إغماض العين
السيد زرد
لم يكن ممكنا أن تكون النهاية إلا على النحو الذى حدث. ما كان لشئ أن يغير من مسار الأحداث وتداعيها ويصل إلى غير النهاية التى وقعت.
لا أسعى -من وراء قولى هذا- إلى نفى مسئوليتى عما وقع، بيد أنها الحقيقة، يجب الإقرار بها والتسليم بوجودها.
يمكن البدء فى استعادة ما جرى من أى نقطة، والانطلاق فى أى اتجاه; حيث سيتم الوصول -حتما- إلى نفس النهاية.. تماما، مثل وضع الإصبع على أى موضع بالكرة، إذ يمكن الوثوق بأننا بمنتصف الكرة تماما. وأينما اتجهنا، نتيقن من أننا بالقطع سنعود إلى نقطة البدء.
لا أريد أن أناقش المسألة على صعيد الجبر والاختيار، فذلك مستوى آخر للتناول، أرى أنه يزيد الأمر تعقيدا، ولا يفيد على الإطلاق فى حالتنا.
فلنبدأ من أية نقطة..
ها هى تتقافز إلى ذاكرتى تلك اللحظة التى امتدت فيها يدى لتحوى لأول مرة يدها، فأدرك -على نحو ساطع- أن هذه المرأة أنثاى، وأنها لى حتى النهاية .
لم تكن قد انقضت على عودتى من الغربة سوى أشهر معدودات. عدت بعد سنوات ممتلئا بالمال والخواء. رحت أفتش عن بدايات جديدة للحياة: عملا بديلا عن الوظيفة التى تركتها، وزوجة عوضا عن الحبيبة التى نسيت ملامحها، وأصدقاء خلافا للصحاب القدامي.
بعد أشهر من العودة، لم أعثر سوى على مسكن جديد. انتقلت اليه، حاملا وحدتى وبطالتى وجهامة وجهى الأربعينى الذى لفحته شمس الصحراء.
فشلت فى العثور على عمل يلائمنى، ولم أجد من يصلح صديقا. أما الأقارب فقد سئمت شرهم وعوزهم واحتياجاتهم التى بلا انقضاء. وتبدت فكرة الزواج فى الواقع مأساوية وبائسة إلى حد مفجع.
قررت أن أستكفى بنفسى عن العالمين. فأحضرت كل صنوف الخمور، واستحضرت كل نساء العالمين عبر “الدش”، ورحت أصرف أيامى مخمورا مستثارا. وإذ يستفسر الأقارب عن حالى، أزعم أنى منشغل بدراسة مشروع كبير.
لبثت هكذا وقتا لا أحصيه، ربما أسبوعا أو شهرا أو عاما.. لكن صرت كأننى كنت أحيا هكذا منذ ولدت، وكأننى سأظل كذلك أبدا.
رنين الجرس أفزعنى، أصيل أحد الأيام، فانبعثت من مرقدى، دائخا عطشانا. فتحت الباب لأجدها أمامى بثيابها البيتية وشعرها المحلول. تومئ إلى شقتها المقابلة وتسأل عن انقطاع المياه. استغرقت وقتا أطول من المألوف حتى أدركت الأمر. وغمغمت بأنى لا أعرف. أزاحتنى برفق، ودخلت إلى المطبخ تفتح صنبور المياه، لتتأكد من أن المياه مقطوعة عن كل الشقق.
كنت ما أزال متسمرا ببلادة جوار الباب، حين آبت تتفحصنى والمكان. ضحكت وهى تشكرنى، فمددت يدى مرتبكا أشد على يدها، لتتوهج بداخلى الشرارة التى ما كنت لأخطئها.
فى اليوم التالى، فى نفس الموعد، كان رنين الباب، وكانت هى متجملة فى ثياب بيتية أكثر فتنة، تقدم إلى طبقا من الحلوى صنعته بيديها. لم تصغ لممانعتى، ودخلت إلى حيث وضعته.
فى أيام، كانت قد عرفت كل شئ عنى، وعرفت طريقها إلى سريرى، وعرفتنى بزوجها الموظف صباحا سائق التاكسى إلى ما بعد منتصف الليل، المكدود دوما، والمدين بباقى أقساط ثمن السيارة.
فى التوقيت الذى رأته مناسبا اقترحت أن أسدد عنه الأقساط، وأن أشاركه فى التاكسي. لم أمانع، ولم يعترض. فكانت تأتى به فى الأمسيات ليجلسا معى تاركين ابنتهم نائمة. فنتظاهر ثلاثتنا بأننا نتحاسب فى إيراد السيارة.
لا أعرف تحديدا متى أحسست بأن زوجها يدرك طبيعة علاقتى بامرأته، وأنه يتقبل ذلك لأسباب لا أعلمها.. بل وكدت أجزم بأن ابنتها الصغيرة، يدخلها شئ من الإدراك يجعلها تعمل على ابتزازى بطلبها الملح للعب وللحلوى بوقاحة.
لبثنا فى تظاهرنا الكاذب وتواطؤنا المكشوف، متوائمين تماما، تكتنفنا غلالة من الرضا والسكينة. كنا فى حالة تعادل، لم يغبن أى منا. أتغاضى عن حصتى فى إيراد التاكسى، وأتقاضى مقابلا شهريا من الجسد الأنثوى الباذخ، دون أن انسى أداء فريضتى من حلوى الصغيرة ولعبها.
كنا شركاء: التاكسى، يركبه هو طيلة اليوم، ويحرث به دروب المدينة ويستأثر وحده بنتاجه، وفى آخر الليل، يتركه أسفل العمارة مستهلكا. والمرأة، كانت لى طوال اليوم، أمتطيها وأجوب بها شوارع اللذة فوق سريرى، وفى آخر الليل، أتركها له ممصوصة هامدة.
كنا يمكن أن نستمر هكذا إلى الأبد، فى تعادل واتزان، بلا ضغينة أو إحساس بالخسارة لا أعرف -تحديدا- ماذا أقلق سكينتنا وأخل بوضعية الاتزان.. أهو كلام الجيران الذى أخذ يتناثر من حولنا ويترامى على اعتاب مسامعنا ؟!.. أم مرد الأمر إلى أن كلا منا أشبع إلى حد ما احتياجاته، لم نعد فى نفس حالة الاحتياج والاضطرار، لذا رحنا نطمح إلى أشياء أخرى ونتطلع إلى المزيد. فأراد هو الاستئثار بالإيراد والزوجة، ورغبت فى الجمع بين اللذة والريح.
فجأة، وبزعم أنه تنبه إلى الشائعات، امتنع عن الحضور، ومنعها هى الأخرى وشدد الرقابة عليها.. لكأنه ما باعنى -زمنا طويلا- جسد امرأته وحصل الثمن نقدا وحالا..
ولكأننا ما كنا – جميعا – متواطئين.
تكسرت قشرة التواطؤ الرقيقة، فبانت حقيقتنا البشعة..
وكانت المواجهة الدامية، التى تركت آثارها على جسدى وملابسى، وجعلتنى أقعى على الأرض جوار ثلاث جثث مسجاة، أحاول إغماض العين، فى انتظار مجئ من يقبض علي.