يحيى الرخاوى طبيب نفسى
عدد يوليو 1984
الافتتاحية
-1-
المسألة: أن اعادة صياغة وعينا تتم من خلف ظهورنا، وأن دور “الكلمة / الفعل” يتضاءل بشكل مهدد للجنس كله، وأن الوصاية المسبقة على حركة الفكر الحر تأتى من كل جانب دون استثناء، وقد كنا نأمل أن تكون مغامرة الديمقراطية الوليدة التى أطل وجهها السياسى فى انتخابات مايو 1984 هى الشعاع الخافت الذى يحافظ على اضاءة أملنا فى الاسهام الحر الجاد فى استمرار التفاؤل الفعال المسئول، لكن التجربة – بالرغم من ايجابياتها بمعنى محدود – خرجت بأقل مما كنا نرجو منها، وليس مهما عندنا نسبة الأصوات أو عدد الكراسي، ولكن المهم هو أن هذه التجربة لم تغير من القواعد الأساسية فى لعبة السياسة الجارية شيئا، فالشرط المسبق دائما هو استمرار نظام بذاته، بل، والبدائل غير الديمقراطية المستعدة لاعادة نفس هذا النظام، لو أن الديمقراطية الحالية عجزت عن فرضه ..، هى أيضا فى حالة تأهب كامن قادر على الانطلاق فى أى لحظة، وحتى القوى المعارضة تدخل فى اللعبة وكأنها تلعب دورا مرسوما لارساء قواد ما هو قائم (دون أن تدري)، اذ يخيل الينا أنهم بستدرجونها (المعارضة) للاكتفاء بالدوران حول “الأشخاص”، و “التفاصيل”، و “مشاكل الجماهير” الملحة والآنية، ليصرفوا أنظارنا بعيدا عن صراع القيم الحقيقى بين نظام ونظام بين وعى ووعي، بين “ساكن” و “متغير”.
ليس هذا حديث سياسة، لكنه “عمل سياسي” لا محالة، اذ يبدو أنه قد آن الأوان لنفرق بين لعبة السياسة على خشبة الحكم وفوق كرسى المعارضة، وبين العمل السياسى اليومى الدؤوب الجارى حتما خلف كواليس الظاهر، فكل عمل يومى لكل مواطن يحدد حتما ما يفرزه الساسة من حكام ومعارضين من مظاهر وأشكال، ونحن نعتبر أن دور المبدعين للعقول البشرية: بالتعليم والفن والبحث هو من صميم الاعداد الحقيقى للطفرة المأمولة، وبهذا فهو عمل سياسى حتما، وهذا ما يدعونا بين الحين والحين الى أن نعرج الى القاء نظرة على مسرح الأحداث السياسية، ومن ثم الى تعليق واجب لكنه أبدا لا ينبغى أن يصرفنا عن همنا الأول .. وليس الأخير فى أن يكون التفكير حرا، وأن تكون الكلمة فعلا.
نعم: كنا نأمل – رغم كل شيء – فى جرعة أكبر من الديمقراطية السياسية تسمح بحركة أكبر فأكبر لحرية التفكير، وانطلاقة الابداع وهما من أهم وسائلنا .. وأغلى غاياتنا .. ولكن ..، ولكننا دولة من دول العالم الثالث.. .. !!!
نعم: كنا نأمل فى اعلان فعلى يؤكد دور الناس فى اختيار نسبى .. لما هو أفضل .. ولكن: من ذا الذى يمكن أن يختار: وهو يخاف من آلام حريته أكثر من خوفه من بطش فرعون نفسه ..، ألا يتأكد بذلك دور مثل هذه المجلة المتواضع أكثر فأكثر؟ – ورغم بعدنا عن الاسهام المباشر فيما هو سياسة – الا أننا قد نكون مجرد رمز للاصرار على التفاؤل، وتعميق دعوة لبدايات متجددة دائما: عارفين طول الوقت بأن أغلبنا يخاف الحرية، واننا نرزح تحت ثقل التخلف من ناحية، وغسيل المخ من ناحية أخري، نعلم ذلك، ونعلم محدودية انتشارنا وخفوت صوتنا، لكننا نصدر، ونواصل، ونحاول أن نخدش صفحة التاريخ بأثر: قد يبقي، من يدري؟
-2-
ويناقش دور هذه المجلة فى اجتماع الجمعية العمومية السنوية العادية لجمعية الطب النفسى التطورى والعمل الجماعي، ويخاف البعض من أن يكون استمرارها مجرد تنفيث فردى عن كتابها ومحرريها، أو أنه توريط لم يجد الشجاعة التى توقفه ليعيد حساباته، أو أنه اغتراب تفكيرى لارضاء الضمير بعيدا عن الالتزام الأخطر بالاسهام الفعال فى حركة المجتمع – ولا ترفض أى من هذه الآراء: لأنها محتملة الصحة بداهة، فنضعها على رؤسنا ونصب أعيننا كمحاذير واقعية لا نملك عليها ردا دفاعيا لفظيا، ونتذكر الشق الغريب فى اسم الجمعية “… والعمل الجماعي”، اذ أين هو العمل الجماعى وقد كاد يتقلص نشاط الجمعية الى اصدار مجلة ثقافية محدودة، واقامة ندوات شهرية، تكاد تكون فى خطوة أشجع – على المستوى العام – نحو حرية أرحب (مما ذكرنا فى الفقرة الأولى فى هذه الافتتاحية)، ولا يسلمنا هذا الكابوس الجاثم الى توقف أو تلكؤ، وانما يحفزنا الى الاستغاثة بالألف قاريء الذين أكرمونا لمدة خمس سنوات متصلة فقرؤا ما نكتب باحترام لكلمتنا، وتقدير لاجتهادنا، نعم: ألف قاريء هم أصحاب هذه المجلة، وهذه الجمعية، وهم لابد قادرون على أن يسهموا أكثر فأكثر فى دفعنا أو توجيهنا.
وتنظم لجان، وتوضع خطط، ويتجدد أمل، ونستمر!
-3-
ونجد فى الخطابات المحدودة التى وصلتنا هذا العدد ما يؤكد لنا أن قراءنا هم أصحاب الفكرة، كما أنهم هم أصحاب الفضل، فالقاص المبدع محمد عبد المطلب قلق من فتح الباب لهذا الفيض من القصص يقتصر النشر على ما هو “تجريبي; فنحن نلجأ الى اللغة الفنية لنبلغ من خلالها الجديد والأصيل الذى يدخل الينا من باب للوعى غير مباشر، ولا يعيب القصة بساطتها أو وضوحها أو شكلها التقليدي، وانما يعيبها أن تخلو مما يجب أن تحتويه من قدرة على تحريك الوعى والكشف عن مستوياته الآخري: الآن أو فيما بعد، ثم ان هيئة التحرير التى تقوم بمهمة الانتقاء هى هيئة مجتهدة غير متخصصة (والحمد لله) تخطيء وتصيب – طبعا -، ولعل من أخطائها أنها رأت الاعتذار عن نشر قصة الصديق محمد عبد المطلب التى أرسلها هذه المرة اذ وجدتها دون ما سبق أن أكرمنا بنشره، فعذرا.
ويذكرنا الشاعر المتميز أحمد زرزور بانحيازه الخاص الى ما أسميناه “الكتابات الطليقة”، ويحل ضيفا مضيئا فى هذا العدد أيضا بنبضه المتجدد فى قصيدته الأحدث “يسألونك عن الحزن”، وان كنا نعتز برأيه بكل ما يحوى من أمانة واخلاص، فاننا نعتذر له ألا يجد مثل هذه الكتابات فى كل مرة، ذلك أن انتقاء المناسب منها: دون أن يكون مجرد تناثر، أو ادعاء شاعرية، أو تنفيثا غير مسئول: هو من أصعب الأمور علينا، ولكنا نعد أن ننشرها متى ما وصلتنا من أى مصدر، حتى لو كان ممن يقال عنه مريضا،.
ونقف طويلا أمام مادتين شديدتى الجودة من صديقين وثقا بدورنا أكثر مما نستطيع، فالمراجعة النقدية التى أرسلها الينا د. ماهر شفيق فريد عن الأحدث فى الأدب الانجليزى كانت – كعادته – فائقة الاتقان والاحاطة، لكننا عجزنا عن أن نجد لها مكانا مناسبا فيما يتعلق بأهداف المجلة وطبيعتها، حقيقة نحن ننشر بكل أدوات المعرفة، ونهدف الى أى انارة للوعي، الا أننا نجتهد أن يكون لنا هدف أكثر مباشرة، والحد الفاصل غير واضح .. ومع ذلك فالاجتهاد هو الممكن.
أما المادة الثانية فهى عرض نقدى كتبه الصديق: عبد المنعم عمر عن أوبرا وليم تل، وهو شديد الجودة الا أنه أكبر وأبعد مما نستطيع .. ولا شك أن هذين العملين المميزين سوف يجدا مكانهما للنشر فى مكان أكثر تخصصا وأوسع انتشارا.
ونشعر فى هذه المرحلة أن مهمة الاعتذار عن عدم النشر أصعب من مهمة القبول، ونلح فى الرجاء أن يتواصل الحوار مع هؤلاء الذين أولونا ثقتهم ولم نتمكن من نشر أعمالهم، حتى بصفة شخصية بعيدا عن صفحات المجلة..
عذرا وشكرا.
-4-
ثم نأتى الى هذا العدد لنجده وقد افتقر – أيضا – الى قدر كاف من المادة العلمية المتخصصة فيما هو “نفسي”، ولكن من أين لنا أن نعرف القدر الكافي؟ فنحن لا نهدف الى اعادة رص المعلومات الشائعة والتخصصية أمام القاريء بقدر ما ندعوه للنظر فيها، وهذه هى د.يسرية أمين تتناول موضوع “التفكير” بشكل جديد، يربطه “بالوجود” البشرى ككل من ناحية، كما يؤكد غائيته وديناميته وحتم نتاجه الابداعى من جهة أخري، ونأمل أن تنجح بدراستها عن التفكير هذه فى أن تثير فى القاريء مثل ما أردنا فى العدد الماضى أن نثيره حول ماهية العواطف والوجدان(1) – فالقارئ (المتخصص – وغير المتخصص) مدعو دائما لعدم التسليم لما يشاع حول الوظائف والظواهر النفسية، بل للتفكير معنا دائما، فاذا كان الأمر كذلك، فان قلة المادة المتخصصة فى المجلة يكون حافزا للتعمق فيها مرة ومرات حتى نحقق هذا الغرض الصعب.
ومع ذلك فان المواضيع التى تبدو غير متخصصة تحوى قدرا طيبا من الاجتهادات العلمية المفيدة، فالزميل محمد فتحى عبد الفتاح حين يكتب نقدا لفيلم كوستا جافراس “حنا.ك” وعلاقته بفلسفة الدعاية الاسرائيلية: لا ينفصل عن أعمق الأساليب العلمية لسيكولوجية الدعاية ذات الطبقات المتكثفة، وهو يكشف باخلاص شديد عن ضرورة النظر فى أى عمل من وجهات نظر من يخاطبه، ومن ثم عن ضرورة تقدير اختلاف “المرسل اليه” حيث تختلف “قراءة الرسالة” تبعا لهوية قارئا وبهذا يرد الزميل على سذاجة وحسن نية بعض المتحمسين لكل كلمة “انصاف” تصدر من عدو خبيث، أو “حكم” متحيز (حتى دون أن يدري)”.
ويحل ضيفا كريما كاتب شاب راسخ واعد فى آن هو د. محمد المخزنجي، فيكتب لنا قصة قصيرة تحت عنوان “المخالسة”، ونحن اذ نرحب به كما ينبغي، نتذكر معه – أو قل نأمل فيه – ألا يتصور أن هذه المجلة تفضل “القصص النفسية” – بل لعل العكس هو الصحيح، فالكشف عن النفس بأداة الفن المخترقة: ليس تخصصا لاحد، الا لمبدع منطلق، والمخزنجى كذلك، بشهادة النقاد العدول، ومع هذا فنحن نشهد له أن تخصصه قد استعمل لتعميق الابداع وليس الحركة، فأهلا به آملين أن ينسى أنه يكتب هذا “للانسان والتطور” وذاك لغيره، فليكتب، ويكشف، ونلتقى . فحسب.
وتحظى القصة القصيرة، واللقطة القصيرة هذا العدد بنصيب أوفر، رغم تحذير صديقنا م. عبد المطلب، (الذى ننتظر منه نقدا مفصلا وعد به)، ونرجو أن يجد فيها القاريء ما وجدنا – وغيره – مما جعلها بين يديه، وتأتى مشاركة د. نعيم عطية بقصته “قارب الليل” ذات دلالة خاصة.
ونحتار فى تحديد: أين “الكتابة الطليقة” فى هذا العدد؟، وكنا نود لو رفعنا كلمتى “قصة قصيرة” من على مواضيع “الحصان” لهناء سليمان، و “النقطة” لعصمت داوستاشي، و “الحصار” للكاتبة “، . فاء”، اذا لكانت أقرب الى ما أردناه بالكتابة الطليقة، اذ يبدو ان ما هو قصة قصيرة يتطور بسرعة الى ما هو “طلقة مخترقة”، أو “صيحة مفيقة” أو “برق خاطف” الى آخر ما يمكن أن نصف به هذه الحركة السريعة التى تهز الوعي، وتبعث الرسالة فى تكثيف لام.. حتى قبل أن نفيق الى حدود رموزها، أو نسجن داخل اطارها المعلن.
وبمناسبة الكتابة الطليقة نتلقى بعد طول غيبة حشد جديد من آمال ومشاريع واحتجاجات وثورة صديقنا جاد الرب، ورغم أن الحشد جديد، فالمحتوى غير جديد ومع ذلك فقد أبلغنا كثير من القراء الى أنهم اشتاقوا الى مشاكساته، وردودنا عليها، فليكن حوارا جديدا قديما.
ويكتب الشاب المتحمس الواعى د. رضا عطية حول الواقع الثقافى فى مصر، ما يجعلنا نصر على الأمل، ما دام هناك من يرى كل هذا، رغم ما قد نختلف حوله من تفاصيل.
ونعود لنقرأ من جديد فى “نجيب محفوظ” ذلك البحر الذى لا ينفد، وقراءتنا فى هذه المرة هى فى عمل حديث متميز هو “ليالى ألف ليلة”، ومن بعد محدد نسبيا وهو “القتل بين مقامى العبادة الدم”.
[1] – وعدنا فى العدد الماضى أن نواصل تكملة موضوع ماهية الوجدان، لكننا لم نلتزم بتحديد التتابع المنتظم، ونأمل أن يتم الجزء الثانى فى العدد القادم.