عدد يوليو 1984
حـوار
حول الأنيميا الروحية، وتمليط الأهرامات، والعقول
(م. جاد الرب – يحيى. الرخاوى)
جاد الرب: إن الأيام تزيدنى وثوقا فى جدية أسلوبى علاجا للأنيميا الروحية التى تسيطر على رقبة الزمان كله.
الرخاوى: أهلا جاد …. والله زمان.
جاد الرب: إننا نحتاج إلى تجييش أدباء كرة الأرض لاعادة بناء المدن القديمة كالقدس أو خوتاتون أو بابل .. لأن ذلك هو الطريق الوحيد لخلق ثقافة حقيقية لبنى البشر كما يقول بذلك لويس ممفورد عالم الجمال الأمريكى العظيم فى كتابه المدنية على مر العصور .
الرخاوى: صدق أو لا تصدق فأنا أحسدك، على يقينك وأنت تستعمل هذه التعبيرات: (تزيدنى وثوقا) (الطريق الوحيد) هذا الحسم المطلق افتقده شخصيا، وأأتنس به عندك رغم ترجيحى بأنك تهرب فيه ولم لا؟ وهل ثمة بديل أفضل؟ هل هذا القبح العمرانى بلا تخطيط، أو هذا التشويه العقلى بلا مسئؤلية، هل هما أفضل من مهربك التاريخى ومشاريعك التوحيدية؟ هاتها يا رجل، وما يجرى يكون.
جاد الرب: لقد توصلت مؤخرا إلى مفتاح الطريق … ألا وهو دعوة أدباء وفنانى قرية مصر إلى إعادة الملاط إلى أهرام الجيزة فلقد كانت الأهرام الثلاثة مكسوة بالملاط فوق السطح الخارجى لكل هرم، ولما أوعز دعاة السوء إلى محمد على القولى سلطان مصر الكبير … بدهان قصر الجوهرة بالملاط، أو عزوا إليه بتحطيم ملاط الأهرام والإنتفاع به فى تمليط القصر .. وفشلت المحاولة ورفض الملاط الفرعونى أن يعمل فى خدمة محمد علي، فهل تجرؤ على مناشدة أدباء وفنانى مصر التآزر لإعادة الملاط إلى الأهرام؟
الرخاوى: أوحشتنا يا رجل .. اذن فهذا هو مفتاح الطريق!! ما زلت يا جاد أذكر حلولك على هذه المجلة ضيفا منذ العدد الأول بنفس الطريقة، ونفس الحماس، ونفس الحلول، أملك فى أدباء وفنانى مصر لا حدود له، وثقتك بالكلمة مطلقة، ولكن ما تتصوره هو أبعد ما يكون عن الواقع، بل حتى عن الحلم، أنت تصور لنا الأديب وهو يعمل بيديه، لا يكتفى برسم من يعمل بيده، ولا يرمز له، ولا يصفه، وهذا من أكبر أحلام التكامل البشري، ولكن العصر يا جاد أدعى تفوق العقل على اليدين، فانقسم إلى فريقين: فريق يعمل بيديه، وفريق يصف العمل ويوصى به ناهيك عن أولئك الذين يقبضون عائده، ثم إنى لا أعرف من أين تأتيك هذه المعلومات التاريخية التى أسمح لنفسى بأن أشك فى صحتها، ولكن حتى لو كانت صحيحة تماما فأنا لا أوافقك على أن الأهرامات الثلاثة بالملاط أفضل منها، هكذا، ولا أتصور أننا نحتاج إلى إعادة تمليطها، بل لعلنا نحتاج أكثر ما نحتاج إلى نزع الملاط من على عقولنا، فالظاهر يا جاد أننا لم نكتف بحشر الحجارة داخل عقولنا لتصبح مدافن للأفكار الوليدة، ولكننا زدناها تمليطا، بل لعلك تذكر العملية النهائية بعد التمليط، وهو ما كان يجرى فى قاعة الفرن – فاكر؟ – حين تمسك خالتى تحفة بالزلطة وتذهب تدعك بها – مبلولة جزئيا وجه، الملاط حتى يلمع وتختفى أعواد التبن التى كانت تطل من الطين، يخيل إلى أحيانا أننا لم نكتف ببناء الأهرامات داخل عقولنا مقابرا للأفكار، بل إننا رحنا نملطها ثم نزيدها تزليطا حتى نقفل مسامها وتلمع دون أيه فاعلية، نحن أحوج ما نكون – سيدى – إلى إزالة كل ملاط حتى تستيقظ حواسنا، وتفتح مسامنا، فنعيد صياغة الحياة كما خلقنا الله لنخلقها هذه مسئوليتنا فردا فردا، قبل الأحلام . وبها، وبدونها.
جاد الرب: ان البحث عن رئيس الحياة(1) هو محور اهتمامى اليوم فنحن فى عالم اللا مستقبل، والكل لاجيء الى لا مكان،
الرخاوى: نعم .. نعم ..، ولكنى أتصور أنه قد آن الأوان أن نكف عن التركيز كل التركيز على الرئيس وليس على المرؤوس لست أحلم، ولا أومن بزوال دور القائد الفرد وتأثيره، لكننا نحن بالذات، كمصريين بالذات، شبعنا فراعنة ورؤساء، حتى ليخيل إلى أن أى رئيس متفوق جدا هو عبء على مسيرتنا، مهما أوحى فى بداياته بأنه الرئيس المفدى الذى سيعدل الكون.
جاد الرب: حاضرنا يزداد تكدسا، وهواؤنا يزداد تلوثا، ولا مهرب إلا بإنتخاب رئيس الحياة أو حكيم الأرض
الرخاوى: تقول إنتخاب !! من ينتخب من ؟ وكيف؟ وبأى قانون؟ وبأى لائحة؟ ألم تعش معنا التجربة القريبة التى أيقظت فينا وحولنا : العصبيات، والاستقطاب، والرشاوى بالوعود، والتزوير بالجهود الذاتية، ومحاولة النزاهة بشرط ضمان النجاح، يا سيدى: الديمقراطية (ممثلة فى الإنتخاب) وسيلة جيدة نسبيا، لكن تطبيقها أمر محفوف بكل ما رأيت، وما هو مخبوء مما ينتظر، فدعك من أوهام الإنتخاب الأسرع الذى يأتى لنا بفرعون أصلح وهيا نلقى كلمة، فكلمة، تسير على قدمين، لعلها تصل إلى أصحابها، ويومها سنفرز من ننتخبه لا ننتخب من نجده وحتى يحين الحين دعنا نتجمز بالجميز حتى يأتينا التين أم نسيت المثل؟ يا حكيم الهوميروس؟
جاد الرب: إن البحث عن رئيس الحياة أو حكيم الأرض الذى تنصت إليه البشرية ومن قبل أن يتم نسف الكوكب البشرى كله، (هكذا) البحث (هو) موضوعى الرئيسى.
الرخاوى: فأنت تنتظر نبيا جديدا أو للانصاف تبحث عنه أو قل : فهو المهدى المنتظر،. ونبيك هذا مهما كان الاسم سيوحد البشر على هذا الكوكب المغرور، يا قدرتك على الأحلام يا أخي، وعلى أى موجة (تليفزيون) سيذيع هذا الرئيس النبى أفكاره، ويصدر تعليماته؟ ….. تيكى لم ، هنا الـB.B.C يا سيدي، نحن قد وصلنا إلى درجة لم نعد نحسن فيها قراءة ما أوحى إلى أنبيائنا فما بالك بنبى يأتى بالإنتخاب؟؟
جاد الرب: فلم لا ننهض معا تحت راية عيسى الناصرى مسيح فلسطين العظيم الذى يقول: لا تعطوا القدس للكلاب ولا تطرحوا درركم قدام الخنازير.
الرخاوى: صدق عيسى الناصري، وصدقت، ولكن …!! أصدق نواياك، وأفهم حرصك على البشر من أن يتحطموا بغباء عصري، ولكنى أعجز عن مشاركتك أحلامك.
جاد الرب: إنها دعوة خيالية فى نظر المشلولين والمقعدين .. ولكنها دعوى قانونية وطبيعية فى نظر المختارين الذين بهم تسر نفس الرب.
الرخاوى: من صفاتى المؤلمة إنى أحترم المستحيل، وأصدق كل من كان، ولكن الواقع الذى أرضع مرارته كل ثانية يحول بينى وبين مشاركتك، واختلافنا هو الذى يبقى على علاقتنا، فلا ترفضنى مشلولا كنت أم مقعدا، فأنا لا أكف عن الزحف فى حل الواقع … فاحتملنى أحتملك، غفر الله لنا ..
جاد الرب: أرانى مدفوعا إلى رواية هذه القصة الفريدة حول إحياء اللغة العبرية..
الرخاوى: أى والله معك حق، أو ليس هذا هو المستحيل الذى تحقق؟ وهنا نحن ندوس – فى المقابل – لغتنا التى حفظها القرآن قرونا وقرونا، جريا وراء المستحدث المشوه، وأنظر حولك إلى عناوين البوتيكات وأتوبيسات السياحة ومحال الأحذية!!
جاد الرب: لقد نهض الرجل خلال المؤتمر الصهيونى حينما صاحت فيه الحناجر باستحالة إعادة إحياء اللغة الميتة … نهض بتقديم طفله البالغ تسعة أعوام فقط، قدمه إلى المؤتمر كمحدث جيد باللغة العبرية قائلا إنه نجح فى هذه التجربة الخطيرة لأنه كان يعلم الطفل ويتفاهم معه بالعبرية وحدها خلال السنوات التسع حتى أن الطفل منح اللغة الميتة الحياة
الرخاوى: هذا هو، وقد كان هذا ضرب لزعم المستحيل، ولكن مستحيلا آخر تحقق أيضا حين إنتهى هذا التحدى لاحياء الميت: إلى قتل الأحياء، ليس فقط فى صابرا وشاتيلا وسيناء والجولان وصيدا وإنما فى قتل لغتنا فى محاجر عقولنا، وقتل شخصيتنا فى وعى ذواتنا، وقتل أملنا فى مهاد فطرتنا، ماذا يفيد تحقيق مستحيل، إذا كان هذا المستحيل معزولا عن المسيرة الكلية، متميزا بالعنصرية، متفوقا بالمادة، على حساب كل البشر، ونحن فى مقدمة الضحايا؟ وأسألك السؤال الذى طرحته أنت كيف يمكن لنا إستنبات الضمير الإنسانى الجماعى فوق كرة الأرض
جاد الرب: إنه بانتخاب رئيس الحياة أو حكيم الأرض الذى هو فى الأساس نقيب أدباء شعب فلسطين العظيم، ذلك لأن الموسوعة الأثرية العالمية تؤكد لشعب فلسطين من الجهاد على طريق الحضارة ما قيمته مائة ألف عام.-الرخاوى: يا لأمجاد التاريخ!!!! وبعد؟
جاد الرب: إننى أطالب أدباء قرية مصر بالبدء فورا فى بناء الهوميروس إتحاد أدباء مصر أولا، وعلى أن يتم اعلان قيام الهوميروس، وإعلان إنتخاب أدباء مصر لمحمود درويش رئيسا للحياة فى المؤتمر التأسيسى الأول والذى يتم إلتئامه فى 23يوليو القادم.
الرخاوى: هكذا يتم حلم التكامل بين فلسطين ومصر يوليو، بين ثورة الكلمات (شعرا) وثورة الناس (ناصرية) بخبطة واحدة، ألا ما أكبر قدرة آمالك التى أراها وهى تقفز حواليك وداخلك بلا تردد، وأسأل نفسى من أين لك الصبر عليها وهم يسكبونها كل يوم فى شقوق التسيب والتراخى.
جاد الرب: ذلك لأننا نحن أدباء قرية مصر من أبناء جمال عبد الناصر نحلم باستمرار الروح الديمقراطى النزيه الذى أتانا به رسول الحياد الايجابى العظيم، فاتح باب الحرية الحقيقية ومانح الأرض لمن فلحها.
الرخاوى: أرجو أن تكون معى فى هذه المسألة أرحب صدرامن صديقك عبد الحميد الكاشف، فأنا لم أحب عبد الناصر أبدا اللهم الا فور اعلان الثورة وبعد موته، وكل تقديس لشخصه يزعجنى بالمعنى الذى أعارض به أحلامك بإخناتون والهوميروس والمهدى المنتظر، نعم .. لكل أمة زعيم وتاريخ وعلامة، إلا أننا فى مصر بالذات … والآن بالذات .. يجدر بنا أن نخفف من هذا الميل العارم لتصنيع فراعين متلاحقة بإصرار عجيب، حتى حاكمنا اليوم حسنى مبارك الذى يبدو أن بينه وبين ما هو فرعون مثلما بين بركة السبع و ألاسكا ، نحاول بكل وسيلة أن نفرعنه هو الآخر، وهذا مجلس الشعب يثور حين يعلن سيادته أنه ذاهب بعد تسع سنوات، مضت ثلاث سنوات من ولايته الأولى وحتما جزما سوف يعاد انتخابه للمرة الثانية لو طال عمره، مجرد بقاء حاكمنا المصرى على الحياة هو ضمان أكيد لاستمراره حاكما منتخبا !! تسع سنوات يا جاد تتغير فيها الدنيا ونحن نثور ونحتج كيف يهدد الرئيس بتركنا بغير الموت، أبعد الله عنه الشر، إعذرنى حين أرى أن عبد الناصر هو إفراز مرحلة نحن صانعوها وحتى حكاية الحياد الإيجابى كانت الإعلان الطبيعى لهوية ما سمى بالعالم الثالث بلا أنبياء ولا مرسلين، ولا أعنى بذلك إنى أنكر فضله على شخصيا وعلى بنى وطنى من حيث درى أو لم يدر، لكنى أرفض أن يكون نبيا، وأن تسمى أخطاؤه بأخطاء مراكز القوي ، لأنه هو شخصيا كان أكبر مركز لكل القوي، (لاحظ لهجة مخاطبة سامى شرف له فى مذكرات هيكل المنشورة فى الشعب”أفندم … طلب الأستاذ هيكل السماح لخيرية خيرى بالسفر إلى لندن هى وابنتها أفندم … ، …. “
كنا نتصور أننا نحكم مدنيا بكلمات مثل بعد التحية ، ونتشرف ، تفضلوا ولكنى فزعت لدلالة هذه الكلمات العسكرية.. أفندم ثم تقول رسول الحرية؟ يا عم رووح، وحتى لو كان رسول الحرية فقد أعلن محمد بن عبدالله أنه خاتم الأنبياء ليذكرنا أن وظيفتنا هى أن نخلع الرسل من على عروشهم من بعده، وليس أن ننصب لكل كلمة رسولا، ولكل وزارة نبيا – لست ضد دور البطل يا جاد، وإلا فأنا أخون نفسى وأدعي، لكن البطل هو إفراز أمة، وعلامة طريق، وليس نبيا مرسلا لولاه لتوقف التاريخ، ولأغيظك أكثر حين أقول لك أنه لا فرق عندى بين عبد الناصر والسادات من حيث البدايات وحسن النية، وإذا كان فاروق قد أفرز عبد الناصر فإن عبد الناصر قد أفرز السادات وهذه نظرة مسطحة لبعد زمنى قصير، ففاروق ليس هو وإنما هو علامة عصره .. وهكذا، لا أستطيع أن أنكر فضل عبد الناصر بنفس القدر الذى لا أنكر فيه فضل السادات ولكن ما أنكره هو النظام الذى سمح لعبد الناصر بقيادة هزيمة يونيو وسمح للسادات بقيادة هزيمة سبتمبر، أرى يا جاد أن اهتمامنا الأول ينبغى أن يتجه لتأمين الظروف التى تسمح لعبد الناصر والسادات ومبارك ونبيك الجديد (وأنا وأنت) بأن يواصلوا عطاءهم الإيجابى دون تأله أو إنفرادية، وأن يكون الحوار والضغط الشعبى والرقابة القانونية هم المانع قبل الكارثة، كارثة إنحرافهم حتى عما كانوا ينوونه من خير، دعنا نصر على النظام الذى نطمئن فيه أن يبتعد الجيش نهائيا (بكل الصور) عن حماية أى نظام، ويكتفى بحماية الحدود، ثم دعنا نستغفر لهم سبعين مرة، ونحمدهم مائة، ولكن نمسك مصائرنا بأيدينا أبدا فى غير خوف أو إعتمادية مطلقة.
جاد الرب: إننى أديب ناصرى.، ولا أحلم سوى ببناء الهوميروس إتحاد أدباء كرة الأرض، وعلى نفس مباديء الحياد الايجابى وعدم الإنحياز التى أتانا بها عبد الناصر العظيم، والله معنا.
الرخــــاوى: الله معنا يا جاد، حين نكون مع أنفسنا، وليس مع أوهامنا، وحتى يأتى الجديد أو بتعبير أقوى، ونحن نصنع الجديد، دعنا نتحمل بعضنا البعض مع إحتمال الخطأ.
[1] – وهو النعت الذى وضعه بطرس الرسول على جبهة عيسى الناصرى بعد صلبه.