باب جديد: هذه الندوات
تعقد الجمعية التى تصدر هذه المجلة ندوات شهرية وتهمل فى تسجيلها، وقد اكتشفنا أنها جزء لا يتجزء من نسيج هذه “المجلة/الجمعية” فقررنا أن تكون كذلك، لكن دون نقل حرفى، بل هى بلاغ أواستلهام أو كلاهما.
(1) مسيرة الوعى وإيقاع الوجود
بعض ما أثارته ندوة أكتوبر 1993 عن كتاب “هيجل حياة يسوع”
د. رمضان بسطاويسى
”ناقشت الندوة الشهرية لجمعية الطب النفسى التطورى كتاب “حياة يسوع” فى شهر أكتوبر 1993، وقدم القراءة محمد يحيى الرخاوى، ود. نبيل القط، وأثار الكتاب مناقشات. وهذه القراءة ليست تقريرا عن هذه المناقشة، ولا تلخيصا لما دار فيها، إنما هى محاولة لإعادة قراءة هيجل من خلال ما يتيحه تعدد مستويات القراءة، وتداخلها. وأدين للزملاء بما قدموه لى من أفكار، ساهمت فى تقديم هذه القراءة على هذا النحو، وهى قراءة خاصة بتجربتى فى فهم هيجل، ولا أصادر بها على اجتهادات الآخرين.
يجسد كتاب “حياة يسوع” مرحلة أولى من مراحل هيجل، التى استوعب فيها ما آلت إليه مسيرة الوعى الأوروبى، فتقدم صورة للمسيح تتفق مع إنجازات هذا الوعى فى نقد “الوعي” ذاته فى تصوره “للدين”, وتقدم صورة للمسيح يغلب عليها الطابع “الناسوتي” على حساب “اللاهوتي”, ويغلب العقل كجوهر للدين على المعجزة، ويمكن أن يكون هذا الكتاب صورة من صور المسيح التى تتابعت فى الفكر الأوربى، ولعل هيجل هنا يقدم صياغة إغريقية – لأن الإغريق هم جذور وينابيع الفكر الأوربى الحديث والمعاصر- لصورة المسيح، تدخل الدين المسيحى فى منظومة الوعى الأوروبى، وتعيد صياغته وإنتاج تعاليمه وفق آلية مرتبطة بالعصر والتاريخ الذى يعيش فيه، وهذا الكتاب يبين أيضا موقع الدين، ومساحة الوعى التى يتحرك فيها، فالدين فى الوعى الأوروبى يمر بمراحل هى الدين الجمالى والدين الطبيعى، والدين الفلسفى، ولعل الدين بمفهومه الأخير أوضح من أنماط الدين الأخرى التى تتوحد بالحياة الحسية فى الدين الجمالى، ويتوحد بالفطرة فى الدين الطبيعى ..
لكن لماذا هيجل؟ هل نريد تحويله إلى أسطورة، فيها هذا الطابع المقدس، والمتفرد؟، وهل نريد التوقف عنده، أم أنه جزء من صيرورة الوعى وتاريخ الإنسان؟ إن التوقف عند هيجل – فى ذاته – مضاد لفلسفته ذاتها، وإنما الاهتمام به هو جزء من فهم المشروع الحضارى الذى طرحته “الذات الأوروبية”. وقد قدم هيجل “الصياغة” لهذا المشروع، وبالتالى فإن فهم هذه (الصياغة) هو جزء من عملية التعامل اليومى مع الآخر، الذى يريد أن يجبرنى على تبنى صورة للحياة اليومية، وطريقة إنفاق الوقت على النحو الذى يعيشه، حتى يضمن أن يمتد عالمه إلى عالمنا، وتصبح أدواته التى ينتجها تبدو لـى “ضرورة” لا يمكن أن نعيش بدونها، فيضمن أن نظل تتطلع إليه باستمرار، نتلهف على ما ينتجه فى الفكر والتكنولوجيا ..
ويعتبر كتاب (فينومينولوجيا الروح) صياغة لمفهوم “الحقيقة” وثورة فى تصور الإنسان الأوروبى لنفسه، وتصوره للآخر، والذى جعلته يبدأ من الممكن وشروط الضرورة “بوصفها الحرية”, لأنها تتيح الفعل اليومى، بل وتغير مفهوم “العقل” ذاته، ليصبح ما تجسد بالفعل من خلال العمل الممكن، بل إن هذه الفلسفة تؤدى بنا إلى دحض التصور الساذج، الذى كان يقسم الفلسفة إلى مثالية ومادية، عقلية وواقعية، تصورية وموضوعية، فكل هذه التقسيمات ليس لها وجود فى التفكير الفلسفى، ولكنهاحيلة للتبسيط ومحاولة للفهم الإيديولوجى للفكر الإنسانى، فليس هنالك تفكير مثالى وتفكير مادى، فكل منهما يتضمن الآخر بصورة أو بأخرى … وهى أشبه بالتصنيفات القاطعة لمسميات آلام النمو الإنسانى وتطور وعيه التى نسقطها على البشر، دون أن نتيح لهم حرية اختيار المسار التحويلى لمسيرة وعيهم بما يتفق مع إمكاناتهم وقراءاتهم لوجودهم، وقدرتهم على الفعل اليومى، فنجبرهم على الارتباط بالإيقاع الذى تفرضه الذاكرة، بدلا من أن نفتح آفاق اكتشاف (الطريقة) التى يتعامل بها الإنسان مع ذاته، حين يكون فى أزمة، وكيف يمكن أن نخرجه منها، دون أن نطلب منه أن يسير على قضيب سكك حديد الوعى المسبق لكى يصل إلى ما نريده منه، حتى لو كان الموت، وليس ما يريده هو ..
وهذا هو جوهر الفكر الذى التقطه “هوسرل” فى منهجه الفينومينولوجى، فهذا المنهج هو ممارسة يومية، وليس تعاليم يمكن استظهارها وتطبيقها، لأنه يعتمد على “العيان الحدسي”, الذى يتولد من تراكم القراءة اليومية لمعطيات الشعور للفعل الانسانى، وهذا ما جعلنى أتوقف عند تجربة مصرية(1) بوصفها “ممارسة” اكتسبت خبرة هذا المنهج، ففتحت مجال الإبداع النفسى، وهى تجربة لم تقدم أعراضا ترى فى الإنسان إمكانا مغلقا، وإنما رأت فى أصعب وأعقد الأعراض إمكانا مفتوحا يمكن أن يؤسس للعكس، فلماذا لا ندع الموضوعات تكشف عن نفسها، دون أن نسجن أنفسنا فى الذاكرة، حتى نقرأ الوجود، دون اطمئنان غبى أو ايديولوجيا توصلنا للتبرير العقلى لما هو موجود، وإنما ننفتح عليه، ولهذا يصعب تصنيف هذه التجربة أو تصنيف رائدها، فهو فى كل مقام له حال ينشأ عن علاقته به، والتصنيف هنا هو محاولة للاستسهال لكى لا نمارس “الفهم” بوصفه فاعلية، ومسئوولية مشتركة مع الموضوع الذى نفكر فيه، هنا الذات لا تصبح وحيدة، وإنما متعددة ومنفتحة على تعدد وثراء الموضوع، فبقدر ما “تعطي” الذات نفسها للموضوع، عن طريق الزمان والفعل والاهتمام الصادق الذى يمس معطيات الشعور ومستوياته، فإن الموضوع يهب نفسه لهذه الذات، ويكشف لها عن الخفى منها، الذى تعود عليه الآخرون، من كثرة المداومة على رؤيته وتجاهله فى وقت واحد، فيبدو لنا عبقريا، وهو ليس كذلك، لأنها خبرة تتنامى من خلال الإيمان المطلق بالفعل اليومى وتحولاته، ولهذا فإن كل ما تقدمه هذه التجربة هى المعيشة اليومية والاكتشاف المتجدد، وهذا وذاك متاحان للجميع، لكن لا يستفد من هذا كله على هذا النحو، الذى يستنفذ أقصى حدود الممكن سوى من أعطى للفعل حيويته وجديته، فبدأ يقرأ ذاته فى كل صورها الممكنة، وكأن الآخر ضرورى إلى أقصى حد، لأنه موضوع الأنا فى الوعى والتفكير والعقل والمعايشة، ويستحيل الوعى دون ما نعيه، ويستحيل الوجود برمته دون هذا التوتر بين المتناهى واللامتناهى، ولكى يكون هذا التوتر إيقاعا للوجود، فإن هذا مرتبط بالآن، والأنا، والهنا: وهى بوابات لشروط الممكن والتحقق الفعلى عند هيجل، وهى التى تتيح لنا الصيرورة من الوعى الساذج بوصفه مرحلة ضرورية للوعى الذاتى الذى نصبح فيه جزءا من الموضوع، ونتخارج عنه، بموقفنا منه فى الوعى الموضوعى، وهذه الصياغة الهيجلية تقترب من الصياغة التى تقدمها التجربة المصرية دون ربط مباشر بالهيجلية، أو على الأقل دون الإعلان عن ذلك، وهى صياغة تعتبر “كتابة” لقراءة الموضوع، لكى يتم سلبه، وتدمير حالة إخفاق الإنسان فى الواقع لإمكان أخر غير هذا الموت … الكتابة هنا هى قراءة سالبة، محاولة لنفى (الإخفاق), وصورة من صور رفض الواقع، واختبار فروض (الأنا) ومدى سذاجتها، ولكى تتحول جزءا من الموضوع، لكى تعبر للوعى الموضوعى، أى الصياغة التى يمكن أن تنقل التجربة من حيز الذات (الأنا) إلى حيز الـ(نحن) .. ولذلك تبدو الكتابة هنا – غير مسبقة الفروض – ومحاولة للتخلق الذاتى، وممارسة لفاعلية الزمان والفعل وحدودهما فى الإدراك، لاكتشاف آفاق لهذه الحدود.
لا أريد الاستطراد فى تقديم هذه التجربة المصرية بوصفها هيجلية، أو فينومينولوجية، فأنا لا أردها لهما، أو أحاول أن أخلق إحالة متبادلة بينهما، رغم أن هنالك سمات مشتركة كثيرة بينهما، لكن أريد أن أبرز ما تقدمه تراكمات الخبرة والفعل اليومى، وأنه يمكن للعقل الإنسانى، مهما كان موطنه، وشروط واقعه، أن يصل إلى الحدود التى انتهى إليها الوعى الإنسانى فى مسيرة تطوره، وأن يقدم صياغة لإيقاع الوجود مرتبطة بهذا الوعى، ونحن قد نستفيد من ملامح هذه التجربة العامة، ولكنها غير صالحة للتقليد، إذ هى نقدم صياغة أخرى، فهذا هو المنهج فى صيغته التراثية التى فيها يتم إنتاج الذات من خلال الموضوع الذى نحيا – فى الزمان – من خلاله،
ولهذا فليس معنى هذا الحديث تفسير هيجل من خلال هذه التجربة المصرية، أو أن نرجع هذه التجربة المصرية إلى هيجل، ولكن المرجو منه هو إمكانية الاستفادة من حركة التجسد العينى للأفكار ……………
فالفكر هو الحقيقة النهائية لكل شيء، لكن الفكر هنا هو الوجود، والوجود هنا هو الفعل اليومى اللامتناهى، فالفعل لا يحده إلا الفعل، والفكر لا يحده أيضا إلا فكر بهذا المعنى، ولهذا فإن الفكر لابد أن يتجاوز كل ما هو ساكن، لأن تثبيت الفكر أو الفعل تزييف للحقيقة … أو هو على أحسن الأحوال يمثل نصف الحقيقة، أو بالتعبير الهيجلى المشهور أحادى الجانب. ومن ثم فإذا أردنا أن نتجاوز الزيف، أو الوصول إلى الحقيقة كلها، وجب علينا أن نتجاوز هذه الوقائع المعطاة، لنصعد إلى مرحلة أخرى، وهذه المرحلة ستكون – دون شك – أكثر صدقا من المرحلة التى سبقتها، لأنه ما دامت المرحلة السابقة قد تحققت فى الواقع الفعلى الخارجى، فقد أصبحت متناهية، ولابد من تجاوزها إلى مرحلة أخرى، بحيث يرتبط الإيقاع بالتوتر بين المتناهى واللامتناهى، ولما كان الانسان هو الذى يقوم بهذا السعى، من خلال الروح أو الوعى، ولما كان هذا الوعى لامتناه، فإن ذلك يعنى أن الروح تسعى إلى الوصول إلى ذاتها .. أى إلى تعـرف نفسها من خلال ما تنتجه، ولذلك يقول هيجل فى (موسوعة العلوم الفلسفية)- الجزء الأول من ترجمة ولاسWallace الإنجليزية فقرة رقم “81” ، “إن المتناهى يلغى نفسه، ولا يأتى ذلك من الخارج فحسب، بل إن طبيعته نفسها هى التى تتسبب فى إلغائه فهو بنشاطه الخاص، ينقلب إلى ضده”, وهذه الصيرورة مرتبطة بالعلاقات التى تكتنف الوجود، فالأشياء الموجودة فى الواقع الخارجى ليست مستقلة عن الوعى، وإنما مرتبطة به على نحو أو آخر .. فالوقائع ليس لها – فى ذاتها – سلطة، وإنما كل ما هو معطى ينبغى أن يبرر أمام العقل، فلا يتم عبادة الواقع، أو تقديس للمعطيات الخارجية، لأن الوعى الإنسانى أو الروح يعمل باستمرار على تحطيم هذا الواقع (انظر قيمتى العدوان والموت وأهميتهما فى فكر هذه المدرسة النفسية التطورية) وتدمير تلك المعطيات، وعن طريق هذا التدمير يتم سلب الصور الجزئية القائمة لتحل محلها صور جديدة وبدوام هذه العملية واستمرارها، يمكن للروح أن تحصل على الماهية والفكر …
وهذا يعنى أن الروح فى مسارها تنفى باستمرار الصور الجزئية المتناهية القائمة فى العالم الخارجى سواء كانت صورا طبيعية أو روحية من صنعها، من خلال ما يسمى بجدليات السلب الذاتى .. فمثلا قطعة الحجر، لأنها متناهية لا تبقى على حالها، وليست مستقلة عن غيرها، بمعنى أنها ليست وجودا من أجل ذاتها، لأن غايتها ليست كامنة بداخلها، بحيث تظل هكذا مستقلة، ولكنها وجود من أجل الآخر، ومن أجل الروح البشرى الذى يستخدمها فيستخدمها فى قذف العدو (أطفال الحجارة) أو يصنع منها تمثالا، وهكذا نلغى صورتها المباشرة، وعن طريق هذا الإلغاء والسلب، فإنه يتم تجاوز صورتها القديمة، وتنتقل إلى مرحلة أخرى، وما يقال عن أشياء الطبيعة يقال عن نحو أكثر دقة عن موضوعات الروح:
المجتمع والأخلاق، والاعراف، والثقافة، والعلم وقوانين الدول، ذلك كله ينبغى أن يلغى صوره المباشرة لتحل محلها صور جديدة. لكن لنفترض أن الموجودات الطبيعية ظلت على حالها دون أن يستخدمها الروح الإنسانى، فماذا تكون النتيجة، فى هذه الحالة لا يكون هناك تقدم، حتى لو تغيرت هذه القطعة من الحجر بفعل العوامل الطبيعية فذابت فى الماء، أو تفتتت بفعل حرارة الشمس، ذلك لأن هذه التغيرات كلها ليست سوى تغير من صورة طبيعية إلى صورة طبيعية أخرى، وليس ذلك سوى تغير فى المكان فحسب، بينما تحولات التاريخ هى التى تقدم التطور إلى شيء أفضل وأكمل، بينما تغيرات الطبيعة مهما يكن تعدادها، فإنها دورة يعاد تكرارها، وهذه الخاصية التى يتمتع بها عالم الروح الإنسانى، تشير إلى مصير مختلف لدى الإنسان عن مصير الأشياء الطبيعية … هذا المصير الإنسانى المختلف هو القابلية الذاتية للنمو إلى الأفضل والأحسن والنزوع نحو تحقيق مزيد من الإبداع.
وهذا يعنى أن التاريخ لدى الإنسان هو تاريخ وعى الإنسان فى أن يجعل نفسه موضوعيا، بمعنى أن يحقق ذاته فى العالم الخارجى على هيئة تنظيمات اجتماعية ومؤسسات وقوانين وتشريعات وضعية، وفنون يضمها جميعا نظام ما، وتزدهر الحياة الثقافية التى قد نسميها بالحضارة فترة ثم تتعرض لمنحنى من الألم والخطر، لتحل محلها حضارة أخرى تمثل مرحلة أعلى فى سير الروح. ونتيجة لهذا المسار، فإن الروح تجعل نفسها موضوعية، وتنفى الصور الجزئية لوجودها، وتظفر- نتيجة لهذا النفى المستمر- بفهم شامل للعنصر الكلى الذى يتضمنه وجودها ..
والإنسان فى سعيه يحاول فهم هذا من خلال (العقل) – أو “المنهج” بينما صور العقل متنوعة عند هيجل، فالعقل المحض فى المنطق، يختلف عن العقل فى حالة تخارج، كما نجده فى فلسفة الطبيعة والعلم، والعقل يعود إلى ذاته فى فلسفة الروح , فإذا كان موضوع المنطق هو العقل الخالص، فإن ذلك يعنى أنه عقل مجرد أى أنه لم يوجد بعد وجودا فعليا فى العالم، ثم يبدأ هذا العقل المجرد فى التحول إلى ضده وهو اللا عقل المتمثل فى الطبيعة، أما فى فلسفة الروح، فهو يعود إلى ذاته من خلال العبور بالطبيعة، بمعنى أنه العقل العينى الذى يوجد فى العالم الفعلى، وعن طريقه يكتشف الانسان إمكاناته وقدراته الخاصة، وأن يتعرف إمكانات عالمه. فالعقل هو رفض للعبودية، للوقائع كما هى، لأنه يسعى للحرية، وحرية العقل ليست حرية سلبية أو حرية باطنية داخلية فحسب، بل لابد من تحققها فى العالم الخارجى، والحرية بذلك مرتبطة بالإرادة، وحتى لو كان الإنسان عبدا، فإن إرادته هى المسؤولة عن عبوديته، وبهذا فإن خطأ العبودية لا يقع على المستعبدين والقاهرين، ولكنه يقع على عاتق العبيد والمقهورين أنفسهم، وهى دعوة صريحة للتحرر: خلاصك بيدك، ومصيرك مرهون باستخدام إرادتك وتحرير نفسك..
ويمكن القول إن التوقف عند الواقع، كما هو، هو عبادة له، وتأكيد للطابع اللاعقلى فيه، فالحرية والعقل جوهرهما هو تغيير الواقع، لا سيما ذلك الواقع غير العقلى، لكى يتفق مع العقل، بدلا من تبريره.
لكن لماذا يفهم العقل بمعنى الثبات لدينا، ولماذا قد يفهم البعض فلسفة “هيجل” على نحو غير جدلي؟ قد يرجع هذا إلى فهم مغلوط فى عبارة هيجل الشهيرة: “كل ما هو عقلى واقعى، وكل ما هو واقعى عقلى”, التى توحد بين العقل والواقع الآنى، فليس هذا ما يقصده هيجل، وإنما صياغة العبارة على نحو أقرب إلى فلسفة هيجل هو فصل المعقول متحقق بالفعل، وما هو متحقق بالفعل معقول، ويقصد بها أن مهمة الفلسفة هى فهم الحاضر، لأن الحاضر هو العقل، ومتحقق بالفعل ليس هو الوجود العرضى، وإنما إمكانات الواقع التى تفصح عن نفسها فى تحققها الفعلى، ولهذا فإن هيجل يبين أن التحقق الفعلى هو اتحاد الماهية والوجود، وقد أصبح الآن مباشرا، أو هو وحدة الداخلى والخارجى، ومعنى ذلك أن المتحقق بالفعل أو الواقعى هو ما يحقق طبيعته، أو ما يتفق وجوده مع فكرته الكلية، ولهذا فإن الإنسان المريض، والدولة الفاسدة، رغم أنهما موجودان فى العالم الخارجى، فإنهما ليسا متحققين بالفعل، أو أن تحققهما واقعى أو عقلى، لأن ذلك لا يتفق مع الفكرة الفعلية للجسم أو الدولة .. والعقل بهذا المعنى هو فعل يومى لمحاربة تعارض الواقع مع فكرة العقل الضرورية، وهكذا يصبح للعقل طابعا نقديا خلاقا فهو مضاد لكل استعداد لقبول الأوضاع القائمة، وهو بذلك ينكر سيطرة جزء من الحياة، أو شكل سائد من أشكال الحياة على بقية الأجزاء والأشكال، ولهذا فإن الواقعى وما هو متحقق بالفعل ليس مجرد شيء سلبى أو طبيعة معطاة، فما هو واقعى أو متحقق بالفعل هو دائما نتيجة لعمل ما، أو لفعل، وبالتالى فإن الوسيلة لتحقيق العقل هو العمل اليومى المتراكم المولد الخلاق …
وهيجل لا يسلم بعقلانية الواقع، بل يفترض على العكس من ذلك واقعية العقل وتحققه الفعلى، ولهذا فإن ما هو عقلى يحمل فى داخله القدرة التى تجعله يتحقق بالفعل (هل يمكن أن يفيد هذا فى غياب التواصل والتحقق الفعلى للهروب والتبرير، أو التظاهر بالصحة النفسية، دون أن يملك القدرة على التحقق الفعلي؟).
والوعى الذاتى بهذا المعنى هو سمة للإنسان، تجعله قادرا على الارتداد إلى ذاته وإدراكها، من خلال الانعكاس والارتداد، وهذا يتم من خلال إيقاع خاص، حين يجسد الإنسان نفسه فى الخارج، فيتم الوعى الذاتى حين يتجاوز الوعى الساذج، ليحاول أن يفهم ذاته التى اختبرت حواسها فى الإدراك من خلال موضوعات الخارج .
[1] – هذه التجربة هى تجربة ما سمى فى مصر “الطب النفسى التطورى” والتى يمثلها أساسا فكر يحيى الرخاوى وقد تناولته بالتفصيل فى مكان آخر، وقد رأى وهو رئيس التحرير أن يكون ذكر ذلك فى الهامش دون المتن ووافقته على ذلك.