الافتتاحية (1)
… ومن هذا الذى يهمه الأمر؟ وماهو الأمر؟
(1)
(أ)……..ثم ها نحن أولاء نواصل الصدور، وإن كنا لم نعد بعد فى متناول “من يهمه الأمر” بشكل منتظم، ولا بانتشار متوازن، فوجب الاعتذار، واعدين بتصحيح أنفسنا تدريجيا أكثر فأكثر.
نواصل المحاولة .
ونعاود الاستيضاح والإيضاح، فمن هذا الذى ”يهمه الأمر” ؟، وأى أمر هذا الذى نبحث عمن يهتم به؟ ونتساءل ألم يئن الأوان أن نكف عن التفحير فى تفاصيل ما هيتنا، وأن نترك ما نكتب وما نحاول ينوب عنا فى تحديد هويتنا، ولماذا كل هذا التكرار اللـحوح ؟
وتأتينا الإجابة دون تردد:
نعم، نحن نخاف أن نسرق، نخاف أن نصدر لأننا نصدر، نخاف أن نواصل الصدور لمجرد أن عندنا تصريح من المجلس الأعلى للصحافة أن نصدر، لأنه خسارة ألا نصدر.
ومن واقع كل هذا الخوف الحذر، نكرر، ولا نمل التكرار، فى محاولة أن نتبين:
ما هو هذا الأمر الذى نرجو أن يهتم به من يهمه ؟
الأمر -للمرة السابعة والثمانين بعد المائة الرابعة دائرة مثلا !!!- هو الورطة الحضارية التى نعيشها، هو محاولة تجديد الأمل رغم كل شئ، هو النفخ فى دور الفرد ليطمئن إلى حاجة جماعته إليه، هو محاولة التغلب على الاقتصار على وهم الحل الفردى، مهما بدا أن له ما يبرره، هو محاولة جذب الأفراد من كل موقع لتكوين جماعات لها توجه مشترك، على الرغم من أنه ليس لها لون ثابت، ولاهى تنتمى إلى حزب بعينه (هل ثمة أحزاب أصلا؟)، ولا أيديوجيا واحدة.
”الأمر”هو إصرار عنيد على أن يعود للكلمات معناها، و أن توظف فيما تريد أن تقوله، وتكونه، هو التنبيه على أن ملء الصفحات بالرموز ليس هدفا فى ذاته.
يوجد فى التليفزيون إعلان سخيف عن مبيد للحشرات، يقوم به إنسان كالخواجة، سمين وأبيض، يشير بيديه إشارات دالة أن هذا المبيد إنما يقتل الصراصير إذ : يتسرب، ويتسرب، ويتسرب، وينتشر، وينتشر، وينتشر، ويغوص، ويغوص، و….، ثم تظهرالصرارير (وربما حشرات أخري) وهى مطروحة أرضا، أو مقتولة، أو مخدرة، فأتصور أحيانا أن الكلمات عندنا قد أصبحت مثل هذا المبيد : تنتشر، وتنتشر، وتنتشر، وتتسرب وتتسرب، وتتسرب، ونتفاوض، ونتفاوض، ونتفاوض، وتدفع وندفع بمسيرة السلام، وتدفع، وندفع، ونستمر، ونستمر، وننتشر، وننتشر، وتتسرب وتتسرب، ثم فجأة بدل من أن تكتمل الصورة فى خيالى فأتصور أن كلماتنا هذه قد أبادت الحشرات المحيطة بوعينا، الماصة دماءنا، إذا أجد إننى -فى خيالي- أننا نحن الحشرات المطروحة، أو المقتولة، أو المخدرة.
وأهز رأسى بكل عنف وأنا أحاول طرد أثر هذا الإعلان القبيح، لأكتشف أننا مازلنا نصدر فى مواجهة هذا الخيال البشع.
وأتساءل: هل نحن -بصدور الإنسان والتطور هكذا- قد تمادينا فى تقييم دور الكلمات حتى نتصور أنها قادرة على التغيير؟
(ب)
وأتذكر ما جاء فى تعليق رجاء النقاش على ما ورد فى ذكريات نجيب محفوظ(1) فى أمر عادل كامل، حيث أورد النقاش هامشا يحوى موجزا لمقال كتبه قديما يقارن فيه بين حلم عادل كامل، وواقعية نجيب محفوظ، شارحا رأيه وتفسيره لتوقف عادل كامل بعد نشره “مليم الأكبر، و”ملك من شعاع” وبعد كتابته مسرحيته الوحيدة “ويك عنتر”، فقد زعم النقاش فى مقاله النقدى بعنوان “بين الحلم والكابوس” أن عادل كامل كان من الحالمين وكان يتصور أنه يستطيع أن يغير المجتمع بكتاباته…. لكنه لم يجد صدى لها أكثر من الصدى الأدبى، فانسحب ‘… أما نجيب محفوظ فكان يكتب منذ البداية وهو يشعر أن الواقع الاجتماعى هو كابوس كبير وليس حلما، وأن هذا الكابوس لا يمكن أن يزول بين يوم وليلة، وأنه بحاجة إلى صبر شديد ووقت طويل، ولذلك استمر نجيب محفوظ فى الكتابة ….
”وإذا كان النقاش يحذر من هذا الحلم الذى يتكرر عند كثرة من المبدعين (كما عايشته شخصيا مع المرحوم كمال خليفة) وهو أن “كلمة “أو “كتابة” ستغير الكون، وكأنهم يحملون رسالة مقدسة ساحرة، قادرة فى ذاتها على التغيير، أقول إذا وافقنا النقاش على الحذر من ذلك أننا نختلف معه فى زعم أن الوعى اليقظ بالكابوس هو دافع للاستمرار، أو أنه هو الذى يموضع الوقت ويحافظ على الصبر.. ذلك أن الاستمرار عملية معقدة، هى نتاج مسئولية التفاؤل، وموضوعية الرؤية، وتواضع الوجود الفردى، وتجديد تحمل المسئولية، دون توقف عند الإحباط العاجل، أو انتظار نتائج نهائية.
فهل نحن قادرون على ذلك؟
(جـ)
ثم إنه قد حدث أن استكتبتنى صديقة تثق فى قلمى مقالا، فآخر، لمجلة يقال لها “سطور”((2)فاكتشفت جهلى بصدور هذه المجلة الشابة الجادة المصقولة الجميلة، وحملتها معى إلى اجتماع هيئة تحرير مجلتنا المتواضعة هذه، ورحت أتحدى وأنا أذكر نفسى والزملاء أننا إن لم نقم بدور آخر، لقارئ آخر، بأسلوب آخر، (ليس بالضرورة أفضل) فالأولى أن نوجه جهدنا للإسهام مع هذه الجهود الجارية بما تيسر، ودمتم، وإذا بسكرتير التحرير الزميل فريد زهران ينبرى متحمسا شارحا أن هذه المجلات الجادة والجيدة (مثل سطور) هى مجلات” الثقافة الخفيفة، فى حين أن “الإنسان والتطور” تمثل “الثقافة الثقيلة”(3)، وعلى الرغم من فرحتى المبدئية بالفكرة الطريفة، وكأننى فهمت ما يعنى فريد، إلا أننى عدت أتساءل عما يعنى فعلا،
ثم رحنا نعترض، ونتناقش، فجرنا كل ذلك إلى هذه المراجعة :
(د)
تذكرنا -معا- تلك العبارة الخاصة جدا المكتوبة على ظهر كل غلاف منذ ستة أعداد والتى تقول إننا (الإنسان والتطور) مجلة “النقد العلمى والأدبى والثقافى والحياتى“،
قلنا: آن الأوان أن نقدم للقارئ تعريفا إجرائيا مراجعا لهذه اللافتة لعل “الأمر” يتبين لنا، وبالتالى نسعى أكثر للتعرف على “من يهمه هذا الأمر”.
أما أنها مجلة النقد الأدبى فهذا هو أسهل الجوانب لتواتر استعمال هذا المصطلح “النقد الأدبي” فى مجالاته المعروفة، لكننا – كما هو ظاهر فى كل ما ننشر مما قد يسمى النقد الأدبى – نتناول النصوص من واقع غير متخصص، ربما قصدا، إذ نحاول أن نكون ممثلين للمتلقى المشارك فى إعادة تخليق النص، وكل ما فى الأمر أن هذا المتلقى إنما يفعل ذلك بحروف مكتوبة (قياسا على التفكير بصوت مسموع)، هذا هو دورنا الأساسى فى النقد الأدبى، وما أسهل تعريفه.
أما أنها مجلة النقد العلمى فهذا ما يحتاج إلى إيضاح أوضح، ذلك لأننا اعتدنا أن نتعاطى المعلومات العلمية دون نقد يذكر، أليست علمية ؟ وبالتالى شاع أنه قد وجب التسليم لها، لكننا نتبين أن دورنا هو أن ننبه إلى أن هذا الذى شاع ليس صحيحا على إطلاقه، وقد بدأنا بأنفسنا، فنحن لا نسلم لها (للمعلومات التى يقال لها علمية)، وأحيانا لا نسلم بها، فرحنا نتبنى الدعوة المرة تلو المرة إلى أن نتدارس ونتعلم كيف نقرأ تلك المعلومات الـ”علمية”، وأن نمعن النظر فى معنى الأرقام الـ”علمية”،قبل أن ننحنى لها، وأن نناقش المنهج الـ”علمي” قبل (ومع) مناقشة نتائجه، ثم رحنا نحاول الإسهام فى البحث عن مخرج من هذه المآزق المتحدية التى نجد أنفسنا فيها نتيجة وصاية مناههج مصقولة، ليست بالضرورة محيطة، ونتيجة غلبة فكر جاهز ليس بالضرورة ممثلا للحقيقة، ونتيجة وصاية قدرات مادية وتكنولوجيا فائقة، ليست بالضرورة أمينة أو كافية،
وقد وجدنا أن هذا الجانب من النقد لهو من أصعب المناطق قاطبة لأسباب لا تخفي.
[ ولعل أبواب :للتذكرة والتصحيح، وإعادة قراءة مصطلح قديم، وبعض مقتطف وموقف، والقراءة اللا حقة لما هو مقتطفات علمية، لعل كل ذلك يعلن محاولاتنا المستمرة فى هذه المنطقة الصعبة]
أما أنها مجلة النقد الثقافى، فنحن نتعامل مع “الثقافة ‘ من بعدين، الأول هو ما تعنيه كلمة ثقافة من أنها :الوساد الحياتى الذى يشكل وعى الناس فى حقبة من الزمان، هنا وهناك، بما لا يستثنى الدين السائد، والتراث الشعبى القديم والمتجدد، والعادات والقيم الشائعة وما إلى ذلك، أما البعد الثانى فهو ما ارتبط بالصفوة ممن يسمون “المثقفون” بما يمثلونه من عقول نابهة، وإنجازات مبدعة، وريادة رائدة، وموقفنا النقدى من هذا وذاك هو -بالتالى – ما يقابل كلا من هذين البعدين.
فمن ناحية نحن نعيد النظر فى الثقافة السائدة بمعنى النظر فى الوساد الذى يتشكل به ومعه وعى الناس، ومن أهم ذلك البعد الدينى والتراث الشعبى، ونجد أن انضمام د. أحمد صبحى منصور إلينا باجتهاداته الناقدة الملتزمة فى مجال قراءة النص الدينى، واستمرار محاولاتنا فى قراءة الأمثال العامية، والمواويل، وبعض إعادة النظر فى المقتطفات التى نقتطفها من هنا وهناك، كل ذلك قد يصلح أن يتضمن فى البعد الأول للنقد الثقافى،
أما موقفنا من نقد الصفوة المثقفة، فهو موقف الاحترام الحذر، وفتح الأبواب لمن هم ‘ ليسوا كذلك”، ليقولوا قولا مكملا، والدعوة الصريحة والخفية لتجاوز تقديس الموسوعية لذاتها، وللإقلال من الذهننة والتحذلق الفردى البراق.
أما الإضافة الغريبة بعد كل ذلك بأنها- أيضا – مجلة النقد الحياتى فهذا هو ما استوقفنا أكثر وأصعب، فلعل ما قصدناه بهذا هو أن يكون الموقف النقدى شاملا لكل ذلك (مما سبق) ومما ليس كذلك مما قد لا يندرج (بسهولة) تحت أى مما سبق.
ذلك أن حياة الشخص العادى قد لا تحتمل أن توصف بالثقافة فقط (حتى لو تعسفنا تعريفا يرفضه الغالبية لما هو ثقافة)،، ولا بالعلم، ولا بالأدب فحسب، ولا بشئ محدد منفصل مما سبق كما ذكرنا، هى حياة الفرد العادى “هكذا فقط”، فوجدنا أن النظر فى هذا الـ”هكذا فقط” بعين ناقدة هو من صلب مهمتنا فعلا.
بل لعل جانب التخصص الذى نشأت فى رحابه هذه المجلة-نعنى الجانب النفسي- يكون هو الأقرب إلى النقد الحياتى هذا: فأغلب المرض النفسى، ما هو إلا موقف نقدى للحياة العادية، صحيح أنه نقد انهزامى، لكنه كذلك، وبالتالى فإن علاجه، وخاصة العلاج النفسى ما هو إلا نقد الجانب الانهزامى لهذا الموقف النقدى المرضي.
ياه !! !!
إلى هذه الدرجة نتورط فى حمل هذه الأمانة حين نصر على أن يحيط موقفنا النقدى بكل ما هو ممكن، فهل نحن أهل لكل هذا، أو بعض هذا ؟
طبعا لا، فقط هى تذكرة، ودعوة، وائتناس، ومحاولة، وعناد.
(هـ)
ثم نتساءل: إذا كان كل ذلك كذلك، نقد فى نقد، فأين نضع الإبداع – من الدرجة الأولى المباشرة- على متدرج الموقف النقدى الذى تتدعى هذه المجلة تبنيه على طول الخط ؟
توقفنا كثيرا أمام هذا السؤال حتى لاحت اقتراحات أن نستغنى عن نشر هذا الجزء المتواضع من القصص والشعر والكتابة تماما،.
ولكن المجلة ظلت طوال عشرين عاما تؤدى دورا ما فى هذه المنطقة:
فماذا؟ وكيف؟
قلنا:
لعلنا ننتقى، دون قصد واضح، من الشعر والقصة ما هو نقد للواقع الماثل، وكل إبداع أصيل كذلك.
ولعلنا إذ ننشر “ما ليس كذلك”، نسهم فى نقد فى مجال الأدب الشائع والغالب.
والأهم: هو اكتشافنا أننا لسنا ملزمين بتحديد تعريف صريح-ابتداء-لكل ما تنشر من هذا النوع من الابداع.
ومع ذلك، فقد جعلتنا هذه المحاولة نواجه حرجا جديدا فى انتقاء ما هو أقرب إلى روح المجلة مما يصلنا من إبداعات متميزة.
فلا نحن قادرون على الالتزام بهذا المقياس الغامض، ولا هذا جائز.
فليعذرنا القراء، والمساهمون فى الكتابة إلينا، والثقة بنا، وليساعدونا بما يرون.
(2)
هذا وخلال هذه الشهورالثلاث فجرت الهند فباكستان قنابلهما الذرية….(لا تعليق)
(3)
وتمادى نتانياهو فى الوقاحة متعجلا النهاية، ..(ليكن)
(4)
وقالت له أمريكا-كالعادة -“عيب كذا” ثم لوحت بالفيتو لتحمى هذا العيب، ..(ياه!!!)
(5)
واحتفلت مصر-جدا- بابنها البار د. أحمد زويل،…( وخلاص).
(6)
واستمر عرض مسلسل “مونيكا: كلينتون: من باب التسلية، والإلهاء، والدعابة و السياسة، والبله والنظام العالمى الجديد ( جدا).
(7)
ثم نقول عن هذا العدد:
توجد فى هذا العدد أكثر من افتتاحية – فندعو من خلال ذلك إلى احتمال تعدد الافتتاحيات، ولو وصلت خمس أو ست فى العدد الواحد، وذلك للتأكيد على تنوع الآراء من ناحية، وللدعوة إلى مواصلة الحوار من ناحية أخري.
ثم يتصدر العدد كالعادة دراسة الدكتور أحمد صبحى منصور لعلها- مثل كل ما يتحفنا به – تؤكد هذا التميز الرائع لهذا الدين المتين ليحل هذا الفهم المستنير الموثق – تدريجيا – محل الدين المحاكاة، والدين التسطيح، والدين التعصب، والدين التجارة، والدين السمسرة. يارب عونا.
ثم تأتى بعد ذلك المقالات والآراء التى اختلفنا حولها، والتى ظهرت إشارات لذلك فى الافتتاحيات، تأتى فى البداية وكأننا نريد أن نؤكد رحابة الصدر المشروطة، فنحرص على تقديمها بقراءة نقدية، تعلن الاختلاف، وفى نفس الوقت تدعو إلى حوار ما، وهكذا نفتح الباب مرحليا لمن لا يعرف طبيعة المجلة، وفى نفس الوقت نحذر أنفسنا من التراجع عما يميزنا، تحت زعم أننا نحرص على التنوع وممارسة ما يسمونه بالإسم الحركي: حرية الرأى، فنحن قبل وبعد الترحيب الحقيقى نرفض تماما أن نميع موقفنا حتى لو توقفنا عن الصدور، فلأن تصمت خير من أن تكرر وتتصور أنك تساهم، ونفرح بهذه البداية الجديدة آملين أن نزداد تعرفا بعضنا ببعض، من خلا ل النقد التقديمى والمقالين جميعا، وأيضا من خلال ما ننتظره من نقد النقد…إلخ: هما مقالا الأستاذ الدكتور شبل بدران عن فشل برامج التربية فى المجتمعات الرأسمالية، ومقال د. إلهام عبد الحميد عن الحوار وتنمية الفكر الناقد.
ويعود للظهور ذلك الجزء الخاص جدا الذى أسميناه “كتابة” حتى لا نختزله بالتصنيف، ونفرح لالتقاء نبض من ساهم فى تناول خبرة “الفقد”التى غلبت على كتابتين وصلتانا حديثا، مع نبض كتابتين سابقتين حاما حول نفس الموضوع و سبق نشرهما فى بدايات ظهور المجلة ; فنربط القديم بالجديد آملين أن يساعدنا ذلك ألا ننسي. ( ألا ننسى من نحن؟ ولا لماذا نحن نحن؟).
ثم نجد الأبواب الثابتة وقد تناولت فى هذا العدد: الحب والكره فى المثل الشعبى، وإعادة قراءة مصطلح الفصام، بعد أن تبنا فى باب التذكرة والتصحيح إلى خطورة التوقف عند مسألة التشخيص والتصنيف فى ممارسة الطب النفسى والعلاج النفسى، على حساب المعرفة والإحاطة بماهية الإنسان المريض
كذلك لم نتخل عن التزامنا بالاستجابة لهمسات القارئ العادى إذا استشار أو تساءل، مع أنه لم يصلنا من القراء الجددمن التساؤلات والاستفسارات ما يحفزنا على الاستمرار، وكنا قد أقدمنا على هذا الباب آملين أن نمارس فضيلة التواضع الحقيقى، على الرغم من زعم سكرتير التحرير أننا نمثل “الثقافة الثقيلة ‘، فواجبنا أن مارس عمقا حقيقيا لا يمنع الشخص العادى جدا أن يثثق أننا نتوجه إليه أساسا، وأننا نحاول فى ردودنا عليه ا أن نتجاوز النصائح التقليدية، والوصفات المعادة، ونحرص ما استطعنا على التأكيد حق الناس فى التلقائية، وفى الخوف، وفى الشطح، وفى الحزن، دون أن يطلق عليه صفات المرض (ولا العبقرية !!!) بل إننا تمادينا فى تبيان أن الإنسان قد يحق له أن يعترف أنه أحيانا ما يقرر أن يذل نفسه، مهما كان يتصورأنه يأبى ذلك تماما أصلا وعمقا ( باب: حالات وأحوال ألعاب علاجية :متى يقبل، ومتى يقرر،متى يأبى الإنسان أن يذل نفسه)
ونفرح إذ يتناول مساهم جديد فى تحرير الأبواب الثابتة اتخاذ موقف ‘ علمى ومنهجى من ‘ مقتطفين أحدهما أدبى “والآخر حوار مع االمجلة الجديدة الواعدة فعلا “أحوال مصرية” التى آنسنا ظهورها بدرجة لم نكن نتصورها، على الرغم من عدم مستوى المحتوى مع طموح الافتتاحية.
ويختفى الباب الذى كان ينبش فى ذكريات شيخنا الجيل نجيب محفوظ، ربما بمناسبة ظهور الكتاب المثير للجدل الذى جمعه رجاء النقاش، فخشينا التكرار، لكننا نأمل أن نجد صيغة جديدة لا تحرمـنا من تواجد رائحة شيخنا العطرة وبركاته بيننا وحولنا فى كل عدد إن شاء الله.
أما الجانب العلمى، فبالإضافة إلى الأبواب الثابتة السالفة الذكر التى تحاول الإسهام فى الترشيد والتصحيح وعرض الفروض فإن هذا العدد يشتمل على ترجمة شديدة الدلالة لظاهرة إنسانية رائعة، وهى التى نحت لها د. إيهاب الخراط ( المترجم ) لفظا جديدا جميلا هو ‘ المواجدة ‘، ونحن إذ نفرح بالتقاء فكرنا مع غيرنا على الجانب الآخر، نحرص أشد الحرص على التنبيه على أن نحافظ على أهملناه حتى حدنا ننساه مما هو “نحن” حقيقة وفعلا، ومن بين ذلك ما قدمه هذا المقال عن التعاطف الوجدانى، والمواكبة المعرفية على أكثر من قناة اتصال.
ثم نقدم المقتطفات العلمية هذه المرة فى مساحات محدودة، حيث قام د. أحمد حسين بالترجمة والتعليق فى موضوعات متنوعة شملت كلا من الإشارة إلى الأبحاث النوعية، والعلاج الجمعى، وعلاقة الفص الأمامى للمخ بالفصام .
ثم يجد القارئ الفصل الرابع والأخير فى القراءة الوصفية التشريحية لأصداء نجيب السيرة الذاتية لنجيب محفوظ، وبهذا تنتهى التقاسيم المبدئية التى نتصور أنها على الرغم مما بلغت من طول، كانت لازمة تمهيدا للدراسة التوليفية الجامعة التى ستظهر لاحقا، ليس بالضرورة فى العدد القادم، لأسباب عملية.
ونفتقر إلى إسهامات أكثر فأكثر فى مساحات القصة والشعر، ونكرر كيف أن هذه المنطقة التى نصر على أن لها موضعها الخاص جدا فى هذه المجلة، مازالت، وربما ستظل، تمثل لنا مسئولية جسيمة ونحن نحاول انتقاء ما نتصوره متناغما مع خطنا المحورى، فلعل من لم يسعدنا حظنا بأن يظهر إبداعه على صفحاتنا، لا يرى فى ذلك إقلالا من قيمة ما شرفنا بإرساله إلينا، بقدر ما يقدر حرصنا على أن يكون نبض المجلة هو هو، حاضرا فى أى شكل معرفى أدبى أو علمى، ما أمكن ذلك.
ونحن نستسلم فى هذا الصدد لحدس غامض، يبدو أنه هو الذى يحكم اختياراتنا، لعله مرتبط بقدر الدهشة، ومساحة المغامرة التى تصلنا من إبداع بذاته
إذن فالقبول للنشر أو إرجاؤه أو الاعتذار عن عدم النشر، لا يتم أى من ذلك بمقياس الجودة المطلقة، وإنما بمقياس التناغم مع ما نمثله وما نصدر من أجله مما حاولنا أن نكشف ونكتشف بعض ملامحه فى افتتاحيات هذا العدد.
[1] – نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته (رجاء النقاش ص 101) مركز الأهرام للترجمة والنشر 1998 .
[2] – بعد كتابة هذه السطور، صدر العدد الأول من مجلة أحوال مصرية عن مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية – الأهرام، وجاء فى افتتاحيتها ما ذكرنا بافتتاحية أول عدد من هذه المجلة (يناير 1980)
– أنظر أيضا افتتاحية(3) محمد يحيى الرخاوى، وعلى قدر الائتناس بالمواكبة زادت المسئولية.
[3] – أنظر افتتاحية (2) فريد زهران.