عدد يوليو 1984
قراءة فى ليالى ألف ليلة لـ نجيب محفوظ
القتل: بين مقامى العبادة والدم
يحيى الرخاوى
رغم أنها قراءة شاملة للعمل الروائى المتميز ليالى الف ليلة لنجيب محفوظ، فقد اخترت لها هذا العنوان الفرعي، لما وصلنى أن هذه الفكرة (القتل/العبادة) هى محورية عبر أغلب الحكايات، ورغم أن نص العنوان لم يرد إلا فى عبارة متأخرة فى الحكاية الثالثة: (ص: 67) على لسان الشيخ على البلخى (العارف-المعلم) مخاطبا عبدالله الحمال (الميت-المتناسخ)، إلا أنها كانت أوضح ما يكون منذ البداية، وبالذات فى الحكاية الأولى (صنعان الجمالى)(1) وإن كانت الحكايات كلها تجرى فوق أرضية بشعة من شلالات الدم التى تدفقت من شهوة وجبن وأنانية وذعر شهريار معا.
وقد كان القتل دائما سهلا على نجيب محفوظ(2)، يدفع إليه أبطاله أو يجعلهم ضحاياه بشكل سلس مفزع معا، وربما يحدث ذلك دون مبرر ظاهر، مما يجعل قارئه يكاد يوقن كم هو (القتل) حدث تلقائى من صلب طبيعة الحياة، إن لم يكن فى جوهره هو الحياة ذاتها، وحتى الموت (الطبيعى) كان كثيرا ما يبدو وكأنه قتل بشكل ما، وذلك فى أولى رواياته وقصصه حيث كان يوكل المهمة للقدر أو الموت، لكنه تقدم فى مرحلة لاحقة ليوكل به الفتوات والأبطال، كل فيما يخصه !!، ثم ها هو يفاجئنا إذ يقتحمــنا يمد إبداعه فى داخل داخلنا ليجذب جذو ر القتل الغائرة خلف ما نتوهم أنه نحن، فنتبين أننا قتله أصلا – بالحق و الباطل- وأننا سنظل كذلك ما لم نواصل المسيرة إلى تكاملنا بشرا بحق.
ونـظرة سريعة نتعرف بها على كم القتلة والضحايا فى عمل متوسط الحجم مثل هذا العمل، قد يثبت للقارئ أحقية إختيارى لهذة القضية محورا لقراءتى(3).
الداخل والخارج:
ويجدر بى إبتداء أن أعود لقضيتى القديمة، فما زالت تلح علي، وما زال الرفض يــشهر فى وجهها معظم الوقت، وهى قضية أو إشكالية الرواية/الراوي/المجتمع، وسأحاول أن أعيد رأيى فى هذا الصدد بشكل جديد فأوجزه قائلا:
أولا: إن الكاتب لا يكتب إلا ذاته، ثانيا: إن ذلك لا يعنى أنه يتكلم عن تجارب شخصية أو عن فرد محدود باسم وتاريخ، وإنما أعنى به أن الكاتب يحتوي-بحيوية نشطة-كل تجاربه وانطباعاته ومنطبعاته(4)من خارجه وداخله جميعا، وإذ تصبح ذاته ثرية-مرنة-مـقـلـقـلة ـ فى آن.. يمضى يعيد تنظيمها من كل ذلك بتوليف جديد، وهو ما يظهر هنا فى شكل عمل روائى متميز. ثالثا: إن ما يساعد على هذه الرؤية هو ما انطلق منه من مفهوم تعدد الذوات والتنظيمات والكيانات داخل الذات الفردية الواحدة، ذلك المفهوم الذى أعتبره المدخل لفهم عالم الذات، إذ هو المصهر والمحتوى لكل العالم، وعلى قدر مرونة الحركة وجـدة التوليف بين هذه الكيانات اللانهائية: يكون الابداع.
وعلى ذلك – فإننى أستطيع أن أتقدم خطوة نحو إيضاح أبعاد هذا العمل من حيث واقعيته، فالواقعية فى العمل الروائى تقوم بقدر ما يكون هذا العمل موضوعيا لا بقدر التحامه بالواقع الخارجى أو وصفه له، ويكون العمل موضوعيا بقدر صدقه وقدرته على استقبال قلــقلة شخوص ذات كاتبها بحجمها الحقيقي، ثم مدى قدرته على الإضافة لها وتحريكها وإعادة إفرازها فى عمله دون وصاية فكرية مسبقة، أو خيال مصنوع.
فهذه الليالى واقعية فى مجملها رغم الاسم والجو الأسطورى، من كل ذلك أن جرعة الواقعية تخف حتى تكاد تختفى كلما تقدمنا خلال العمل حيث يغلب فى نهايته الخيال (لا الحلم) حتى ليفرض نفسه على الحلول المطروحة، كما يطغى الأسلوب التقريرى وتعلو لهجة الخطابة ونبرة الحكمة قرب النهاية أيضا يحدث ذلك بشكل ملح، لكنه لا ينجح فى أن يبعد العمل عن واقعيته الغالبة فى البداية خاصة.
والعمل فى مجمله، ورغم تراجع نهايته، ( كالعادة !!) إنـما يمثل مرحلة متقدمة من رحلة كاتبه فى أغوار نفسه/العالم، وبه نجح نجيب محفوظ فى إعادة إبداع هذا الأصل الفريد، فأعاد خلق بعضه فى دورة تناسخية رائعة، ورغم كل هذه المساحة بين الأصل والتجديد، فنحن لا نملك لهما فصلا، ولكن أى مقارنة تفصيلية تبدو أبعد ما يكون عن المطلوب فى قراءة مثل هذا العمل.
العفريت.. والوجود:
سبق أن بينت أن نجيب محفوظ قد أخذ بيدنا ليرينا أن عالم عفاريتنا هو وجود ماثل فى دواخلنا، وقد صرح بذلك بشكل مباشر، كما كرر الإشارة إليه بشكل غير مباشر فى عمل آخرسبق أن قدمت قراءته(5)، وفى هذا العمل يعود ليؤكد هذه المقولة، والوقوف عندها مرة ثانية هام لإثبات بعض أوجه الفرض الذى أعلنـاه ابتداء عن القتل فى داخلنا – وظيفته وأشكاله-، والعفاريت فى هذا العمل تمثل شخصيات أساسية تتبادل مراكزها بين الشكل و الخلفية مع الشخصيات الإنسية التى يحركها الكاتب فى براعة مناسبة.
يعلن نجيب محفوظ فى الحكاية الأولى و منذ ظهور العفريت الأول (فمقام عفريت صنعان الجمالى) أنه وجود داخل الوجود، أو بتعبير أدق: هو وجود مع الوجود، فهو يتحدث عن كثافة هذا الوجود و ثقله، و غشيانه و حلوله و اصطدامه بتجسيد آنى لا يسمح للقاريء اليقظ أن يذهب بعيدا عن الذات وتركيبها المتداخل، يقول:
1 - وغشيه الوجود الخفى.. وسمع الصوت.. (ص33)
2 – هيمن عليه الوجود الأخر (ص27) (وهو هنا يشير إلى أن هذا حدث حين أخلد للنوم، لكنه يعلن بشكل لم يعد يحتاج إلى شك أنه لا فرق بين نوم ويقظة، بين وعى الحلم و وعى الصحو ( إن يكن حلما فما له يمتليء به أكثر من اليقظة نفسها، (ص 16) ).
3 – ارتطمت ذراعه بكثافة صلبة (ص13) (لاحظ هنا تعبير كثافة وليس جسما صلبا).
4- جاء صوت غريب…… صوت اجتاح حواسه (ص14) واجتياح الصوت للحواس جميعا دون الاقتصار على الأذن.. يذكرنا بطبيعة الكثافة والإغارة ومصدرها.
5- وتلاشى الغبار تاركا وجودا خفيا جثم عليه فملأ شعوره (ص38) (لاحظ تعبير ملأ شعوره ).
6- شعر بنفاذ وجود جديد هيمن على المكان ( ص40) (ولا أنكر أنى ربطت، ربما متعسفا بين النفاذ والوجود و المكان، فلم أدرك إلا أن المكان هو الذات: أساسا!!).
7- مضى الوجود المهيمن يخف حتى تلاشى تماما (ص 41).
8- طرح تحت ثقل وجود غليظ احتل جوارحه… (ثم) فجأه الصوت مقتحما وجدانه. (ص 48).
9- ولكن الآخر أطلق ضحكة ساخرة، ثم سحب وجوده بسرعة وتلاشى (ص50).
وأحسب أن استعمال الكاتب لألفاظ الوجود، والاقتحام، وامتلاء الشعور، واحتلال المشاعر، والثقل، والكثافة، والغلظ، والسحب، والالتحام، لم يعد يحتاج إلى مزيد من التأكيد بأن الأمر هو كما ذهبنا إليه: عفريتا فى داخلنا = وجود ثان:عيانى الحضور.
وأهمية هذا الاستطراد هو فى ترجيح ما ذهبنا إليه من أن هذا العمل يكشف عن القتل فى الداخل، ذاك الذى يتحرك مع تنشيط الوعى الآخر، القتل بمختلف دوافع انطلاقه وتنوع مساراته ونتاجه.
والآن لنواكب القتل حكاية حكاية:
1– صنعان الجمالي
التنشيط الخطر.. بين التفكير والتروى
هو قتل غريب حقا !! 1-لأن القاتل ليس قاتلا بطبيعته !! فهو رجل طيب، رجحت كفة خيره بشهادة العفريت ذاته وشهادة الناس، (فهو من الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم)، أماشهادة العفريت.. لا أنكر أيضا مزاياك، ولذلك رشحتك للخلاص (ص28)،.. قلت هذا رجل خيره أكثر من شره (28)، أما شهادة الناس.. كانت له منزلة بين التجار والأعيان، وكان من القلة التى يحبها الفقراء (ص35)
2- وهو غريب لأن القتيل ليس واحدا، والقتيلان ليسا متجانسين، فالضحية الأولى طفلة بريئة، والقتيل الثانى حاكم ظالم
3-وتشتد غرابته حين يبدو الدافع للقتل بلا مبرر شخصى ظاهر.
فما هى الحكاية ؟ لم القتل؟ هذا القتل؟ ومن هذا القاتل بالذات؟
إن هذه الحكاية الأولى أزعجتنى حتى كدت أعدل عن أخذها بكل هذه الجدية التى لاحت لى إبتداء، تلك الجدية التى غمرتنى فور قراءتها بتكثيف متلاحق، ولكنى عجزت عن التهرب وتماديت، وليتحملنى القارئ:
صنعان الجمالى شخص عادي، تاجر تغلب عليه الطيبة، لكن عليه أن يساير ويمالئ، وأن يسكت ضميره حتى يسيـر حاله مثله مثل الأخرين، وهو يحاول التكفير والتعويض بالطيبة والصدق وبعض العبادة (المحسوبة)، غير أن هذه الحياة الوديعة المتصالحة مع الظلم-رغما عنها بشكل ما-ليس لها ضمان، إذ لادوام لاستقرارها لمن يتورط فى إكمال المسيرة، أو بتعبير أدق لمن يضطر لإكمال المسيرة، وحين يحبس مثل هذا الشخص العادي داخله بما فى ذلك حسه الجماعى إذ يخدره بالتدبير والسلبية والانسحاب استأنسنى بسحر أسود (ص15)، فإنه قد ينشط فجأة إذ يدق الزمن… دقة خاصة فى باطنه فيوقظه (ص13) (لاحظ: فى باطنه)، حين ينشط هذا الكيان الداخلى الفطرى الحر (6) فإنه ينطلق ابتداء بقوة الغرائز الدافعة نحو ارتقاء تكفيري، وقد تحدد التكفير هنا بقتل رأس الظلم (الحاكم)، هكذا: مرة واحدة !، ومن ذا الذى يقتله ؟ شخص لم يعرف من قبل شيئا عن القتل، ولأن المسافة واسعة بين الحياة الأولي، واليقظة الأخيرة، فان التنشيط يندفع فى عنف تخبطي، فلا يكتفى بإحياء القتل: وسيلة لتحقيق إلهام بقصاص عادل، ولكنه يـنـشــط معه-بحق الجوار ! -الجنس الغريزى الفج، والقتل العشوائى الجبان، وذلك نتيجة التوازن بين الداخل والخارج: فلا الداخل النشط-بغير مناسبة ظاهرة-قادر على ضبط الجرعة (جرعة الثورة للتكفير عن مسالمتـه للظلم وممالأته للجارى) ولا (الخارج) القديم بمستطيع العودة إلى السيطرة على الموقف برمته (بما فى ذلك ثورة الداخل)، فالمتغير الذى حدث ببداية حسنة الاتجاه (ومرعبة معا) سرعان ما غيـر اتجاهه إلى غير ذلك بلا قصد واضح، وبألفاظ أخري: إن التغير الذى فرضه الداخل بدا وكأنه حفز إلى أعلي، وإذا به يتردى (بمساعدة المنزول-ولكن ليس فقط بسببه ) إلى حيث لا يدري، وها هو صنعان يخرج فى الصباح لأول مرة فى حياته منذ صار صبيا دون صلاة (ص19)، ثم توغل فى حال يتعذر الهيمنة عليها (ص29)، فهو الجنون أو ما شابه فراح يخبط فى الظلام مشعث العقل (ص21)، ويمضى هذا التنشيط الغريزى الفج يسحبه إلى أدنى فأدنى تسوقه أخيلة معربدة (ص22)، وإذ يستيقظ الجنس البدائى المندفع، يفجر خياله إلى ما سبق حظره: إلى المحرمات دون موانع… وتذكر نساء من أهله شبعن موتا، فتمثلن له عاريات فى أوضاع جنسية، فأسف على أنه لم ينل من إحداهن وطرا (ص21).
إذن، فقد ثار الداخل (العدوان أساسا) نحو الخير من حيث المبدأ (قتل الحاكم الظالم)، ولكن من أين له بضبط الجرعة وتوجيه الدفــة ؟ ومع نشاط الجنس المحرم والشهوى بلا ضابط يندفع عدوان آخر ليقتل طفلة إذ يغتصبها ثم يزهق روحها رعبا ونذالة، فيجتمع الجنس والعدوان فى أدنى مراتب البدائية،.. فهو وجه الجنون القبيح.!
وهنا يصل نجيب محفوظ بحدسه إلى ما لم تصل إليه أى من العلوم النفسية إلا فرضا مجتهدا غير مقبول من أغلب المختصين، فهو يؤكد وجهى الجنون(7) معا، فبالاضافة إلى هذا التردي، يظهر الوجه الإيجابى بشكل مباشر.. ما طالبتك بشر قط (ص23)، ولكن أليس الذى نشـط الدفع نحو قتل الظلم هو هو الذى نشــط الجنس البدائى والقتل الجبان الهارب؟ نعم هو كذلك، ولست أدرى كيف استطاع الكاتب أن يلتقط هذة الحقيقة المعقدة، حيث لا يقتصر تنشيط المستوى البدائى للوجود على جانب دون آخر، كما لا يمكن ضمان التحكم فى مسار تنشيط أى منهما وخاصة حين يثور هذا المستوى فى سن متأخرة، وبعد حياة راتبة، نجح صاحبها فى اخفاء بقيته بتسكين دفاعى متزايد.
ولألتمس العذر مرة ثانية من القارئ، وأعيد سلسلة أفكارى (فروضى) بأسلوب آخر:
(1) صنعان الجمالى رجل هادئ، تاجر، فى منتصف العمر،
(2) خدر داخله ليواصل إنحرافا مشروعا (مثله مثل غيره)
(3) كان فى ذلك يمالئ الدنيا ويدارى الحاكم
(4) لم يثنه ذلك عن مواصلة العبادة وعمل بعض الخير الظاهر
(5) وفجأة: (بدون مقدمات ظاهرة) ثار داخلــه وقرر التكفير بمبالغة غير مفهومة فى الظاهر، إذ تــقـرر له أن يقتل الحاكم (خلاصا لروحه وللناس)
(6) بدلا من أن يتم التغيير فى هذا الاتجاه الخيــر، فوجيء صنعان أنه غير قادر على تحمل مسئولية الحقيقة أو الإلمام بأبعادها
(7) ثار فى نفس الوقت-مع ثورة الداخل-دافع الجنس المكبوت (نحو المحارم والأطفال.. الخ)، وكذلك ثار دافع الهرب الجبان قتلا وكذبا
(8) فى الجولة الأولى رجحت كفة هذه الدوافع فى صورتها السلبية دون قدرة من جانبه على كفها شعوريا بعد انهيار الكبت التلقائى (الآلى) فحدثت جريمة هتك العرض وقتل الطفلة.
وهكذا يتجاوز محفوظ نفسه، ويخرج من الصورة التى كان محبوسا فيها فى أول كتاباته حين كان يرسم المقدمات (الظاهرة) بحيث تؤدي-حتما-إلى النتائج المتوقعة، بشكل يؤكد معنى الحتمية السببية (النفسية)(8)وبعض النقاد لا يرتاحون الى هذا النوع من الحتمية الذى يطمئن مستوى معينا من القراء، ولكنه أبدا لا يفسر كل هذه الظاهرة البشرية، على أن محفوظ قد استطاع بكل جسارة أن يوصل إلينا أن رجحان كفة هذا التنشيط البدائى فى الاتجاه السلبى لم ينجح أن يلغى استمرار الاتجاه الإيجابى الذى ما نشط-أصلا-إلا ليحققه، فينقذ صنعان نفسه مرة أخرى إذ يواصل سعيه لإنجاز مهمته الأولي، فيؤكد الحقيقة التى قدمناها ويعلنها مباشرة بأنه: ليس هو مغتصب الطفلة فقاتلها.. إنه شخص آخر، القاتل المغتصب شخص آخر، نفسه تتمخض عن كائنات وحشية لا عهد له بها (ص23)، إلا أن إنكاره نفسه هذا لا يصح ولا يفيد، لأنه هو القاتل المجرم دون غيره، وفى نفس الوقت فهو أيضا كان التاجر الطيب الممالئ، ثم هو هو-أخيرا-القاتل العابد الأواب، وإنكاره القتل الجبان المجرم يعلن ضمنا رفضه أن يكون هو كله ليس سوى هذا الجزء القاتل، مجرد جزء من ذاته دون بقية الآخرين (داخله)، إذن فليواصل ليتعرف على الباقي، على بقية ناس الداخل، وخاصة القاتل العابد فيه، وما أشق ذلك.
إنها مهمة شاقة (ص27)، ويريد أن يتردد، ولكن إذا كان الذى أطلق دافع القتل العبادة هو رفض الاستمرار فى انحراف خفى لم يعد يطيقه (من داخل)، فإن قتل الطفلة قد أصبح دافعا جديدا إلى تكفير ألزم.. ولكنها (مهمة القتل العبادة) أسهل من قتل البنت الصغيرة ! (ص27)، بل لعلها أصبحت الطريق الوحيد للخلاص، ويحاول صنعان أن يعزو الجريمة إلى التنشيط البدائى لداخله (كما يحاول البعض أن يعفى المجنون من مسئوليته دون تحفظ)، فلا يجد أمام صدق الداخل إلى ذلك سبيلا، يقول لقمقام (9)مدافعا (ص28):.
– لولا اقتحامك حياتى ما تورطت فى الجريمة
فقال (قمقام) بوضوح
– لا تكذب، أنت وحدك مسئول عن جريمتك
وهذة رائعة أخرى من روائع محفوظ الحدسية، فهذا هو الجنون بعمق تناقضاته، وهذه هى المسئولية بعمق الوجود، وليس بمنطق الشفقة المزرية أو تبريرات القانون الوضعي، وإذا كان للجنون جانب تدميري، فجانبه الآخر ارتقائى بنـاء لو واصل المسيرة الفرصة متاحة ما زالت الحياة تتسع للتكفير والتوبة خلاص الحى من رأس الفساد وخلاص نفسك الآثمة (28).
وهكذا يتواصل الدفع، وتقام صلاة القتل فيتوكل على الله(10)ويقتل الظلم ويدفع الثمن، وهو لا ينجو هذه المرة كما نجا من الجريمة الحقيقية الأولى إلا ليتم الثانية التى تبدو أنها ليست جريمة أصلا بل قصاصا وصلاة، فيأتى بعد ذلك إعدامه جزاء الجريمة الأولي، واستشهادا فى الصلاة الثانية فى نفس الوقت، وهكذا يذهب بطلا-ولو رغم أنفه كن بطلا يا صنعان، هذا قدرك (ص34).
2– جمصة البلطى
قتل تكفـــــيرى آخر
وأحسب أن محفوظ قد انزعج – مثل انزعاج القاريء أو مثل انزعاجى على الأقل -من إقحام قتل الطفلة فى طريق خلاص صنعان (والناس)، فعاد يؤكد جانب العبادة فى القتل التكفيرى الهادف فى حكاية جمصة البلطي، وجمصة يتفق مع صنعان فى أمور مبدئية، منها: أنه-أيضا-من الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، (رغم مركزه فى السلطة)، فى قلبه موضع للعواطف، وموضع للقسوة والجشع (ص37) لا يوجد قلب فى الحى كقلبه فى جمعه بين الأسود والأبيض (ص43)، ولكن موقفه (تركيبه) أصعب من صنعان، فمهمته أثقل، فإذا كان صنعان قد ابتعد عن داخله بالانحراف التدريجى بالملاينه والاستغلال المستور أجل له علاقات مريبة مع كبير الشرطة، ولم يتورع عن الاستغلال أيام الغلاء (ص 28)، فإن جمصة البلطى هو سيف السلطة نفسها ذاتها، وحتى يواصل قهره للناس، فضلا عن قهره لنفسه، فقد كان عليه أن يحبس داخله فى قمقم، إذ لم يكن ليكفيه-مثل صنعان-أن يزيحه بعيدا عن الواجهه، وأن يسمح له بالتجوال المحدود فى أحلام غامضة، فالسلطة لها متطلبات قهر لايصلح معها نشاط داخلى معاكس أصلا، وجمصة حامل سيفها شخصيا، ولكن سبحان من له الدوام!!، حتى سيدنا سليمان يموت، فما هو إلا بشر، وجمصة السلطة يموت أيضا فى لحظة اختلاء بالذات مع ذكريات مؤلمة مؤنبة رباه.. هو الذى قبض عليه (على صنعان: جاره) هو الذى رماه فى السجن، هو الذى قدمه للمحاكمة، ثم ساقه أخيرا للسياف شبيب رامه، هو أيضا من علق رأسه بأعلى داره، وصادر أمواله، وطرد أسرته (ص37)، يتذكر ذلك وقد اختلت به نفسه: قطرات من الراحة فى خضم العمل الشاق الوحشي (ص37)، وفى نفس الوقت يمضى يؤكد مبررا اضطرار السلطة الى ما تفعل، فهذا هو قانونها الأول أليس السلطان نفسه هو من قتل المئات من العذارى والعشرات من أهل الورع والتقوى ؟ وما أخف موازينه (موازين جمصة) إذا قيس بغيره من أكابر السلطة (ص37)، إلا أن التبرير لم ينفعه طويلا، فما أن اختلت به نفسه حتى كان ما كان.. بغتة تحول وعيه إلى يده.. وتلاشى الغبار تاركا وجودا خفيا جثم عليه فملأ شعوره بحضوره الطاغي (ص38) ولا أكرر هنا كيف أن ظهور سنجام هو-مرة أخري-إعلان يقظة الداخل (فجأة)، انكسر الكبت (القمقم) وانطلق عملاق الداخل، ولم يتعجل هذه المرة فى إصدار أوامر القتل تحديدا، تركه لتطوره الجديد، فماذا يفعل؟
انطلق جمصة (سنجام) لا يصب غضبه إلا على الطغمة المستغلة للعباد (ص48)، وهو لا يدرى أنه هو، فأصبح صاحب السلطة على الناحيتين، هو من الطغمة الفاسدة، هو يسرقها عقابا لها استجابة لهواتف شريفة، ولكنها لعبة خبيثة ليس لها قرار، ففى النهاية: يمضى يطارد هذه الهواتف الشريفة كما تطارد الشرفاء (ص49)، ويتمنى أن يستمر التحايل على نفسه ليرسم خطة استيلاء أكبر، لكن داخله يقف له بالمرصاد تود أن تمكر بى لتحقق أحلامك الدفينة فى القوة والسلطان ؟ (ص50)، ويتركه انتظارا لترجيح تسخير هذه القوة الجديدة المنطلقة من قمقم الداخل الى خلاص نفسه وخلاص الناس ويصبح التغييرحتما محتوما، ولكن دون إملاء مباشر اذ يصبح القتل العبادة هو قرار العقل والإرادة والروح وليس قرار الشيخ العارف، عبد الله البلخى الحكاية حكايتك وحدك والقرار قرارك وحدك (ص53)، كما أنه ليس قرار العفريت الـمنطلق: لك عقل وإرادة وروح (ص50).
ولا يجد جمصة سبيلا إلى التنصل، من المهمة الملقاة عليه، لأنها واجبة، بل… بل هى هى قراره إنى أقوم بواجبي فوجه إلى عنقه ضربة قاضية، فاختلطت صرخته المذعوره بخواره، واندفع الدم مثل نافورة(11)(ص55)
وهكذا قتل الحاكم خليل الهمذانى بعد أن أطلق سراح الثوار جميعا..أفرج بقوته الذاتيه عن الشيعه والخوارج فى ذهول كامل شمل الجنود والضحايا جميعا (ص54)، ويتقبل قرار القصاص بشجاعة فائقة تختلف عن موقف صنعان الجمالى الذى أخذ يستنجد بعفريته دون جدوي، فهنا: القرار قراره هو جميعه، وليس مجرد تنفيذ لقرار صدر من بعضه، من داخل لم يلتحم مع بعضه البعض، وحين تحمل مسئوليته تماما وتوازنت الكفتان: أنقذ داخله من ذاته الظاهره، فأنقذ الناس ونفسه من الظلم، انعتق بالموت الأصغر ما قتلوا إلا صورة من صنع يدي (ص59) ليخلد بالاستمرار وسط الآخرين وفيهم (بأى صورة كانت)، فهنا معنى جديد للخلود، وتصنيف مبدع لأنواع الخلاص، فالخلاص الانتقامى المنشق عرضة للتخبط والتردي، أما الخلاص المسئول الإرادي، فهو لايأبه للموت ولايسجن فى ذات فردية محدودة، (12) بل يستمر فى أى صورة، تحت أى اسم.
فهذه خطوة جديدة فى تصعيد الرؤية الأعمق للمسيرة البشرية تقول: أن الإنسان حين يستجيب لداخله بصدق ومسئولية لا بانفصال وبدائية، لا يموت.. حتى لو مات.
3 – الحمال
تأكيد… و استمرار
وتأتى الحكاية الثالثة أضعف من حيث أن بطلها ليس هو الانسان الخير الشرير معا، المهلك نفسه الساعى للخلاص فى آن، لكنه الإنسان الذى تخطى هذه المرحلة ليقوم بدوره الإيجابى العادي (فى القتل أيضا)-و كأن نجيب محفوظ لايدعنا نتصور أن القتل حادث عارض، يخرج من داخلنا تكفيرا أو خلاصا فى ظروف محدودة، ولكنه يبدو فى هذه الحكاية الثالثة وكأنه يعلن القانون الطبيعى الذى يحقق التوازن بين ظلم الحاكم وعائد هذا الظلم، فها هو عبدالله الحمال يستلم العهدة من (نفسه) جمصة البلطى ليقوم بالقتل المنظم ومساعدة الثوار (ممثلين فى فاضل صنعان)، وهو يملك من قدرة التناسخ الكامنة ما يمنحه سلطه عادله، وهو يعلن أنه لا معنى للخلود (بشتى صوره) ان لم يكن لعمل جليل، وإلا فما جدوى المعجزة ؟ هل بقيت فى الحياة بمعجزة لأعمل حمالا؟ (ص67)، وحين يذهب يسترشد برأى الشيخ البلخى يرفض-ثانيه-أن يقوم عنه باتخاذ القرار، ويكتفى بأن يعلن له موقعه بين مقامى العبادة والدم (ص67)، وهو الموقف الكيانى الأصيل الذى يخرج منه كل منا..كل على قدر همته (ص68).
وعبدالله الحمال بصورته هنا يمثل تحديا لمحاولات النقد والتفسير، فهو ليس عفريتا، ولكنه أيضا ليس إنسيا، فهو يخوض تجربة لم يمارسها من قبل (ص62)، وهو يحقق ما ينبغى أن يحققه الانسان الفرد العادى وهو يمارس حياته فى طيبة لا تستبعد القتل احقاقا للحق، وهو لا يخلو من ضعف بشري يخلط عليه الأمور، فبعد أن يقرر ويختار طريق القتل العبادة بادئا ببطشة مرجان، يقتل ابراهيم العطار، ويتذرع لذلك-بأثر رجعي-بأنه كان يساهم فى دس السم فى أدوية أعداء الحاكم، ولكن الأمر لا يخلو من نوازع شخصية (إنسية).
وهنا يقفز تحذير هام، ومـمـن؟ من ثائر شاب كان المتوقع منه أن يكون أكثر اندفاعا و… وقتلا، ذلك أن فاضل صنعان يقول ليس الاغتيال ضمن خطتنا (ص78)، وظهور سنجام بعد تناسخ البلطى يؤكد الجانب الإنسي، لعبدالله الحمال، فليس ثمة وجود داخلى آخر إلا لمن هو إنسي، أى أن الإنسان هو وحده الذى يتميز بهذا التعدد والتناقض الحتميين، أما العفريت أو الملاك أو حتى الإله فكل منهم واحد صحيح، وهنا تبدو دقة الكاتب، وصدق حدسه، وهو يرتقى بالإنسان نحو الكلية والتفرد والتناسق الداخلي. ولكن دون أن يستسهل فيختزل الطريق إلى ما لا يكون على هذه الأرض، وهكذا يفيق عبد الله الحمال من شبهة عثرته بقتل إبراهيم العطار، ويؤكد استمرار مسيرته بقتل عدنان شومه كبير الشرطة.
تناسخ جديد:
ولست أدرى لم استسهل الكاتب عند هذه النقطة أن يبدله من عبدالله الحمال إلى عبدالله البري، هكذا بخبطة من خبطات العجائب المباركة، ولكن يبدو أن هذه الخبطة قد سمحت لعبدالله الحمال أن يستمر وفى نفس الوقت أن يعترف دون أن يـعدم، غير أن السهولة التى تمت بها هذه النقلة فكانت نهاية الحكاية المفاجئة بإرساله-فى صورته الجديدة-إلى دار المجانين، هذه السهولة قد تعلن وقفة إنهاك من الكاتب فى رحلة الغوص إلى كل هذه الأعماق، وهذا حقه على كل حال (وربما قدرته فى لحظة بذاتها).
وقبل أن ننتقل إلى المرحلة التالية، يجدر بنا أن نشير من جديد إلى اعتراض فاضل صنعان الثائر على هذه الوسيله (الاغتيال) حتى لو كانت لتحقيق العدل، إذ يبدو طوال الحكايات-رغم تبرير القتل/ العبادة من خلال ثورة الداخل (العفاريت)-أن الحل الفردى (الاغتيال) مشكوك فيه من البداية، حتى لو كان عبادة، ولكن ثمة تأكيدا أسبق يقول أن البادى أظلم فما ظهور العفاريت أصلا إلا لأن الظلم استشري: على الوالى أن يقيم العدل.. فلا تظهر العفاريت (ص75).
4 – نور الدين ودنيازاد
(حتى ) لعبة القدر ( لا تخلو من قتل إ زاحى )
ويزداد نجيب محفوظ تلطفا بنا، فيخفف عنا رؤيتنا لداخلنا: قاتلا يتأرجح أبدا بين العبادة والدم، ويتقدم نحو مرحلة وسطى من الليالي، تبدو وسطا بين مغامرة الإبداع الأعمق (الثلث الأول)، وبين الأسلوب التقريرى والتكرارى (الثلث الأخير)، وفى هذه المرحلة لا يتمثل داخل فرد بذاته له فى شكل عفريت خاص، بل تظهر العفاريت باعتبارها تمثل قانون الداخل عامة، قانونا لا يعرف قوانيننا، ولكنه ليس لا قانون على كل حال، فهو إذ يخل بنظام ما هو واقع محسوس يعلن أن المقادير تجرى بحسابات تفوق ظاهر معلومات وأحاسيس البشر وواقعهم المعلن، فكل من سخربوط وزرمباحة يمثلان الأمل والحدس العشوائي، وما هو قبل و بعد الواقع وبالرغم منه، ولكنهما لا يمثلان كل الداخل، بل يمثلان جانبا دنيويا أو لذيا أو حسيا مقترنا باتجاه عابث لدرجة الشر والأذى فى سخرية مفيقة. فهما يرسمان فى أول حكايات هذه المرحلة الوسطى لعبة عابثة تجمع بين دنيازاد (أخت شهرزاد) وبين نور الدين بائع العطور، تجمع بينهما فى حلم الواقع الآخر، وكأن نجيب محفوظ يريد فى هذه المرحلة من تطوره أن يؤكد فى أكثر من عمل على أن الحلم هو واقع أيضا، أو حتى أنه واقع قبلا. وهو حين يظهر الوجود الآخر فى شكل عفريت، يغامر بأن يعلن أنه حلم يجرى فى حالة النوم فعلا: (لما أخلد إلى النوم ليلا هيمن عليه الوجود الآخر، وسمع الصوت يقول متهكما… الخ) (ص27)، ثم إنه يذهب ليؤكد أيضا موقع الحلم من الجنون وثبت إلى الأرض، فاكتشفت عريها، أكتشفت حبها المسفوح… هتفت فى يأس: إنه الجنون….،…. ولاح لها الجنون كوحش يطاردها (ص94)، فحين يفرض الوجود الآخر نفسه حتى ليترك آثارا عيانية (الدم: من حبها المسفوح)، فإنه بذلك يعلن واقعا جديدا، ويفرض احترامه على الواقع الظاهر، بل إنه يحتويه إحتواء هل سمعت من قبل عن حقيقة تتلاشى فى حلم ؟ (ص98) (لاحظ التعبير: لم يقل عن حلم يتلاشى فى حقيقة) فالحلم هنا هو الأقدر، وهو الأصل (وهو الجنون من بعد أخر)، وهو المستقبل من ملك الحلم ملك الغد (ص12)، يؤكد على أن هذا كله هو عقل آخر، إنه الجنون نفسه… والعقل أيضا (ص112) فكما أن للحلم واقع فللجنون عقل (13)
وتمضى لعبة الحلم/الجنون/الواقع الجديد: فارضة نفسها ضد كل الحسابات، ولكن محفوظ لا يستطيع أن يواصل ملاطفة مشاعرنا التى أزعجها ما أثاره فينا من قبل حين عرى القتل داخلنا، فتفلت منه بارقة حل مرعب، يظهر فى شكل حل سافر يدبره الداخل وهو يتسلي:
- تسلية نادرة
-ترى هل تنتحر الجميلة أم تقتل
-الأجمل أن تقتل وينتحر أبوها (ص107)
هكذا، ببساطة، لا رفضا للظلم، ولا نكسة إلى بدائية جنسية عدوانية غير مميزة، ولكن ما دام هذا هو الداخل بقانونه الغامض، فليكن الحل بلا حسابات ولا منطق ولا هدف، وها هو القتل يتحرك مثل حركة الأمعاء، مجرد ظاهرة طبيعية تحل المشاكل عبثا أو تسلية أو مصادفة أو قصدا… لا يهم.
لكن ثمة داخل أيضا مواكبا يتحرك فى نفس الوقت، فيخيف العبث، ويخيف القتل نفسه، فيوقف المسخرة، فيعلن سخربوط خوفه من.. أن يتسلل الخير من حيث لا ندري (ص108)، فكما تسلل الشرإلى نفس صنعان من حيث لا يدرى فقتل الطفلة وهو الذى كان يعد نفسه للخلاص بقتل الظالم، كذلك قد يتسلل الخير هنا من حيث لا يدرى العبث الشرير.
وبهذا يؤكد نجيب محفوظ أن الوجود الآخر فى الداخل ليس شرا وليس خيرا، ولكنه حركة على طريق التكامل، يتوقف مسارها على أمور كثيرة فى الداخل والخارج جميعا، ولاتوجد ضمانات فى طبيعة تكوين هذا الداخل تحدد المسار وتطمئن من يطلق سراحه إلى ترجيح كفة على الأخري، ولعل هذه الحقيقة هى قمة مأساة طبيعة النمو البشرى الصعب.
وها هو الخير المتسلل-رغم أنف سخربوط وزرمباحة-يفرض نفسه بعد أن تتعقد الأمور وتنذر بكارثة، وبعد أن تقبل شهرزاد خطبة (فعقد قران) كرم الأصيل (المليونير) على دنيازاد، أملا فى دعمه للمجهود الحربي!! ويقترب موعد الزفاف، إلا أن ثلاث مصادفات تحدث ترجيحا لكفة الخير:
1- يقابل عبد الله المجنون بعد أن أطلق سراحه سحلول(14) من دار المجانين بشق نفق عجيب، نور الدين، فيثبـت أقدامه ويكسر يأسه
2- ويقابل شهريار فى تجواله السرى نور الدين فيحكى له حلمه/حكايته، فيعده بتحقيق الحلم واقعا (ما دام واقعا)
3-ويقابل عبدالله المجنون دنيازاد بعد هروبها للانتحار ثم عدولها عنه فيرجعها إلى نور الدين، ويقرر السلطان أن يفى بوعده، إلا أن نجيب محفوظ لا يدع النهاية تسير بسلام!، وإنما يسارع بإزهاق روح كرم الأصيل بيدى عبد الله المجنون الذى يسارع بدوره ! بالاعتراف بجريمته فيحميه جنونه من القصاص، ولا يصدقه أحد، وكأن محفوظ لم يعجبه أن يترك حكاية تمضى بلا قتل، ربما من باب الجمال الدموي (!!)
فى هذه الحكاية-كما قرأتها-عدة حلقات لم أستطع أن أتبين تماسكها مع ما حولها، أو ضرورتها أصلا، فتكليف سحلول-وهو الذى أعلن الكاتب صراحة عن هويته- ولكنه ملاك، نائب عزرائيل فى الحي (ص80)، وكذلك أنت ملاك الموت (ص227) بإخراج عبد الله المجنون من دار المجانين يبدو بلا مبرر خاص، فهذه مهمة ملاك الحياة، لاملاك الموت، ولا يصح أن نعتبر عبدالله المجنون فى عداد الموتى فيصبح إنقاذه من اختصاص ملاك الموت، كما لم أتقبل أن يكون ملاك الموت قد أنقذه بالموت، وأن من قام بالدور بعد ذلك هى روحه، وليس هو، فعبد الله يدور حول محور الخلود، وهو نفى لموته (مرحليا على الأقل).
كذلك كان ظهور عبدالله المجنون -رغم كل ما يمثله- ظهورا ثانويا فى هذه الحكاية، فرغم أنه قد ساهم فى حل العقدة، الا أن المصادفة بدت أقل من دوره كثيرا، ولكن يبدو أن محفوظ قد اختار للمجنون دورا جديدا بدءا من هذه الحكاية وحتى نهاية الليالى حيث يظهر عادة عند لحظة الحسم حلا للمأزق، وخاصة حين يستعمل معرفته الغائرة لإحقاق الحق، ثم هو يظل يحوم حول مشاعر الناس (وفى ضمائرهم)، وكان لابد له إذن من إطلاق سراحه ليقوم بدور الحاضرالغائب أبدا.
وأخيرا، وكما أشرت، فإن قتل كرم الأصيل بيد عبدالله المجنون لم يكن له مبرر كاف، لا من الداخل ولا من الخارج، فقد كان بوسع السلطان أن يفرض عليه الطلاق مثلا..
ولكن لعل ما غاب عنى دلالته أو أهميته هو ناتج عن إصرارى على محاولة أن أرى الحكايات كلها فى وحدة ما، وهذه مغالاة لا أعفى نفسى من مسئولية المخاطرة بها.
5– مغامرات عجر الحلاق
العجز عن القتل
ثم تأتى مغامرات عجر الحلاق لتعلن جانبا آخر من طبيعة الوجود البشري، حين يعجز الانسان عن القتل ابتداء، بكل صوره: القتل فى الحلم، القتل للخير، القتل للشر…،هو عجز عن العدوان إذن، بل هو عجز عن الإقدام أصلا، فهل يعنى ذلك أنه إذا نجح إنسان أن ينفذ بجلده من حفز داخله الى هذا الاتجاه القاتل، أنه نجا بنفسه؟ أبدا: بل لعل بدائل القتل أبشع منه، ربما لأن أغلبها أدنى وأخفي.
عجر الحلاق طفولى عريق (ص125)، يحب النساء، فتأتيه الفرصة حتى قدميه من دعوة غامضة، فيمضى إليها غير عابئ بتحذير المجنون عقلك فاسد فلا تطاوعه (ص126)، ويعيش حلمه الفاجر فى حضن جلنار ليلة كل أسبوع، وتتفتح شهيته للجنس والأكل ( دون القتل) ولا-يكتفي-طبعا-بجلنار، بل يزوغ بصره الى أختها زهريار(15)، وسرعان ما يتورط-بعد خيانة جلنار مع شقيقتها.. بتدبير منها كما سيتضح- بأنها مقتوله بجانبه، فيدفنها فى حديقة دار اللهو بعد أن يسرق عقدا ثمينا كانت تتحلى به، وهنا يحدث تقاتل بين المجنون وبينه، وهو يتهم المجنون (محدثا الطبيب المهينى) بأنه قلبى يحدثني الآن بأن هذا المجنون قاتل خطير (ص130)،إن ظهور المجنون، ورفض عجر له، لا يعنى أنه لم يحرك ما يقابله فيه، يقول المجنون لعجر لا يدعونى الا أمثالك يا جاهل.. (ص130)، وهذا ما يؤكده الطبيب من أن ظهور الجنون هو إعلان لعجز العلم المتاح عن الإلمام بأبعاد الجاري، فهذه إضافه لدور الجنون المعرفي، يقول الطبيب أنه (المجنون) يدعى عادة إذا عجز علمنا عن الخدمة (ص130)، فليس المجنون هو القاتل لأنه مجنون، ولكن القتل جزء من طبيعتنا مع اختلاف صور التعبير ما أكثر القتلة يا عجر المهينى (ص131).
إذن، فقد تحرك فى عجر شيء ما رغم أنه لم يقتل، ولا يستطيع أن يقتل.. ولن يألوا أن يذكر نفسه بأنه لم يرتكب طيلة حياته جريمة قتل، هيهات، ولا قتل دجاجة مما يستطيعه (ص133)، ومع إعلان العجز عن القتل، يعجز عن الجنس والطعام والشراب أطبقت الكآبة متجسدة وران الاحباط على الطعام والشراب وجفت ينابيع الرغبة (ص132)، لكن ما تحرك تحرك، ومضى يتلصص ويتجرأ حتى خطب حسنية صنعان، يعتذر فاضل شقيقها، فيواصل هياجه الجنسى خاض فى أجساد العذارى كالمراهقين (ص134)، ويقع فى حب قمر أخت حسن العطار، بلا طائل، وفى ضربة مصادفة يجد ما تحرك فيه سبيلا للتفريغ والظهور، وبعد أن شارك مقتحما فى سهرة جمعت زبائنه بما فيهم مهرج السلطان شملول الأحدب تقع جريمة القتل (مع وقف إزهاق الروح) فى صورة شرب وضرب، ويتبرع عجر أن يقوم عنهم بالدفن والإخفاء، ثم يكتشف-بمساعدة المجنون-أن الجثة حية، فيخبئها فى بيته، ويمضى فى ابتزاز زبائنه، ويتصاعد الطمع بلاحدود، وبظهور شملول الأحدب، بمكيدة من زوجة عجر التى غارت من زواج عجر الإرغامى بقمر العطار- يقع عجر فى مأزق عجز جبان جديد، لكن طمعه لا ينتهى فيسوقه حلم السلطة إلى مشاركة جماعة يلتقى بهم عشوائيا وهم يسيرون مقبوضا عليهم من الثوار، يفعل ذلك بإيحاء من سخربوط (طمع جديد) وبأنهم سيتولون القيادة !! إذ تنكشف الخدعة ويضبط عـقد القتيلة-مصادفة-حول وسطه، ويكاد يـعدم لولا تدخل المجنون لدى شهريار ليعلن الحقيقة، وتنتهى الحكاية هذه النهاية السطحية(16) التى يقوم فيها المجنون بدور الضمير المنقذ.
ومع ذلك، فما هو مناسب لمحور قضيتنا هنا كما قرأتها يقول: إن العجز عن القتل ليس فخرا وليس فضلا، وبالتالى فشتان بين العجز عن القتل وبين الامتناع عنه، وبين توجيهه وبين إطلاق طاقته فيما هو أبقي، كما يعلن أن تحريك القتل فى الداخل-دون قتل فعلى إذا اتخذ مساره السلبى ظهر فى صورة جشع مكافئ له، يستغرق صاحبه فى لذائذ حسية وسلطوية، لابد وأن تقضى عليه مع تصاعد أطماعه بلا حدود.
ولا يستطيع أحدنا أن يتعاطف مع عجر الحلاق الذى لم يقتل ولا دجاجة، فى حين أننا نستطيع أن نتعاطف مع صنعان الجمالى نفسه رغم أنه هو قاتل الطفلة البريئة بكل بشاعة. هو الإبداع !!!!
6– أنيس الجليس
سحر الدنيا… وعفة الجنــون
فى هذه الحكاية، تتمثل الدنيا فى فتنة لا يقاومها عاقل فتتجسد فى صورة أنيس الجليس، وتنجح فى إغواء كل من يقترب منها دون إستثناء، والدنيا فى داخلنا ابتداء، وهى التى تسبى عقولنا وتستدرجنا إلى الهلاك الظاهر، وفى مقابلة بين زرمباحة و سخربوط من ناحية وبين سنجام -فى حضور قمقام -من ناحية أخري، ينشأ ما يشبه التحدى بين الدنيا و الهدي بشكل يدفع زرمباحة-بتدبير وموافقة سخربوط-إلى الإقدام على هذه المغامرة، فيقع فى حب الدنيا كل الناس، من أول عم ابراهيم السقا حتى شهريار نفسه مارين بيوسف الطاهر و حسام الفقي، ثم بعد أن يقتـل الأخير الأول بسببها (جريمة قتل جديدة) يخيل للقاريء أن السحر سيهدأ لكنه يطغى ويستمر ليوقع بيومى الأرمل الذى ما فتيء يأسف على صديقه القديم حسام الفقي وهو يحاكم بسبب جريمته، ولكنه يمضى فى غوايته. لا يتعظ حتى يضبط فيتهم الجنون السلبى فى داخله اغتاله المجنون الذى حل في (ص166) (شتان بين هذا الجنون(17)، وبين جنون عبدالله البري!)، وتواصل فتنة الدنيا إغارتها فتوقع المعين بن ساوي وتضرب له موعدا يتبعه موعد آخر مع الفضل بن خاقان (كاتم السر) ثم سليمان الزيني… حتى نور الدين (عديل شهريار وزوج دنيازاد) والسلطان نفسه ووزيره الحكيم دندان وفى تسلسل قديم جديد تحبسهم الدنيا عراة الواحد تلو الآخر فى أصونة تعدها للبيع فى المزاد، وهنا يظهر المجنون ليتحداها، وهو الوحيد الذى ينجح فى أن يواجه سحرها حتى تختفى دخانا بلا أثر، ويدفع الرجال ثمن تكالبهم عليها خزيا أمام أنفسهم دون الناس: بما ينفعهم ولا يضر العباد(18)
وقد بلغت المباشرة فى هذه الحكاية مبلغا لم يكن الكاتب - فى ظني- فى حاجة إليه، فهو يصف أنيس الجليس بصفات الدنيا كما هى شائعة عند الجميع، فهى ساحرة فاتنة، تحب الرجال، لا يرتوى لها طمع… لا يستأثر بها أحد ولا يزهد فيها أحد (ص159)، ثم فى موقع آخر إنها القدر الذى لا ينفع معه حذر ولا ينتفع لديه بمثال (ص165)، وهذا يفسر أنه حتى نور الدين بعد ما تحقق حلمه فى زواج دنيازاد بمعجزة طيبة، وشهريار وهو فى موقفه الجديد من المراجعة والتعلم ومحاولة التكفير، ودندان والد شهرزاد الوزير الناصح، لم يسلموا من إغرائها (الدنيا)، إذ لو كانت الشر فقط، أو الجنس، أو الحس فقط، لأعفى الكاتب نفسه من أن يجمع تحت لوائها كل الناس خيرين وأشرارا، مجتهدين وفجارا، واحد فقط هو الذى استطاع أن يبطل مفعولها هو المجنون، لم تسكره لأنه سكران بالحقيقة رأسى مليء بالدنان (ص170)، ولأول مرة لا يحدث وجهها أثره ثم مباشرة إنه فتنة ولكن للعقلاء لا للمجانين.
وهذه مخاطرة من الكاتب حين يصور قوة الجنون بهذه الإيجابية، بعد أن صور ثورة الداخل بشقيها، حتى قمقام وسنجام (خير الداخل) لم يسمح لهما بالتدخل المباشر لصالح البشر لماذا لا يسمح لنا بمساعدة الضعفاء؟ (ص161) جاءهم الرد جاهزا وهبهم الله ما هو خير منكم، العقل والروح(19)(ص161)، لكن العقل تـفتنه الدنيا، هكذا تقول هذه الحكاية، فكيف يكون الجنون هو الوقاية الوحيدة من سحر الدنيا؟
قد يمكن تفسير ذلك بأن جانبا محددا من الجنون يجعل صاحبه زاهدا بالضرورة ولكنه للأسف إنما يحقق الزهد بما يشبه العجز لا بما هو استغناء أو رضا: اللهم إلا فى الجنون الذى هو ليس جنونا، وهذا مأزق الكاتب، فالبدايات واحدة، والأسماء واحدة، والكاتب مضطر لأن يعلن رؤيته فى كل لحظة على حدة، ليكن، ولتكن دعوة لأن نحتمى بالدنيا ولو بالجنون شريطة أن نكون مسئولين عنه، قادرين على قوانينه الأخرى مرجحين إيجابيات مسيرته دون غيرها. ولكن، ما هو موقع هذه الحكاية من مسألة القتل بين مقامى العبادة والدم؟
لم أجد علاقة مباشرة، فلم أحاول أن أفتعل علاقة مصطنعة، إلا أن للقاريء أن يتساءل معى عن هذا الإلحاح الذى يلح على نجيب محفوظ حتى لا يدع حكاية دون جريمة، فلو أن حسام الفقي-مثلا-لم يقتل يوسف الطاهر لما تغيـر السياق كثيرا، كما أن ما ورد فى الحوار بين حسام الفقى (القاتل) وبيومى الأرمل-كبير الشرطة-من أنها ليست سوى قصة قديمة يستدفئ بها العجائز: قصة الحب والجنون والدم (ص162)، يذكرنا هنا بالعلاقة الوثيقة بين الجشع الدنيوى حتى التقاتل من أجل اللذة (بأشكالها: الجنس و السلطة والمال)، وبين تحريك العدوان فى الاتجاه السلبي. وفى موقع أخر أثناء مساءلة كبيرالشرطة لأنيس الجليس عما يفعله الرجال عندها، فتجيب أنهم انما يتحدثون فى الشريعة والأدب يجيبها عليك اللعنة، ألذلك أفلسوا وتقاتلوا؟ (ص164)، فكأن الكاتب يذكرنا، ولو فى أرضية الحكاية، بأن تحريك القتل فى الاتجاه السلبى ! إنما يواكب حب الدنيا، وهو فى نفس الوقت يسخر من عقلنة ولفظنة من يدعى أن الحديث فى الشريعة والأدب هو ضد الإقتتال على الدنيا، بل لعله-إذا أفرغ من جوهره-هو فتنه أخرى أخبث وأضل.
وأخيرا، فإن نشاط سحلول رجل المزادات، ومندوب الموت كان مفرطا وهو يحوم حول الضحايا الموشكين على الافلاس، وترجيح هذا الجانب من دوره على حساب الموت الذى يمثله سطــح أكثر فأكثر من دوره، وجعلنى أواصل رفضى له، مع أنه كان يمكن أن يكون الموت هو المقابل المتحدى للدنيا، أو أن يكون الترياق المفيق من سحرها وفاعليته الإيجابية (أعنى فاعلية الوعى به) وهى أكثر من فاعلية الجنون حتما فى هذا الصدد.
7 – قوت القلوب
قتل مع وقف إزهاق الروح
ووسط هذا الجو اللاهث حول الحب والجنون والدم، تطل علينا حكاية ليس فيها إلا شروع فى قتل، حيث تم إحياء القتيله قبل طلوع الروح وشتان بين هذا الذى كان لقوت القلوب (جارية الحاكم سليمان الزينى) التى دبر قتلها المعين بن ساوى بناء على تحريض من جميلة زوجة الزيني، وبين إحياء شملول الأحدب مهرج السلطان فى حكاية عجر الحلاق، كذلك شتان بين فتنة قوت القلوب الهادئة الحزينة وبين سحر أنيس الجليس الطاغى المدمر، حكاية قصيرة، لم تخل من قتل، وإن كان الحب قد أنهاها نهاية وديعة بالعفو وعرفان الجميل، كذلك كان إدخال شهريار ودندان فى الحكاية حشرا ليس له دلالة كبيرة.
وقد خيل إلى أنه بدءا من هذه الحكاية وإلى نهاية الليالي-فيما عدا طاقية الاخفاء-خيل إلى أن حدة الإبداع بدأت تفتر، حتى أصبحت الحكايات أقرب إلى الليالى السلفية، حيث نجد فى مفاجآتها أنس الحكاية وطيب النهاية، أكثر مما تعرضنا لتعرى الداخل وتناقض المسار والنهايات المفتوحة.
8 – 9 – علاء الدين أبوالشامات، و السلطان
مقام الحيرة بين مذهب للسيف، ومذهب للحب
القتل فى هذه الحكاية مؤلم غاية الألم، هو استشهاد بلا شك، فالمقتول بريء، والقاتل فاجر كاذب متسلط، لكن من يقرأ الحكاية ويرى كيف رجـح علاء الدين (إبن عجر الحلاق) مذهب الحب، فاتــبع سبيل شيخه عبدالله البلخى حتى زوجه الأخير ابنته، ثم فجأة يـحاكم بلا جريمة، ويقتل بلا ذنب، من يراجع هذا التسلسل لابد وأن يعتصر قلبه الألم الحاني، لكنه ألم قديم عادى، مثل ما يثيره القصص القديم، افتقدنا فيه التكثيف الرائع لتضارب الداخل، كما كثرت حوله الحكم والمواعظ(20) وقصص الصوفية المعادة(21)، كما تكرر فيه النقاش الذى يدور حول دعوة الثورة العنيفة التى يمثلها فاضل صنعان، ودعوة الإصلاح المسالم التى تميل إليها نفس علاء الدين، أى بين من يمثلون جنود الله، ومن يمثلون دراويشه (ص196)، بين سيف الجهاد… والحب الألهي (ص201). جسدت هذه الحكاية حيرة علاء الدين من البداية للنهاية ولكنى دائر الرأس فى مقام الحيرة (ص186)، إنى فى مقام الحيرة (ص195)، حقا إنى لفى حيرة (ص201) ولم يـنــه علاء الدين هذه الحيرة باختياره، وإنما بناء على رأى شيخه-ولو غير المباشر- بأن يسلك طريق الحب.، وما إن فعل حتى قـــتل.
لتنتهى الحكاية بأنه ربما يكون قد نجــاه الله من الموت بالموت (ص202).
ماذا يريد أن يقول لنا نجيب محفوظ بهذا القتل الجديد؟
أيريد أن يقول إنه لو لم يـقتل علاء الدين هكذا لكان ثمة احتمال أن اختياره لمذهب الحب (دون مذهب السيف) هو موت أخر؟
ولكن رمز الحق والحقيقة-الشيخ البلخي-هو الذى شجعه على ذلك حتى خطبه لابنته، كما أن الرواية التى أوردها الكاتب فى نهاية الحكاية -على لسان البلخي-هى رواية غاية فى السلبية، لدرجة أعترف بأنها نفـرتنى بلا موعظة.
وأخيرا فإن التحيز لمذهب السيف (الذى يمثله فاضل صنعان) قد انهار بشكل أو بأخر حين تشوهت صورة صنعان بمجرد أن استطاع أن يستر ذاته الظاهرة عن عيون الآخرين (بطاقية الاخفاء) فاذا به يتورط فى إطلاق عدوانه، فجنسه، فجنونه الفج، بلا رادع (أنظر طاقية الأخفاء).
إذن ماذا ؟
حكاية أخري، غلب عليها الأسلوب التقريرى من جهة، وأطلت منها ألف ليلة القديمة من جهة أخري، رغم ظاهر حداثة مقام الحيرة بين مذهبى السيف والحب.
القصاص:
ويبدو أن نجيب محفوظ قد استاء مثلما استأنا من هذه النهاية الماسخة، فسرعان ما ألحق بها حكاية إصلاحية قصيرة، ما كان لها أن تستقل أصلا، فوظفها توظيفا مباشرا لينال الظالم جزاءه، ومن خلالها-على أى حال- رأى شهريار نفسه فى مغامرة إبراهيم السقا (22)التى تنتهى بأن يدرك السلطان الحقيقة فيأمر بتنفيذ حكم تعلمه من السقا: فيقتل ثلاثة، ويعزل اثنين، مع مصادرة أملاكهما.
وبهذا القصاص العادل الماسخ يتأكد تراجع نجيب محفوظ من الجريمة المفككة التى قدمها فى حكاية علاء الدين.
وقد لاحظت-أيضا-أن دور المجنون أخذ يتوارى فى ضباب الأحداث المهزوزة، فمرة يظهر فى حلم علاء الدين ينصحه بأن يترك لحيته شبكة للصيد، ولكن هذه النصيحة لا يتولد منها شيء، ومرة يــنذر درويش عمران بمصير سلفه كبير الشرطة المعين بن ساوي، ثم يفد على فرح علاء الدين بلا دعوة، ولم أكن أتوقع من النسيج المحكم لشخصية المجنون فى بداية الليالى أن يتسع ليسع كل شيء بهذه الصورة.
10– طاقية الأخفاء
ماذا لو خلعنا القناع(23)؟
وفجأة، يعود نجيب محفوظ إلى نشاطه الإبداعى المزعج.
وهو يجعل ضحيته هذه المرة رمز الثورة طوال رحلة الليالي: الشاب اليقظ الأمين، الجاد الغاضب فاضل صنعان، والكاتب لم يتوان فى إعلان ما يمثله فاضل، حتى قال عنه سخربوط ساخطا فى أول هذه الحكاية إنه مثال حى للعمل المفسد لنوايانا وخططنا (ص211)، وقد عرفنا ما هى نواياهم وخططهم من مسخرة طفلية، وتعرية فاضحة، ودنيا لاهية، ومجون لذي، وشر محاك، ولم أستطع-بسهولة-أن أهتدى الى ما دفع نجيب محفوظ لإستعادة نشاطه الابداعى فجأة قرب النهاية بعد أن فتر حتى التخلخل، إستعادة بهذه الصورة المزعجة من جديد، وكيف تجرأ أن يـعــرى فاضل صنعان هكذا.. فيفجعنا فى حلم طيب.
هل هو حبه المجرد للحقيقة حتى على حساب مقدمات واعدة ؟
هل هو رد شخصى على بعض حماس صغار الثوار أحاديى النظرة؟
هل هو تنبيه لخطورة الفضيلة الظاهرة المستمرة ما استمر رأى الناس ورؤيتهم فى دعمها – يريد بذلك أن ترجح كفة الفضيلة التلقائية-الفطرة النامية ؟
لعله كل ذلك. تقول هذه الحكاية إن الاختبار صعب، وإن أى واحد منا: حتى لو كان فاضل صنعان نفسه، لو لم يراع الناس ورأيهم، مطمئنا إلى فطرة خام، فلا ضمان للسلامة أو للنقاء. وحين عرض هذا العرض عفريت صنعان فى صورة طاقية الاخفاء زاد الامتحان صعوبه حين اشترط عليه ألا يفعل ما يمليه عليه ضميره، فاذا تذكرنا أن الضمير ما هو الا ناس الداخل يراقبوننا كما يراقبنا ناس الخارج، لأمكن أن نفهم أن الامتحان كان لاختبار الفطرة الأولى خالية من كل تطوير أو تأثير، حتى أثر الضمير.
لكن الفطرة الأولى لا تعيش فى فراغ، فظروف الخارج وطول الحبس يفعلان فعلهما حتما، ثم ما هى تلك المساحة التى تقع بين ما يحث به الضمير وما لا يضر الناس، يقول له عفريته وبين هذا وذاك أشياء كثيرة لا تضر ولا تنفع (ص213)، فأى فطرة تلك التى لاتضر ولا تنفع، فهى لعبة تشويه لا محالة، وهذا ما جعل سخربوط يثق من نهايتها، حيث لا مسار لحرية مطلقة: بلا ناس ولا ظاهر يحاسب عليه صاحبه، ولا مسئولية، إلا نحو الهاوية.
وقد كان: فسرعان ما بدأ الميل بزاوية صغيرة، لكنها محسوبة (من مانح طاقية الاخفاء بشروطها): ثلاثة دراهم لا أكثر من درج قصاب، ودين يرده فى ميسرة، ويستر به فاضل عن آل بيته لعبه طول النهار، ولكن هكذا يبدأ الانحراف أبدا، زاوية صغيرة ومأزق فــتبرير، ثم تظهر فرصة لتأديب شملول الأحدب الذى سخر من فاضل فى غيبته، (وهو حاضر لا يراه)، فيسكب على رأسه الكركديه وتتواتر المناظر القديمة بنفس الصورة التى يذكرها حتى من شاهد الفيلم المصرى القديم.
لكننا نقترب سريعا من قضيتنا-القتل- إذ سرعان ما يظهر القتل نشطا بشعا، ليذكرنا بخطورة إطلاق سراح العدوان الفردي، (حتى لفعل الخير مخالفا الشرط) دون قانون أو ضابط، نفس القضية التى بدأت بها الليالى (خلاص صنعان الجمالي-والد فاضل-بقتل الحاكم).
فها هو الإبن يقتل بريئا أيضا، وها هى روح توأم شاور السجان تــزهق، وفاضل يحسب نفسه أنه يعمل عملا بطوليا ناسيا أن شاور نفسه ليس إلا منفذا لأوامر السلطة، وناسيا فى نفس الوقت (أو متناسيا) العهد الذى قطعه على نفسه مع سخربوط باعتبار أن قتل السجان من عمل الضمير، ولو كان كذلك لقفز له الوجود الآخر يمنعه، وبعد تمام الجريمة يفاجأ فاضل أنه إنما قتل بريئا.
وهكذا تتدهور الحالة من السرقة- للسخف-للجريمة- فيسقط فاضل صنعان فى الهاوية، ويعود القتل يضطرم، أطلقت سراحه من جديد صحوة نجيب محفوظ قبيل النهاية، فيعدم بائع البطيخ بتهمة قتل توأم شاور، وينفتح باب الجنون الأحمر (ص217)، فيجر وراءه الجنس الفج الذى كان مختبئا وراء الكتب والالتزام وثوب الفضيلة وخطب الثورة.
وحين يضاجع فاضل-بفضل الطاقية-قمر أخت حسن العطار، وقوت القلوب زوجة سليمان الزينى (التى تزوجته باختيارها بعد إنقاذها)، يعود محفوظ ليخلط الحلم بالحقيقة، مثلما سبق أن فعل مع نور الدين ودنيا زاد، ولكن بدناءة بشعة هذه المرة، فيجعل استقبال المرأتين لهذه المضاجعة فى حلم، كانت اثارة ملموسة، ساقت كلا منهما إلى الموت بعد أن تماثل لهما كل على حدة، خافتا الفضيحة، فكان الموت بالسم البطيء، إلا أن قرارهما معا نفس القرار، وشعورهما بنفس المشاعر، وذكرهما-قبيل الموت-لنفس الأسم، قد يوحى بدور خبيث قاتل لفاضل وهو مخفى عن العيون يدس لهما السم تدريجيا وهو يعاود اللعبة الدنيئة، لكن الأمر ليس واضحا وما كان ينبغى أن يغمــض هكذا دون مبرر.
ويمضى فاضل يترحم على نفسه كأنه مات، بل لقد اعتبر نفسه ميتا مادام لم يعد هو ظاهرا ظاهـره، فلم يبق له إلا أن يواصل لعبته الدامية الوحشية، فلا يخلو الأمر من تحريض سخربوط لقتل المجنون والشيخ البلخي، فهما الوحيدان القادران على حدس السر واختراق الحاجز، ومن يعرف أكثر هو العدو الأكبر، وحين يبلغ الطبيب المهينى كبير الشرطة أن قمر العطار وقوت القلوب ماتتا مسمومتين بعد أن نطقتا اسم فاضل صنعان بتقزز ورعب من يذكر مغتصب دخيل، يقوم كبير الشرطة بالقبض عليه فيهرب بالطاقية ليصبح فى عداد الموتى فعلا، إذ يستحيل عليه أن يظهـر خوفا من الإعدام.
وهنا نتذكر طريقة إختفاء جمصة البلطى ليتناسخ فى عبد الله الحمال بالمقارنة باختفاء فاضل ليستمر فى ظلام الدم والدناءة، ولا يجد فاضل ما يكسر به وحدته الجديدة إلا المضى فى سبيل المسخرة مخمورا باليأس والجنون، ولا يدفع ثمن عبثه وجرائمه إلا صفوة زملاء الجهاد والثورة، حيث يقول المفتى ولا أتهم الا الشيعة والخوارج (ص224)، ويخطر على باله-تكفيرا-أن يهرب أصدقاءه القدامى فى غفلة من صاحب الطاقية، فيظهر له سخربوط مذكرا بالشرط، ولاينفع خداعه بادعاء أن تهريب أعداء الدين ليس من أحوال الضمير، فهى حيلة لا تجوز، وبعد تهديد ونجاة كالهلاك، يضطر صنعان للإفاقة النهائية فيلقى بالطاقية بعيدا ليمضى إلى مصيره بإباء واستعلاء، ويلقى ربه لا يرجو إلا العدل.
حكاية سريعة النقلات حافلة بالجرائم والصراع الداخلي، وورودها بعد أن هدأت حدة القتل والعذاب يمثل صدمة جديدة للقاريء، وتشويهها لفاضل صنعان بالكشف عن داخله هكذا.. يمثل صدمة أخرى فيما يمثله، ومحفوظ يكاد بذلك يضرب فكرة التسامى الفرويدية حيث الحضارة والفضيلة-عند فرويد، هى تسامى بالغرائز، فإذا كان هذا التسامى يخفى وراءه كل هذا القتل والجنس والدناءة، فهو موقف مهزوز يكتفى بصورة خارجية تحمل مقومات الزيف مهما بدت براقة، والبديل عن التسامى الذى لم يشر إليه محفوظ هو سمو تكاملى، يستوعب القتل لا يخفيه ولا يكبته، والفرق بين السمو، والتسامى هو هذا الخيط الرفيع بين التمثل الواعى والكبت التلقائي، ولكن هذا موضوع آخر.
وعلى أى حال فالكاتب يعلن بهذه الحكاية أنه لا يكفى للفرد منا أن يحسن وجهة الظاهر (الفاضل-الثائر) وأن يفرح بكبت ما دون ذلك، حتى إذا ما سنحت الفرصة، فى الظلام، انطلق داخله المكبوت فى صورة… الاغراء محطما قمقمة عن شهواته المكبوته(24)(ص226).
وقد استبعدت- بعد أن خطر ببالي- أن يكون محفوظ قد قصد عامدا أن يشوه بذلك صورة بعض المتشنجين من أشباه الثوار، ردا شخصيا على بعض الهجوم عليه، فقد رجع فاضل إلى أصله النقى بمحض إرادته لينال جزاءه بنبل يجعلنا نثق فى محاكمته العادلة بعد الموت رغم كل الضحايا.
خلاصة القول إن حكاية طاقية الاخفاء قد أرجعتنا إلى قضيتنا الأولي، وهى تــظهر القتل هنا دما خالصا، وحلا فرديا عابثا بشعا، وأن سبيل فاضل صنعان الأول حين كان مع الناس وبالناس ملتزما فاضلا كان هو السبيل الأسلم، ولو على حساب داخله الفج، حقيقة أن ثمة تكامل من نوع آخر مأمول وممكن، إلا أن الفضيلة الظاهرة خير من الفطرة العشواء الضاربة فى الظلمة بلا رادع أو قانون، والضمير ضرورى حتى ولو كان يمثل مرحلة ضبط مؤقتة يحل محلها باضطراد النمو الخير التلقائي، وهكذا يلقى الكاتب فى وجهنا تحديا جديدا، أصعب وأخطر.
11– معروف الاسكافي
القدرة الخارقة، والبطولة بالصدفة
مرة أخري-رائعة-يؤلف الكاتب بين الحلم والواقع بصورة جديدة تعلن أن المهم فى الحلم أن يصدقه صاحبه ويصدقه الناس فتقع المعجزة، حتى وإن لم يكن إلا طيفا يظهر لحظة ويختفي، وهو بذلك يتفوق على الليالى القديمة فيما يتعلق بخاتم سليمان، وكما تقدم خطوة بطاقية الاخفاء، يقدم لنا أثر الخاتم، دون الخاتم، فنعيش أثر اليقين بقوة الحلم دون أن يكون الحلم مسئولا مباشرا طول الوقت عن نتائجه، أى انه يعلمنا أن الأحلام انما تتحقق بتصديقها لابفاعليتها الذاتية، وقاريء هذه الحكاية لابد وأنه قد انخلع قلبه-معي-وهو يعلم أن الحلم (المعجزة) لم يظهر إلا مرة واحدة وبـمحض الصدفة، وأن معروف عاش آثارها الطيبة عليه وعلى صحبه من الفقراء والصعاليك نتيجة هذه الصدفة السعيدة، وما ترتب عليها من وعود ومخاوف، أقول انخلعت قلوبنا حين دخل امتحانا جديدا نعرف مسبقا نتيجة فشله، وأمام من؟ السلطان شخصيا!، ولكن الحلم يتحقق-دون توقع منا أو منه-مرة أخرى (وأخيرة فى الأغلب) ربما ليقول لنا من جديد: أن الحلم الذى مر بتأثير المنزول، قد تكرر بتأثير الإرادة الفردية/الكونية (إذا التحمتا) ربى لتكن مشيئتك… لا تدع كل شيء يتلاشى كحلم (ص237).
ولكن محفوظ يعلمنا منذ البداية أن مصدر هذه المعجزة هو القوى الخفية السرية غير المضمونة، وأن من يتخطى الواقع والظاهر هو معرض لأحد السبيلين حتما، ليكن حلما، ولتكن ارادة الخير، ولكنها أيضا-ما تجاوزت الواقع-عرضة للإستغلال فى الاتجاه الآخر، وهكذا يتجسد التحدى حين يطلب من معروف-من قبل القوى الخفية (فى الداخل ) أن يستعمل سلطته (المزعومة) فى قتل المجنون والشيخ البلخى (ص240) (ممثلى الرؤية والحقيقة) نفس الطلب من صاحب الطاقية (ص219)، الفرق بين التجربتين واضح، فالطاقية استعملت طول الوقت بشرط قاس فجر المكبوت الشهوانى القاتل العابث، أما حلم الخاتم فلم يستعمل إلا مرتين ولن يجر عائده إلا لخير الفقراء دون سلطة أو استغلال، ولا يحق هنا تفضيل لمعروف الاسكافى عن فاضل صنعان، فالفرصة لم تتح لمعروف أصلا، والاختبار كان فى أضيق الحدود، وشرط ازاحة الضمير لم يرد، والمقابلة الأقرب لمعروف هى مع حكاية ابراهيم السقا وكنزه وجزيرته المسرحية (السلطان: ص202)، ووجه الشبه بينهما واضح من حيث السن والطيبة والفقر.. وربــما سطحية الحكمة. وقد ظهر القتل فى حكاية معروف عابرا حين بدا فى شكل مجرد تحريض لقتل قوى الخير والحقيقة (المجنون والبلخى)، وبالرغم من أن جزاء الامتناع عن هذا القتل كان مبالغا فيه، لدرجة غير مقبولة، حيث قلد معروف ولاية الحى من قبل السلطان (ربما تذكر بغير وعى حكايته مع إبراهيم السقا) فاننا لا نستطيع أن نتبين مدى فضل معروف الأسكافى فى هذا الامتناع عن القتل، أهى مجرد صدفة ؟ أم هو السن؟ أم هو العجز؟، أم أنه امتناع الجهاد والوعي؟، والأرجح أنه ليس الأخير على كل حال، مما يذكرنا أن مجرد عدم القتل ليس بالضرورة فضيلة، كما يحذرنا من أن يكون نجيب محفوظ قد أنهك فعلا، فأخذ يبتعد عن الواقعية الجديدة التى التزم بها فى البداية، ليحقق العدل بطريق الصدفة الخطرة.
12- السندباد
نهاية فاترة
يتم خيال محفوظ (لاحلمه) ختام هذه الحكايات بطريقة مصنوعة، فيعين معروف (الحاكم الجديد) نور الدين كاتما للسر، ويعين المجنون كبيرا للشرطة (ويسميه عبدالله العاقل-بلا مبرر لكل هذه المباشرة)، ثم يحكى السندباد أكثر الحكايات مباشرة فيرسم أسطح نهاية متوقعة لهذا العمل العظيم، وحكايات السندباد فى هذه الحكاية إما معادة أو متوقعة، وهى دائما أحادية الجانب، تبدأ بالحكمة ثم تسرد الأقصوصة دون داع للأثنين معا، مثل الانسان قد ينخدع بالوهم فيظنه حقيقة، وأنه لا نجاة لنا إلا اذا أقمنا فوق أرض صلبة (ص247)، أو أن النوم لا يجوز اذا وجبت اليقظة أو حتى أنه لا يأس مع الحياة (ص248) وهكذا حتى يقول فى تسطيح أكبر أن الإبقاء على التقاليد البالية سخف ومهلكة يظهر، وكأن الكاتب يرتد عن العمق الذى قلقل به وجودنا حين يقول إن الحرية حياة الروح وإن الجنة نفسها لا تغنى الانسان شيئا اذا خسر حريته (ص251) يقول هذا ويتبعه بأقصوصة خاوية لا تتناسب اطلاقا مع هول بداياته وتطور حدسه المبدع وخاصة فى الثلث الأول ثم فى طاقية الاخفاء حيث علمناكم صعوبة الاختيارات وتداخلها، واستحالة ترجيح الخير المطلق، وسد مسارب الانحراف… الخ.
ولكن بارقة أمل تفتح من جديد، إذ يصر السندباد على العودة إلى الترحال بالرغم من موفور الحكمة والمال عنده، فنطمئن إلى أنها ليست النهاية على كل حال.
13– البكاؤون
خاتمة بعد النهاية: مزيدة وملفقة
يبدو أن نجيب محفوظ كان مصرا-بوعى أو بغير وعي- على أن يخفف من جرعة الفزع التى جرعنا إياها فى بداية حكاياته، فعاد يضيف خاتمة بعد النهاية، رسم فيها حلم الجنة الحسى الساكن، دون صراع أو اعتراض افعل ما بدالك (ص216) وبدلا من أن يجعل الحلم هو الواقع الآخر كما علمنا طوال الليالي، وبدلا من أن يمزج بينه وبين الواقع الأول فى تداخل مناسب كما عودنا، جعله بديلا منفصلا تماما، أوقف فيه الزمن فصار ممتدا بلا حدود، ولم ينتبه شهريار إلى أنه الخلود الخامد، أو لعله رفض ذلك، فتصور حاجته لاستمرار ما، بدءا بالاستمرار البيولوجى فى ولده: متى يكون لنا ولد (ص263)، ولكنه-مثلما فعل السندباد- اندفع إلى مواصلة رحلة البحث عن ما وراء الباب المحظور فتحه، وعلى خلاف ما ينتظر من سندباد أن يحصل على مزيد من الماس والحكم، وجد شهريار نفسه فى صحراء الندم واليأس، يشارك البكائين حسرتهم على ضياع الخيال المنشق (إذن: لم يكن حلما واقعا آخر بل كان خيالا منفصلا مصنوعا!!).
وتنتهى الليالى بنصيحة عبدالله العاقل له أن يأخذ مكانه القديم (ربما مجنونا نادما) تحت النخلة قريبا من اللسان الأخضر (ص268) ربما ليكون شهريار البري.. ينثر الحكمة العشوائية، ويرى ما لا يراه الآخرون، ويؤكد عبدالله العاقل فى النهاية، أن الطريق بلا نهاية، وأنه لا وصول اليه ولا مهرب عنه ولابد منه (ص268).
وهكذا ينقذنا الكاتب-رغم فرط المباشرة والأسلوب التقريرى من الاستسلام لنهايته المصنوعة.. ما دام يعلن أن محطة الوصول لم تحن بعد.
وبعد
فمن حق القاريء أن يتساءل عن مكان هذه النهاية من موضوعنا الذى اخترناه عنوانا لهذه القراءة القتل بين مقامى العبادة والدم، وليس عندى جواب جاهز، الا أننى تصورت-غير مقتنع تماما- أنه من الجائز أن نجيب محفوظ قد خاف-مثلنا-من البعد الذى اندفع إليه فى البداية يكشف فيه عن داخلنا وداخله، وأنه فى الثلث الأخير من العمل- فيما عدا طاقية الاخفاء-وحتى النهاية قد عاد يخفف عنا (وعنه) من جرعة الرؤية، فتوارى القتل، وتوارى الدم، ولم يبق من وجه العبادة إلا الأمل المنشق، والجنة المسحورة، والندم (الكاثوليكى) على فقدها، وكأنه انتهى بنقض ما بدأ به بشكل أو باخر، قلت: لست مقتنعا بهذا تماما ولكنه ما خطر ببالى حتى هذه اللحظة.
ولا يصح أن أخفى أنى كدت أنكر ما ذهبت إليه مندفعا فى بداية الأمر لأثبت من خلاله الفــرض الذى تقدمه هذه القراءة.. وذلك حين فوجئت بهذه النهاية التقريرية الساكنة، فقلت لنفسي: لعل التناقض النوعى بين النهاية والبداية يرجع إلى إندفاعك فى رؤية ما لم يقصد الكاتب إليه أصلا، وفى نفس الوقت فإننى لم أستطع التراجع، إذ من حقى أن أرى حتى ما لم يره الكاتب أو لم يقصد إليه واعيا، ومن حقى أن أرى اندفاعات ابداعه ثم تردد تراجعه، ومن حقى أن أذهب أبعد منه إن استطعت، وأن أقف دون رؤيته إن عجزت، نعم من حقى كل هذا، أخطأت أم أصبت، وإلا: فلماذا القراءة ؟
* * *
إلا أنه علينا مهما غاص الإبداع أو اجتهدت القراءة أن نتذكر مع نجيب محفوظ أن الوجود أغمض ما فى الوجود (ص6)، و أن الإنسان أعظم مما نتصــور (ص55)
[1] – باعتبار أن كل ما قبل هذه الحكاية (شهريار- شهر زاد-الشيخ – مقهى الأمراء) هو تعريف تقديمى ليس الا.
[2] – بالمقارنة بفتحى غانم مثلا (أنظر قراءة الكاتب للأفيال: الانسان والتطور عدد ابريل1983).
[3] – فالقتلة يشملون: شهريار- صنعان الجمالي-جمصة البلطجي-(= عبدالله الحمال = عبد الله المجنون البرى) -جلنار- سمار حفل سهرة اللسان الأخضر(شروع) -المعين بن ساوى (شروع)-فاضل صنعان، هذا فضلا عن أحكام الاعدام التى تبدو أحيانا قتلا، وأحيانا قصاصا، وأحيانا تكفيرا، هذه الأحكام التى اغتالت: علاء الدين أبو الشامات (شهيدا) وحسام الفقي، والمعين بن ساوي، ودرويش عمران وابنه وحبظلم بظاظة عقابا، وفاضل صنعان (تكفيرا)- أما الضحايا و المقتولون فيشملون الأبرياء والمقتولون، وبالصدفة من أول الطفلة المغتصبة ثم على السلولي، كرم الأصيل-زهريار-شملول الأحدب (مع وقف التنفيذ!!) يوسف الطاهر-قوت القلوب (مع وقف التنفيذ ثم القضاء عليها بالسم) علاء الدين أبو الشامات-المعين بن ساوي-درويش عمران-حبظلم بظاظة، توأم شاور العجان بائع البطيخ (إعدام بتهمة باطلة) (حتى وفاة قمر العطار بالسم كانت تعتبر قتلا أيضا).
[4]- أميز بين الانطباع Impression أو المنطبع Imprint حيث أعنى بالأول: الميل الفكرى العام تجاه موقف أو موضوع، فى حين أعنى بالثاني: المعلومة الـمـدخلة بصما فى أوقات التعلم المأزقى الكياني، التى يتميز بها الطفل المبدع على حد سواء
[5] – قراءة رأيت فيما يرى النائم الانسان والتطور عدد أكتوبر 1983 المجلد الرابع العدد الرابع (ص104-137)
[6] – تسميته بالضمير هو أقرب تسمية شائعة، لكنها غير دقيقة بالمرة، فهو كيان أعقد، وأكثر تلقائية، وأقرب الى صدق الغرائز من الضمير بالمعنى الأخلاقى التأنيبى المعيق.
[7]- أقصد بالجنون هنا تحديدا: تنشيط الداخل البدائى ليعمل مستقلا وعلى حساب الخارج الواقعي.
[8] Psychic determinism (deterministic causality) أنظر أيضا بالمقارنة: بين استمرار فتحى غانم فى تأكيد هذا النوع من الحتمية teleological causality فى حين تطور نجيب محفوظ إلى الحتمية الغائية فى قراءة للكاتب: الموت.. الحلم.. الرؤيا ، فى رواية الافيال لفتحى غانم الانسان والتطور عدد يوليو 1983 المجلد الرابع العدد الثالث ص108-136
[9] – لا تنس أن قمقام هو صنعان الجمالي .
[10] – يتضح ذلك بوضوح فيما بعد، ولكن بالنسبة لجريمة أخري-(ص56) ماذا دفعك إلى ارتكاب جريمتك الشنعاء (قتل خليل الهمذانى الحاكم) فيجيب بوضوح “أن أحقق ارادة الله”.. وسنرجع الى ذلك.
[11] – لولا أن الرواية قد سجلت أنها تمت فى 27/11/ 1979 لكان الارتباط بدراما المنصة وثيقا ومباشرا-مع بعض التحفظ فى التفاصيل-ولكن هذه الإرهاصات بقتل الحاكم، والتأكيد على جانب العبادة فى هذا القتل، مع رفضه باعتباره حلا فرديا.. الخ، كل ذلك من تفضيل يعد من قبيل الرؤية الأبعد لحدس الفنان قبل الحدث ؟
[12] – يتأكد هذا المعنى فى بداية الحكاية التالية بعد أن تناسخ البلطى فى صورة عبد الله الحمال، إذ يخاطب نفسه القديمة (رأسه المعلقة) قائلا لتبق رمزا على موت الشرير الذى عبث بروحه (ص62).
[13] – راجع أيضا (ص130) لا تخدعنى يا رجل.. فالجنون منتهى العقل.
[14]- كان ظهور سحلول طوال الرواية ثانويا وعابرا، رغم أنه كان يمكن أن يمثل تحديا موقظا فى مقابل لعبة القتل الخطر، ولكنه بالصورة التى ظهر بها خالطا بين مأساة الموت، وتجارة العاديات.. لم يبد بالعمق الكافي.
[15] – وهما شقيقتا الحاكم يوسف الطاهر، والحاكم يعلم بسلوكهما، وقد أعانتاه ماديا قبل ولايته، فتستر عليهما بعدها.
[16] – كذلك لم أفهم الدافع الخاص الذى دفع جلنار أصلا لاختيار عجر رفيقا جنسيا، وهو الثقيل العديم الميزات، ولا يكفى أن نتصور أنها-بذلك-كانت تدبر لجريمة القتل، وكذلك لم يبد أنها هى التى لفظته بعد الجريمة، لكنه عجزه الذى أبعده، وأخيرا فهى الوحيدة التى نسى الكاتب أن يـعدمها قصاصا، وكأن الافتعال الذى أحس به-مثلنا -قد أضجره، فأنساه القاعدة التى اتبعها طول الحكايات… من يدرى ؟
[17] – لم أتطرق لموقع الجنون وأشكاله تفصيلا فى هذة القراءة، وقد أعود إليه فى دراسة مقارنة مع أعمال أخرى لمحفوظ.
[18]- اذا ما افتقدوا الدولة فجأة، فيأخذها (السلطة) أقوى الأشرار (ص172).
[19]- جاء هذا الرد على لسان سحلول، ورفضا لدور سحلول أصلا-دوره كما جاء فى هذا العمل- تصورت أن الأولى أن يـطلق مثل هذا الرد عبدالله المجنون شخصيا.
[20] – التى أخذت تتزايد بدءا من هذا الجزء.
[21] – مثلا (ص190)، (ص202)
[22] – الذى عثر على كنز أنفقه فى تجسيد أحلامه بتنصيب نفسه سلطانا مسرحيا كل ليلة، مع تنصيب أصدقائه من الحفاة والجياع وزراء وقادة.
[23] – أعنى بالقناع هنا ما يشير اليه يونج على أنه Persona ولا أعنى به ما قد توحى به الكلمة من خداع أو تظاهر.
[24] – قارن تحطيم هذا القمقم كبت الجنس والعبث والعدوان ، بتحطيم قمقم جمصة البلطى لينطلق منه سنجام يدعوه لقتل الظلم، ومن قبله تحطيم كبت والده صنعان لينطلق منه الداخل بتناقضاته وتراوح خبطاته.