لغوية الوجود المؤمنة
محمد يحيى الرخاوى
كتب هذا المقال بمناسبة مشاركة الكاتب المتواضعة فى تقديم إحدى الندوات الشهرية لجمعية الطب النفسى التطورى والعمل الجماعى بالمقطم، وهى الندوة التى عقدت فى يوليو 1990 وخصصت لمناقشة بعض قضايا التعبير الموسيقى. وقد سعى الباحث فيه لمناقشة بعض الأفكار الأساسية فى أنطولوجية اللغة، محاولا اعتمادها أفكارا أساسية لأنطولوجية الموسيقى.
أوقفنى فى الكون وقال لى:“ الكون موقف“
وقال لى: وكل “جزئية فى الكون موقف“
النفرى
- ما اللغة؟
- هل هى أداة التواصل؟
- أم هى محور كونى أنطولوجى للوجود؟
- هل هى علاقة اعتباطية شفرية بين دال ومدلول؟
- أم هى إبداع لحظة لا تتجزأ؟
-1-
مقدمة:
ليس لهذه الأسئلة أن ترغمنا على الوقوع فى إعاقة منطقية لمعرفتنا باللغة، تلك الإعاقة التى تفرضها صيغ من نوع “إما … أو” فتحزب الرؤى وتمذهب النوايا[1]. ولكننا فى المقابل وفى الوقت نفسه لا ندعى السعى الآن لترسيخ أى سماحة منهجية تعوقنا عن رؤية جوهر الموقف اللغوى الذى أنتج ظاهرة اللغة. إن بحث “جوهر اللغة” هو الهدف الآن، ولأن جوهر الشيء هو غايته، ولأننا نتخذ معظم الوقت موقفا واضحة هيجليته (نسبة لهيجل)، فنحن إذن نبحث فى غاية اللغة من حيث إن هذه الغاية هى جوهرها، وليست وظائفها، وعلينا أن نعترف، فى هذه المقدمة، بأن رؤيتنا لجوهر اللغة، لا ينبغى لها أن تنفى وظائفها. لسنا إذن بصدد وضع نظرية للغة، لا لوظائفها ولا لعملياتها بالمعنى المتعارف عليه، بقدر ما نحن فى محاولة لممارسة فلسفتها.
مواجهة:
ما العلاقة بين اللفظ والمعنى ؟ هل نكتفى عند التعرض لهذه العلاقة بوصفها بالاعتباطية باعتبارها صفة أساسية لوصف اللغة الإنسانية[2] ؟؟ هذه هى المواجهة الأصلية -مواجهة العلاقة بين اللفظ والمعني- التى لا بد من خوضها لكى نمارس -بحق- فكرة اللغة.
والآن: هل سيبقى لنا إلا بضع أصوات (أو أشكال مرسومة) فى أول لحظة نحاول فيها فصل الألفاظ عن المعانى التى تعبر عنها ؟ ولنحاول أن نصوغ هذه الإشكالة بشكل آخر: إذا كانت اللغة مفهوما معبرا عن الممارسة التى أنتجته; هل يمكن فصل المفهوم إذن عن ممارسته ذاتها؟؟ أو، مرة أخرى: هل يمكن أن توجد لغة أصلا بعيدا عن عملية إنتاجها، سواء مورس هذا الإنتاج أثناء الإرسال أو أثناء التلقى الذى هو فى ذاته فعل إنتاج، ولا يمكنه إلا أن يكون فعل إنتاج للفكرة التى عايشها الذهن إيجابيا حين أعاد إنتاج الفكرة بمعايشة تجليها اللغوى.
إن علاقة اللغة بالفكر، على اختلاف تعريفاتهما، هى المحور الأساس الذى ينبغى أن تنطلق منه لتعود إليه دراسات اللغة. وحيث إن الوحدة الأساسية للتفكير اللفظي، والتى هى تعريف فيجوتسكى للمعنى[3]، هى أصغر وحدة يمكنها أن تشتمل على خصائص الكل اللغوي، فهى بالتالي، أو فهو (المعنى) بالتالي، بؤرة تلاقى الطرفين، بؤرة مكانية وزمانية فى الوقت نفسه. إن وحدة التفكير اللغوى[4] هى معنى الكلمة، هى أصغر وحدة يمكن من خلالها دراسة اللغة.
لا يمكن، فى ظل التمسك المبدئى بهذه اللحظة، إلا أن ننكر أن تكون اللغة مجرد شفرة بين المتعاملين بها، وهو نفسه ما بدأه تشومسكى حين أنكر الاكتفاء بالارتباط الشرطى (تعلم العلاقة) بين الدال والمدلول باعتباره -الارتباط الشرطي- مفسرا أوليا ووحيدا لاكتساب البشر إمكانية عقلية بيولوجية بحجم ظاهرة اللغة. لقد كان أحد أهم مخارج تشومسكى من مأزق الرد على السلوكيين،[5]، قوله بظاهرة الإبداعية من حيث هى صفة ملازمة لاستعمال البشر للغة، فحيث إن البشر، وحتى الأطفال منهم ينطقون فى معظم الأحوال جملا لم يسمعوا بها من قبل، فإن مؤدى هذا أنهم يبدعون جملهم، وبالتالى فإن التفسير اللاجئ لقوانين الارتباط الشرطى غير كاف.
ولأن تشومسكى بدأ هادفا الرد على السلوكيين، فقد ضاقت حدود الإبداع معه إلى الحد الذى لا نستطيع ارتضاءه هكذا. ولأن الرد على مناهج السلوكيين يحتاج فيما يبدو إلى تكثيف جهد منهجى غير قليل، فإنه يبدو لنا أن هذا الجهد قد تناسب مع لجوء تشومسكى إلى البحث فى الجملة والنحو باعتبارهما العناصر الأقل كثافة فى اللغة. فقد لجأ تشومسكى إلى الجملة ونحوها لإثبات إبداعية اللغة، وكونها فى الوقت نفسه ميراثا بيولوجيا للبشر، متجاهلا نظرية الدلالة بعض الشيء.
إن تعريف الإبداع كما صور فى مجمل أعمال تشومسكى لا يتناسب مع مفهوم الإبداع الذى نريد أن نراه فى اللغة محورا رئيسا أكثر غورا وأشمل أبعادا مما صوره تشومسكى. لقد كان تشومسكى ديكارتيا أصيلا، ولكن ديكارت لم يكن فى أى لحظة كافيا، ومن ثم فإن بداية تشومسكى الصحيحة على هذا الخط الديكارتى المصيب، لم يكن لها أن تقف عند حدود انطلاقتها الأولي، حتى ولو كان ذلك فى سبيل المزيد من الدقة والبلورة المنهجيين، ردا على مقولات السلوكية; وهو ما نضعه فرضا لتفسير المسار الذى اتخذته نظرية تشومسكي، بعيدا عن حقل انطلاقها الفلسفى الأصيل، أو -بصراحة- بعيدا عن الحقل الفلسفى الذى نتحيز له فارتباط تشومسكى بالرد على السلوكيين، بالإضافة إلى سعيه والتزامه المفرط بإثبات مقولاته إثباتا إمبريقيا قد قلــصا (على ضروراتهما المنهجية) من ثراء الأفكار المجردة، ومن إمكاناتها التوليدية.
سننطلق الآن من أن محور “الإبداعية” يقف فى مواجهة نهائية مع قضية اللفظ والمعني، فحيث تجلى المعنى هو الغاية النهائية للغة، والتى من خلالها تمارس اللغة وظائفها وتبرز أعراضها، وحيث تجلى المعنى هو لحظة فكرية فى المقام الأساسي، فإن هذا التجلي، أو هذا الخلق للمعني، هو فى حقيقة الأمر إبداعية اللغة. فنحن لايمكننا الاكتفاء -كما اكتفى تشومسكي- بكون إبداعية اللغة محض تكوين ونطق جمل لم تسمع من قبل. إن حادثة نطق الجمل الجديدة يمكن أن تستعمل دليلا، لا موضوعا; فالدليل عرض للموضوع، وحين لا يكون الهم معرفة، بل دحضا وإثباتا، فإن الضرر يقع على الظاهرة حين يحل محلها المنهج ودلائله.
إن إثبات أن اللغة تحقق وتخلق قبل أن تكون أداة للتواصل هو -عندنا، والآن- الإثبات الأجدر بالتدليل عليه، إذ هو -على الأقل- الإثبات الأقرب للإبداع الإبداع، كما أنه الأشمل أبعادا والأوسع حدودا فى تصورنا، بل هو الإثبات الذى يستطيع أن يعيد تعريف التواصل شاملا إياه فى إطار اللغة.
لكى نقول إن اللغة إبداع، فإننا نقول إنها ديالكتيك، ولكى نقول إنها ديالكتيك فإننا نقول بعدم ووجود ينتجانها.
أما العدم، فالعدم صنو الادعاء [6]، وحين ينفصل اللفظ عن معناه، فنحن فى أرض الادعاء، حين ينفصلان “لحظة اللفظ”، أى لحظة التلفظ (سمعا أو نطقا ، إنتاجا أو تلقيا) فنحن حيث لا معني، حيث العدم. إن البعد الزمنى لا يمكن تجاهله حين نتحدث عن ظاهرة لاتفصل فى حقيقتها زمنيا بين اللفظ وما يحمله من معني، أى حين نتكلم عن ظاهرة ظاهرها المتجلى أحداث زمنية الجوهر. إن اللفظ حدث، والحدث زمانى بالضرورة، فكيف سأفصل معنى الحدث عن زمنه. وإن احتج بأن الفاصل موجود حتى لو لم لم يدرك، لقلنا إن ما يخلق العلاقة بينهما “لحظة العلاقة” هو انعدام هذا الفاصل، ولولا هذا الانعدام مهما بلغ صغره ، وإن لم يدرك، ما كانت العلاقة.
إن أى فصل زمنى بين اللفظ والمعنى يؤدى بالضرورة إلى استعصاء إقامة علاقة بينهما، إن إقامة علاقة تحتاج لوحدة لحظة، تلك الوحدة التى لا يمكن دونها أن تتكون الحادثة. من هنا تجيء وحدة اللفظ والمعني، إنها ليست تلك الوحدة التى يرتبط فيه الطرفان موضوعيا، و لكنها الوحدة الزمنية التى يبدعها العقل لحظة المعني، ومن هنا، فلا مكان على الإطلاق للدفاع عن وحدة موضوعية بينهما كما أنه لا مجال للهجوم عليها بمنطق اعتباطية العلاقة، لأن اعتباطية العلاقة هى اعتباطية العلاقة الموضوعية، وهى العلاقة التى ظهر الآن أنها ليست العلاقة المقيمة للغة أو المؤسسة لها، إن العلاقة الموصوفة بالاعتباطية لا يمكن أن تكون “لحظة اللغة”، إنها تكون فى لحظة أخري، لحظة جعل اللغة بعيدة عن زمنها الخاص، فتصبح عندئذ شيئا آخر، مجرد موضوع مفترض للمعرفة بعيدا عن لحظته الخاصة، وتكف الظاهرة الواقعية المعاشة ذاتها عن أن تكون هى ذاتها وبذاتها موضوع المعرفة. ولأننا نتكلم عن ممارسة العدم لا عن معرفته، فإن العدم هو ألا يكون اللفظ معناه لحظة التلفظ. ذلك هو سلب الموضوع فى لحظة إبداع (= ديالكتيك) اللغة.
وأما الموضوع فى الإطار نفسه للديالكتيك نفسه، الوجود المقابل للعدم، فهو الفكرة; الفكرة التى تسعى اللغة لتحويلها إلى تخلق مختلف فى طبيعته، إلى صيرورة لغوية، إنه المعنى فى صورته الفكرية، قبل أن يتحول إلى صورته اللغوية. وبالمناسبة، فإن الفكرة غائية بالضرورة، أليس كذلك؟
أما مركب الموضوع فهو اللغة لحظة اللغة، لحظة المعنى فى تجليه اللغوى. إن تجلى المعنى هو المحور الرئيس للغة، لكل لغة. أما التواصل فهو أحد أعراض هذا التجلى (انظر بعد) ولأن هذا التجلى هو فعل صيرورة له لحظته التكونية الواحدة، فإن التخلق أو تحقق الفكرة فى صورة لغوية، لا يتيح مكانا للفصل بين التحقق ومظهره.
إننا ننظر إلى اللغة باعتبارها كل ما هو “حامل المعني”، و”حامل الجمال” و “حامل الوجود” فى آن معا (أو -كما سنري- هى “الجمال والمعنى فى التواجد”). لقد نجح فيجوتسكى نجاحا جميلا، حين عارض التعرض المنهجى لأى موضوع بالتحليل إلى عناصره الأولية (ونضيف “لأنه يتم -تحليلا- فى مستويات مشوشة ولا يتم -تأصيلا- فى تداخلات منتظمة” ) دون الالتزام بفكرة أن الكل ليس هو مجموع أجزائه. وقد استشهد فى ذلك بأن خصائص جزيء الماء تختلف تماما عن خصائص كل من جزيئات الهيدروجين والأكسجين المكونة للماء. وبالتالى فإن أصغر وحدة يمكن عن طريقها وصف الماء هى جزيء “يد 2ا”. وبالمثل، فإن دراسة اللغة لا بد أن تلتزم بدراسة الوحدة التى تحتوى كل عناصر الكل. فإن كانت دراسة اللغة، هى فى الحقيقة دراسة لعلاقة اللغة بالفكر، فإن أصغر وحدة تتمثل فيها هذه العلاقة تماما هى وحدة: “المعني”، أو -بألفاظ فيجوتسكى أيضا-: “وحدة التفكير اللفظي”.
ولكن: ما المعني، ما فلسفة المعنى، أو فلسفة اللغة، أو جوهر معنى اللغة؟ لعل مبحثنا هذا يرد كمحاولة للإجابة، فنحن إن استطعنا أن نشير إلى هذا الذى هو معنى المعني، سنكون بالضرورة قد أدركنا ماهية اللغة “حامل المعني”.
ولكن هل اللغة هى “حامل المعني”؟ إن اعتبارها كذلك يؤدى بنا للعودة للفصل بين الحامل والمحمول، لذلك فإن علينا أن نراها أحد محاور خلق المعنى.
ثم نقول: إننا إذا نظرنا إلى اللغة باعتبارها “حامل المعني”، فإن دلالة ذلك تختلف عما لو نظرنا إليها باعتبارها “تجلى المعني”; فاعتبار اللغة “حامل المعني” سيعود بنا إلى الفصل بين الشكل والمضمون أو اللفظ والمعني، ونفى هذا لن يكون إلا بـ الإمساك بالطرفين فى اللحظة نفسها (التى هى اللحظة الحقيقية للغة كما رأينا): أن تكون اللغة كليهما معا.
ينبغى علينا إدراك لحظتى الإنتاج أو التلقى على نحو دقيق، فلحظة الإنتاج أو لحظة التلقى هما لحظتا الحركة والفعل، أو المعني، أما لحظة اللفظ، فهى لحظة ثابتة، ليس لها وجود حقيقى بما هى ثابتة، فلا ثبات فى الحقيقة بشهادة حتى فيزياء الذرة، لا وجود للثبات إلا خارج الحقيقة، لا وجود له إلا على نحو (يسمى هذه الأيام) موضوعى ، ثابت دون فعل أو فاعل يسند للوعي، أى على نحو ميت. صحيح أن اللفظ كيان مادى لا يمكن إنكار وجوده ولو كان مجرد حبر على الورق، ولو كان ميتا دون صيرورة فعل إنتاجه أو تلقيه المعنوي، ولكن هذا الدور الذى يلعبه الميت ليس إلا دور الإبقاء أو الاحتفاظ بالجسد فى مقبرته، إنه ذلك الدور الذى لا حياة فيه ولا مجال للإبداع ولا الجمال. إنه تعيين مكانى مغترب لما هو زمانى فى حقيقته الأصلية.
إن دور الإبقاء دور لا غنى عنه، دور الثبات والاحتفاظ عبر الفجوات الفاصلة بين لحظات الزمن [7] (حتى لو كان ذلك بين متلق ومنشئ فى المكان نفسه، أى أنه دور تواصلى بالمعنى القديم للتواصل)، ولكن المعني، معنى الكلمة، هو الفعل الذى ينتجه، إما “فعل إنتاجه” أو “فعل تلقيه”، ولو كان ذلك مجرد لحظة، تتحول الكلمة ومعناها بعدها إلى لفظ ودلالته، إلى الموات الموضوعي، إلى العدم. إن اللفظ إذن ليس إلا موضوعا افتراضيا للدراسة، هكذا تؤثر الدراسة ومناهجها على الظاهرة، حين تدرس شيئا آخر مغاير تماما لها فى لحظتها التى توجد فيها، فتتحول “الكلمة” من داخل فعلها وحيويتها وصيرورتها إلى صوت، “لفظ” ندعى البحث عن علاقة صوته أو رسمه بأفكارنا التى عجزت عن أن تدركه لحظة كونه “كلمة”.
المعنى إذن مفارق تماما للفظ، ولكن لا يمكنه مفارقة الكلمة. الكلمة وحدة اللغة، واللغة لا يمكن أن تفارق المعني، إنه وحدة التفكير اللغوى.
العلاقة بين اللفظ والمعنى إذن علاقة مؤقتة تماما، بل واهية، فلا وجود للمعنى فى ظل بقاء الشكل صورة مادية بحتة، فى الوقت نفسه فإن الشكل ينتفى تماما لحظة المعني، وحين يتحد الشكل بالمعني، فإن فى هذا خلقا جديدا للشكل لا انفصام فيه بين شكل ومضمون، إنها لحظة، هذه اللحظة هى أهم اللحظات فى هذا المبحث. إنها اللحظة التى يكتسب فيها الشكل قوة المعنى وروحه، هاهنا تكون اللغة لغة.
لا يمكننا، إذن، فى لحظة المنشأ (لحظة الإنتاج) فى ظل النسق الحى المتحرك الفعال للمعني، أن نتكلم عن اللفظ ودلالته التى تنتمى إلى عالم الثبات أو الانتفاء.
ولا يمكننا ذلك حتى لحظة المآل (لحظة التلقى)، (حيث توحيد “الشكل بمعناه” فعل لاحق) فهنا نحن فى مواجهة فعل خلق كامل لعلاقة الشكل الجديد بمعناه دون أدنى إمكانية للفصل بينهما. كيف أفصل واحدا عن واحديته؟ وكيف أفصل متخلقا عن تخلقه؟
يبدو الأمر الآن فى الصورة التالية:
1- المعنى موجود.
2- يمارس المعنى ذاته فى “جدل الوجود والعدم من أجل الصيرورة” (الجدل الرئيس)، عندئذ تكون اللغة هى لحظة صيرورة الوجود صيرورة لغوية، أو تخلق الوجود تخلقا لغويا، فيتجلى المعنى -وتختلف طبيعته طبعا-، ولا يأخذ شكلا إشاريا، وإنما وضعا حيا، بما هو معنى وبما هو لغة. اللغة إذن فعل معايشة المعنى فى ” وضع” لغوى (أو - ربما- فى نظام لونى، أو -حتى- فى “زمن” موسيقى).
3- ينفصل المعنى إلى لفظ ودلالة، يحدث هذا (على الأقل) بسبب عجز الوعى الفردى أو الجماعى عن اللحاق بسرعة حركة المعني، ففى حركية المعنى اتجاه، والاتجاه يكون للكل المطلق (انظر بعد)، إلا أن المعنى - فى مطلقه- فى تحرره من قيد التحقق المادى (بالمعنى الأدنى للمادة) الملزم للوعى المتخلق، يكون أدوم وأسرع من الوعى الفردى/الجماعى وقدرته على التحقق فى وعى مادى. وهكذا، ففى ظل محاولات التثبيت سعيا للاحتفاظ والإبقاء والتواصل يبقى اللفظ، للإشارة إلى مفهوم أو إلى تاريخ.
4-رغم أن إبقاء اللفظ ودلالاته وظائف لا بديل لها، ولا غنى عنها، إلا أنه لا يوجد باعتباره لغة، بل باعتباره خزانا لمفهوم، وهى وظيفة اغترابية مختلفة تماما عن وظيفة حيوية اللغة، الخلاقة للمعني، المتخلقة به.
5- قد يستعيد اللفظ معناه باستعادة الحركة، عندئذ ينتفى اللفظ مرة ثانية، وتخلـق الكلمة من جديد، لتخلق بدورها معناها الباعث لمعنى المعنى.
6-إلا أن هذه الخطوة الأخيرة (رقم 5) قد لا تحدث بالضرورة مع اللفظ نفسه، فتخلق كلمة جديدة، أو تكوين جديد.
7-من المهم للغاية الإيمان بإبداعية الخطوة (5) مثلها فى ذلك مثل الخطوتين (6) و (2). وهذه الأهمية تكمن فى أهمية الالتزام بالبداية من واقع ملموس، يـتلمس فيه المعني، فيتخلق بإحياء الواقع، لا بالبداية من جديد فى كل مرة.
إن أشهر الأمثلة على التسلسل السابق فى تاريخ اللغة هو تاريخ أهم كلمات اللغة، تاريخ اللوجوس، إنه تاريخ الإيمان والكفر بما هو “الله”.
لقد أدرك “كوستا بندلي” فى كتابه المعنون “إله الإلحاد المعاصر”[8]، أن ما رفضه ماركس وسارتر لم يكن هو هو المعنى الحى الفعال للجلالة اللغوية الإلهية، لقد رفضا مفهوما مغتربا، رفضا آلة للسلطة أصبحت صنما للناس، إن صنميتها هى فى موات ثباتها، وقد أقر بندلى لهما بالرفض، رفض ما يرفضان، لا رفض ما يقبل، وكان الفارق شاسعا، فكان كتابه ذلك.
إن تطابق رسم وصوت “اللفظ (الله)” مع”كلمة (الله)” لا يعنى -فى الحقيقة- أن الاثنين واحد، إنهما “لحظتان” مختلفتان أشد الاختلاف: “لحظة ميتة، لا جذور لها فى المعني، تمثل العدم وتسعى لتجميد الزمن; ولحظة حية، كلها معناها، تتمثل بصيرورة الإيمان وتستمد حياتها من جدليتها الزمنية”. إنها حقيقة لا جدال فيها: أن يرتبط المعنى بالفرد، المتلقى أو المنتج. ” إن المعنى يتخلق بالوعى به” ، وهذا ما جعل اللغة التى هى حامل المعنى لا يمكن أن تكون إلا تخلقا للمعنى.
ويمكن تلخيص مؤدى ما سبق على النحو التالى:
1- إن الدور التواصلى للغة لا يمكن إنكاره، ولكن وضع هذا الدور فى موقع الأسبقية على الدور الإبداعى سيجعل من هذا الأخير تشكيلا عدميا كذابا (من مادة عدمية كذابة)، كما أنه يفقر معنى التواصل فى حقيقة الأمر إفقارا شديدا.
2 – إنه لفهم اللغة ينبغى النظر دائما للمعنى باعتباره الفعل الإنسانى اللغوى الرئيس، إنتاجا أوتلقيا.
3 – إن اللسان الإنسانى ليس لغة دائما بالنظر إلى التعريف السابق.
4 – إن اللغة معرفة، والمعرفة فى تحقق وتخلق، فالتواصل عرض للغة وليس جوهرا لها.
ولمزيد من إثبات هذه الحقيقة، نزداد امتدادا، لإثبات أن أصل اللغة (= غاية اللغة) إنما هو التحقق تخلقا لا تواصلا فى المقام الأساس. فعلينا إعادة النظر فى المعنى الشائع للتواصل اللغوى، الذى يبدو وكأنه محض تبادل للمعلومات من خلال قنوات سيميوطيقية، لأنه بناء على إعادة النظر للغة بوصفها عملية خلق لا عملية تشفير (أو فك شفرة) بعض المعلومات، سيكون علينا إعادة النظر للتواصل لبحث كيفية حدوثه. ولنتكلم إذن عن:
لغوية الوجود:
هل يمكن أن يحمل الدليل معني؟ إن غاية مايمكن أن يحمله الدليل بوصفه دليلا هو علاقته الرمزية بدلالته، أما المعني، فهو فى الوجود ذاته، وبهذا فإن الوجود هو اللغة، هو المستوى الأحق بهذا الاسم. أما الإشارة والتسمية، فهما مستوى بسيط للغاية يسعى إلى التثبيت كما سبق التنويه، واستخدام هذه الثوابت فى تنظيم إيقاع الحركة، إذا أمكنه. إلا أنه عادة مايستخدم فى تثبيتها، عندها يصبح الدليل اللساني، كأى دليل إيديولوجى آخر صنما، أهميته فى السعى لتكسيره وتجاوزه إيمانا بوحدة المعنى وغائية الحركة قبل وبعد الدوران حول ثبات الأصنام. الأصل هو الوجود، وما الدليل إلا علامة من علاماته. فهل يصلنى المعنى من الأصل (الوجود) أم من العلامة؟.
يقول النفرى:- ” أوقفنى فى الكون وقال لى: الكون موقف.
وقال لى: وكل جزئية فى الكون موقف” [9]
هكذا فإن الكون -عريانا من أى علامة- يمثل موقفا فى حد ذاته، بل هو يمثل أيضا إعلانا لهذا الموقف بما هو كون معلن. ولكن ما هو هذا الموقف؟ إن محض كينونة الكون موقف يقول إن هذا الذى يكون ويتواجد ليس مجرد عدم أووهم.
بسم الله الرحمن الرحيم:- “إن فى خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب * الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون فى خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار” صدق الله الكريم.
الوجود إذن سابق على -الأقل- على اسمه ووصفه، ولكنه ليس سابقا على معناه، إن محض وجود ما (=تواجده) يعطيك معنى ما، إنه معنى الوجود (= التواجد) الكلي، وذلك سابق على وصفى المعنى بالألفاظ، إنه العلامة الأولى. ولاحاجة بنا الى تعداد أمثلة ذلك. ولنذكر مثالين امبيربقيين متطرفين: أولهما فى الطفولة وثانيهما فى حالات الصم البكم، حيث تتكون المدركات والمفاهيم دون استخدام مباشر للألفاظ. وقد وصفنا المثالين بالتطرف لأننا فى حقيقة الأمر لانقصد هذا النوع من المعاني، إذ أن هذا النوع هو من قبيل الربط الجزئى المباشر بين مفردات الوجود بعضها والبعض والخروج بتعميمات جزئية ليست هى المعنى الذى نريد تعريفه. فقط أردنا أن نشير إلى أسبقية وجود المعنى فى الأشياء، حتى بالمدلول الجزئى للفظ، على وجود أسمائها التى نتعامل بها.
أما المعنى الحقيقي، أو معنى المعنى الذى يصلك من كل معنى فهو موجود أولا فى كل ما حولك من مظاهر الوجود; فـ”الكون موقف”، إن “معنى المعنى هو الوجود”، “الوجود موجود”. إن هذا المعنى الأصلى لكل موجود هو قوام وجوده فى حقيقة الأمر، الذى بدونه لن تكون هناك حتى المادة التى تستطيع أن تتحمل مزيدا من التمايزات والمعانى النوعية. إن إدراك هذا المعنى هو قوام كل لغة، هذه هى نقطة البدء، هى نقطة البدء لجدل قد يصاغ وقد لا يصاغ- “إن الوجود يتواجد” . يقول فوكو فى الكلمات والأشياء:
”…. ليس كل ذلك سوى رسوب ورسب حول وفوق وظيفة فعلية دقيقة تماما، إنما أساسية، فليس هناك غير فعل الكون… [أى الكينونة] الذى ظل بهذه البساطة. يقوم جوهر اللغة برمته فى هذه الكلمة الفريدة. لولاها لبقى كل شيء صامتا، ولكان البشر قد استخدموا أصواتهم، مثل بعض الحيوانات، إذ لم يكن لأى من الصرخات المطلقة فى الغابة أن تعقد قط سلسلة اللغة الطويلة ” [10]
إن صيغة “الوجود يتواجد” ليست مجرد اقتراح تكميلي، إنها الصيغة الفيزيائية الأقرب للصدق الآن (هذا عدا كونها الصيغة الأقرب للجمال). حتى المادة لم تعد إلا اجتماع حوادث الطاقة فى لحظة الزمان والمكان، بل إن هذا الاجتماع ذاته هو ما يكون حتى المكان والزمان[11] إن “الوجود يتواجد” هو أول معنى يصلك، ثم قد يلى هذا، إن الوجود له معنى فى تواجده، (يتخلق المعنى فى جدل وجوده ووجود الوعى الذى يدركه معا)، هكذا دون تعريف محدد، فهى تبدأ بمحض صيغة أن له معنى فى تواجده (لاحظ ما بين كلمة معنى وكلمة غاية -هنا والآن- من تداخل كبير “ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك..” )، ثم قد تخطئ أو تصيب فى تعريف نظامه وغايته، وقد لا يصلك إلا فى صورة تساؤل. إن السؤال إثبات.
إن هذا المعنى هو أصل المعانى كلها، سواء كان فى صورة تساؤل أو فى صورة إجابة. إن معنى “الوجود يتواجد هو المعنى الجوهري، المؤلم والجميل”، وهو المعنى الذى يصلك من أى وجود.
يبقى أن هذا المعنى يظل غامضا ومغلفا بالتساؤلات ومضغما فى الكلية بشكل يصعــب أى تحديد، إلا أن لهذا، (ولغيره كربطه بتطور الوعى فى اتجاه التمايز والتحديد، ثم نشوء الوعى البشري، ثم نشوء اللسان البشرى وتطوره واغترابه، وتأثيره فى الوعى البشرى ذاته) مسارا طويلا وشديد التعقيد، مايهمنا الآن منه، هو لغوية الوجود، إن الوجود يحمل المعني، ذلك الذى أثبتنا أنه الوحدة اللغوية الأولي، والحقيقة التالية مباشرة هى أن الوجود بحمله المعنى الذى هو جوهره يحمل اللغة (= الوجود) التى جوهرها المعنى أيضا بما هى وجود.
من المؤكد أننا لانستطيع، فى ظل هذا، أن ننكر معنى التواصل فى نقل المعني، ومن ثم معنى التواصل من حيث هو وظيفة أساسية للغة، إلا أن التواصل هنا يأخذ شكلا يختلف تمام الاختلاف عن التواصل واللغة بوصفهما قناة اتصال، تمر فيها المعلومات مرور الماء فى الأنبوب الواصل بين إنائين.
ما هو التواصل إذن؟
إنه أولا أن يصلك معنى.
إن معنى الوجود لا يمكن إدراكه إلا فى ظل الوجود ذاته، مع الحاجة للوعى به، إن وعى الوجود لا يمكن أن يمارسه إلا موجود، لايمكن بحال ممارسة الوعى دون ممارسة الوجود (=الصيرورة). الوعى والوجود إذن لاينفصلان،لأننا لانستطيع أن نعى معنى الوجود دون أن نوجد، وهذه حقيقة أساسية فى التواصل بكافة مستوياته، صيغتها الشائعة أنه: “لا بد من أرضية معرفية مشتركة لحدوث التواصل والقدرة على تفسير الرسائل بإرجاع عناصرها لمراجعها الأصلية”. ونصوغها نحن على الوجه التالى: “إنك لكى تعى الشيء لا بد أن تكونه، ولكى تكونه فأنت تكون معناه، وأنت تكون معناه لأن معناكما واحد”. هذا هو التواصل. إن الوجود فى الزمان والمكان لايمكن أن يكون معنى دون أن يكون وعيا بهذا المعني، ولعل الفارق واضح بين أن يعى الوجود معناه، وبين أن يكون وعيا. إن معنى “الوجود موجود” أو بالأحرى “الوجود يتواجد” ، هو معنى موجود فى الوجود، إن كون للوجود معني، يعنى بالضرورة أن {الوجود= معناه}، ولأن المعنى وعي، فإن الوجود وعى بالضرورة. إن الوجود هو وعى المعنى وعيا (تجليا) ماديا. إن الوجود هو وعى المعنى. (وهو اجتماع حوادث الطاقة تجليا فى الزمان والمكان فى الاصطلاح الفيزيائى). إننا بالصورة نفسها التى نقضنا بها فكرة أن تكون اللغة دوال ودلالات، فإننا ننقض أن يكون الوعى إدراكات وتعميمات، بالكيفية نفسها وبالمسار نفسه ، فالوعى لكى يكون وعيا، لابد وأن يكون فعلا وحركة {وجودا}، أما الثبات فمنفى بالضرورة، إنك لايمكن أن تعى ثابتا لأنك لايمكن أن تعى عدما (أشر إلى أى ثابت لن تجده ثابتا، فإن ثــبته فأنت كاذب وهو كذبة); ومن الثابت على مستوى التحقق الفيزيائى أن السكون لا وجود له، وبالتالى فإنه يستحيل أن تعى العدم، وإن أمكنك أن تؤمن بغيب، والفارق شاسع، فإيمانك بالغيب هو -على الأقل- إيمانك بجهلك (الذى هو من معناك، ومن هنا كانت قيمته، قيمة الإيمان بالغيب)، أما وعيك للعدم فمحال، لأنك ينبغى أن تكون عدما لتعى العدم. إنك إن وعيت فإنك وعيت المعني، ووعيت الحركة، والارتباط بالكل، أومعنى المعنى. إنك إنما تعى الشيء لأن معنى معناه هو معنى معناك: إنكما تتواجدان فتلتقيان فى لغة، هذا هو التواصل .
يبدو الأمر فى الفقرة الأخيرة وكأن هناك قفزة منطقية غير مبررة، بين أن يكون الوعى صيرورة، وأن يكون الوجود صيرورة، وأن يكون استنتاجنا من هذا أن الوجود وعى. ولكن: إنك لكى تعى الشيء، لابد أن تكون واعيا لحظة وعيك به، ولكى تكون واعيا، فعليك أن تكون وعيا، هذا هو معناك الحقيقي، وهذا هو أنت. إن الرد السطحى المباشر، هنا، هو أن يقال إن الوعى وظيفة عقلية ناتجة عن محصلة عمل أعضاء الجسم. إن الكلام هنا ليس إلا كلاما عن النشاط العصبى القادر على صنع المفاهيم واللسان.
ولكن لهذا النشاط أصولا، أصلا بيولوجيا، أصلا زمنيا، أصلا منطقيا، وكل هذه الأصول فى الخلية، ولم يعد هناك شك فى تكيف الخلية مع بيئتها ونفسها وخضوعها لقوانين ورغبتها فى البقاء، فهى واعية إذن، هل لازال هذا لا يكفى لكى تكون وعيا رغم أنها واعية؟ إن وعيها كامن فيها، فماذا هى إذن إن لم تكن وعيا؟؟ إن الوعى تجل للنظام القادر على الكينونة فى النظام الكلي، ولولا هذه القدرة على التكيف مع الكل ما كان الجزء، فلنأخذ الذرة، إن الذرة، أو أى موجود أصغر، خاضعة لنظام، والوعى تجل للنظام الطبيعى المتفق تماما مع كل أنظمة الكون بأسره فى تناغم لايخل بأى خطوة تاريخية قطعها الكون وصولا إلى النتاج العقلى الذى صنعه جنس البشر، أليست هذه الأنظمة (أو هذا النظام) تشابكات مادية ذات نظام يشمل كل الأنظمة فيزيائيا. إنه الوعي، وهو المعني، أو معنى المعني، أو الوجود، أو الطاقة، أصل الوجود حين تعينت فى الزمان المكان فأصبحت وعيا هو الذرة; عنصر الوجود الأساس، لأنه لا يمكن أن يوجد نظام دون وعي، لأنه لا تحقق دون النظام; إنه وعى التحقق الذى يخلق النظام.
ها نحن قد وصلنا إلى الأصل تاريخيا ومنطقيا، وفيزيائيا الأصل هو المعني، والمعنى فى النظام. فلنجب إذن -مرة أخري- عن سؤالنا فى هذه الفقرة عن معنى التواصل، وفى هذى الطريق نعرج لنسأل سؤالا آخر هو: ما الذى يسمح للتواصل بأن يحدث؟ ونجيب مباشرة إن التواصل يحدث بوحدة النظام المكون والمنشئ للمتواصلين:
أ – إن التواصل يحدث بين ذرة وذرة تماسكا وتنافرا وبقاء وسفرا بوحدة هذا النظام.
ب- وهو التواصل يحدث بين خلية وبيئتها بوحدة هذا النظام (الفيزيائى)، ووعى الخلية “الأعلي” بالبيئة الفيزيائية “الأدني”.
حـ – وهو التواصل يحدث بين ذكر وأنثى من فصيلة واحدة بوحدة هذا النظام (الحيوى / الفيزيائى) الذى يكافئهما معا.
ء – وهو التواصل يحدث حتى بين الآكل والمأكول فى العالم الطبيعى بوحدة هذا النظام، الذى يشملهما معا، فيجعل المأكول مهضوما ومغذيا ومفيدا وربما مفرحا وجميلا.
هـ – وهو التواصل يحدث بين البشر قبل نشوء اللسان بوحدة هذا النظام، بالاحتياج المتبادل والجنسى والغرض الواحد والكيفية الواحدة للتواجد فى الحياة، أوفى الوعى.
و – وهو التواصل يحدث بين البشر -على المستوى اللسانى أيضا- بوحدة هذا النظام، وحدة نظام اللسان. ها قد وصلنا مرة أخرى إلى بيت القصيد: إن التواصل هو معناه البسيط للغاية، نقل الوعي، نقل المعني، وهما هنا سابقان على نقل الرسائل السطحية بواسطة اللسان.
إن التواصل إذن هو نقل الوعى -الذى هو النظام متجليا فى حركته الغائية- قبل أن يكون نقل الرسالة، ومعناه الأعمق موجود فى الوجود قبل أن يوجد فى اللسان. إن المعنى إذن موجود فى الوجود، ونقله موجود فى الوجود الوعي، وهذا النقل لغة، فاللغة إذن ليست اللسان، أو ذلك النسق الترميزى سطحى التواصل، اللغة أسبق وأعمق، أما عندما يريد اللسان أن يكون لغة، فعليه أن يكون وعيا; معني; وجودا; وهو لن يكون كذلك دون أن يصبح فعلا يعي، لا رمزا يشير، أى لن يكون دون أن يكون أداة تحقق وتخلق للوعي، دون أن يمر بالجدل الصعب، جدل الحياة واللغة، ولايكون التواصل (أداة نقل الوعى وتخليقه عند الآخر) على هذا المستوي، إلا بالجدل الذى يقيمه كل فرد متواصل مع الوجود، مع النظام اللاحم للوجود ومعناه، هذا هو السبيل الوحيد للتواصل على المستوى اللغوي; إنه، فى صورته اللسانية، التحقق فى الكلمة. ودون وجود أصل لهذا النظام -معنى للوجود- داخل كل فرد من أفراد عملية التواصل، فلا تواصل بالمعنى الحقيقى (أو بتعبير آخر، لا نقل للمعني/ الوعى الحقيقى) بعد هذا، فإذا كان الأصل تاريخيا ومنطقيا هو المعني، لا التواصل اللسانى السطحي، وإذا كان التواصل الحق هو نقل المعني، أو نقل الوعي، فإن التواصل الحق، إذن، هو نقل الوجود، أو إيجاد المعنى مرة أخري، أو الوجود مرة أخري، إنه / التحقق والتخلق عندما يتجاوز صيرورته بعلانية فعله فيتيح فرصة نقل معناه، إن معنى التواصل هنا يضيف معنى الغائية للفعل اللغوي، فى حين أنه لم يكن يضيف إلا معنى الوظيفة للفعل اللسانى.
التواصل تحقق غائى على المستوى اللغوى.
التواصل وظيفة جزئية على المستوى اللسانى.
إن هذا المعنى الغائى هو الطرف الأخير الذى يناط به إثبات معنى اللغة، وما التواصل إلا أحد أشكال هذا التحقق، أما التواصل اللساني، فوظيفة لاحقة اغترابية مستفزة للجدل.
إن التحقق اللغوى (= الكينونة الجديدة) حين يعلن عن ذاته إعلانا يسفر عن معناه، فإنه يتيح ممارسة قوانين فى غاية الأهمية بالنسبة للوجود اللغوى / الكينونة الجديدة.
1 – قانون التراكم، بما يشمل من ثبات مؤقت (بزوغ اللفظ مثلا فى حالة ثبات لغة اللسان).
2 – إتمام دورات فتحقق جديد (الجدل بين الوجود/والعدم = الثبات/والحركة = اللغة/واللسان).
3 – التطور (تخلق الوعى بتخلق اللغة).
وقد تجدر الإشارة لهذه القوانين عند مقارنة لغة “اللسان” بلغة ” النغم الزمني” (الموسيقى) فيما يلحق.
2 – النظام و الجمال فى اللغة:
سبقت الإشارة إلى أن وحدة النظام هى المؤهل الأساسى لحدوث التواصل، كما سبقت الإشارة إلى أن جوهر النظام هو معنى المعني، وهو البديع فى مقولة إن “الوجود يتواجد” (بما هو ظاهر وبما هو غيب); إلا أنه قد آن الأوان للحديث عن الجمال .
إن المقولة الأساسية التى نسعى لإثباتها هنا هى: إن “الجمال فى المعني” إن المعنى بما هو معنى جميل.
ولنتحدث الآن عن النظام، ذلك الذى ارتبط بمعنى الجمال حتى على الشيوع. “إنه القانون أو مكون الوحدة التى تسمح للوجود بأن يوجد”، ففى ظل انتفاء أى نظام لن تتوفر مقومات أى تماسك خلاق للمادة، ولا يعنى هذا، بأى قدر، فصلا بين الوجود ونظاميته، أو أسبقية النظام على الوجود، ولكنه يعنى بالضرورة أنه لاوجود دون نظام، وحسبنا هذه الصيغة مؤقتا.
لقد قلنا إن النظام هو مكون الوحدة، لماذا ؟
لأننا لكى نحصل على أى وحدة، لابد وأن النظام هو مايجعل للوحدة وحدتها، و بالتالى معناها. إنك لا يمكن أن تحصل على معنى حقيقى دون وحدة الوحدة . وسيظل المعنى منقوصا مالم تكتمل للوحدة وحدتها. طبق هذا القانون على أى مجال وستجده هناك. و لن يتأتى اكتمال الوحدة إلا بتناغم Harmony أجزائها، ولذلك كان جزءا كبيرا من معنى الجمال متوفرا فى معنى التناغم، ولكنه ليس كل شيء. التناغم هو دليل توفر الوحدة على نظام، يوفر لها من التماسك ما يجعلها وحدة، ولكن التماسك الموجود دون معني، لايمكن إدراكه، لأن ما يوعى هو المعنى. فى المعنى دليل على النظام وهو ليس المعنى الجزئي، بل المعنى الكلي، لأن المعنى لايمكن أن يكون كذلك إلابنسبته إلى المعنى الكلي، أما أن ينفصل نظام جزئي، فلن يمكنه بحال أن يتوفر على معنى حقيقي، لأنه لن يمكنه بحال -فى ظل انفصاله- أن يدلل على وجوده، إن المعنى فى حاجة دائما للمعنى الكلى لكى يجد أصلا لجذوره، ولكى ينبئ عن نفسه بتواصل عرفناه بشكله الحق، إذن فالمعنى الجزئى المنفصل غير موجود على الإطلاق، إلا بوصفه كذبة فى نسبتها إلى الصدق المطلق أو المعنى الحقيقي، إنه شائعة إنسانية مهمة فى استفزازيتها الغائية، وفى واقعيتها المثالية العادلة.
هكذا لن يكون الجمال جمالا إلا فى توفره على المعنى المقترن دائما بمعنى المعني، كما أنه لن يكون معنى إلا بتوفره على الوحدة. “إن الواحد جميل، إنه جميل بما هو واحد”. ولن تكون وحدة إلا بتوفرها على النظام، ولن يكون النظام إلا فى تناغمه مع نظام الأنظمة. وإننا لنجد لهذا تجليا فيزيائيا أوليا يعفينا من كثير من الإغراب المنطقي، فليس لوحدة أن توجد دون أن تتبع نظام الأنظمة الفيزيائى البحت. “إن معنى المعنى أصل لكل معني، ووجود الوجود أصل لكل وجود”، بالشكل نفسه ، فإننا نجد نظام الأنظمة أصلا لكل نظام.
وعلى الرغم من أنه لا انفصال بين النظام والوجود والمعني، إلا أننا قد لصقنا الجمال بالمعنى على وجه الأولوية، ذلك أن المعنى هو ما يمكن نقله، هو ما يمكن معايشته على المستوى الإنسانى الذى اصطلح على كلمة الجمال تعبيرا عن إدراكه للوجود (= النظام الغائى). الجمال إذن هو صفة المعني، صحيح أن ما سيحمل المعنى هو تواجد الوجود حامل نظام الأنظمة، ولكن المعنى هو ما يتضمن بعد الغاية، ذلك البعد الذى يكسبه حركيته الجدلية، تلك الحركية التى تكسب الجمال جماله، وبدونها، لن يكون المعنى إلا الثبات (= العدم)، أو الصدفة (= اللانظام)، مما لا يستقيم، لامعنويا ولا جماليا .
ولقد آن الأوان، فى ظل تواتر حضور الغائية فى وعينا الحالي، أن نرى بمزيد من الدقة ما تشكله من أهمية لرؤيتنا للغة .
إن ثبات أى نظام سيشكل بالضرورة انفصالا عن الكل المتحرك، ومن المؤكد أن أى انفصال سيتحول إلى كذبة كما ذكرنا، لأنه فى انفصاله ينفصل أساسا عن معنى المعني، وتواجد الوجود، ولأنه لا يوجد مايستطيع الانفصال عن فكرة تواجد الوجود، فإن الإشارة له لاتعد إلاكذبة (والإشارة تثبيت). النظام متحرك بالضرورة إذ ينطلق من الكل المتحرك، ولكن غائية حركة معنى المعنى هى ما يحتاج إلى إثبات، هكذا يبدو الأمر، أليس كذلك؟ ولكنه ليس كذلك. لماذا؟؟
لأن معنى المعنى هو هو مايشمل الحركة فى داخله، وحركه النظام الغائية هى حركه نحو نظام الأنظمة ومعنى المعني، فى تجل جديد، إنها عودة للجذر، ولكنها عودة بمزيد من التحقق، بمزيد من الوجود، هذا المزيد إنما هو مزيد على المستوى الكمى والدرجة التطورية فى الوقت نفسه .
إذن: فسهم الغائية لايتجه إلى التالي، ولكنه يتجه إلى الأصل الوحدة الأبدية، إلي الأول الآخر ، حينئذ ينتفى الكثير جدا من تفاصيل اعتراضات المعترضين على الغائية، إن هذه المقولة هى من أهم محاور مبحثنا، إن الغاية هى هى المعني، تماما كما أن الأصل هو معنى المعني، وليس الوجود اللغوى إلامحاولة لحمل هذا المعنى فى تحقق وتخلق جديدين، إنه جدل الكل والجزء، الواحد والعدة، المتناغم والمشتت فى صبر، القديم والحادث. ودون الطرف الأول، فإن الطرف الثانى لا يمكنه أن يكون كينونة ذات معنى. إنه جدل مساره أن الوجود يظل دائما فى تحد مع ما هو غير موجود، إن العدم هو الضد الذى يظهر الضد، ولذلك فالوجود يبقى العدم ليجادله المعنى ليصنعا الوجود الجديد فى “لحظة كبيرة”، وتنتهى اللحظة فيبقى العدم ليستفز المعني; وهكذا فى جمال متخلق.
إن معنى المعنى لايمكن أن يحمله فى كليته إلا بقاؤه فى صورته المطلقة. إن أى معنى لايمكن أن يكون معناه إلا معنى المعني، ثم إن معنى المعنى لايحتاج إلى أى معنى إلا أن يكون تخلقا له وهو لا يمكن أن يكون تخلقا له إلا أن يكون متجها إليه، أن يكون الأصل هو معناه، أو أوله ومنتهاه; إذ أن المعنى هو كل ما فى حامله، هو جوهر تجليه الذى دونه لايكون إلاكذبة.
إن الجمال إذن هو أن يظهر التجلى معناه، أن يسفر عن انتمائه للكل، عن ارتباطه بحركة الكل، فى اتجاه الكل، وهو لن يسفر عن هذا إلا باحتوائه نظام الكل، إنه أحد شروط الجمال والتجلي، فالمعنى هو جوهر الجمال إذن.
هكذا فأما الخلق: فأن تكون الحركة صفة الجدل، ويكون الجدل صفة النظام، ويكون النظام صفة الجمال، ويكون الجمال صفة المعني، ويكون المعنى صفة الوجود، ويكون الوجود صفة الأصل، ويكون الأصل صفة الكل.
وأما غائية الخلق: فأن يكون الأصل صفة الوجود، ويكون الوجود صفة المعني، ويكون المعنى صفة الجمال، و يكون الجمال صفة النظام، ويكون النظام صفة الجدل، ويكون الجدل صفة الحركة، وتكون الحركة صفة الكل، ويكون الكل صفة الأصل.
ولكن كيف يفعل الجمال فعله الجمالي؟؟ إنها الخطوة التى لابد أن تسبق تماما الحديث الآتى عن لغة الموسيقى:
1- إن فعل الجمال فعل تغيير .
2- إن فعل الجمال فعل غائى.
3 – إن فعل الجمال فعل خلق.
4- إن فعل الجمال فعل توحد.
أما إن فعل الجمال فعل تغيير، فهذا مبدئي، وسهل، فليس الانتظام هو ما يفرضه الجمال، بل إن الجمال يبدأ بتكسير الثبات، إن فعل الجمال هو فعل اصطدام يؤدى إلى تفكك ثم إعادة انتظام. إن هذه الكيفية التى يحدث بها الجمال فعله كيفية ثابتة ودالة على ماقلناه فيما سبق، ولتطبق هذه الكيفية على أى مستوى لتجدها صائبة، وليكن ذلك اصطدام كلمة بكلمة، أومفهوم بمفهوم فى سياق ذات الكلمة، أو نغمة بنغمة . إن هذا الاصطدام، حتى ولو كان تجريبيا (صدفة ترتبها غاية لبحث الإمكانات المتولدة) فإنه جميل بما يتيح من إمكانات واسعة لإعادة الانتظام على نحو جديد.
إن نغمة واحدة لن تكون إلاثباتا مهملا، أوضوضاء ؟؟ أما نغمتان فمن الممكن أن تكونا نشازا مزعجا، أما نغمتان تبلغان من التناقص الجدلى مايسمح بمواجهة مفككة، ثم إعادة انتظام تشملهما وتخطو خطوة بعدهما، فهو تخلق جديد، ومعنى جديد، لهذا كان فعل الجمال خلقا غائيا مغيــرا. إن هذه الصيغة فى تعريف الجمال، تفسر بشكل واضح كيف أن المبهم المغلف بالغموض أجمل دائما من الواضح الثابت الكذوب. إن الجمال إذا كان فى المعنى (مما يفسر جزئيا كيف أن ماكان واحدا كان أجمل مما كان عدة) وإذا كان المعنى فى تخلق وصيرورة بشكل دائم، فإن الواضح الثابت لن يترك إلا حلما مسطحا، ولن يترك فرصة للغيب، ولا للتفكك ولاإعادة الانتظام، ومن ثم لن يترك الفرصة “للفعل” الذى هو الجميل الأول . لذلك فإن التواصل الحق: “أن يكون الطرف المتلقى قبل تلقيه للمعلومة مختلفا عنه بعد تلقيها”، لابد وأن يمر بهذه الحلقة الانفعالية، أما الاختلاف فى كم المعلومات، فهو اختلاف كاذب وغير موجود أصلا، إنه اختلاف عدمى وظيفته سلب الموضوع، لأنه اختلاف ليس له “معني”، إذن فالتواصل الحق ليس إلا تفاعلا جماليا حقا.
إننا نحتاج، الآن، للنظر تماما إلى اللحظة. إن حقيقة اللحظة هى هى ما يجعل الجميل جميلا بتجذره فى الواحدية، إنها دليل وحدة الجميل فى الزمن. فاللحظة هى وحدة زمن التخلق، إنها ليست قياسا فيزيائيا (مهما صغر وكان دقيقا)، إنها قياس معنوى (بشمول المعنى للفيزياء – طبعا) تماما (مهما اتسعت). إنه الزمن الذى يجعل من المخلوق وحدة; إنه الزمن الحقيقى.
إن النظر للحظة بعين الاعتبار الجميل سيضع كثيرا من صياغاتنا السابقة فى نصابها الواقعي; فهو يفسح المجال للاعتراف بالزمن الآخر، واللسان الآخر، حتى ولو ظل اعترافا مشروطا بعدمية غير اللحظة.
يتبقى أن التواصل الحق، التواصل الجمالي، المتخلق الغائى المغيـر لايمكن أن يتم من خلال جزئية الجميل، ولا أن يكون إراديا -والإرادة غير الغائية- كالتواصل اللسانى على سبيل المثال، أو كالجمل الموسيقية المعتادة التى وصل صنعها لمستوى إرادة الإعادة. ذلك أن إعادة الانتظام، ذلك الفعل المتوج للحدث الجمالي، لايمكن أن تتم، بعد حدوث التفكك، إلا بوجود نظام الأنظمة، أو معنى المعنى ذلك الذى يكسب النظام الجديد معناه، إن إعادة الانتظام لايمكن أن تتم الإ وصولا إلى تخلق جديد غير مخبور من قبل، ولايمكن أن يتم هذا إلا مرورا بالحقيقة المشتركة المطلقة، حقيقة معنى المعني، وذلك لكى يستطيع الانتظام الجديد أن يندرج فى نظامها، وأن يحمل معناها. هكذا لايتم التواصل إلا مرورا بهذا الأصل الوجودى النظامى المعنوى المشترك، ويكون فعل الجمال عندئذ فعلا حاملا للأصل ولوتنقل بين الفروع. من هذا استحال أن يكون التواصل محمولا تماما على الجزئي، لأنه يستحيل أن يكون الجمال جزئيا ولأنه يستحيل أن يكون الجزئى نظاميا، واستحال أيضا أن يكون التواصل أو الجمال إراديين، وإن كانا غائيين بكل تأكيد.
-2-
مقدمة: 2
لكى يكون عرضنا السابق صحيحا، ويثبت أحقيته، فلابد أن يثبت لغوية كل وجود، لكى يثبت لغوية كل تخلق، فيـثـبـت التخلق جوهرا للغة. أو بتعبير آخر، لابد أن يثـبت لغوية أشكال أخرى عدا اللسان الإنساني، وعلى هذه الأشكال الأخرى أن تثبت تخلقها بالكيفية الجدلية نفسها التى تتخلق بها لغة اللسان. لابد أن تتحقق فيها كل الشروط السابقة لكى تكون لغة بحق. ولابد لها أن تكون لغة بحق، إذا أرادت أن تكون وجودا، وإذا أرادت أن تكون جميلة، وإذا أرادت أن تكون معنى.
فإذا أرادت اللغة أن تكون كينونة ذات معني، فعليها أن تكون تخلقا لمعنى المعني، وهى تخلق له إذ يستحيل عليها أن تتخلق أو حتى توجد إلا به، ولذا فهى لا بد أن تحمل مواصفاته فى تخلق أو تجل أعلى فأعلي، وهذا ما سنحاول إثباته فى مختلف مجالات الخلق الإنسانى.
وسنكتفي، فى هذا المقال الذى نعده مقالا إفتتاحيا لفكرة لغوية الوجود، بأن نعرض لهذه اللغوية فى أحد مجالات الخلق الإنسانى التواصلى الجمالي، ولعل أقرب ما نستطيع ضربه الآن كمثال هو فن الموسيقى كفن خاضع لشروط لغوية الوجود المؤمنة.
ولكن ما هى الشروط التى نتحدث عنها الآن:
1- الامتلاء بالمعنى.
2- المعنى لا بد له من الارتباط بمعنى المعنى بتوجه غائى.
3- الغاية هى تخلق الوعي، والمعنى هو تخلق الوعي، والتجلى هو أيضا تخلق الوعى. لذلك لا يمكن أن تكون اللغة إلا تخلق الوعى.
4- التوجه الغائى والتخلق يلزمان اللغة أن تكون تجليا جديدا.
5- بمعنى أن تتميز بمعان جزئية تنطلق من المعنى الكلي، ولا تتحقق إلا به، إلا أنها تظل ذات هوية.
وسنكتفى الآن -ومؤقتا- بالتعرض للنقطة الأخيرة: “التجلى بالموسيقى الذى يمثل وعيا جزئيا متخلقا من الجوهر ومتوجها نحوه حين يعيه”، فحين تكون الموسيقى تخلقا ديالكتيكيا وتجليا جميلا لوعى متكون نظامى وغائي، فإنها تصبح: لغة حين تصبح: محور تخلق.
ولنبدأ بملاحظة المواصفات الخاصة بالموسيقى وهى:
1- الإيقاع.
2- اللحن.
3- التناغم.
1- الإيقاع
تكاد تجمع الفروض التى تحاول صياغة تاريخ الموسيقى على بداية هذا التاريخ بالإيقاع [12]، استشهادا بحضوره القوى فى بدايات الطفولة، وبأساسية استعماله عند القبائل البدائية. والإيقاع يمثل، وبشكل واضح، نبضة الزمن، ويتحول موسيقيا إلى نبضة فى الوعي، خاصة الوعى الجسدى. إذن، فقد بدأ فن الموسيقى توجهه الزمنى منذ اللحظة الأولي، وبالتالى فلنا أن نتوقع أن هذا التوجه الزمنى هو المحور الرئيس فى العمل الموسيقى.
إن معنى النبضة، بمختلف تجلياتها، هو معنى كونى تماما، فيزيقى وفلكى وبيولوجى ….إلخ، وفن الموسيقى يتوفر هنا على أكثر تجليات الوعى مباشرة فى علاقتها بالنظام الكونى.
إن النبضة حركة، هذا واضح، والنبضة جميلة أيضا، ففى كل نبضة دورة، تتفكك فيها العناصر، وتتماسك فجأة فى انتظام “واحد”. ولو أننا استرجعنا معا إيقاعا طويلا كالإيقاع المصمودى للاحظنا فيه -بوضوح كاف- التناثر المتتابع للنقرات المفككة ثم تماسكها المفاجئ فى نقرة “دم” خاتمة-بادئة فى نفس الوقت..
ولقد حددنا فعل الجمال بفعل حدوث الاصطدام، فالتفكك، فإعادة الانتظام على نحو جديد، أى أنه فعل تغيير. ويبدو الإيقاع للوهلة الأولى فعلا لا يحتوى على التغيير بقدر ما يحتوى على التكرار، وهو تكرار يمثل أرضية زمنية للوجود، فأين التغيير وأين الجمال؟ أين جدلية التخلق الجميل فيه؟
إن الإيقاع (الانتظام الزمنى) علامة للوجود، واللاإيقاع (عدم الانتظام الزمنى) علامة للعدم، التغيير إذن هو فى القفزة الجدلية التى يحدثها الإيقاع من العدم للوجود، من اللانظام واللامعنى إلى النظام والمعنى. إن دورة الإيقاع تتمثل فى أن يتغلغل الاصطدام فى ثبات العدم لينتقل به إلى نظام الوجود. فالإيقاع ليس إلا صوت النقر (الدم والتك والسكتة) ، وكلها تكون دورة تكون وحدة، متكررة فى إحياء متجدد للزمن (= الوجود). لقد تجلى فى الإيقاع أول عناصر الوعي، عنصر الوجود المنتظم. وهكذا، ومنذ البداية، يتبلور الفعل الموسيقى فعلا للوعي، زمنيا فى مقامه الأساس.
ويأتى تقسيم أنواع الإيقاعات فى الموسيقى ممثلا كبيرا لفعل التغيير الذى يحدثه الوعى البشرى. إنه يخلق وحدات جديدة للزمن، مليئة بنبضات متنوعة لتكون وحدة زمنية معينة، لقد اتخذ الزمن هنا شكلا، وهو فى الأغلب شكل جسدى. لقد كان الزمن -فى الوعى البشري- حاملا للوجود فى تيار من نبضات كونية حيوية، فأصبح بعدا من أبعاد مادة الخلق (الذى هكذا يبرز كيف يكون لغويا) حينما تخلق فى الوعى البشرى أول عناصر هذا التجلى فى الإيقاع الموسيقى.
إلا أن الإيقاع الموسيقي، إذا كان تجليا متخلقا للزمن الجسدى وبه، فإنه لا يعدو أن يكون أحادى البعد; إنه الزمن فى نبضته المتكررة، إنه الفرصة الزمنية لا أكثر، ولابد من ملء الفرصة بالجسد. إن الجسد هو امتلاء الزمن بالمادة الموقعة، وكذلك اللحن. وهكذا ينشأ اللحن فى الموسيقى.
2 – اللحن:
لأن الإيقاع هو مجرد خلق الفرصة الزمنية، ولأن الزمن لا يمكن إلا أن يكون أحد أبعاد المادة، فإن اللحن هو هذه المادة فى لغة الموسيقى. اللحن هو المادة بدءا من اللحظة الإيقاعية، لأن الإيقاع هو فى حقيقة الأمر لحن، حتى الإيقاع الموسيقى لن يستغنى عن الفروق اللحنية (الصوتية) بين الدم والتك، أو بين مختلف أصوات الآلات الإيقاعية المتمايزة.
ولكن هناك علاقة وثيقة لا ينبغى التغاضى عن النظر إليها الآن; تلك هى علاقة الجسد على وجه الخصوص (الذى هو لغة فى ذاته) باللحن. إن تمايل الجسد (أى جسد) هو النغمة الموسيقية الأولي، إنه اللحن الأول، إن الجسد هو امتلاء الزمن بالمادة الموقعة وكذلك اللحن. الجسد واللحن كلاهما مادة حية وذات معنى مستغرقة فى الزمن الموقع. الإيقاع هو الدورة التى تحدثها المادة; كل مادة وكل وجود، وحين يخرج الإيقاع فى أداء إنسانى خارجي، فإنه ينبه الجسد إلى لحنه الداخلى. لقد احتاج الرقص الى اللحن بعد الإيقاع لأن الجسد احتاج أن يتجلى معناه الموسيقى فى اللحن. إنه المادة والمعنى فى الموسيقى. اللحن هو المعنى فى الموسيقي، إنه ليس تعبيرا عن حالة محددة [13]، إنه المعنى بما فيه من ارتباط بالكل أو معنى المعني، وبما فيه من مبهم جميل، وبما يشكل من وحدة جمالية. وكم هو جميل أن يكون للمعنى إيقاع، إنه المعنى الجميل، جميل من حيث هو متناغم مع انطلاقة إيقاعية تنقله من العدم إلى الوجود فى دورة زمنية متكررة فى امتداد خلاق للزمن ذاته.
إن تعدد الأبعاد وتداخلها فى لحظة هو الخلق (حتى الفيزيائى). ولقد كان الإيقاع أحادى البعد، أما اللحن، فتتداخل فيه الدم والتك كدورة، وكوحدة زمنية، مع تجليات المعنى المتمثلة، فى تقسيمات زمنية أخري، تتشكل فى أطوال وتقسيمات أكثر تنوعا، إلى جانب تنوع آخر (زمنى فى فيزيائه أيضا إذ يعتمد على سرعة التردد، أو سرعة الذبذبة، ولكننا هنا لا نعتمد هذا التجلى الفيزيائى بوصفه ذا معنى مستمد من فيزيائيته مباشرة)، التنوع الآخر هو التنوع المكاني، ان كل النغمات الموسيقية تتدرج بين قرار وجواب، الصوت الرخيم والصوت الرفيع، وهو مكان وزمان فى الفيزياء (الذبذبة وعمق الموجة).
قد تسخف الفيزياء جمال الوحدة، وحدة الموسيقي، ووحدة المعني، وهذا ما يجعل فعل توحدها، فعلا خلاقا وجميلا، حتى ولو اضطررنا لتفصيل عناصره الفيزيائية، إنه دليل أنه فعل تخلق ونظام (تركيب) أو فعل جمال. إن ما يجعله جميلا هو وحدته ومعناه. وهكذا، مرة أخرى إن “الجمال فى المعنى الدال على الوحدة; بما هو واحد متجذر”
وهكذا، أيضا، نصل للتناغم، العنصر الثالث فى التكوين الموسيقى.
3 – التناغم:
لا يحتاج عنصر التناغم، فى ظل مستوى تأصيلنا أو تحليلنا هذا الى المزيد من الصعود الارتقائى نحو مزيد من التركيب لنصل -مثلا- إلى التناغم فى الموسيقى الكلاسيكية (الغربية بالطبع)، فهو موجود منذ البداية -أيضا- فى الإيقاع.
التناغم مرتبط دائما باللحظة، حيث وحدة الأجزاء -فى اللحظة نفسها- أكبر من مجموعها. إن الكل واحد، ولذلك فهو موجود فى اللحظة نفسها، أما المجموع، فلحظات متتالية بالضرورة، إن العلامة (+ ) تفصل بالضرورة زمنا عن زمن آخر; إنها تفصل زمن ما قبلها عن زمن ما بعدها بالضرورة. و لهذا السبب نفسه كان الكل مختلفا عن مجموع أجزائه.
والإيقاع على انسيابه بطول الزمن كأى موسيقي، فهو وحدات، كل وحدة حقيقية هى لحظة حقيقية، جمالها فى تكرارها الخلاق لمعنى المقام الزمنى (فى مقابل البسط)، ولذلك، كان التناغم أصلا فى الموسيقى بأصوليته فى وحدة الإيقاع، ولهذا أيضا كان منشأ الموسيقى هو هو منشأ المعني، هو هو معنى المعني، أصل التوحد المقيم. ومع ذلك، وكما أوضحنا، فإن الإيقاع يحتاج اللحن لكى تتجلى وحدته فى مزيد من التركيب الحامل لمزيد من المعانى.
ومما هو أوضح من أن نستفيض فى شرحه، تلك الكيفية التى يحدث بها تناغم اللحن مع الإيقاع، فالجانب العلمي، فى هذه القضية، أكثر تفصيلا من الجانب الفلسفى موضع اهتمامنا الحالى.
أما التناغم على مستوى الموسيقى الرفيعة، الموسيقى الكلاسيكية، فهو القانون نفسه، قانون تواجد الكل فى لحظة معنى جميل.
إلا أنه لا مفر من الخوض فى حديث آخر، طالما نتكلم عن اللغة. وهنا ينبغى على الكاتب أن يعترف اعترافا واضحا بأن فكرة (أو مشكلة التعبير عن) المعنى الذى تنقله الموسيقى أو التعبير الموسيقي، هى التى فرضت عليه المنظور الحالى للغة. لقد نشأت فكرة لغوية الوجود كله من محاولة وضع صيغة مناسبة، لا معممة ولا متعسفة، لمدى تعبيرية لغة الموسيقي، ومنها نشأت فكرة أن الموسيقى (أو اللغة) هى فعل تخلق وتحقق قبل أن تكون فعل تواصل، ثم إنها لكى تكون “فعل جمال” فلا بد لها أن تكون تخلقا وتحققا. إن قوانين الموسيقى السابق ذكرها (الإيقاع، اللحن، التناغم فى لحظة) هى قوانين عامة، لاتعطى تميزا كيفيا لأى لحن، مما لا يفسر -بأى درجة- كيف يستطيع اللحن خلق “شعور ما”، أو “انفعال ما” به لدى المستمع؟ ولكى نجيب على هذا التساؤل، (وقد اكتشفت أنه تساؤل إشكالى على مستوى البحث فى علم الموسيقى كله)، لا مفر من العودة إلى معنيين أساسين سبق الحديث عنهما: (1) معنى التواصل و (2) لحن الجسد.
لقد ارتبط معنى التواصل دائما بحمل اللغة للمعنى الأصل، تخليقها له فى تجل محدد مرتبط بالضرورة بتجلى الكل، ويكون هذا التخليق المشترك بين المنتج والمتلقى (كل بكيفيته ومسار فـرصه) هو التواصل بعينه. ويختص هذا المعنى -هنا والآن- بقوانين الموسيقى الثلاثة، (والتى هى قوانين أعم من مجرد اختصاصها بالموسيقى كما وضح); ولكن تداخل البعد الجسدى الزمنى مع هذه القوانين هو ما ينتج اللحن (كما سيؤدى تداخل البعد العقلى -أساسا- مع قوانين اللسان العامة لإنتاج لغة اللسان).
إن التداخل الحيوى الفعال، بين الجسد والعمل الموسيقي، هو بالذات ما يخلق له معنى موسيقيا. الموسيقى تـداخل إيقاعها وامتدادها وصعود اللحن وهبوطه مع ما يقابله من إيقاع جسدي، ومضاعفات هذا الإيقاع وتعدديته التى تخلق اللحن الجسدى. ومن الكم اللامتناهى من إمكانات التداخل والتصعيد والتركيب وحمل المزيد من المعاني، يتشكل للموسيقى معناها، فتؤدى إلى تأثيرها الجمالى. إنه اصطدام إيقاع بإيقاع، وحركة بحركة، وكيفية للتركيب اللحنى بكيفية للعمل الجسدى.
ولكن يبدو أن المشكلة التى تواجه البعض هى – ومازالت هى – الرغبة فى التثبيت الدلالى للموسيقي، فنتحدث عن قطعة حزينة وقطعة فرحة، ونتجول بين أنظمة سيميوطيقية متباينة ذات محاور مختلفة دون احترام لما هو لغة، لما هو تخلق مستقل للمعنى على كل محور من محاور تواجد الوجود. إننا بقصر المعنى الموسيقى على اسم لانفعال بذاته، أو على تعبير عن موضوع بذاته، نجنى على الموسيقي، بل وعلى اللسان أيضا، جناية لا محل لها من الجمال، وهذا لا يعنى -بطبيعة الحال- أن القطعة المعنية لن تتميز بتأثيرها -الانفعالي- المميز، المختلف عن تأثيرات أخري، والمشابه لتأثيرها فى الآخرين، ولكنه يعنى ضرورة احترام الاستقلالية النسبية لمحاور تواجد الوجود، وخاصة ذلك المحور الجسدى الزمنى . هناك ضرورة لاحترام أن منشأ لغة الموسيقى هو فى اختلاف طبيعته (الزمنية الجسدية) عن منشأ لغة اللسان، ولذلك فإنه لن تسهل ترجمته إلى أسماء لانفعالات أو مواضيع موسيقية، إنه يحتاج لإبداع التلقى.
إن الموسيقى هى الانتقال من نغمة إلى نغمة فى زمن جميل (مبدع)، وبحسب كيفية الانتقال هذه، تكون الفجوة التى يملؤها الوعى تخلقا – فيملؤها الجسد انفعالا جسديا، وفى تغايرات هذه النغمات تتخلق معانى الموسيقى المتميزة، ولكنها ليست أبدا تفريغ محتوى الكلمات فى انسيابات آلية قبيحة ومباشرة دون الرجوع لأصل الجسد. إن هذه هى – بالضبط – طبيعة الفعل الجمالى الموسيقي; الانتقال من نغمة إلى نغمة فى زمن جميل وملء ما بين النقلات بالجسد/ الوعى. إنها -بالضبط- طبيعة الفعل الجمالى اللغوى نفسها فى كل تجلياته – (موسيقية/ لسانية تشكيلية أو غيرها). وهى الطبيعة التى تملأ الفجوات وتصنع وحدة الكل، فلا تعود النغمتان نغمتين، بل هما جسد لحنى متداخل تماما مع الجسد (الأجساد) الإنساني، فى ظل المعنى الكل [14].
إن الفعل الموسيقى يبدأ أثره من الجسد، ولهذا كانت الموسيقى انفعالية التأثير أكثر من كونها ذهنية. ولكن يبدو أن تـعلـــم البشر كيف يسمون انفعالاتهم ويقسمونها، ذلك الذى يمارس بعض تأثيراته المشوهة، فى تشويه التعامل الفعال الحقيقى مع الوجدان، يبدو أنه كاد يشوه الموسيقى معه; بل هو يشوهها بالضرورة.
إن الجسد هو اللحن الأول، وذلك حين يتحقق امتلاء الزمن بالتخلق الموقــع (الإيقاعى)، تماما كما يكون الجسد هو الكلمة الأولي، حين يتحقق امتلاء المكان بالتخلق المتراكم. هذا التراكم هو ما جعل لغة اللسان تسبق لغة النغم على كل من مدرجى “الشيوع” و “قدرة التعبير”; أضف إلى ذلك أن التراكم يحتاج لمراحل من الاغتراب التثبيتي، مما يسهل إجراؤه على المكان عن إجرائه فى الزمان ([15]).
إن امتلاك وتخليق لحظة الزمان فى تكاثف متعدد الأبعاد هو هو الفعل الموسيقى فى صورته المجردة، وملء ذلك باللحن هو هو الفعل الموسيقى الذى يسمح لهذا التخليق أن يكون ذا معني، ولذلك كان “اللحن هو المعنى فى الموسيقي”.
إن المعنى الجسدى للحن هو ما يخلق الانفعال فيه، فالانفعال يبدأ جسديا، ثم (قد) يترجم إلى أسماء لهذه الانفعالات، ولذلك كان الجمال ذاته جسديا، ولكن، فقط، قد يختلف الجسد الزمنى فى الفعل الموسيقى عن الجسد المكانى الملموس فى الفعل اللسانى. “إن الانفعال زمنى الطبيعة” ، هذه مقولة تحتاج لمزيد من الدراسة.
ولهذا كانت ترجمة الموسيقى دون احترام لهذا الاختلاف الجوهرى عملية تتميز بالقبح الشديد إن فشلت، وتتحول إلى إبداع وتخلق جديدين إن نجحت. التعبير الموسيقي، إذن، لا بد أن يكون إبداعا وتخلقا جديدا لا يماثل إبداع الكلمات; إلا أن يعود الوعى إلى أصل المعنى ليصوغه تجليا فى تخلق جديد فى لغة الكلمات. العلاقة بينهما إذن هى فى معنى المعنى أو أصل الأصل، العلاقة بينهما أساسا هى فى كون الوجود يتواجد. فلا يمكن القول -بالتالي- إن التعبير الموسيقى هو عن معنى بذاته أو صورة بذاتها، هذا زمان أكثر، وذاك مكان أكثر.
ولهذا بالذات، لأن للموسيقي، طبيعتها اللحظية/ الزمنية الأصيلة، أو لكون الزمن هو محورها الأساس، فهى تواجه مأزقا رئيسا فى فلسفتها، إنه ما ذكرنا أنه قانون الثبات فالتراكم، إن هذا القانون يصعب -بالمقارنة بإمكاناته فيما يتعلق بمفاهيم اللسان والفكر- أن يجد لنفسه الإمكانات نفسها والآثار نفسها، وهو ما يجعل فرصة تجلى الوعى ونموه وتطوره أكبر فى اللسان.
[1]- ينبه هيجل إلى المشاكل المنطقية والإعاقات المعرفية التى تفرضها صيغ من نوع “إما ..أو..” فى موسوعته: موسوعة العلوم الفلسفية، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، 1985، ص125، وقد كانت هذه الصيغ دائما ما تذكرنى برباعية نجيب سرور:
حزبوا الأحزاب حتـى فى الرياضة
مذهبوا الشمس ليـغتالوا القــمر
فاحذروا التمساح فى قاع المخاضة
إنه يــقعى خداعـا للنـــظر
[2]- انظر فى تعريف اللغة الإنسانية، واعتبار الاعتباطية إحدى أهم صفاتها ومحاورها، مقال جون ليونز، اللغة، ترجمة مصطفى التوني، الثقافة الأجنبية، العدد الثالث، السنة الثامنة،1989، ص ص15-31.
[3]- ل. س. فيجوتسكي، التفكير واللغة، ترجمة طلعت منصور، مكتبة الأنجلو المصرية، الطبعة الأولي، 1976، القاهرة.
[4]- لاحظ أننا نستعمل هنا تعبير التفكير اللغوى بدلا من التفكير اللفظي، وهى الترجمة العربية من الإنجليزية من الروسية، ونريد أن نشير إلى أنه رغم اختلاف سياقاتنا، واستعمالاتنا، عن سياقات واستعمالات فيجوتسكى إلا أن الفارق بين التعبيرين يظل دالا فى حد ذاته.
[5]- لقد بدأ تشومسكى الرد على السلوكيين وعلى رأسهم بلومفيلد وسكنر، منذ بدايات كتاباته اللغوية، وكان المحوران الأساسيان لردوده هما أولا تميز اللغة بالإبداعية، وثانيا أن اللغة قدرة موروثة بيولوجيا، وقد وضحت ديكارتيته فيما يتعلق بهذه النقطة الأخيرة على وجه الخصوص (انظر فى هذه النقطة على سبيل المثال كتابه: اللغة ومشكلات المعرفة، الصادر سنة1990، ترجمة حمزة بن قبلان المزيني، عن دار توبقال للنشر، المغرب).
[6]- أذكر هنا قول نجيب محفوظ على لسان أحد حرافيشه: ” أعوذ بالله من اللاشيء”.
[7]- راجع مناقشة انفصال الزمن أو ديمومته، تلك المواجهة بين جاستون باشلار وآراء برجسون فى كتابى الأول: حدس اللحظة ، ترجمة رضا عزوز وعبد العزيز زمزم، الدار التونسية للنشر 1986.وجدلية الزمن، ترجمة خليل أحمد خليل، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت 1982.
[8]- كوستا بندلي، إله الإلحاد المعاصر، منشورات النور، بيروت (دون تاريخ).
[9]- محمد بن عبد الجبار بن الحسن النفرى – كتاب المواقف – تحقيق آرثر يوحنا آربرى – مكتبة المتنبى – القاهرة. (موقف وراء المواقف)
[10]- ميشيل فوكو: الكلمات والأشياء، ترجمة مطاع صفدى وسالم يفوت وبدر الدين عرودكى وجورج أبى صالح وكمال اسطفان، 1989 – 1990، مركز الإنماء القومى ص: 96.
[11]- انظر لمزيد من التفاصيل: برتراند رسل، ألف باء النسبية، ترجمة فؤاد كامل، مركز كتب الشرق الأوسط، 1965، خاصة ص: 138 وما حولها.
[12] – انظر فى ذلك، فؤاد زكريا، التعبير الموسيقي، الطبعة الثانية، 1980، مكتبة مصر، ص82 وما قبلها.
[13]- راجع مشكل التعبير الموسيقى فى مقال روجر سكروتون، معنى الموسيقي، ترجمة سعيد أحمد الحكيم، الثقافة الأجنبية، ص ص 166 – 207.
[14]- يقول النفرى:- وقال لى:- لاتجمع بين حرفين فى قول ولاعقد إلا بي، ولا تفرق بين حرفين فى قول ولا عقد إلا بي، يجتمع ما جمعت ويفترق ما فرقت”. (موقف “الصفح الجميل”).
[15]- من أجمل الصياغات الى سمعتها فى التعبير عن فن الموسيقي، ما وصلنى من بعضهم أن الفنان صلاح طاهر هو قائله. تقول الصيغة: “إن المعمار هو موسيقى فى المكان، والموسيقى هى معمار فى الزمان”.