونها بينهم بالشورى فذلك تأكيد على أن السلطة من حق المجتمع وحده، والمجتمع لايتنازل عن جزء من هذه السلطة لأحد الأفراد ليقوم بالحكم بدلا عنه وفق ميثاق العقد الاجتماعى عند روسو والفكر العلمانى، ولكن المجتمع هو الذى يحكم نفسه بنفسه، والذى يباشر التنفيذ ليس إلا موظفا خبيرا يكون مسئولا أمام الناس فى مجالس الشورى، وتلك المجالس تضم كل الأفراد رجالا ونساء، وتشريع القرآن يجعلها قضية إيمانية وهى التزام جميع المؤمنين بحضور مجالس الشورى وألا يعتذر أحدهم عن حضورها، وألا يتسلل أحدهم بعد الحضور، وذلك حتى لا ينتج عن تقاعس البعض انفراد الأقلية بالإدارة والحكم. (راجع الآيات الثلاث الأخيرة من سورة النور).
والنبى محمد عليه السلام الذى كان يأتيه وحى السماء كان مأمورا بأن يستشير، إذن فمن يستنكف من الشورى فقد رفع نفسه فوق مكانة النبى، والآية الكريمة “فبمارحمه من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم فى الأمر” تؤكد على أن الأمة هى مصدر السلطات، وإن كان قائدها هو النبى نفسه، وتأمر النبى بأن يتحمل هؤلاء الناس فى مجالس الشورى بأن يعفو عنهم ويستغفر لهم وألا يقطع أمرا دون أن يشاورهم وإلا انفضوا عنه، وإذا انفضوا عنه زال عنه الحكم والنفوذ والسلطان لأنهم هم الحكم والنفوذ والسلطان. وبالتالى فإن الدولة الإسلامية لا تعرف الحاكم بمفهوم العقد الاجتماعى إذ لا تتنازل عن جزء من سلطتها لفرد أو جماعة كى تحكمها. كما أن الدولة الإسلامية لا تعرف الحاكم المطلق المستبد بالأمر سواء كان خليفة أمويا أو عباسيا أو فاطميا أو كان حاكما عسكريا، لأنهم بكل بساطة سلبوا الأمة حقها فى الحكم واستولوا عليه بقوة السلاح; ولذلك ترك النبى دولة المدينة دون أن يعين حاكما لأن الأمة هى التى تدير شئونها بنفسها، ولكن الروايات التى صيغت فى عصور الاستبداد دارت حول الاختلاف فى تعيين حاكم وفق ما ساد بعد عصر الراشدين.
ويلفت النظر أن آيات التشريع التى نزلت فى المدينة -حين كان للمسلمون دولة- لم تخاطب النبى أبدا بوصفه حاكما. وهذا ما جعل الشيخ على عبد الرازق وغيره ينفى عن النبى صفه كونه حاكما ويتجاهل وجود الدولة فى عصر النبى، مع أن كل شروط الدولة الحديثة -أقول الحديثة- تتوافر فى دولة النبى والخلفاء الراشدين. وقد غفل أولئك عن طبيعة نظام حكم الشورى فى دولة النبى، إذ غلب فى فكرهم تصور الحاكم الفرد سواء بالمفهوم الديمقراطى العلمانى – وفق نظرية العقد الاجتماعى، أو بالمفهوم الثيوقراطى أى الحكم الإلهى فى الدولة الدينية الاستبدادية. ولم يعرفوا أن الذين كانوا يحكمون فى دولة المدينة هم المجتمع من خلال مجالس الشورى، تلك المجالس التى كانت تعقد فى المسجد، وقد تحدث عنها القرآن، ولكن أغفل التاريخ لها الرواة فى عصر التدوين. لأن التدوين للتاريخ الإسلامى بدأ فى العصر العباسى، عصر الدولة الدينية والاستبداد السياسي.
وبعد توضيح مفهوم السلطة فى الدولة الإسلامية المدنية وأنها للناس وليست لحاكم يحكم الناس، بل فيها مسئول يخدم الناس ويحاسبه الناس، نأتى لموقع القضاء فى هذه السلطة، ونفاجأ بنوعية مختلفة فى الخطاب القرآنى للنبى وهو القائد -وليس الحاكم- والقائد هنا بمعنى المرشد النبى الذى يأتيه الوحى فيقوم بتطبيقه، وحين انتهى الوحى نزولا كانت كل ملامح الدولة الإسلامية والمجتمع الإسلامى المدنى قد اكتملت.
إن الله تعالى لا يخاطب النبى باعتباره حاكما للناس أو يحكم الناس، ولكن باعتباره قاضيا يحكم بين الناس، وتلك هى المهمة الأولى والأساسية للدولة الإسلامية، بل هى المقصد الأسمى الذى من أجله نزلت الشرائع السماوية على الأنبياء “ليقوم الناس بالقسط: الحديد 25”.
وقوله تعالى “ليقوم الناس بالقسط” وثيق الصلة بمفهوم السلطة السياسية فى المجتمع، وكيف آن المجتمع أو الناس هم مصدر السلطة وهم القائمون بها، وعليه فإن تحقيق القسط فيما بينهم وظيفتهم أيضا، أى أنهم هم القائمون بحكم أنفسهم وهم أيضا القائمون بالقسط وتحقيق العدل فميا بينهم وفق آليات يختارونها، بشرط أن تنجح تلك الآليات فى تحقيق العدل، وليس من العدل على الإطلاق أن ينفرد شخص ما بالحكم أو بالثروة والنفوذ. والمثل الأعلى فى ذلك كان خاتم النبيين فى دولة المدينة، إذ لم ينفرد بالنفوذ ولا بالثروة. وإنما كان ذلك جميعه للمجتمع والناس. وكانت مهمته (بعد التبليغ) فى دولته هى القضاء والحكم بين الناس، وليس حكم الناس.
ويلاحظ أن مذهب الحاكمية لدى التيار الدينى السياسى يفهم مصطلح “الحكم” فى القرآن على أنه الحكم السياسى، وهذا يخالف التشريع القرآني. حيث يأتى مصطلح الحكم بمفهوم القضاء، والآيات الثلاث التى يرفعونها فى مواجهة السلطة وهى “ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون. فأولئك هم الظالمون.. فأولئك هم الفاسقون: المائدة 44، 45، 47” هى آيات لا تتحدث عن الحكم السياسى ولكن عن القضاء، لأن، الآيات من قبل تتحدث عن اليهود الذين جاءوا للنبى ليتحاكموا إليه، فقال تعالى له “وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله؟. المائدة 43”. فالحديث هنا عن المصدر التشريعى أو القانون الذى يحكم به القاضي. وليس على نظام الحكم.
واستعمل القرآن نفس المصطلح “يحكم” فى قصة تقاضى حدثت أمام داود وسليمان “وداود وسليمان إذ يحكمان فى الحرث إذ نقشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين: الأنبياء 78” وجاء ذلك أيضا فى قصة تقاضى أخرى حدثت أمام داود، إذ دخل الخصوم على داود ففزع منهم “قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط: ص 22” فالحكم هنا يعنى الرأى القضائى وليس الحكم السياسي. وقد يكون الرأى فقهيا نظريا خارج دائرة القضاء، والقرآن يسميه حكما، وقد يكون هذا الحكم سيئا مستحقا للوم القرآن، كما قال تعالى فى وصف آراء المشركين فى وأد البنات (ساء ما يحكمون: النحل 59) أو فى تفضيل أنفسهم على المتقين (ساء ما يحكمون: العنكبوت 4، الجاثية 21) أى أنهم ساءوا فى حكمهم الفقهى ومقالتهم، فالحكم هنا أيضا لا يعنى السياسة.
وفى تفصيلات التشريع القرآنى جاءت كلمة “يحكم” بمعنى يقضى، فالذى يقتل الصيد فى الحرم متعمدا عليه أن يقدم هديا من الأنعام يكون مماثلا للصيد المقتول، والذى يحكم بذلك اثنان من الخبراء العدول “يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة: المائدة 95”.
ومن هنا لم تأت كلمة الحكام إلا مرة واحدة فى القرآن، ليس للحكام السياسيين وإنما للقضاة. وذلك فى معرض النهى عن رشوة القضاة وأكل أموال الناس بالباطل، يقول تعالى “ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس، بالأثم وأنتم تعلمون: البقرة 188”.
وإذا عرفنا أن مفهوم الحكم فى التشريع القرآنى يعنى الفصل بين الناس فى أمور التقاضى، وليس حكم الناس أو التسيد عليهم، وإذا عرفنا أن الدولة الإسلامية لا تعرف حاكما بالمفهوم العلمانى أو بالمفهوم الاستبدادى لأنها هى مصدر السلطات وهى التى تقوم بالسلطات وتعين القاضى ليحكم باسمها وليقيم العدل .. إذا عرفنا ذلك أدركنا لماذا يخاطب التشريع القرآنى عموم المؤمنين كلهم، ولا يخاطب فئة منهم أو شخصا معينا وفق المفهوم العلمانى فى الحكم، أو لا يخاطب ذلك الخليفة المستبد الكهنوتى الذى يزعم أنه يستمد سلطته من الله.
أن الله تعالى يخاطب المجتمع باعتباره صاحب السلطة والقائم بها فيقول “إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل: النساء 58” والمفهوم أن المجتمع يتكافل معا فى تأدية الأمانات والحكم بالعدل فى التقاضي. والآية التالية (النساء، 59) تأمر بطاعة الله ورسوله وأولى الأمر أى الخبراء والمطاع واحد، هو الله تعالى فى كتابه الذى نزل على رسوله، والذى يطبق أحكامه بعد النبى هم أولوا الأمر، والأمر هنا فى هذه الآية وفى الآية الأخرى التى جاءت فى سورة النساء (أية 83) هم أولو الشأن أى أولو الاختصاص الذين يكونون مرجعية فى الشأن المعروض أو المطروح، مثل القضاة مثلا، أو الخبراء فى الموضوع المراد بحثه أو الحكم فيه.
وتلك الآيات فى العموميات، ولكن فى تفصيلات التشريع القرآنى نجد التوجه الدائم نحو المجتمع كله، ولذلك يتردد قوله تعالى “يا آيها الذين آمنوا” ولم يقل يا آيها الحكام أو يا آيها القائمون بالأمر، وعلى سبيل المثال فتشريعات اليتيم من رعايته والإحسان إليه والحرص على أمواله وتعيين وصى عليه، كل ذلك جاء خطابا للمجتمع وليس لحاكم فرد، وذلك يتضح من الآيات الأولى فى سورة النساء. وفى نفس السورة يقول تعالى عن حالة الخصومة بين الزوجين إذا تعذر الإصلاح بينهما “وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها: النساء 35” فالحاكم هنا ليس حاكما سياسيا، وانما رجل من أولى الأمر أو الشأن يفهم فى الموضوع، أحدهما من طرف الزوجة والأخر من طرف الزوج، ويختارهما المجتمع.
والوظيفة المدنية الوحيدة للنبى عليه السلام فى دولة المدينة كانت القضاء. وفى ذلك يشترك نبى الله داود عليه السلام مع خاتم النبيين عليهم السلام. والنبى حين يقضى بين الناس فهو بشر يمكن أن يخطيء ويصيب، مع إيماننا بأنه يتحرى العدل وأنه مأمور به، والنبى محمد عليه السلام قال للناس “وأمرت لأعدل بينكم: الشورى 15” ولكن تحرى الحكم بالعدل عملية معقدة ومركبة لا تتوقف فقط على ضمير القاضى وورعه، ولكن على نزاهة الخصوم، وأكثر الخصوم يريد الحكم لمصلحته ولا يرى غير مصلحته حيث أن أكثر الناس ظالم لنفسه، ومن هنا كان الخطاب الإلهى لنبى الله داود بالحكم بين الناس بالعدل “يا داود إنا جعلناك خليفة فى الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله، إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب: ص 26” فمع أن الله تعالى يجعله خليفة فى الأرض إلا أنه لم يكن يحكم الناس وإنما يحكم أى يقضى بين الناس. ولأنه بشر فقد حذره الله تعالى من الحكم بالهوى وأمره بالحكم بالحق.
وكما أمر الله تعالى خاتم النبيين عليهم السلام بالعدل “وأمرت لأعدل بينكم” فقد حذره أيضا من الهوى ومن أن يخدعه أصحاب القضايا “فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق ..” “وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولاتتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك: المائدة 48، 49”.
وحدث أن تعرض النبى عليه السلام لخديعة نتج عنها أن حكم بتبرئة سارق وإدانة بريء بناء على مكيدة تم فيها وضع الدرع المسروق فى بيت يهودى مظلوم، وحكم النبى بتبرئة الجانى السارق وإدانة المظلوم. ونزلت آيات القرآن تنبه النبى وتلومه وتثبت لنا إمكانية أن يقع القاضى فى الخطأ فى الحكم حتى لو كان فى نزاهة النبى وحرصه على العدل، لأن تحقيق العدل مهمة ينبغى أن يضطلع بها الجميع من خصوم وشهود وقضاة ومجتمع بأسره (اقرأ آيات سورة النساء من الآية 1.5″ “إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما آراك الله ولا تكن للخائنين خصيما” أى لا تدافع عن الخائنين، وما بعدها إلى قوله تعالى “ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك .. إلى أخر آية “113”). وبعد موت النبى الذى كان قاضيا فى دولة المدينة فإن القضاء من أهم وظائف دولة الإسلام المدنية يتكاتف فى تأديتها كل المجتمع، ولذلك يأتى الخطاب بأسره -كما أسلفنا- يقول للناس “وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل”، وهنا تقوم تشريعات القرآن بتربية العقل الجمعى على أسس العدل والقسط، وذلك أيضا موضوع شرحه يطول، ولكن نكتفى منه ببعض الإشارات .
فالله تعالى جعل إقامة القسط وظيفة المجتمع “ليقوم الناس بالقسط: الحديد 025” وإقامة القسط عملية مركبة شديدة التعقيد أفقيا ورأسيا.
أفقيا: فإقامة القسط تعنى ألا ينفرد شخص أو طائفة بالحكم السياسى بل يكون الحكم مشاركة وحق لكل فرد فى المجتمع وفق نظام الشورى الذى أشرنا لبعض ملامحه. ويعنى ألا ينفرد شخص أو طائفة بثروة المجتمع على حساب المحرومين.. أى القسط فى الثروة وفى السلطة وفى الجاه والنفوذ، وفى استحقاق الحماية والأمن.
رأسيا: أى إقامة القسط على مستوى القضاء بين الناس، وهذا يستلزم قاضيا عادلا وشاهدا صادقا وموظفين أمناء ومجتمعا فاضلا يعرف الصدق صدقا فيتبعه ويعرف الفساد فسادا فيجتنبه. وذلك كله يستلزم تربية حقيقية تقوم على الخشية من الله وتقواه قبل أى اعتبار أخر. وهنا يختلف تشريع القضاء فى القرآن عن النظام التشريعى فى الدول العلمانية المدنية. فالمتهم هناك بريء حتى تثبت إدانته، فإذا لم تثبت إدانته فهو بريء حتى لو كان أعتى المفسدين، فالعبرة هناك بالضبطية القضائية وإثبات التهمة عليه، وإلا كان بريئا وأصبح من حقه – حتى لو كان أعتى المجرمين – أن يعود على السلطات بدعوى تعويض. أما فى تشريع القرآن فليست العبرة فقط بالضبطية القضائية ولكن بضمير الإنسان نفسه، أو بتعبير القرآن بالتقوى، ولذلك فإن آيات التشريع فى القرآن تختتم بالحث على تقوى الله وخشيته والتعامل مع الله قبل التعامل مع الناس. ومن هنا يبادر الشخص إذا كان جانيا أو شاهدا أو قاضيا بقول وفعل ما يرضى الله تعالى قبل أى اعتبار آخر.
والآيات التى تأمر المجتمع بالقسط والعدل كثيرة خصوصا فى التفصيلات التشريعية، ولكن نكتفى منها ببضع آيات. يقول تعالى ” يا آيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين، ان يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما، فلا تتبعوا الهوى، أن تعدلوا: النساء 135″ فالأمر هنا للمؤمنين بأن يكونوا قوامين أى دائمى القيام والمحافظة على القسط، وأن يشهدوا ابتغاء مرضاة الله على ذلك، ولو كان ذلك على حساب أنفسهم أو أقرب الناس اليهم. أى يراعوا العدل والقسط ولو على حساب أنفسهم أو أقاربهم. ويتكرر نفس الأمر فى قوله تعالى “يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط، ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله، إن الله خبير بما تعملون”.
والقسط والعدل على مستوى الكلمة فى أى زمان ومكان، ومن ضمن الوصايا فى القرآن قوله تعالى “وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى: الأنعام 152” ولذلك كان التأكيد على الشاهد فى القضاء أن يقول الحق وألا يكتم الحق وأن تكون له حصانته من الأذى “ولا يضار كاتب ولا شهيد، وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم، واتقوا الله”: “ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه” “ولا يأب الشهداء اذا ما دعوا .. البقرة 283، 282” “وأقيموا الشهادة لله: الطلاق 2″
وإذا راجع القاريء الآيات القرآنية فى هذه الفقرة السابقة – وغيرها من الآيات كثير – لاحظ تكرار اللفظ القرآنى “أقام” ومشتقاته، ومنها “ليقوم الناس بالقسط” “كونوا قوامين بالقسط شهداء لله” “كونوا قوامين لله شهداء بالقسط” “أقيموا الشهادة لله”.
ولفظ “أقام الشيء” يعنى حافظ عليه ورعاه، ومنه إقامة الصلاة بالمحافظة عليها فى أوقاتها وعدم تضييع ثمرتها بارتكاب المعاصي. والمقصود أن إقامة القسط لا تعنى بمجرد الحفاظ عليه وحسب، وإنما أيضا بالابتعاد عن أى تسرب للظلم فى الكيان القضائي.. فماذا يحدث اذا تسربت نسبة ضئيلة من الظلم إلى الكيان القضائى الإسلامى القائم على القسط؟
هنا نناقش الفارق بين لفظين قرأنيين هما: القاسطون، والمقسطون.
فالقاسط هو الذى يراعى العدل غالبا، أى بنسبة 90% أو أكثر، ولكنه لا يبلغ نسبة 100% لأن المقسط هو الذى يراعى العدل بنسبة 100% حسب إمكاناته البشرية. ذلك لأن القاسط على وزن فاعل، وصيغة فاعل لا تدل على اللزوم والاستمرار، فإذا أردت وصف إنسان بصفة لازمة فعليك أن تصفه بإحدى صيغ المبالغة المعروفة فى اللغة العربية، ومنها وزن “مفعل” بضم الميم وسكون الفاء وكسر العين، أى لا تقول فيه قاسط، وإنما مقسط.
والقاضى الذى يحكم بالعدل بنسبة أقل من مائة فى المائة يعنى أنه يتبع هواه أحيانا، إذ يرى الحق واضحا فى بعض القضايا ولكن لمصلحة ما أو لهوى فى نفسه يحكم فى بعض تلك القضايا القليلة بهواه، ومع أنه فى أغلب أحكامه يتحرى العدل إلا أن مصيره سيكون حطب جهنم، يقول تعالي
“واما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا: الجن 15”. وفى المقابل فإن المقسطين هم من يحبهم الله تعالى، تكرر ذلك ثلاث مرات فى القرآن “إن الله يحب المقسطين: المائدة 42، الحجرات 9، الممتحنه 8” وذلك فى الحديث عن الحكم على غير المسلمين وتدخل طائفة أخرى لتحكم بينهما بالقسط.. والمقصود أن القسط هو النزاهة أى الحكم بنسبة مائة فى المائة، ذلك لأن حق الأفراد مطلق فى القسط والعدل، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك.
والفيصل هنا هو ضمير القاضى الذى سيتحرى العدل، وعلى أساس ضميره سيكون حسابه عند الله وسيكون تقييمه، هل هو ظالم قاسط؟ أم هو عادل مقسط. أما درجة الحكم نفسها فهى مرتبطة بإمكانات القاضى البشرية، وقد رأينا أن النبى عليه السلام نفسه قد تعرض للخداع فكيف بغيره، وهنا ندخل على قضية أخرى، هو باسم من يحكم القاضي؟ باسم الله تعالى أم باسم المجتمع؟
والنبى محمد عليه السلام لم يكن يعلم الغيب وهذه حقيقة قرأنية أكدتها عشرات الآيات، ولذلك أخطأ فى حكم قضائى بسبب خديعة سبق أن أشرنا إليها، وكان حكمه تعبيرا عن إمكاناته البشرية التى تتقاصر عن علم الغيب. وهذا ينطبق بالتالى على كل البشر من قضاة وخصوم. وبالتالى فإن الحكم القضائى البشرى يكون باسم البشر وليس باسم الله، وحيث ان القاضى هنا يمثل ضمير المجتمع فإنه يحكم باسم المجتمع وليس باسم الله، لأن المجتمع هو مصدر السلطات وهو القائم بالسلطات ومن أدواته القاضى، ومن سلطات المجتمع تنفيذ أحكام القاضى سواء كان ذلك الحكم صائبا أم مخطئا.
وتأكيد القرآن على أهمية العدل والقسط وتحذيره من الحكم بالهوى كل ذلك يؤكد على مسئولية المجتمع على ما يصدره نظامه القضائى من أحكام. وهذا ما يتضح من سياق آيات التشريع، ونكتفى من ذلك بقوله تعالى يحذر من اضطهاد الشاهد والكاتب (وكلاهما محايد)، “ولا يضار كاتب ولا شهيد، وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم: البقرة 282” يعنى إذا تهددت حصانة الشاهد أو الكاتب فإن ذلك يدل على فسوق يسرى فى المجتمع، ولابد من علاج ذلك الفساد وتلك مسئولية جماعية اجتماعية.
ومن الظلم لله تعالى أن يصدر القضاء أحكاما بشرية قضائية تحمل فيها كل نقائص البشر وأهواء هم ثم ينطق القاضى بأن ذلك حكم الله. ذلك يخالف المنطق كما يخالف العقل، وقبل ذلك يخالف الإسلام. فإذا كان النبى لا يستمد سلطته السياسية من الله فإنه أيضا فى أحكامه القضائية كان لا يستمدها من الله تعالى، ولذلك فقد نزل الوحى الإلهى يعاتبه ويلومه فى كثير من الأحوال. وكان ذلك الوحى ينزل تاليا لأقوال النبى وأفعاله البشرية. أى أنه فى أقواله وأفعاله البشرية هو بشر، ثم يأتى الوحى يوضح ويهدي. وذلك معنى قوله تعالى للنبى “قل إن ضللت فإنما أصل على نفسى، وإن اهتديت فبما يوحى إلى ربى: سبأ 50” وقوله تعالى له “ما أصابك من حسنة فمن الله، وما أصابك من سيئة فمن نفسك، وأرسلناك للناس رسولا، وكفى بالله شهيدا: النساء 79”.
وبعد اكتمال القرآن وانقطاع الوحى فليس لأحد من الناس أن يدعى ما لم يعطه الله تعالى لخاتم النبيين، أو أن يدعى أنه ينطق باسم الله تعالى فى أقواله أو فى احكامه. وهذا فى الدنيا. أما فى الآخرة ويوم الفصل فالقاضى الأعظم هو الله تعالى، وهو الذى يصدر أحكامه يوم التغابن حيث لا ظلم مطلقا. يقول تعالى “ونضع الموازين القسط ليوم القيامة، فلا تظلم نفس شيئا، وان كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين: الأنبياء 47”.
إن القاضى الأعظم رب العزة هو الذى يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور، يقول تعالى عن ذلك اليوم “يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء. لمن الملك اليوم؟ لله الواحد القهار، اليوم تجزى كل نفس بما كسبت، لا ظلم اليوم ان الله سريع الحساب. وانذرهم يوم الازفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين، ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع. يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور، والله يقضى بالحق. غافر 16: 20” هنا يكون الحكم لله تعالى وحده وباسمه جل وعلا وهو تعالى أحكم الحاكمين.
ونصل إلى قضية أخيرة فيما يتعلق بسلطة القضاء فى الدولة الإسلامية المدنية. ماذا إذا رفضت جماعة فى الدولة الالتزام بالنظام القضائى للدولة الإسلامية ورفضت التحاكم إليه؟
إن هذه الجماعة جزء من المجتمع، ولها حقوقها فى المشاركة السياسية والقضائية. طالما تعيش فى سلام مع المجتمع ولا ترفع فى وجهه السلاح، وكان ذلك حال المنافقين الذين أتاح لهم تشريع القرآن حرية المعارضة بالقول والعمل الذى كان يصل إلى درجة إيذاء النبى نفسه والاستهزاء بالإسلام والقرآن والمسلمين والكيد المسلمين، وآيات القرآن حافلة بما كانوا يقترفون، وكان الله تعالى يأمر النبى والمسلمين بالإعراض عنهم وعدم التعرض لهم اكتفاء بما سيحدث لهم يوم القيامة. أما المنافقون الخارجون على الدولة والذين يكيدون لها من الخارج ويتحالفون مع أعدائها ويخدعون الدولة الإسلامية فليس أمامهم إلا الانخراط فى إطار الدولة بالحياة فى أرضها والاستمتاع بحرية المعارضة السلمية فى إطارها ،وإذا أصروا على البقاء خارج الدولة والكيد للمسلمين فلابد من حزم الامر معهم والرد على عدوانهم إذا اعتدوا. (النساء 88: 91).
ونعود إلى المنافقين الذين يعيشون فى إطار الدولة الإسلامية ويمارسون حريتهم فى المعارضة بالقول والفعل. ونتساءل، هل تصل حريتهم فى المعارضة إلى رفض الاحتكام إلى النظام القضائى للدولة؟ من المعروف أن أشد النظم ليبرالية وديمقراطية ترفض حق المواطنين فى الالتجاء إلى قانون اخر ونظام قضائى آخر، ولكن تشريع القرآن يعطى المنافقين الحق فى التحاكم لنظام قضائى عدائى للدولة. فذلك ما كان يحدث من المنافقين، وكان القرآن ينزل يحتج على ما يفعلون ويعتبره دليلا على عدم إيمانهم، ولكن يأمر النبى بعدم التعرض لهم (النساء 60: 65، آل عمران 23 – النور 48) وتلك قمة الليبرالية وحقوق الإنسان.
هذا فيما يتعلق بسلطة القضاء والقاضي. ويبقى التوقف قليلا مع الركن الأخير وهو القانون أو الشرع الذى يحكم به القاضى، أو ما يعرف الآن إعلاميا وسياسيا بتطبيق الشريعة، ذلك الشعار الذى يرفعه من لا يدرى عنه شيئا، ولكن يكسب به كثيرا فى دنيا السياسة الغوغائية.
فالذين يرفعون شعار تطبيق الشريعة لا يحددون المقصود من الشريعة: هل هى شريعة القرآن والتى كان يطبقها خاتم النبيين عليه السلام؟ وهنا نتساءل عن اختلاف الظروف، والمطلق والمقيد، ومستجدات عصرنا، وكيفية الاجتهاد، وهل أعدوا اجتهادا قرآنيا يستجيب لظروفنا؟ والاجابة واضحة: لا .. ونعود للتساؤل، هل هى شريعة الفقهاء فى العصر العباسي؟ وهنا نتساءل عن أى مذهب وأى عالم فقهى سيأخذون عنه، والواضح أن الاختلاف بين المذاهب وفى داخل كل مذهب بل والاختلاف فى كل كتاب وفى كل صفحة أحد السمات الأساسية فى تشريعات الفقهاء وأغلب تلك التشريعات تحصنت من النقد بعد أن ألبسها أصحابها زورا ثوب الأحاديث النبوية، فوصل الاختلاف إلى الأحاديث المتعارضة والمختلفة فى السند وفى المتن فأى منها نأخذ وأى منها نترك؟ ولذلك يختلفون حاليا فى كل شيء من حرب الخليج إلى الختان وفوائد البنوك، ثم إن تلك التشريعات السلفية لم تكن صالحة لعصرها حيث ساعدت على انتشار الظلم والاستبداد، فكيف تكون صالحة لعصرنا، وعصرنا يحتاج إلى اجتهاد فقهى متطور يواكب سرعة إيقاعة وسرعة تطوره.
وقبل ذلك وبعده فلا يصح أن يكون الإطار التشريعى الذى يحكم به القاضى عشرات الآراء المختلفة فى القضية الواحدة. لأن ذلك يحول القاضى من مجرد ناطق بالحكم إلى مشرع يختلق الأحكام، وهذا – مع الأسف – ما كان عليه نظام القضاء فى الدولة الدينية، أى يكون القاضى مشرعا وناطقا بالحكم فى نفس الوقت. إذ يجتهد فى الإفتاء والتشريع ثم يطبق فتواه على الحالة المعروضة عليه فى مجلس القضاء، وهو بذلك يقع فى الهوى والخطأ فى كل المراحل تبعا لمدى ثقافته وعلمه واطلاعه وحالته النفسية وضغوط الذين يملكون تعيينه وترقيته وعزله، على نحو ما كان سائدا فى الدول الدينية إلى نهاية العصر العثمانى، وبعد قيام الدولة الحديثة فى مصر بدأ تقنين الدستور والقوانين فى مواد محددة محكمة، وانحصرت وظيفة القاضى فى أن يجتهد فى تطبيق ذلك النص على الحالة، دون أن يملك الحق فى تجاهل النص أو تغييره.
ونتساءل: هل تشريعات القرآن فيها ذلك التضارب الفقهي؟ ونجيب بالنفى “أفلا يتدبرون القرآن؟ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا. النساء 82”.
ونتساءل هل تشريعات القرآن تشبه تشريعات الفقهاء فى تدخلها فى كل شيء بعد أن اختلفت فى كل شيء؟. والإجابة أيضا بالنفي. لأن آيات التشريع فى القرآن لا تصل إلى مائتى أية بما فيها من تكرار وتفصيل وتأكيد .. ومعنى ذلك أن هناك قدرا هائلا قد تركه القرآن لاجتهاد البشر فيما يقع فيه التطور واختلاف الظروف، وبذلك يكون تشريع القرآن صالحا لكل زمان ومكان.
وتفصيل القول فى تشريعات القرآن ومواضع الاجتهاد فيها يحتاج إلى مجلد كامل، ولكن نكتفى هنا باشارات سريعة.
* فهناك تشريعات قرآنية خاصة بزمانها ومكانها ولا مجال لتطبيقها فى عصرنا، مثل حديث القرآن عن التشريعات الخاصة بالنبى وبيوته وزوجاته وعلاقاته بأصحابه.
* وهناك تشريعات قرآنية لا يمكن تطبيقها إلا إذا توفرت ظروفها. فإذا لم تتوفر ظروفها فلا حاجة بنا لتطبيقها، مثل احكام الرقيق، اذ لا ضير فى أن يذكرها القرآن، فشأن التشريع أن يذكر كل حالة، أما التطبيق فلا يكون إلا إذا وجدت حالات صالحة للتطبيق، وعلى سبيل المثال فالقانون يتحدث عن نفقة الزوجة المطلقة ولكن ذلك لا يتم تطبيقه على الأعزب الذى لم يتزوج ولم يطلق.. فإذا تزوج وطلق زوجته أصبح خاضعا بحالته تلك للقانون. وهكذا فتشريع القرآن عن الرق لا تسرى إلا فى عصر أصبح فيه الاسترقاق شائعا اجتماعيا. مع ملاحظة إنه لا يمكن القضاء تماما على ظاهرة الرق، وإن تشريعات القرآن قد قصدت فى المقام الأول تحرير الرقيق.. وتلك قضية أخري.
* وهناك تشريعات قرآنية جامعة مانعة، والاجتهاد يكون فى تطبيقها كما هى دون زيادة أو نقصان، والمثال الواضح فى ذلك هو المحرمات فى الزواج (النساء 22: 24) مع ملاحظة أن تشريع الفقهاء لم يلتزم بهذا التحريم الجامع المانع، فأضاف للمحرمات فى الزواج ما أحله الله تعالى، مثل قولهم: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، وقولهم: يحرم الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها. فالقرآن يجيز ذلك، والفقهاء يحرمونه أى يحرمون ما أحل الله. وهناك مثال آخر للمحرمات الجامعة المانعة، كتحريم أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به، وقد فصل القرآن القول فيها وحذر من تحريم ما أحل الله، ولكن الفقهاء حرموا الكثير من الحلال بالمخالفة لتشريع القرآن، وينطبق ذلك أيضا على القواعد التشريعية الجامعة المانعة، مثل تحريم قتل النفس إلا بالحق أى بالقصاص، وقد خالف الفقهاء هذه القاعدة التشريعية فحكموا بالقتل للمرتد والزانى المحصن وأسباب أخرى كثيرة أى أحلوا ما حرم الله.
أى أن الفقهاء اجتهدوا فى الحكم بغير ما أنزل الله تعالى فى تشريعاته الجامعة المانعة الملزمة، والتى لا يكون الاجتهاد فيها إلا بتطبيقها كما هي.
* وهناك تفصيلات تشريعية احتكم فيها القرآن للعرف أو المعروف، وهنا نحتاج إلى قوانين وتشريعات لتقنين ذلك العرف حسب أحوال العصر. ومثلا يقول تعالى “والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة، وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف: البقرة 233” فالتشريع البشرى يتدخل هنا فى تقنين نفقة الرضيع على أبيه بحسب العملة السائدة وظروف العصر، والقاضى يقوم بتقدير تلك النفقة على الحالة المعروضة أمامه حسب فقر الأب وغناه.
* وقد جاءت تشريعات القرآن فى رعاية الأسرة وحقوق الإنسان أو حقوق العباد وتنمية الأخلاق وركزت على تفصيل المحرمات بينما تركت المباح الحلال مفتوحة أبوابه لأنه هو الأصل. وهذا المباح يحتاج إلى اجتهاد تشريعى فى تنظيمه فى إطار المقاصد التشريعية العامة وهى العدل والتيسير ورفع الحرج ورعاية المصالح والإحسان وعدم إيقاع الضرر وحفظ حقوق العباد، وكل القوانين فى ذلك الإطار تكون تشريعا إسلاميا، وهذا حق البشر فى التشريع وفق ما أنزل الله تعالي.
وكل ما يدور فى إطار القوانين المستحدثة فى المرور والمساكن والتنظيم والإدارة والصحة والتعليم والخدمات.. إلخ .. كل ذلك فى إطار التشريع البشرى المسموح به إسلاميا لأنه متروك لاجتهاد البشر فيما سكت عنه القرآن وتركه للعرف والمعروف، والمهم أن يراعى المقاصد التشريعية الكبرى مثل العدل والتيسير ورعاية المصالح وحفظ الحقوق بالنسبة للعباد. أما حقوق الله تعالى فى العقيدة وفى العبادات فليس لأحد أن يتدخل فيها لأن مرجع الحكم فيها لله تعالى يوم القيامة، وهى مسألة هداية يتوقف الأمر فيها على كل إنسان إذا اهتدى فلنفسه وإن ضل فعلى نفسه. أما حقوق العباد أو حقوق الإنسان فهى مسئولية المجتمع لحفظ حقوق الأفراد، ولذلك فإن العقوبات المدنية إنما تكون فيما يخص حقوق العباد فقط. حقهم فى الحياة والأموال والأعراض وحق المجتمع كله فى الأمن، وتتحدد العقوبات هنا فى جرائم الزنا والقذف والقتل وقطع الطريق والسرقة. ولسنا فى موضع التفصيل للشروط الموضوعية لتطبيق هذه العقوبات، ولكن نشير إلى أن تشريعات الفقهاء، غيرت المصطلح إلى الحدود، وكلمة الحدود تعنى الحق والشرع فى القرآن، وبعد تغيير المصطلح أضافوا عقوبات جديدة كالرجم والردة وعقوبة شرب الخمر وغيرها. وبهذا اتسع التناقض بين تشريع القرآن وتشريع الفقهاء.
وبعد …
فهذا هو الأساس الذى أقام عليه نبى الإسلام دولته، وسار على منواله الخلفاء الراشدون، إلى عصر الفتنة الكبرى التى أسفرت عن قيام الملك الأموى المستبد. وخلفتها الدولة العباسية التى أسست الدولة الدينية بكل ملامحها، وفى رحابها تم تدوين التراث الذى يلائم الدولة الدينية بتطرفها وتعصبها واستبدادها.
وتدوين التراث تم على أساس الأتى: –
1 – تجاهل تدوين التراث الحقيقى للدولة الإسلامية فى عصر النبى، ونعطى لذلك مثلين:
* فالنبى عليه السلام قضى عشر سنوات فى المدنية يخطب الجمعة أسبوعيا، ومع ذلك فإن التراث الذى لدينا ليس فيه تدوين لخطبة واحدة من خطب النبي.
* والنبى عليه السلام قام بتعليم المسلمين أصول الحكم والقيادة فى مجالس الشورى، وتردد ذلك فى سورتى النور والمجادلة وتلك المجالس مع خطب الجمعة كانت تلبية لوظيفة أساسية من وظائف النبى عليه السلام، وهى تزكية المسلمين وتعليمهم الكتاب والحكمة.
وإذا كان ذلك التجاهل للخطب ومجالس الشورى قد حرمنا من التعرف على الإطار الفكرى والعملى لدولة النبى والخلفاء الراشدين، فإن النتيجة معروفة وهائلة، وهى أنه فى تلك المدرسة الفكرية تخرج أبطال المسلمين الذين فتحوا العالم وأسسوا مدنية وحضارة إسلامية عربية، وبهذا اختلف الفتح العربى الإسلامى عن الغزوات المغولية والصليبية وباقى الغزوات البدوية والهمجية.
2 – بعد التجاهل للتراث الحقيقى للإسلام وللسنة الحقيقية للنبى عليه السلام كان سهلا أن يتعاملوا مع القرآن بنفس التجاهل. فالذى لا يلائمهم فى تشريع القرآن أبطلوه تحت دعوى النسخ، مع أن النسخ فى القرآن يعنى الكتابة والإثبات وليس الحذف والإلغاء، وقد صدر لنا فى هذا العام كتاب بهذا العنوان. والذى لا يجدونه فى تشريع القرآن اخترعوا له حديثا نسبوه للنبى عليه السلام، أو وضعوا له تأويلا للآيات تحت اسم التفسير. وبهذا عالجوا الفجوة والتناقض بين تشريع القرآن وتشريعاتهم وتراثهم، وأضفوا مشروعية زائفة على ذلك التراث، إما بنسبته للنبى عند أهل السنة، أو بنسبته لآل البيت عند الشيعة، وعلى هذا المنوال سار الفقه وعلوم التراث خلال الدول الدينية المختلفة إلى العصر العثماني.
وبسقوط الخلافة العثمانية وتكوين الدولة الحديثة فى مصر جرت محاولة لإحياء الخلافة ودولتها الدينية وذلك عن طريق الدولة السعودية وحركة الإخوان المسلمين فى مصر. ونجح الإخوان مع الضباط الأحرار فى تفجير ثورة 23 يوليو 1952، وجرى الصراع بينهما، وجاء السادات فتحالف مع الإخوان وآعطاهم السيطرة على الإعلام والتعليم والثقافة، فتم صبغ الثقافة والتدين بالصبغة السلفية. وأصبح واضحا ذلك الصراع بين نظم الحكم القائمة فى الوطن العربى، ودعاة التطرف الدينى السياسي.
ثالثا: القضاء فى عهد الخلفاء غير الراشدين
1 – المصادر التى نعتمد عليها هنا هى كتب التراث، وقد قلنا أنها تجاهلت تدوين السنة الحقيقية للنبى حين كان يعقد مجالس الشورى فى المسجد، وتجاهلت تدوين خطب الجمعة التى زادت عن خمسمائة خطبة خلال عشر سنوات، تجاهلت ما اكده القرآن فى وظيفة النبى وهى تعليم الناس الكتاب والحكمة وتزكيتهم والسمو بهم. وقد نجح خاتم النبيين عليهم السلام فى هذه المهمة، بدليل أنه ترك وراءه بعد موته أمة عظيمه ودولة فاتحة ورجالا عظاما يندر أن تجد مثيلا لهم فى التاريخ الإنسانى بعد الأنبياء. ويصل الأمر إلى الإعجاز حين نعرف أن العرب قبل الإسلام وقبل المدرسة النبوية كانوا أقل الأمم شأنا فاستطاعوا بالإسلام استئصال الامبراطورية الفارسية وتجاوزوها شرقا وفى نفس الوقت استطاعوا مطاردة البيزنطيين إلى عاصمتهم والسيطرة على البحر المتوسط وإنشاء امبراطورية تمتد من حدود الهند إلى حدود فرنسا، وذلك فى مدة قياسية لم يعرف لها التاريخ مثلا. ولم تكن مجرد امبراطورية عسكرية بل دولة حضارية رائدة استمر عطاؤها قرونا من الزمان. وكل ذلك كان أثرا للجذوة التى أشعلها النبى فى مدرستة وسنته، مع أن التدوين أهمل تلك السنة وتجاهل تلك المدرسة، وأرسى بدلا عنها ما يلائم الاستبداد الذى ساد داخل العالم الإسلامى والعالم الغربى والشرقى خلال العصور الوسطي. ومع ذلك فإن ذلك التراث يحوى بين سطوره بعض إشارات تعزز ما سبق إيراده قرآنيا عن الدولة الإسلامية والقضاء فيها فى عهد النبى والخلفاء الراشدين.
2-لقد تحدث القرآن عن مجيء اليهود للنبى ليحكم بينهم، وكيف أن القرآن كان يخير النبى بين أن يحكم بينهم أو أن يعرض عنهم (المائدة 42) ويؤكد ابن هشام فى سيرته أن وثيقة الحلف الذى عقد بين المهاجرين وأهل المدينة من المسلمين واليهود قد جعل أى خلاف بين أهل المدينة من مهاجرين وأنصار ويهود إنما يكون مرده إلى الله تعالى وإلى محمد رسول الله (1) أى كان النبى قاضيا، وتلك كانت وظيفته المدنية وفق المعاهدة المشار اليها. ويروى البخارى عن ابن عباس أن النبى (ص) بعث معاذ بن جبل إلى اليمن، وكان من وظيفته إلى جانب القضاء أن يأخذ صدقة من اغنيائهم فيفرقها فى فقرائهم. أى كان أهل اليمن يحكمون أنفسهم بأنفسهم، ولم تتدخل الدولة فى شئونهم إلا فى شيئين فقط، هما إقامة القسط أى العدل فى القضاء وتذويب الفوارق بين الأغيناء والفقراء. وفى عهد الخلفاء الراشدين كان الوالى هو القاضى فى البلاد المفتوحة، واستبقى العرب المسلمون الأجهزة الإدارية فى الولايات كما كانت تفعل قبل الفتوحات، ثم بدؤوا تعريبها فى الدولة الأموية، ولكن المهم أن وظيفة الدولة فى إقامة العدل والقسط وتقرير الأمن ظلت سارية خلال عصر الخلفاء الراشدين. وبقى منها بعض الهوامش بعد الفتنة الكبرى وفى الدولة الأموية.
3 – إلا أن الاستبداد السياسى وهو ظلم هائل قد ألقى بثقله على القضاء العادى بين الأفراد. وهنا نخالف ما ذكره شيخ باحثى التاريخ الإسلامى الدكتور حسن ابراهيم حسن الذى يقرر أن القضاء فى عهد بنى أمية تميز بأن القاضى كان يحكم باجتهاده، ولم يكن متأثرا بالسياسة حيث كان مستقلا مطلق التصرف، واستدل بالروايات التى تؤكد هذا (2).
إلا أن الحقيقة التاريخية الثابتة التى تنطبق على كل عصر تؤكد أن الاستبداد السياسى لابد أن ينعكس بالظلم على القضاء العادي. إذ لا وجود أصلا لما يسمى بالمستبد العادل، لأن الاستبداد ظلم قاهر، ولا ينتظر ممن يسلب الأمة حقها فى السلطة والثروة أن ينشر العدل بين الناس مهما تحرى ذلك، ومهما كان ورع القضاة الذين يختارهم، إذ أن عجلة الظلم لابد أن يصل بها أعوان الظالم الأكبر إلى التأثير فى القضاء العادي.
4 – ومن هنا نصل إلى التفرقة بين نوعين من القضايا، القضايا السياسية المتعلقة بالحاكم المستبد وخصومه من المعارضة القولية والحربية، والقضايا العادية فيما يخص علاقات الأفراد فيما بينهم. وقد بدأ الظلم فى القضايا السياسية مقترنا ببوادر الفتنة الكبرى، وتمثل فى الظلم الذى أوقعه الخليفة عثمان بمن عارضه من الصحابة، فتعرض عمار بن ياسر للضرب حتى فتقت أمعاؤه، وضربوا ابن مسعود حتى كسروا أعضاءه ومنعوا عطاءه ونفوا أبا ذر إلى الربذة، وطردوا أبا الدرداء من الشام. وكل ذلك لانهم انتقدوا عثمان والأمويين من أقاربه وقد تحكموا فى خلافته.
ثم استمر الظلم للمعارضة فى خلافة معاوية مع ما اشتهر به من حلم، وقد أخذ معاوية خصومه الحربيين بالشدة، ولا شيء فى ذلك طالما كان الحوار بينهما يدور بالسلاح وعلى أرض المعارك، أما سياسته مع خصومه الداخلين فى طاعته فقد كان طابعها الأغلب هو السماح لهم بالانتقاد طبقا لمقولته المشهورة “إنى لا أحول بين الناس وألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين ملكنا” إلا أن معاوية خالف سياسته هذه حين أمر بقتل حجر بن عدى الكندى وأصحابه. وكان حجر بن عدى من كبار شيعة على، وقد اضطر لبيعة لمعاوية مثل باقى الشيعة، ولكنه استمر على عدائه لمعاوية مع نفر من أصحابه فى الكوفة، وكانوا يعقدون مجالس فيها يتذكرون مآثر “علي” ويلعنون معاوية، وكان يعارض والى الكوفة المغيرة بن شعبه حين يبدأ المغيرة فى خطبة الجمعة فى لعن على، فولى معاوية على الكوفة زياد بن ابيه فاستمر حجر فى معارضته لشتم “علي” فى خطبة الجمعة، فأمر زياد باعتقال حجر وأتباعه وهدد أهل الكوفة حتى لا ينحازوا لحجر وأصحابه، وجيء بحجر إلى زياد فقال له زياد “حرب فى أيام الحرب، وحرب وقد سالم الناس” فقال حجر “ما خلعت طاعة ولا فارقت جماعة وإنى لعلى بيعتي” فأمر زياد بإرساله مع أصحابه معتقلين إلى معاوية فى دمشق مع شهادة سبعين رجلا بأنه شق الطاعة وأعلن الحرب وجمع الجنود، وتلك تهمة تستحق القتل لدى معاوية، ولم يحقق معاوية فى الأمر، وأمر بقتل حجر وأصحابه، كانت تلك أول محاكمة سياسية ظالمة فى تاريخ المسلمين لمعارضين لا يحملون السلاح.
ثم تطور الظلم للمعارضة السياسية السلمية بعد معاوية، خصوصا فى خلافة عبد الملك بن مروان، وهو الذى خطب فى المدينة عام 75 هـ فقال لأهلها “أنى لا أداوى أدواء هذه الأمة إلا بالسيف حتى تستقيم لى قناتكم، فلن تزدادوا إلا عقوبة حتى يحكم السيف بيننا وبينكم، والله لا يأمرنى أحد بتقوى الله بعد مقامى هذا إلا ضربت عنقه”. والمفجع أنه يقول هذا وسط أناس خاضعين لسيطرته وليسوا وقتها فى حالة حرب معه. وكان الحجاج بن يوسف أبرز ولاة عبد الملك بن مروان، وقد حكم الحجاز فأذل الصحابة وقتل عبد الله بن عمر بن الخطاب، وتولى العراق والمشرق إلى أن مات عام 95 هـ فى خلافة الوليد بن عبد الملك، وقد بلغ قتلاه 120ألفا، ومات فى حبسه 50 ألف رجل و30 ألف امرأة، وبقى فى حبسه بعد موته 33 ألف إنسان، بدون محاكمة وبدون تهمة، ولكن لمجرد الاشتباه، إذ كان يقتل بمجرد الظن. وقاسى المثقفون من بطش الحجاج الكثير، ومن عاش منهم كان يموت من الخوف كل يوم كما يظهر من سيرة إبراهيم النخغى أشهر فقهاء العراق (3) والتفاصيل كثيرة ولكن يهمنا منها أن ظلم الحجاج السياسى نتج عنه ظلم أخر تمثل فى قتل واعتقال آلاف الأبرياء لم يجب على أحدهم قتل ولا قطع يد ولا ضرب بالسياط، أى لم يقع أحدهم فى أى عقوبة تخص حقوق الأفراد فى النفس والمال والعرض.
4 – إلا أن الايقاع السريع للدولة الأموية وغلبة الطابع العسكرى والقبلى عليها لم يفسح المجال لكى تتبلور فكرة المستبد العادل على المستوى المناسب دعائيا. وهذا ما تم فى الخلافة العباسية التى شهدت التدوين ضمن مظاهر حضارية أخرى، وقامت دعاية الدولة حتى قبل تأسيسها على التمسح بالدين والإمام العادل الذى يأتى من آل البيت “الرضى من آل محمد” وبعد أن كان الخليفة الأموى أقرب إلى شيخ القبيلة المحارب أصبح فى العصر العباسى إماما مقدسا وحاكما دينيا متألها وفق ثقافة العصور الوسطى، ومن الطبيعى أن يستر عورة الاستبداد بالتمسح بالدين وإقامة العدل بين الناس. إلا أن هذه الصيغة الدينية للخليفة جعلته يتدخل فى القضاء وأفقدت القضاة استقلالهم الذى كانوا يتمتعون به نسبيا فى الدولة الأموية. وهناك ظاهرة غربية فى تاريخ القضاة العدول فى الدولة العباسية، وهى أنهم كانوا يقعون فى مشاكل مع الدولة العباسية وولاتها وخلفائها، ترى ذلك فى سيرة القضاة: جميل المعافرى ت 139، وعبد الرحمن بن زياد ت 156 هـ وشريك النخعى ت 177، وسلمة بن صالح ت 180، وعبد الله بن ظبيان 19 هـ، وأسد بن عمرو ت 190 (4)، وكان من عادة العلماء الورعين رفض منصب القضاء للعباسيين، وأشهرهم الإمام ابو حنيفة. وهذا كله فيما يخص العصر العباسى الأول، عصر قوة الدولة العباسية.
وأبو حنيفة بالذات يستحق أن نتوقف معه، إذ قتله الخليفة أبو جعفر المنصور بسبب استقلاله الفكرى ورفضه أن يبيع الدين بالدنيا، وتلك قصة طويلة، نقتصر منها على ما يخص موضوعنا عن القضاء فى العصر العباسى الأول فى الجانبين، السياسى، والعادي.
لقد كان أبو حنيفة (80 – 150 هـ) معارضا فى حياته للدولة الأموية أبان سطوتها مؤيدا لثورة زيد بن على زين العابدين عام 121 هـ، واشتهر بتعاطفه مع العلويين مما جعل الوالى الأموى على العراق ابن هبيرة يختبر ولاءه للدولة بأن يشركه معه فى السلطة ويتولى القضاء زعيما للفقهاء ولكنه أبى بينما وافق الفقهاء أمثال ابن أبى ليلى وابن شبرمه وابن أبى هند. فكان أن أمر ابن هبيرة بحبس أبى حنيفة فى السجن إلى أن أطلق سراحه فهرب إلى مكة وظل بها إلى أن قامت الدولة العباسية فرجع إلى الكوفة متمتعا بالحظوة لدى العباسيين. إلا أن هذه الحظوة لم تطل إذ أن الخلاف ما لبث أن وقع بين أبى حنيفة وأبى جعفر المنصور، وأساس الخلاف أن الدولة الجديدة تريد من العلماء أن يكونوا أداة لها فى سياستها، شأن ترزية القوانين فى عصرنا، وهذا ما رفضه أبو حنيفة ورفض معه عطايا الدولة وإغراءاتها. وتمسك بالفتيا بالحق مهما أغضب الخليفة. وكانت تلك الفتاوى سياسية أحيانا وعادية حينا، وكلها كانت سببا فى أن يلقى أبو حنيفة مصرعه بالسم سنة 150 هـ.
ونعطى أمثلة سريعة لبعض تلك الفتاوى، فقد وقع خلاف بين أبى جعفر المنصور وزوجته، وكان قد اشترط لها ألا يتزوج عليها. فلما جاءته الدنيا تسعى فى سلطانه أراد أن يتحلل من الشرط، فاستعانت الزوجة بأبى حنيفة، وأفتى أمامهما بأنه لا يجوز لأبى جعفر أن يتزوج عليها. كما ثار محمد النفس الزكية حفيد الحسن بن على، وتحرج بعض القادة العباسيين من مواجهته، اذ كان محمد النفس الزكية هو المستحق الحقيقى للخلافة والدعوة، وكان أبو جعفر المنصور نفسه قد بايعه من قبل، كان أبو حنيفة يعتقد بأحقية النفس الزكية، وعلم أبو جعفر المنصور بالأمر. وأصبح الجواسيس يحيطون بأبى حنيفة يحصون عليه أنفاسه ويتصيد المنصور أخطاءه ويتحين الفرصة للنيل منه، ونجح أبو حنيفة بذكائه فى الإفلات من تلك المكائد طالما لا تؤثر على رأيه الفقهى، إلى أن حدثت ثورة الموصل سنة 148، وكانت بداية النهاية. إذ جمع أبو جعفر المنصور الفقهاء وأخبرهم أن أهل الموصل بعد فشل ثورتهم الأولى كان قد اشترط عليهم إذا ثاروا فإن دماءهم حلال وطالما قد خرجوا عليه فقد حلت دماوهم، فأفتى العلماء بالموافقة، وقالوا للخليفة: إن عفوت فأنت أهل للعفو وإن عاقبت فبما يستحقون، وسكت أبو حنيفة، فسأله الخليفة عن رأيه فقال: إنهم أباحوا لك ما لا يملكون وقد اشترطت عليهم ما ليس لك، لأنهم لا يملكون دماءهم، أرأيت لو أن امرأة أباحت شرفها بغير زواج أكان ذلك يجوز لها؟ فسكت الخليفة ونصح أبا حنيفة محذرا من أمثال هذه الفتوى، ولكن أبا حنيفة لم يسكت إذ أصدر فتوى أخرى خطيرة مؤداها أن الخلافة تكون باجماع المؤمنين وليس بالقوة، وهكذا حانت ساعة الصفر، وانطلق علماء السلطة يتهمون أبا حنيفة بأنه يرى وضع السيف فى أمة محمد، أى يشجع على الثورة، وواكب ذلك عرض القضاء عليه، وكان المنصور يتوقع منه أن يرفض القضاء، وفى هذا الجو أتيح للدولة العباسية أن تعتقل أبا حنيفة وأن تسقيه السم فى السجن (5).
إن أبا جعفر المنصور لم يختلف فى جبروته واستبداده عن عبد الملك بن مروان (وقد كان معجبا به) إلا أنه أضفى على استبداده مسحة التدين واستعان بأعوانه من الفقهاء ليسبغ مشروعية دينية على طغيانه وظلمه بالأحاديث المصنوعه والفتاوى السامة، سواء كانت القضايا سياسية أم كانت عادية شخصية، وقد رأينا طرفا من ذلك فى ذلك العرض السريع عن أبى حنيفة وعلاقته بأبى جعفر المنصور. إلا أن أكبر تلميذين لأبى حنيفة وهما أبو يوسف ومحمد بن الحسن تنكبا طريقه. فأبو يوسف عمل قاضيا للقضاة للدولة العباسية وأفتى للخلفاء بما يحبون، أما ابن الحسن فقد عمل أيضا قاضيا للدولة، وخالف منهج أستاذه العلمى وحاول التوفيق بين منهج أبى حنيفة العقلى ومنهج مالك فى رواية الحديث.
ونكتفى بالإشارة إلى أبى يوسف أشهر قاضى فى العصر العباسى الأول، لنرى كيف انعكس الطغيان ليوثر على سيرة القضاء العادى بعد أن انفض العلماء العدول عن موكب السلطان وازدحم المنافقون على أبواب الخلفاء، وكان فى مقدمتهم أبو يوسف، فوصل الظلم من موكب السلطان إلى كل مكان.
كان أبو يوسف اول قاض للقضاة فى تاريخ المسلمين، ولاه القضاء الخليفة الهادى، ثم ذاع صيته فى عصر الرشيد، وأوكل اليه أمر القضاء وتعيين القضاة واشتهر بالحيل الفقهية وانتحال الفتاوى التى يريدها الخلفاء، ويروى أن من اسباب حظوته لدى الرشيد أنه أسقط حد الزنا عن أحد أبناء الرشيد بفتوى أعجبت الرشيد. وقد شجع ذلك الرشيد على أن يستعين بفتاوى أبى يوسف فى تحقيق شهواته، إذ كان الرشيد -على كثرة ما لديه من الجوارى الحسان – لا تميل نفسه إلا لمن يتعذر عليه أن ينالها، وهنا يستدعى أبا يوسف ليفتى له بما يريد.
فقد وقع الرشيد فى هوى جارية لعيسى بن جعفر، وعرف عيسى فحلف بالطلاق والعتاق والتصدق بكل ما يملك بألا يبيع هذه الجارية ولا يهديها لأحد. وعندها ازدادت رغبة الرشيد اكثر فيها، وهدد عيسى بن جعفر بالقتل، واستدعوا أبا يوسف فى منتصف الليل ليجد مخرجا فقهيا يتنازل به عيسى بن جعفر عن الجارية وينقذ نفسه وينقذ أمواله وزوجاته، وأفتى أبو يوسف بأن عليه أن يهب نصف الجارية للرشيد وأن يبيعه النصف الآخر، ثم افتى للرشيد أن ينالها فى نفس الليلة بأن يعتقها ويتزوجها ولا يكون عليه أن يستبرئها، وغفل أبو يوسف أن الاستبراء للجارية كالعدة للحرة، ولكنه الحكم بغير ما أنزل الله، وكوفيء أبو يوسف على فتواه تلك الللة بمائتى ألف درهم وعشرين تختا من الثياب. وروى ابن كثير قصصا أخرى على نفس المنوال. إلا أن هناك رواية أفظع ذكرها السيوطى ونسبها للفقيه المشهور عبد الله بن المبارك الذى عاصر الرشيد وأبا يوسف، وتقول الرواية أن الرشيد رأى فى القصر جارية فأعجبته، فأراد أن ينال منها، فقالت له: لا أصلح لك، أن أباك قد طاف بى، أى تحرم عليه حين قد نكحها أبوه المهدى من قبل، ولكن ذلك العذر المانع جعل الرشيد يجن بها، وكالعادة لجأ إلى أبى يوسف الذى قال له بكل بساطة: يا أمير المومنين أو كلما ادعت جارية شيئا ينبغى أن نصدقها؟!! لا تصدقها يا أمير المؤمنين فإنها ليست بمأمونة (6). هذا مع أنه كان للرشيد من الجوارى أربعة آلاف!!! وكان سهلا بعدها أن يولى أبو يوسف قضاة ظلمة فى الولايات، وبعض أولئك القضاة الظلمة وجد فى نفسه الشجاعة ليحكى نوادر عن نفسه، ومنهم عبد الرحمن بن مسهر، ت .197 وقد ولاه آبو يوسف قضاء منطقة جبل بالبصرة، وحدث أن قام الرشيد بزيارة المنطقة وبحث القاضى عن أحد يقوم باستقبال موكب الخليفة الرشيد، ليمتدح القاضى أمامه، فلم يجد أحدا، فاضطر القاضى أن يقوم بالمهمة فتنكر فى زى مختلف وقابل الرشيد، وكان فى الموكب أبو يوسف قاضى القضاة، وانطلق القاضى المتنكر يمتدح قاضى المنطقة ويثنى على نفسه، فضحك أبو يوسف، فسأله الرشيد فاعترف بأن الذى يثنى على القاضى هو نفسه القاضى وقد تنكر فى مظهره، فأمر الرشيد بعزله، وعاد القاضى المعزول إلى آبى يوسف يسأله فى أن يوليه القضاءة فى ناحية أخرى فرفض أبو يوسف، فما كان من القاضى المعزول إلا أن روى حديثا اخترعه يقول إن المسيح الدجال لقبه أبو يوسف، فخاف أبو يوسف منه وأعاده للقضاء.
وتفاقم ظلم القضاء فى خلافة المأمون، وقد ذكر ابن الجوزى شكوى مريرة من المأمون من قضاة عصره، وكيف أن كلا منهم كان يختلس الأموال مع كثرة مرتباتهم (7).
وهذا المأمون الذى قال فى معرض شكواه من ظلم القضاة فى دولته “وددت أن يكون لى مائة قاض عادل وأنى اجوع يوما وأشبع يوما” هو نفسه المأمون الذى استبد بالأمر حتى فى قضية علمية وهى خلق القرآن، وألزم الفقهاء والدولة برأيه فى القضية. أى لم يكتف بالاستبداد السياسى وإنما أضاف له الاستبداد العلمى، وبعد هذا يتباكى على ندرة القاضى العادل فى عصره. وهكذا فالمستبد العادل مجرد أسطورة، وإن ظلت قوية التأثير فى العصور اللاحقة فأضاعت العدل بين الناس لأن السلطان الظالم لا يروج فى دولته إلا قضاة الظلم مهما ادعى أنه يتحرى العدل.
الهوامـش
(1) تاريخ ابن هشام 2، 94: 98 .
(2) حسن إبراهيم حسن: تاريخ الإسلام 500/1، مكتبة النهضة المصرية.
(3) التفاصيل فى كتاب “حرية الرأى بين الإسلام والمسلمين: للمؤلف، ضمن كتاب المنظمة المصرية لحقوق الإنسان: حرية الرأى والعقيدة: مداولات الملتقى الفكرى الثالث 1994، من ص 70: 87 .
(4) ابن الجوزي: المنتظم فى تاريخ الملوك 8، 23، 190، 299، 29/9، 49، 51، 178، 205، 184.
(5) التفاصيل فى بحثنا: أبو حنيفة إمام الليبرالية فى تراث المسلمين. مجلة القاهرة العدد 122 يناير 1993: 116-121 .
(6) ابن الجوزي: المنتظم 17/9 -، تاريخ ابن كثير 181/10، تاريخ الخلفاء للسيوطي: 463: 464.
(7) المنتظم 10/61:62