الافتتاحية-2-
كيف يمكن للأشكال الحوارية أن تتماسك وتستمر
أ. فريد زهران
لعلنا لن نكون مبالغين إذا قلنا إن ما أصاب مصر من ترد عام فى العقود الأخيرة مرتبط إلى حد كبير بالاستبداد الذى جرم وصادر حق الناس فى العمل الجماعى، ومرتبط أيضا بازدهار الحل الفردى الذى ارتبط بالهجرة إلى بلاد النفط، وفى هذا المناخ الردئ تصدعت وانهارت مؤسسات العمل الجماعى من نقابات وأحزاب وجمعيات…. إلخ، والأهم من ذلك أن الناس فى بلادنا فقدوا إلى حد كبير قدرتهم على تحمل أعباء العمل الجماعى وصعوباته بعد أن ذاقوا النجاحات السهلة التى قدمها لهم الحل الفردى فى بلاد النفط، ونحن لا نعنى بالصعوبات والأعباء هنا مجرد تحمل ممارسات الدولة الاستبدادية رغم قسوة هذه الممارسات، ولكننا نعنى بذلك أيضا ما يفرضه الانخراط فى صفوف الجماعة – أى جماعة – من تنازلات محتملة ومؤامرات ضرورية، ولكن ما أصاب العمل الجماعى من وهن وترد لم يحل دون تحقيق وازدهار الكثير من العقول المصرية النابهة، فأصبحنا إزاء واقع عام متواضع على كافة الأصعدة الثقافية والسياسية فى نفس الوقت الذى نلاحظ فيه وجود المئات، بل والآلاف، من النماذج الفردية – أو شبه الفردية – المزدهرة والناجحة والتى تقدم بالفعل إنجازات فردية رائعة فى مجالها، وهكذا يحار المرء: ففى نفس اللحظة التى يمكننا أن نرصد فيها وجود عشرات المفكرين وعشرات الأعمال الأدبية والفكرية المتميزة – ربما بصورة لم توجد بهذا القدر من قبل أبدا، فى نفس هذه اللحظة نشكو نحن – مثلما يشكو الجميع – من الأزمة الفكرية والسياسية التى تمسك بخناق الوطن ولا يفسر ذلك سوى هذا التناقض الصارخ بين روعة الإنجاز الفردى وانحطاط العمل الجماعي.
ومن جانبنا نحن على يقين عميق من أنه لا مخرج من الأزمة الحالية ما لم تنخرط هذه الإنجازات الفردية الرائعة، أو بعضها فى أتون حركة – أو حركات – جماعية، حيث أنه يمكننا أن نجزم أن أى إنجاز فكرى حتى لو كان متواضعا يستطيع الارتباط بحركة فاعلة إنما سيؤثر بكل تأكيد بصورة أفضل بكثير مما يمكن أن يؤثر بها إنجاز فكرى رائع، لكنه فردى وغير قادر على أن يتحول إلى فعل ملموس من خلال حركة جماعية، ومن هنا لن نكون مبالغين قط عندما نقرر أن البداية -بداية النهضة- إنما تبدأ من إحياء روح العمل الجماعى، ويصطدم ذلك بمجموعة كبيرة من الصعوبات لعل أبرزها أننا لا نستطيع أن نبنى أى عمل جماعى جاد ومتميز – فى أى مجال – من خلال حشد وتعبئة مجموعة من أنصاف الموهوبين أو الأكفاء. وكل المحاولات التى حرصت على ذلك انتهت إلى مؤسسات فردية تتخفى – أو تتجمل – فى زى عمل جماعى حيث لم تزد هذه المحاولات فى الغالب الأعم عن شخص موهوب وله إنجازات متميزة وينجح فى أن يجمع حوله مجموعة من المريدين والأنصار، وفى حالات التحقق الإيجابى لهذه الظاهرة كان الأمر أشبه ما يكون بالطريقة الصوفية حيث حكمت العلاقات بين مركز الدائرة وأطرافها آليات أقرب ما تكون لعلاقة شيخ الطريقة بمريديه وأتباعه، أما فى حالات التحقق السلبى المشوه – وهى بكل أسف الحالات الأغلب – فقد رأينا أليات مبتذلة تكاد تتشابه مع علاقة “الألفة” بـــ “التلاميذ”، وفى التجسيدين، الإيجابى والسلبى، لم يكن الشكل الجماعى المطروح سوى “منشأة” فردية الطابع ولاأدادء، والتحدى المطروح -إذن- هو أن تتجمع فى حركة واحدة عشرات -أو مئات- من حالات التحقق الفردى الناجحة فى السنوات السابقة خلقوا لأنفسهم عوالم مغلقة يتمتعون فيها بحرية شبه مطلقة فى التفكير والأداء ولم يعد مستساغا بالنسبة لهم أن يتخلفوا عما يتميزون به من مكانة فى عوالمهم الضيقة حتى لو كان الاختيار الآخر يعدهم بمكانة أكبر فى عوالم أكثر اتساعا ورحابة، إذ يظل ذلك مجرد وعود ومخاطرة لا يضمن أحد نجاحها، بينما يبدو الوضع الحالى بالنسبة لهم مريحا ومسقرا ولا مكان فيه لأى مخاطرة غير مأمونة العواقب.
المشكلة بهذا المعنى إنما تتعلق بمدى رغبة -أو بالأحرى قدرة- جزر النجاح الموجود بالفعل على مد جسور التواصل فيما بينها، بكل ما يعنيه ذلك من ضرورة وعيهم بأهمية ذكل واستعدادهم لتقديم سلوكيات تحقق التناغم الضرورى فى أى حركة جماعية حتى لو كان ذلك على حساب بعض ما يحققه العمل الفردى من حرية شبه مطلقة، تماما مثلما هو حال الإنسان عندما يدخل بيت الزوجية ويتخلى بمقتضى ذلك عن بعض من حلاوة “العزوبية” أو – الفردية – فى سبيل تحقيق سعادة أرقى وأكثر إنسانية داخل مؤسسة الأسرة التى يحلو للبعض -متحسرا على العزوبية- أن يطلق عليها قفص الزوجية!
آليات بناء جسور من التواصل بين الجزر المتناثرة ليست أمرا سهلا على الإطلاق لا بسبب ارتياح العناصر النشطة والمنتجة الآن لحالة التحقق الفردى فحسب، ولكن بسبب ما وصل إليه كل عنصر من بناء فكرى ولغة خاصة، وهو ما يضعف قدرته على التواصل مع الآخرين، ويجعل الخلافات بين الجميع تبدو أكبر من حجمها الطبيعى بصورة ملحوظة، بالذات إذا لم يتوفر حرص كاف على أن يتفهم كل طرف ما يطرحه الطرف أو الأطراف الأخرى بصبر وأناة من خلال حوار هادئ وطويل ينبغى أن يتوفر له -كما أكدنا من قبل- شروط أهمها قدر مناسب من الثقة والود والاحترام وهو ما يضمن أن يوفر للحوار قدرا من التفاعل البناء، كما يجب أن يتطلع الحوار للمستقبل ولا يستدرج أبدا للانكفاء على الماضى، وأخيرا فإن الحوار ينبغى أن يصل إلى حده الأقصى من التبلور والوضوح والاكتمال من خلال اعتماد سياسة النفس الطويل فضلا على الاستناد على أساليب وأدوات عصرية فى إدارة الحوار والوصول به إلى العمق المطلوب.
فى هذه الحدود بالضبط كان حماسنا غير المحدود للمساهمة فى تجربة “الإنسان والتطور” وقد أوضحنا فى افتتاحيتنا لأول عدد شاركنا فيه أن الجمع بين د. يحيى الرخاوى وكوكبة من مريديه وأصدقائه وبين فريد زهران وأحمد صبحى منصور وشبل بدران ومحمود نسيم وجمال زهران… إلى آخر هذا الجمع المتميز إنتاجا وممارسة إنما هو سباحة ضد تيار الفردية وخطوة فى طريق الألف ميل للنجاة بالوطن من الانهيار والتردي.
وفى تقديرنا أن الحوار الذى تساهم فيه الإنسان والتطور يحتدم على مستويين: المستوى الأول هو الحوار بين القائمين على إعدادها وتحريرها، والمستوى الثانى هوالحوار بين ما تنشره وبين قرائها وأصدقائها وهو ما نود تنشيطه باستمرار من خلال دعوة كل القراء إلى أقصى تفاعل ممكن مع المجلة، وفى هذا السياق فقد اقترحنا فى مجلس التحرير – وهو ما سنقوم بتنفيذه قريبا بإذن الله – أن ندعو إلى ندوة عامة لمناقشة كل عدد عقب صدروه بفترة مناسبة.
على المستوى الأول هناك حوار خصب حول تطوير المجلة، والملاحظ أننا قد قطعنا فى هذا الاتجاه شوطا محمودا، ولكن لأن الكمال لله وحده فلا يزال ينقصنا الكثير وسنظل نشعر بذلك ما أطال الله فى عمرنا لأن الوصول للكمال – رغم استحالته – هو غاية كل مجد ومجتهد وداعية للتطور والتقدم، ولذلك فلقد عقدنا لهذا الغرض أكثر من اجتماع ناقشنا فيه طبيعة المجلة حيث جدد الجميع تفهمهم العميق لهوية المجلة النقدية التى تحرص على طرح الأسئلة وإثارة التفكير أكثر من حرصها على تأكيد ثوابت بالية أو حلول تقليدية وسطحية، وفى الممارسة العملية، معناه أن النقد وقد تعددت مستوياته واختلفت زوايا توجهه ومراميه، ولأنه نقد لا ينطلق من ذات الثوابت والمسلمات، فهو -إذن- نقد يتضمن بين طياته نوعا من الحوار بين الأطراف التى تطرحه انطلاقا -كما أسلفنا- من ثوابت مختلفة ولإثارة الشكوك حول ثوابت مختلفة أيضا وبهدف الوصول إلى نتائج مختلفة. ومن ناحية أخرى فإن هذا النقد الشامل هو البداية الضرورية لبناء -أو على الأقل للمساهمة فى بناء- أفكار جديدة ورؤية جديدة، وهو-أى النقد- بهذا المعنى ليس فكرة محددة بديلة، إنه مجرد بداية قد تفضى بنا للوصول إلى الفكرة البديلة، ولذلك فإننا نتصور أن الإنسان والتطور هى - فى التحليل الأخير- شكل حوارى غنى بالرؤى المتعددة التى تستهدف تغيير الواقع من خلال نقده أولا.
وقد تطرقنا أيضا فى اجتماعات تطوير المجلة إلى طبيعة المجلة من حيث أنها مجلة مع معنية بتقديم ثقافة رفيعة المستوى لجمهور محدود نسبيا، وبهذا المعنى فإنه يحلو لى أن أسمى هذا النوع من المجلات: المجلات الثقافية الثقيلة تمييزا لها عن المجلات التى تعتنى بتقديم ذات الثقافة إلى جمهور أوسع مثل الهلال وسطور والعربى ..إلخ
فى سياق محاولات التطوير انتهى النقاش الخصب فى مجلس التحرير – وهو النقاش الذى حرص البعض على الانتظام فيه أكثر من البعض الآخر – على تحديد مجموعة من المحاور لتغطية الأعداد الأربعة المزمع إصدراها عام 1999 , وهو ما سنطرحه تفصيلا فى العدد القادم بإذن الله حتى نحظى بمساهمة أكبر عدد ممكن من المهتمين والمتخصصين فى المحاور المقترحة.
لماذا يستمر تطور الإنسان والتطور رغم رداءة المناخ وتباعد المسافات الفكرية – على الأقل تاريخيا – بين المجموعة التى تتولى إصدراها الآن؟ بصياغة أخرى لماذا ينجح الحوار بين القائمين عليها حتى الآن؟!
فى هذا الصدد يحضرنى عدد من التجارب التى انهارت، ولعل الاستفادة من دروس التصدع والانهيار تحول دون فشل المزيد من التجارب أو بصياغة أخرى تساعد على نجاح التجارب القائمة وعلى رأسها تجربة الإنسان والتطور.
يبدأ التصدع فى بنيان العمل الجماعى الحوارى عادة بتصنيف بعض المشاركين لبعضهم الآخر فهناك مثلا مجموعة قديمة قد ترى فى نفسها حافظة على التراث وصاحبة سبق البداية وترى فى الآخرين غزاة جددا “مش فاهمين” الرسالة، وهناك مجموعة جديدة قد ترى فى نفسها حاملة لواء التطوير وترى فى القدامى جمودا وانغلاقا، وقد يصنف فريق ما فريقا آخر وفقا للأفكار والرؤي; فهناك -مثلا- خصوم التيار الإسلامى وهناك من يتعاطف معهم .. إلى آخر قائمة لانهائية من التصنيفات التى تطرح باعتبارها اتهامات تفضى إلى نوع من التخوف والتوجس من الطرف الآخر، وتنتهى فى الغالب الأعم إلى نوع من التكتل الاستبعادي.
الطريف أنه فى كل الحالات المشار إليها عاليه فإن القوم قد اجتمعوا على مجموعة من الأسس والمفاهيم واختاروا أن يجتمعوا معا ويقدموا قدرا لا يستهان به من وقتهم وجهدهم عن قناعة واقتناع بجدوى الموضوع وصحة الفكرة المعلنة، ولكن الخلاف دائما ما ينشب مبتدئا بتوجيه تهمة عدم الفهم لشخص أو فريق ويعطى البعض لأنفسهم -عن جدارة أحيانا وعن غير جدارة فى أحيان أخرى – حق أن يشرحوا للآخرين هدف الموضوع بقدر من الأستاذية قد لا يليق فى أحيان كثيرة لاعتبارات تتعلق بمكانة الأستاذ المتواضعة أحيانا ولاعتبارات تتعلق أيضا بمكانة التلاميذ غير المتواضعة فى أحيان أخرى، وفى هذا المناخ بالتحديد تغيب عن الأذهان البديهية القاتلة بأن الهدف مهما كان واضحا ومحددا هو فى النهاية هدف لا يمكن للجميع أن يتمثله بصورة متطابقة ومن ثم فإن الأمر -أمر وضوح الهدف وتمثله بصورة جماعية متناغمة ولا نقول متطابقة- هو عملية تاريخية تأخذ الكثير من الوقت والجهد، ويعتمد ذلك أولا وأخيرا على الحوار والتفاعل الحى غير المشروط والمبنى على الود والاحترام والثقة فى فهم الآخرين وإخلاصهم للفكرة بدلا من تبادل الاتهامات حول مدى تمثلها.