مقتطف وموقف
المقتطف (1)
من يحسم أمر الليزر؟!!!
(المصور/ 8 أكتوبر 1993)
الدكتور: على المفتى
أستاذ جراحة العيون بطب قصر العينى
”كان الباحث لا هم له سوى البحث حول ما يفيد البشرية، وليست له مطامع أخري، أما الآن فالبحوث العلمية أصبحت غطاء للغش التجارى تحت مسميات وهمية، وهذا أبشع أنواع الخيانة العلمية، إنما المشكلة أصبحت فى الجشع المادى خاصة فى الغرب والشرق للكسب السريع – ومع الأسف الشديد – فإن هذه الشركات الصناعية الامريكية العملاقة، تستطيع أن تغرى الأخصائى العلمى بأن تعطيه الهدايا والرواتب المجزية وكأنها مكافآت علمية استشارية لهم، ولذا أصبحنا لا نثق فى أى اختراع فى هذا الزمن، وطبيعى أن العالم الثالث يحب دائما أن يكون مع الركب الغربي”.
الموقف
ليست المسألة مسألة ليزر أو رسم بالكمبيوتر أو علاج التدخين عن طريق خواجة يقرأ على المدخن الفاتحة الفرنسية الفرويدية السلوكية المعتبرة، والمسألة أخطر من ذلك بكثير، أن أصحاب المصلحة المادية لم يكتفوا بالمكسب الحاذق فعل الشطار أو حتى اللصوص، وإنما هم قد أصـروا على تشكيل طريقة تفكيرنا، بل ونبض وعينا بما يبرر ويزيد مكاسبهم فى كل مكان سواء كان بالليزر أو بالمخدرات الطبية، أو بالنظريات شبه العلمية المختزلة، يظهر ذلك جليا فى مجال الأمراض النفسية خاصة.
إن الذين يعالجون الأمراض النفسية بالكيمياء التى هى ، ويجعلون هذا العقار خاصا شديد الخصوصية، وذاك العقار بالغ الانتقاء.. الخ، يتجاوزون حتى المنطق السليم، وعلى سبيل المبالغة الفكهة بلغ الأمر حـد تصور أن ثمة عقار بذاته هو مختص بالقلق الناتج عن التفاعل الناتج عن الحب الذى أحبط فى كازينو الشجرة، أما ذلك العقار فهو يداوى آلام الاكتئاب الذى يظهر عقب شم رائحة كباب حاتى الحكمة (أمام دار الحكمة) دون القدرة على تذوقة !!! المسألة أصبحت خطيرة، الأدوية ضرورية والتقدم الطبى الأجهزاتى رائع لكن تفسده إقتصاديات السوق والنظام العالمى الجديد، !!!!!! والشركات الصناعية العملاقة هى وشركات الدواء وشركات السلاح قد أصبحت فى واقع الأمر الوجه العلمى والتكنولوجى لما يسمى النظام العالمى الجديد. ولنعترف بشجاعة أن هذه الشركات التى تشكل العالم، قد انتهت إلى صياغة النظام العالمى الجديد قبل السياسة وقبل انهيار الاتحاد السوفيتى والاتحاد العربى الاشتراكى التعاونى الملكي، والاتحاد اليوغسلافى الهتكعرضى التيتوى ، وكل اتحاد بنى على باطل وانحل على باطل، عرفت هذه الشركات قبل كل ذلك “سيم” النظام العالمى الجديد، وهات يا أبحاث، وهات يا أدوية، وهات يا سلاح، وهات يا أجهزة، والنتيجة أن العلماء لم يعودوا علماء وإنما هم مقررو لجان توزيع المنح المرصودة للبحث الفلاني، وهم منفذو توصيات أرقام إحصائية تشوه الحقائق بادعاء الموضوعية، وكل هذا إشكالات منهجية نعانى منها ولنا تجاهها موقف، لكن المصيبة تصبح خطيرة خطيرة خطيرة حين تخرج نتائج هذا الأبحاث بأرقامها البراقة على ورقها المصقول ورجالها المختصين فى الذى منه، (طبعا مع الجوائز والمناصب العالمية وسرك النشر) تخرج نتائج هذه الأبحاث إلى صاحب المصلحة الحقيقية وهو المستهلك لأخطر ناتج علمى يعلنه ناس لا غبار عليهم. يقول كما ذكر المقتطف :
”هذه الشركات الصناعية الأمريكية العملاقة، تستطيع أن تغرى الأخصائى العلمى بأن تعطيه الهدايا والرواتب المجزية وكأنها مكافآت علمية استشارية لهم”
وهى ليست الشركات الأمريكية فقط، لكنها الشركات المتعددة الجنسيات والسويسرية والإسكندنافية، واليابانية، والهندية والمصرية إذا أمكن، !!!، كذلك ليست المسألة مسألة مكافآت علمية استشارية، لكنها السفر والفندقة والبوفيه المفتوح والإكرام الممنوح والسحر الحلال ( حسب معامل الارتباط الأخير فى جدول ضرب المقادير بعيدا عن حساب الخير البصير…إلخ) ،
والأدهى من هذا كله أن صغار الباحثين والممارسين قد تغيرت عندهم القيمة العلمية هكذا:
1) أنشر تشتهر، بدلا من إعرف تـشـرف.
2) سافر تأتمر، بدلا من إبحث تـبـتكـر.
3) روج تلمع، بدلا من إحتـر تـبـدع.
والحل:
لا يمكن أن نرفض التقدم أو نطرح الإضافة التكنولوجية وراء ظهورنا، لكن لا بد أن ننمى من جديد ما هو” قيمة علمية”، وأن نعيد إحياء البعد الأخلاقى فى البحث العلمي، بل لا بد أن ننتبه للبعد الدينى ، فأحسب أن الله سبحانه سوف يحاسبنا أول ما سيحاسبنا على هذا العلم الغشاش، الذى أفسد عقولنا واشوه فطرتنا. وكل عالم لم يكفر بفطرته يستطيع أن يميز الغش من الأمانة، لا بالقبول للنشر الذى يهتم بالشكل والتمويل وليس بالموضوعية الحقيقية والإبداع، وإنما يتم التمييز بهذه البصيرة التى ترفض هذه المعاذير، ولن يغفر الله لعالم مهما نال الجوائز التقديرية والمراكز العالمية أنه خان وعيه، سواء كانت هذه الخيانة شعورية أو لا شعورية، هذا هو البعد الدينى للبحث العلمي، وليس قياس العلم بالدين ولا تمحك الدين بالعلم.
المقتطف (2)
مجلة علاء الدين
(العدد الحادى عشر 23 سبتمبر 1993)
”ذات ليلة حالكة السواد، مر رجل شعبى بجوار حفرة عميقة، وفى أثناء ذلك سمع الرجل الشعبى صوت استغاثة آتيا” إليه من تحت. فصاح باتجاه الصوت: “ماذا هناك؟”. أجاب الآخر: “أنا نحوي، ولسوء حظى وقعت، بسبب جهلى بالطريق، داخل هذه الحفرة العميقة التى أتحدث من داخلها الآن، ولا أستطيع الحراك”. قال الشعبى للنحوي: “هون عليك يا أخي، أنا ذاهب أحضر سلم وحبل”. قال النحوى للشعبي: انتظر لحظة من فضلك.. أخطاؤك النحوية فاحشة وأسلوبك لا يحتمل، فاعمل طيبا وتعلم كيف تتحدث بأسلوب سليم”. وحينذاك قال الشعبي: “إذا كان هذا هو ما يهمك أكثر من أى شيء آخر، فإن من الأفضل أن تبقى حيث أنت، حتى أكون قد تعلمت كيف أتحدث بطريقة سليمة لأحضر إليك وأنقذك”. وواصل سيره!!.
الموقف
ماذا يريد هذا الموقف أن يبلغه للأطفال، الأطفال المصريين والعرب، هكذا، هذه الأيام؟ (أكتوبر 1993)، إن ما بلغنى هنا هو:
1- إن الاهتمام بإتقان اللغة أمر يساوى الهلاك .
2- إن الإنسان المتقن لحرفته (نحوي) فى كل وقت، حتى وهو على حافة الموت، هو إنسان متخلف غبي.
3-إن القسوة فى العقاب جائزة حتى تعريض المخطئ للموت فى حفرة لا حراك فيها، لمن يخطئ (هذا لو كان أخطأ) أو لمن يهتم بالتفاصيل فى وقت يحتاج للاهتمام بالأولويات العاجلة .
4- إن إنقاذ المستغيث يرتبط بماهية المستغيث والحكم عليه، وليس بخطورة الموقف ثم البحث بعد ذلك عن أسبابه وتعداد ما يراد تعديله سواء فى حفر الطريق أو فى تفكير المستغيث.
استطراد:
وقد ذكرنى هذا المقتطف بموقف آخر أثناء وجودى فى زيارة قصيرة للخليج حيث كنت أصلى الجمعة وكان الخطيب رجلا فاضلا متحمسا جدا يحكى كيف أن فقيها عارض حاكما ظالما، فأمر هذا الحاكم بإعدامه بأن يوضع فى قفص الأسد حيا ويترك حتى يأكله الأسد، ويبدو أن الأسد كان شبعانا وقتها فأجل التهامه بعض الوقت، حتى صدر أمر العفو لسبب أو لآخر، فأخـرج الفقيه سالما بفضل الله ورحمته، فسأله طلبته ومريدوه: ‘ فيم كنت تفكر وأنت تنتظر الموت فى قفص الأسد؟”.
إلى هنا وقد كنت أتتبع بشغف شجاعة هذا الفقيه، وأستبشع ظلم الحاكم، وأتصور قسوة الحكم، وتصورت أن الفقيه سيجيب بأنه كان يفكر فى : من ذا الذى سيحمل الشعلة بعده، أو فى لقاء ربه، أو كان يدعو الرحمن بألا يعرض صاحب رأى لما هو فيه، كل ذلك وأنا فـرح بشجاعة هذا الخطيب هكذا فى هذا البلد هكذا ..إلخ، وما إن انتبهت إلى الإجابة حتى صعقت، قال الفقيه (والخطيب مازال متحمسا جدا جدا): كنت أفكر ألعاب الأسد نجس أم طاهر؟
وقد ربطت بين هذا المأزق، وأولويات ما نفكر فيه، وبين مأزق النحوى الملقى فى الحفرة، وقلت هذا ما قد يؤخذ على النحوى والفقيه معا، ترتيب الألويات، لكن أن تكتمل الرواية الأولى (النحوى والحفرة) إلى عقاب يعرض النحوى للهلاك ويعلم الأطفال القسوة، وتنتهى الرواية الثانية (الفقيه والأسد) إلى أن نعلم الناس أن المهم الأهم هو ليس مقاومة الظلم ولا شجاعة لقاء الله، وإنما قضايا نجاسة لعاب الأسد أم طهارته !!! هذا وذاك هو ما دفعنا أن نقف هذا الموقف.
أما ثالث التداعيات فهى تلك القصة النبيلة التى كنا نتعلمها ونحن صغار حتى لا نخلط الجد بالهزل، وأن نتجنب الكذب الخطر، وهى قصة الصبى الذى كان يعوم ثم تصنع الغرق وراح ينادي: “أنقذونى أنقذونى النجدة النجدة”، فلما انبرى له المنقذون ضحك مازحا، قائلا إنه كان يمثل عليهم، وتكرر ذلك مرة أو مرات، ثم اشتد الموج فعلا وتعرض لهلاك حقيقي، فلم يبادر الآخرون بإنقاذه حين أستغاث بهم نفس الاستغاثه ظنـا منهم أنه يمزح مثل المرات السابقة.
أنظر إلى هذه القصة وتأمل أنه لم يتخل أحد عن المستغيث عامدا متعمدا، وإنما ترجيحا لمزاح سبق تكراره، وأن خطأ المستغيث لم يكن الإتقان أو الاهتمام بالفروع قبل الأصول، وإنما أنه كذب فى موقف لا يحتمل الكذب، وأنه نال جزاء تلقائيا وليس بفعل فاعل قاس مستهين بما هو فيه.
أليس يحق لنا أن نتحفظ على الورق المصقول الذى تصدر به ‘ علاء الدين”.
المقتطف (3)
هل يحب أحد إلا نفسه؟
المقتطف:
خليلك أنت لا من قلت خللى وإن كثر التجمل والكلام
هذا المقتطف من أمثال أبى الطيب المتنبى التى جمعها الصاحب بن عباد لفخر الدولة بن بوية ومعها ما ذكره الثعالبى فى يتيمة الدهر من محاسن أمثاله وحكمه وما ذكره العكبرى من إعجاز أبياته التى ذهبت أمثالا، وقد أعاد ترتيبها وأضاف إليها محمد إبراهيم سليم (دار الطلائع)
والبيت هو من قصيدة قالها المتنبى يمدح المغيث بن عبد الله العجلى ومطلعها
فؤاد ليس تسليه المدام وعمر مثلما تهب اللئام
الموقف:
لا بد أن باب المديح كان شيئا آخر غير ما نعرفه هذه الأيام، إذ قد لا يتصور أحد أن يدور من هو – بصفات المتنبى أنفة وشموخا بشعره المتميز ينافق هذا ويمدح ذاك، بنفس المعنى الذى تفهمه الآن مما هو نفاق، هنا وهناك، ولكن إذا كان بعض أدوار الشاعر هو مثل دور الصحافة القومية فى هذا الزمان فى مثل بلادنا، فربما فهمنا الأمر بعض الشيء ولكن ليس هذا هو المراد هنا من موقفنا هذا
الموقف هو أن مسألة الأثرة والأنانية قد تناولها العرب – المحدثون- من منطلق أخلاقى لا أكثر ولا أقل
ثم جاء بعض النفسيين من الغرب يميزون بين الأنانية وحب النفس، وقالوا إن الأنانيةselfishness هى انغلاق نحو الذات، وإلغاء للآخر، واستعمال لهذا الآخر بوعى أو بغير وعى ، أما حب النفس self love فهو علاقة النضج، وتقبل الذات باعتبارها من ركائز الواقع الذى يننبغى أن نبدأ به، وكان من أهم من نبه إلى أن الإنسان لكى يحب الآخر حبا حقيقيا لا بد أن يحب نفسه ابتداء هو إريك فروم.
لكن فرويد ( وصديقه فلايس فى مراسلاتهم خاصة) كان قد افترض أن الإنسان حين يحب وحين يمارس الجنس إنما يسقط ذاته الأخرى ( الرجل يـسقط الأنثي) و (الأنثى تـسقط الرجل من داخلهما) على المحبوب وكأن أيا منهما لا يحب إلا نفسه.
ثم جاءت مدرسة العلاقة بالموضوع لتجعل من الذات موضوعا مستقلا فإذا ما تحقق حب الفرد لذاته بموضوعية، أمكن أن نطمئن إلى حب الواحد منا لأى موضوع آخر.
وهذه النظرة الجديدة هى ضد مسألة التضحية وربما ضد حتى مسألة الإعلاء والتسامي، وقيل إن الحب الذى يبدأ بالنفس، هو الحب الذى يبقى والذى يمكن أن نطمئن إليه، ويبدو أن هذا الاستنتاج العلمى هو بديهة بدئية، إذ كيف يحب الناس من عجز عن أن يحب نفسه.
وفى العلاج الجمعى أحيانا نلعب دورا يدعو أن يفخر الواحد منا ( معالجا ومريضا بنفسه، مثل أن يقول : أنا من حقى أن أحب نفسى “حتى لو” .. . ثم يكمل ما يعن له، فنفاجأ بصعوبة حقيقية بين المرضى والأسوياء على حد سواء، صعوبة تقول إن حب النفس ليست بهذه السهولة التى تبدو على السطح ونحن نتراشق باتهام بعضنا البعض بالأنانية مثلا.
ثم يأتى المتنبى ليذكرنا كيف تنبه هو – ممثلا للشعر العربى الغائر فى النفس منذ عرف الشعر والنفس- ليقول:
إنه لا صديق لك إلا نفسك، وأن كل من تصورت صداقته ليس كذلك تماما
وقد أضفنا “تماما” رحمة بنا منه، وقد قال الشارح فى ذلك: إنه لا صديق لأحد – على الحقيقة – إلا نفسه، وليس من تقول : هو خليلى – خليلا لك، وإن كثر تملقه، ولان لك قوله
على أن الموقف الذى نقدمه يضيف:
إنه أيضا ينبغى عليك ألا تصدق نفسك وأنت تزعم صداقة غيرك كلاما وتجملا، فالنهى هنا لا يقتصر على التنبيه على عدم تصديق الآخر، بل على نفسك أيضا، ونحسب أن المتنبى كان يقصد ذلك أساسا، وإن كان يعرف المعنى السائر حتما.
بقى أن نذكرموقع الفخر (وهو باب شائع وهام فى الشعر العربي، ) من مسألة حب النفس ( وليس الأنانية)، ونحسب أنه أيضا كان يؤدى دورا لا يستطيع تمييزه الآن، فمثلا: إعلان الفخر هكذا بوضوح هو خير من ممارسة فخر مستتر، وادعاء تواضع يستر العجز ولا يضفى الفضيلة.
إن ديوان الشعر العربى ينبغى أن يكون مادة نتعرف بها على حقيقة ما شاع – صدقا وكذبا- عن ما هو عربي، لسانا وقومية، ثم أدوات وأعجاز نخل.