الافتتاحية(3)
تطور الإنسان والتطور
محمد يحيى الرخاوى
يبدو أن ما أنوى خطه الآن قد أصبح ضرورة أكثر من أى وقت مضي. فمن المحتم على الإنسان والتطور أن تبلور مشروعها وهى على أبواب سنتها العشرين. عشرون سنة من الإصدارات (ستون عددا-المفروض- وبالضبط بالضبط تسعة وثلاثون)، ولما يستقر تعريف بعد، إلا تلك الصيغة التى لم تصلح وحدها أبدا، وهى أنها مجلة: “ما ليس كذلك”.
ويدفع إلى هذه المحاولة -الآن- ام قد يلاحظه القارئ فى الافتتاحيتين السابقتين من سعى لصياغة ملامح المرحلة القادمة، وقد تصورت أن هذا السعى هو أهم ما نحتاجه الآن إلا أننى خشيت أن ينتهى بها الزعم بتحمل الاختلاف إلى ميوعة الهوية، وكأننا نبدأ من جديد ، فإذا سمحت لنفسى بالتشاؤم ، والاختلاف الحقيقى لقلت : إننى خشيت -إذا لم نتــقن استيعاب “ما كان” مما هو “نحن” “لنكون” – أن نبدأ من صفر زائف إلى ما لن يكون واحدا صحيحا
وقد يبرر لي-شخصيا- هذه المحاولة مبرر أساس، وهو أننى أطول صبيان هذه المجلة عمرا فى هذه المهمة، وقد أكون أكثرهم استفادة منها. فقد أتاحت لى فرص نشر واحتكاك بفعل الكتابة والكتاب، مما لم يكن ليتح دونها أصلا، كما تميزت هذه الفرص أيضا بما لم يكن من الممكن أن يتوفر لمنشور فى غيرها، من قبيل:
- أنها سمحت بهذا النشر (بل واستثارته) فى سنى التكون المعرفي(19 سنة)، لا فى سن الإنتاج المعتادة.
- أنها قد فجرت -أو قل حاورت- أسئلة وقضايا جوهرية مباشرة، بتوجه احتمل أن يتعامل معه من هو مثلي: أى دون التسلح بأدوات الخطاب الفكرى المعاصر عالى التخصص، معجز التراكم، وأن ذلك لم ينقص البتة من مستوى طزاجة المعالجة، ولا من مستوى المعالجة نفسها.
- أنها استخدمت هذا الحق البشرى فى الطزاجة فى تنمية حس نقدى حقيقى فى مواجهة احتكار غيلان السلطات المعرفية العالمية، حتى ولو لم يتوفر لهذه المواجهة سلاح إلا اعتبار الطزاجة: حقا أصيلا يستأهل الدفاع.
فليسمح لى التحرير والقراء إذن أن أنظر للإنسان والتطور وأنا واقف على هذه الأرضية حتى ولو بدت شخصية أكثر مما يلزم. فهذه هى الإنسان والتطور بالنسبة لى بالضبط وتماما: أهمية مرحلة التكون/ الأسئلة الكبيرة التى لا يثيرها إلا الأطفال/ ولا يسعى للإجابة عنها إلا الفلاسفة/ الحفاظ على حق فعل ذلك دون الحرص على تصنيف أجناس الكتابة (قصة – شعر -مقال- فلسفة) وكذلك دون التزام بمحكات راسخة (إحصاء – تجريب – منطق شائع …. إلخ). وأظن أن هذا هو الأمر بالنسبة للكثيرين غيرى أيضا.
فهل يستأهل مثل هذا أن تصدر له دورية ذات مظهر شديد الجدية ووعد بمنتهى العمق (وهل يمكن ألا تعد بذلك)؟؟
أعتقد أنه استأهل وإلا لما كان استقبالها الذى استقبلت به وظلت عليه حتى عام 1988 تحديدا، لقد استأهل بسبب الحفاظ على الإخلاص فى التساؤل والإخلاص فى السعى والإخلاص فى النظر، باختصار الحفاظ على الطزاجة واحترام ما لا يتوفر إلا بالطزاجة، وقد تجلى هذا بوجه خاص فى تلك الثقة والرهان على الـ “فرد” الـ “عادي”. فهذا -مثلا- ما جاء فى افتتاحية العدد الأول:
العدد الأول صفحة 6 (1980)
“فعصرنا قد حطم حواجز كثيرة، وهز أصناما راسخة، حتى اختل كيان الفرد العادى فى مسيرته اليومية، وانتقلت مشكلة الوجود من صوامع الذهنيين إلى الشارع، وبهذا أصبح الفرد العادى أكثر فأكثر طرفا فاعلا فى تحديد مصير الكافة، بما أتاح التقدم من فرص زيادة الوعى والمساهمة فى إصدار القرار”.
ومن الطبيعى أن يتبع هذا التحيز للفرد العادى والإصرار على الانطلاق من الخبرات المباشرة للأفراد، وتلك النزعة الساعية للطزاجة، أى للمشاهدة والملاحظة المباشرتين، تملص من كل بنيان كهنوتى (تخصصى بالمصطلح الحديث)، كما يتبعهما أيضا تملص أخبث من الالتزام بأى لغة سائدة مهما انتشرت. وهاهو العدد الثانى يعلنها صراحة:
“هذه المجلة ليست مجلة علمية متخصصة ولا هى مجلة عامة ملتزمة بتثقيف القاعدة العريضة” ص 13.
هذا المنطلق شديد العمومية على الرغم من كونه شديد التميز، وأحسب أن إدراك ذلك لم ينقص مستقبلى الإنسان والتطور منذ البداية، مما ظهر فى تعليقات تتحدث عن غياب:
“الوحدة العضوية إذ تعددت المعالجات التى تحمل اهتمامات مشتركة ولكنها لا تعبر عن أنساق فكرية محددة المعالم إلى أن قال وهكذا باتت كل مداخلنا المطروحة وكأنها مجرد بوابات مرور إلى طرق مسدودة …..” (من خطاب لرفعت لقوشة مقتطف فى افتتاحية العدد الثانى أيضا: ص18).
لا أحسب أن ذلك كان مشكلة فى حد ذاته، فتعدد المداخل، بل وحتى الاهتمامات، ليس معوقا إلا أن يصبح مبررا ومهربا دفاعيا من الالتزام بموقف محدد، وقد تمثل الموقف المحدد فى تلك المرحلة واضحا -لى على الأقل- فى ذلك المنهج الساعى بوضوح إلى طزاجة الحس المحاور للكون. إلا أن ذلك قد يصلح موقفا فرديا رائعا، فهل يصلح كما هو للجماعة؟؟ هكذا دون لغة؟؟ أى دون اصطلاح وأرضية مشتركة وحدود متفق عليها تسمح بتراكم جماعى التجاوب حتى ولو أتى على بعض الحرية وألزم ببعض الخطط وقلــم بعض الأطماع؟؟
هنا نأتى لأكبر تحديات الإنسان والتطور: يحيى الرخاوى ومنهجه: منهج اللحم والدم كما أسماه عصام اللباد:
“وقد وجدت أن المنهج الرخاوي، وما يتخلق فيه من رؤى وأفكار إنما هو نابع أساسا من الدم وللحم، هو لحمه ودمه، لا يمكن ربطه إلا به، ولا يمكن دراسته إلا من خلاله” (العدد المزدوج الصادر بعد توقف، أى فى عز أزمة الصدور الحقيقية الأولي،العددين رقم 34-35، ص 75).
والمشكل الحقيقى لمنهج اللحم والدم هذا هى صعوبة (ولا أقول استحالة) تحوله إلى منهج جماعي، فهو إذ يرتبط بلحم ودم ناهجه; يصعب التواصل بشأنه كما يصعب صياغته فى صورة موضوعية قابلة للتراكم. ربما كان أسهل عليه أن يحدد بوضوح ما سيرفضه فى لحظة ما، أن يعلن ما ليس هو (وهو أمر شائع ومتواتر فى كثير من كتابات يحيى الرخاوي) فناهج اللحم والدم لا يجد مشكلا كبيرا فى تحديد وإعلان طبيعة ما يرفض:
“من افتتاحية العدد 3 ص 4 (1980) :
ويجدر بنا أن نحدد المادة غير القابلة للنشر وذلك فى محاولتنا نحو مزيد من الوضوح والسعى للاتفاق; فنحن لا ننشر:
1- أى مادة لمجرد أنها تحمل اسما شائعا.
2-أى مادة يمكن أن يجدها القارئ فى “مكان آخر”، وهنا لا بد أن ننوه شاكرين أننا نتلقى مواد كريمة، فيها العديد من النصائح والإرشادات، أو من المعلومات الجزئية المعادة والمثبتة فى كثير من المراجع، وهذا وذاك مفيد بلا أدنى شك، ولكنا نؤكد أن هذه المجلة، بمحدودية توزيعها، ووضوح هدفها (؟) ليست هى المكان الأنسب لذلك لا أكثر ولا أقل.
3- أى مادة نشعر أن هدفها هو أن تنشر لمجرد النشر، أو لتستعمل لأى غرض آخر غير محاولة التوصيل والتواصل المعرفي” [التوكيد بالبنط الأسود من الأصل].
مثل هذا التحديد لمواصفات الرفض، وعدم تحديد مواصفات القبول بنفس الوضوح، تحديد المراد والمرغوب فيه، عدا كونه”ما ليس كذلك” الشهيرة لم يكن بالطبع كافيا، ولكنه كان الإشارة الأولى لبداية هم التفكير فى الذات تفكيرا لم ينفصل أيضا عن حركية اللحم والدم، أى أنه التفكير الذى لن يوضع فى لغة أبدا، رغم مطالبة عصام اللباد: “فمن حقنا عليه أن نقول: ضع منهجا حسبما تريد، من لحمك ودمك” (العدد 34-35، ص 75). وقد كانت افتتاحية العدد الرابع تحمل مؤشرات خطورة حقيقية (رغم الاحتفاظ بالتوزيع العالى نسبيا مما يدل على أصالة المكتوب: أليس لحما ودما؟؟)
“من افتتاحية العدد الرابع (1980)
بدأت الصعوبات تتضح، والتوقعات تهدد ونحن لم نكمل السنة الأولى بعد، وقد جاءت أهم هذه الصعوبات كما بينا فى الأعداد السابقة من خلال التزامنا بما بدأنا به، ورفضنا الدوران حول النفس، والرشوة بالنشر لمجرد النشر وتجنبنا للحديث المعاد، كما أنه لم يحدث ما توقعناه (أو قل ما أملنا فيه) من إسهام الشباب بالقدر الكافى الذى يعوض عزوف أصحاب الرأى الثابت والموقف الجامد عن المحاولة، ولعل ذلك يرجع إلى حاجة الشباب هو أيضا إلى الاحتماء بفكر ثابت خاصة لو أخذ شكل الثورية (التى تتعارض فى جوهرها حتما مع الثبات).
وبعد تفكير ومواجهة، قررنا أن نستمر بشكل محور مرحليا وهو أن يكون عبء تحرير المجلة فى أغلب الأحيان ملقى على هيئة تحريرها أساسا” (العدد4 ص3).
وقد كان ذلك يعنى باختصار ووضوح اعتمادها على يحيى الرخاوى وحسب:
“وسيجد القارئ ابتداء من هذا العدد والأعداد القادمة كل ما وعدنا به بين يديه، فإن افتقد إلى اسم مسئول فليعتبره -أمانة- من مسئولية رئيس التحرير على وجه التحديد، أى أن المواد التى ليس عليها اسم أو توقيع هى مسئوليته المباشرة” (العدد4 ص 3).
هكذا أصبح من 60 إلى 80 بالمائة من مادة الإنسان والتطور، ومنذ السنة الأولي، بقلم يحيى الرخاوي، ولكن هل فى هذا إجابة عن سؤال الذات الذى انفجر مبكرا (وربما مبكرا جدا ومتأخرا جدا معا)، أعتقد أن أحد أعراض المشكل تبدو فى الصيغة التالية التى جاءت فى افتتاحية العدد التالى مباشرة (الخامس):
“وأخيرا، فنحن نهيب بالزملاء – دون كلل أو خشية إملال – أن يتفضلوا فيقولوا لنا من نحن، وإلى أين، بأى لغة” (العدد5 ص5).
إن سؤال الآخر تحديد الذات سؤال خطير وخبيث، من حيث هو -مرة أخري- تأجيل حقيقى لتحديد صورة هذه الذات بمبادرة إيجابية وملزمة، وأعتقد أنه ساهم فى امتداد مشكل الإنسان والتطور عبر ما يقرب الآن من عشرين عاما دون إجابة، ومع ذلك فهو السؤال الذى أجل إعلان الإفلاس أيضا. وهو كذلك سؤال متفق مع روح الإنسان والتطور التى ما زلت أرى وجوب تحديدها فى الطزاجة والمباشرة، المعايشة المباشرة بعيدا عن سلطات الأسماء، بعيدا عن سلطة الرمز بأشكالها، أو بتعبير النفري، بعيدا عن “الحرف”، وهاهو إعلان ذلك واضحا فى افتتاحية العدد الثامن:
“العدد 8 صفحة 9 (1981)
ولعل فى تجنب التعريف [يقصد التعريف بكتاب المواد تعريفا يتضمن مركزه وشهادته ووظائفه … إلخ، ولكننى أتصور إمكانية تعميم الصياغة التالية على تعاريف أكثر من ذلك] عمدا ما يحقق أهداف المجلة فى أن تكون منبرا متواضعا لكل غير المختصين من المعايشين لما هو إنسان بصدق قابل للترجمة على الورق، وعدم التمييز بين هذه الفئة الغالية المثرية (وخاصة إذا ما كان صاحب القلم ممن تألم حتى شكا) وبين أصحاب الصفات والألقاب هو لازم مرحليا ومفيد فى تصورنا”.
وأوقف نفسى عنوة عن متابعة الافتتاحيات عددا عددا، لأقفز قفزة لازمة إلى مرحلة أخري، ولكن سطرين آخرين من افتتاحيات تلك المرحلة الأولى قد يحملان من الدلالة ما يغنينى عن مزيد من التعليق:
العدد 7 صفحة 7 (1981) :
وتستمر المسيرة بكل الأمل ومنتهى الإصرار رغم خوف الإنهاك وحسابات الوحدة”.
(وهو خوف متكرر عبر معظم الافتتاحيات)، ثم:
العدد 10 صفحة 3
“ويصلنا إنذار هادئ من مؤشرات تنذر ببحث المجلة عن قارئـها بنفس القدر الذى تحاول به تحديد ماهيتها”.
(لاحظ أن هذه هى سنتها الثالثة دون تحديد للماهية).
وقد ظل الأمر هو هو تقريبا حتى تراكمت تلك اللحظات التى يبادر فيها بعض تلاميذ الرخاوى وأصدقاء الإنسان والتطور الحقيقيين تجربة أنفسهم كمسؤولين عن الإنسان والتطور، مشاركين فعلا، وهو مطلب رخاوى مستمر ومعلن فى تكرار وإلحاح شديدين، وأذكر منهم عصمت داوستاشي، عادل مصطفي، عصام اللباد، أحمد زرزور، محمد فتحى عبد الفتاح، ويؤدى هذا التراكم (دون سلاسة) مع بعض الظروف الشخصية إلى قرار يحيى الرخاوى بتجربة الحصول على سنة إجازة، لا يلتزم فيها إلا بكتابة مادته (ما زالت تزيد على نصف عدد صفحات كل عدد !!!!!)، وتنتهى التجربة بتعثر المجلة، بعد صدور عددين مزدوجين، من فرط الصعوبة (العددان 32-33، و 34-35، عامى 1987، 1988).
وقبل هذين العددين صدر العدد التالى مباشرة لعودة يحيى الرخاوى من إجازته التى قام فيها آخرون بأعمال التحرير (عدا مادته كما ذكرت)، صدر العدد 31 (يوليو 1987) يحمل على صدر الغلاف، وببنط عظيم، السؤال: لماذا لا نتوقف؟؟ وفى الافتتاحية، بعد تقديم شكر موضوعى (ربما كان من باب الواجب وتقديما لما يليه) تلاه ما ما يلي:
ولكن بدا لي: (بعد الشكر إياه):
1- إن الإفراط فى الاهتمام بالإخراج (الشكلى وربما الجميل)، قد خلخل “استقرار” المجلة (ولا أقول وقارها) -وفى نفس الوقت- لم يضف شيئا جديدا يستأهل (هذا رأيي).
2- إن توارى جرعة ما أسميناه الكتابة الطليقة وراء ما يسمونه “أدب الحداثة” قد جعل الأمور تتداخل أمام القارئ (بصفتى قارئا) بشكل قلل -أو كاد- من قيمة الاثنين معا.
3- إن جرعة النقد المواكب للنشر (وهى ألزم ما تكون مع ما يسمى أدب الحداثة) قد توارت بعد العدد الأول من هذه الأعداد الأربعة.
4- إنه لم يحدث اختراق مسئول، كنت أحلم به، وآمل فيه، رغم تحديد الاتجاه، وشحذ الأداة. ” (العدد 31، ص 7،6).
وهأنذا، أقر وأعترف، بوصفى ممن شاركوا بحماس شديد فى تلك المرحلة، وكنت مسؤولا عن أحد أعدادها بالكامل، أن كل ذلك حقيقى تماما، وبالضبط، ولكن ….، ثم ماذا؟؟
هل يريدنا رئيس التحرير أم لا يريدنا ؟؟
لم تكن هذه أخطاء، ولكنها كانت مؤشرات لم يرد أحد قراءتها بوصفها كذلك لحسن الحظ، فقد كان لإساءة القراءة هذه الفضل فى الاستمرار، ثم العودة بعد التوقف، ثم العودة مرة ثانية بعد التوقف مرة ثانية، (ولا أقول، وهكذا ….).
لقد كان لهذا التعامى فضل كبير، وقد استمر حتى هذه اللحظة بشكل ما، فما زال لا أحد يجرؤ على قول إن الإنسان والتطور قد استنفذت أغراضها، حتى جاء فريد زهران الذى لا أريد أن أمدحه ولكننى مضطر -لظروف الموضوعية- لأن أرصد ما يلي:
- إن نوع حماسه، بوصفه صاحب تجربة ممتدة مع عمليات النشر والتوثيق والثقافة فى مصر، نوع مختلف، إذ يلتحم مع الإنسان والتطور بدرجة من الاحتراف نحتاجها الآن بشدة، وهو الاحتراف -مثلا- الذى أصدر ثلاثة أعداد ورابعها الحالي، على الرغم من شعور عام بأن التوجه يـــنذر بانحراف ما عن ما هو “الإنسان والتطور” عموما.
- إنه لولا هذا الإصرار على الصدور رغم كل شيء لما انبعث أمل حقيقى فى العودة والاستمرار، وأنه لولا رصيد الأعداد الثلاثة السابقة، لما انبعث الأمل فى التطور الحقيقي.
- إن رصيد خبرته العمـلية والعلاقاتية على أرض الواقع يسمح بنوع من التواصل مع آخرين من خالج الحلقة الصغيرة، تواصل لم يكن متاحا بمثل هذا الهدوء من قبل، مما قد يترتب عليه خطوات حقيقية لتعريف الإنسان التطور لمشروعها تعريفا ذا لغة تحتمل التراكم فالتطور، حتى ولو أصرت على منهج اللحم والدم، على الطزاجة والمعايشة المباشرة.
أما الآن، فأمامنا طريقان لا ثالث لهما:
- إما أن تستمر الإنسان والتطور بنفس دفعتها القديمة، أى بما يمثله مبرر صدورها الذى تجلى فى موقف أو حلم يحيى الرخاوى ومن يمثله، ( وهذا ما ترجم أحيانا إلى : منهج اللحم والدم = التعري-الدهشة- الطزاجة- المباشرة !!؟؟ ) بكل فرديته ومصاعبه، وتهديداته.
- أو أن تـحدد الإنسان والتطور الآن منهجها وهدفها = ماهيتها التى تأجل تحديدهما طويلا، تحددهما ا بصياغة تسمح بالتراكم جماعى التجاوب، وهو ما تسعى إليه الآن، دون التخلى عما فى منهج اللحم والدم من الطزاجة والمباشرة، وهو ما كان يبدو غير ممكن، ولكننى (الآن-شخصيا) أتصور عكس ذلك.
إذا كان لدال “التطور” من مدلول حقيقى لمسار هذه المجلة، فإن الطريق الوحيد يصبح الطريق الثاني، وتصبح مسؤولية تحرير المجلة هى تحديد هدفها ومنهجها الآن -بعد ما يقرب من عشرين عاما؟؟ يا لها من تجربة-، وهى ليست بالتالى مسؤولية المتلقى مهما شارك.
فما هو هذا الهدف وما المنهج؟
من الواضح مما سبق أن قضية المنهج هى القضية المحورية للإنسان والتطور، وهو تحد لا يقتصر مجاله على مجال العلم، ولكنه يمتد ليشمل الحضارة والثقافة والحياة فى شتى صورها. هكذا تستعيد كلمة منهج معناها الأكثر أصالة، والذى تتداخل به مع كلمة دين أو قل ديدن !، فهل يمكن (الآن) إعادة صياغة هدف (ومنهج) الإنسان والتطور فى سبيل مزيد من البلورة بما يسمح، بعشم أحق فى التواصل الأنفع، وبأمل أكثر تماسكا فى الاستمرار؟
إذا كانت أوضح قضايا الإنسان والتطور منذ نشأتها هى قضية المنهج، لغة المعرفة وأداتها. فقد سعت منذ البداية إلى إثبات قضية محورية وهى أن معايشة الإنسان الفرد (العادى خاصة) قضايا المعرفة دون استثناء (وأعنى دون استثناء حتى ولو ابتعدت عن أى تخصص) بوعى حي، هى مغامرة جديرة بالاحترام مهما بلغت سطوة واحتكار سلطات المناهج المؤسسة. وأن هذا الاحترام قد يؤدى إلى معايشة ومعاينة نقدية صالحة للنشر مهما افتقدت لجذور اللغة والأدوات الأكاديمية، بل إن الحفاظ على قيمة هذه الجرعات التى قد تكون فجة قد يضيف -موضوعيا- ما قد يندر أن ينضاف لولا الاستعداد الحقيقى للنظر فيما وراء فجاجته باحترام مناسب. ومن البالغ الأهمية الإشارة إلى اشتباك هذه القضية (قضية المنهج الفج هذا) مع كل قضايا الثقافة فى مرحلتها الحالية، مما قد يعنى عبئا مضاعفا على تحرير المجلة إذ يسعى لربط شتات الاهتمامات والمداخل حارصآ على تكامل إطار المنهج أساسا، وهو أمر يبدو معكوسا. هكذا تتخذ قضية المنهج صفة الموضوع الرئيس للإنسان والتطور، وهو الأمر الذى كان دائما كذلك، إلا أن تأخر صياغته بوضوح كاف سمح بتضييع فرص التراكم، ولكنه الآن أصبح ضرورة بقاء وليس اختيارا بين بدائل.
هذه الضرورة تتضح فى ضرورة التمايز التى تسعى إليها دوريات مختلفة فى ظل تنامى أعدادها الصادر الجديد منها، ليصبح محتما على كل منها أن تصوغ إطارها بوضوح لم يكن ضروريا هكذا فيما مضي.
ولعلها فرصة مناسبة للإشارة إلى الرافد الجديد للجهد المخلص الذى ظهر متميزا “أحوال مصرية”، التى أصابنا صدور أو ل أعدادها -أول ما أصاب- بفرح شديد، نعم “فرح” و”شديد”. فقد استطاعت فى عددها الأول أن تعد بالقبض على لحظة مصرية متنامية، لحظة تعيد الأمل فى الالتفاف حول خطاب موضوعى آنى مشترك، وفى رؤية تسمح باستعادة هوية ثقافية معاصرة. هذا القبض الذى كاد أن يصبح هما عاما يقول أنه من عنده نبدأ، فهل هذا صحيح؟؟ وهل نحن قادرون (هم ونحن) على مثل ذلك؟
ولكن صدور “أحوال مصرية” هكذا يصيبنا أيضا بالحرج (من بين ما يصيب)، فهو من ناحية يأتى جادا وقريبا من بلورة منهجه وأهدافه بطريقة نغبطه عليها ونتمنى أن نتعلم منها، ومن ناحية أخرى يأتى متداخلا مع ما كان قد بدأ يثير فينا شهية المحاولة: المشروع المصرى (النهضوي)، والمنهج المصرى (إقرأ مقتطف وموقف فى هذا العدد)، فهل تراه يعفينا من طرق هذا الباب؟ أم تراه سيقدر على إثارة حوارات متنامية آملة فى فعالية حقيقية؟؟
تحد رائع، إنه تحد رائع. هل عاد زمن التحديات الرائعة مرة أخري؟؟
هكذا يفرض علينا الوضع الخروج من باب الافتتاحيات إلى باب التنظيم الفعلى للمنزل من الداخل، هربا من الاكتفاء بالصياغات النظرية للآمال المعقودة والتحديات المواجهة. ويبدو أن الوسيلة الوحيدة تتمثل فى وضع أهداف مرحلية تساهم فى بلورة نقاط ممارسة آنية ممكنة،
وهكذا تم الاتفاق على أن تصطنع الإنسان والتطور قضية محورية لكل عدد يتم الاستكتاب لها لتوضع فيما يمكن أن يسمى ملف العدد. ومن الواضح أن هذا الإجراء لن يعالج تعدد المداخل والاهتمامات على صفحات المجلة، ولكنه فى الأغلب يمكن أن يساهم فى توسيع دائرة الاهتمامات المشتركة وعزل المشترك عما عداه من خلال تحديد الإطار الذى تتبناه المجلة فى تعرضها لموضوع الملف المقترح.
وبعـد
فهذه دعوة للقارئ للمشاركة فى موضوع الملف الأول (الذى ينتظر ظهوره مع العدد الأول للعام القادم: يناير 1999)، وهو -بداهة- “ملف المنهج”. ونأمل أن تتخذ هذه الدعوة صيغة أكثر وضوحا فتشمل معايير أكثر تشكلا فى العدد القادم (أكتوبر، 1998) بإذن الله.